|
شيء من -الاقتصاد الإعلامي-
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2872 - 2009 / 12 / 29 - 13:54
المحور:
الصحافة والاعلام
الإعلام كالمجتمع، له "بنيته التحتية (الاقتصادية)"، و"بنيته الفوقية (السياسية والفكرية..)"؛ وكالتاريخ، يستقيم ويصح فهمه، ويتيسر تمييز الحقائق فيه من الأوهام، إذا ما سعينا في تفسيره تفسيراً اقتصادياً، فإنَّ لِمَا يمكن تسميته "الاقتصاد الإعلامي" أهمية قصوى في فهم وتفسير ظواهر حياتنا الإعلامية والصحافية.
نتمنى أن تكون 2010 سنة "الاستقلال الاقتصادي" للصحافة الأردنية (اليومية على وجه الخصوص) عن الحكومة، فالصحافة، وبصفة كونها "سلطة رابعة"، حان لها أن تنعم بمبدأ "فصل السلطات"، وبالاستقلال الاقتصادي عن السلطة التنفيذية، بصفة كونه الأساس الصلب والوطيد لاستقلالها الإعلامي والسياسي والفكري..
"الحكومة"، أي كل حكومة، ليست بجمعية خيرية، تعمل لوجه الله تعالى، وتتوفَّر على أعمال البرِّ والإحسان، لا تريد جزاءً أو شكوراً؛ وينبغي لنا، بالتالي، ألاَّ نضرب صفحاً عن أمرٍ هو في منزلة البديهية والمسلَّمة، وهو أنَّ الحكومة تتَّخِذ من اشتراكات وزاراتها ومؤسساتها في الصحف، ونشر إعلاناتها فيها، سياسة للسيطرة والإخضاع، تشبه كثيراً سياسة العصا والجزرة، فالعصا هي أن تُسْبِغ على صحيفة نعمة "الاشتراك" و"الإعلان"، والجزرة هي أن تَمْنَع عنها هذه النعمة.
إنَّها، أي الحكومة، لا تلعب هذه اللعبة، لعبة "المَنْح والمنع"، إلاَّ توصُّلاً لأمرٍ من أمرين اثنين: شراء التأييد، أي تأييد الصحيفة لها، أو شراء سكوتها على الأقل.
ويكفي أن يشتد التنافس بين الصحف اليومية في الحصول على حصَّة أكبر من الاشتراكات والإعلانات الحكومية حتى تضعف وتتلاشى مقاومة تلك الصحف للمساعي الحكومية للسيطرة عليها وإخضاعها بـ "القوَّة الناعمة".
و"القوَّة (الحكومية) الناعمة"، بوجهيها، أي "الاشتراكات" و"الإعلانات"، إنَّما يستعملها، في المقام الأوَّل، النافذون في الوزارات والمؤسسات الحكومية، دفاعاً عن "سياسة" ترتضيها وتحبِّذها مصالح شخصية وفئوية ضيِّقة، هي، عادةً، في تعارُض مع مصالح عامة. وهُمْ يستعلمونها إيجاباً لتأليف قلوب الصحف، وسلباً للعقاب والردع.
إنَّ "سياسة" تُفْقِد الصحافة استقلالها السياسي هي ما يكمن، على وجه العموم، في "الاشتراكات" و"الإعلانات" الحكومية، أي في ما تُقدِّمه الحكومة إلى الصحف من "مساعدة مالية"، لا تختلف من حيث الدافع والغاية عمَّا يقدِّمه إلينا صندوق النقد الدولي من "مساعدات مالية".
ولقد أصبح أمراً في منزلة أركان الدين، ومسلَّمات الإيمان الديني، لا يُجادَل فيه، ولا يُعْتَرض عليه، أن تُحْجَب "الحقيقة" عن أبصار وبصائر ذوي المصلحة في إظهارها، أي الشعب، أو تشوَّه وتُمسَخ، على أيدي من كان ينبغي لهم أن يكونوا سعاةً إليها، وحُرَّاساً عليها، بدعوى أنَّ نشرها يمكن أن يلحق بالصحيفة ضرراً اقتصادياً كبيراً، عائداً بالنفع والفائدة، بالتالي، على منافسيها من الصحف.
إنَّنا في مجتمعٍ يَشْهَد اتِّساعاً لظاهرة "العائلات التجارية ـ السياسية"، ومزيداً من الاندماج والتداخل بين "عالم الأعمال (البزنيس)" و"عالم السياسة"، حتى أصبح من الصعوبة بمكان تمييز "التجَّار" من "الساسة"، و"التجارة" من "السياسة".
وثمَّة، بالتالي، رجال أعمال ومستثمرين أصبح لديهم من تشابك المصالح الاقتصادية والمصالح السياسية ما شدَّد الحاجة لديهم إلى تملُّك أدوات إعلامية كالصحف.
إنَّه نمط من الإعلام، اسْتَحْدثته مصالح وحاجات تلك العائلات، لا يستهدف أصحابه ربحاً، أو معدَّل ربح، كالذي يستهدفونه في مشاريعهم الاقتصادية والتجارية والاستثمارية العادية، فإذا خَسِر فإنَّه لا يخسر إلاَّ ليعود على أصحابه بالربح والنفع والفائدة في "العالم الآخر" حيث كل شيء خير وأبقى.. أي في "عالم السياسة"، أو في "عالم الأعمال ـ السياسة".
وهذا الإعلام، الذي يُسْتَنْبَت في تربة "القطاع الخاص"، ويترعرع ويزدهر في مناخه، يمكن أن يجنح لشيء من الليبرالية، توصُّلاً إلى حيازة واكتساب مزيدٍ من النفوذ الشعبي الإعلامي؛ ولكنَّه مهما علا وارتفع وحلَّق بعيداً، في قضايا وأمور ليست بالجوهرية، لن يَخْرُج، في غيرها، أي في القضايا والأمور الجوهرية، عن المدار الذي ينبغي له أن يدور فيه، والذي هو كناية عن المصالح التي خدمةً لها وُجِدَت تلك الأداة الإعلامية.
أمَّا العاقبة الحتمية والطبيعية فهي وقوع الجريدة، بحريتها واستقلالها ورسالتها، بين مطرقة "الاشتراكات" و"الإعلانات" الحكومية وسندان مصالح الذي إليه (أو إليهم) تعود ملكيتها.
لقد حان للصحافة، بصفة كونها "صانع الرأي العام"، والساعية دائماً إلى الموضوعية في إجابة سؤال "ماذا حدث؟"، وسؤال "لماذا حدث؟"، وإلى التوسُّع في اكتشاف مجتمعها، بقضاياه وحاجاته وهمومه واهتمامته وميوله الحقيقية، أن تُحصِّن نفسها ضد سياسة العصا والجزرة الحكومية، وأنْ تؤسِّس لها "بنية تحتية (اقتصادية)"، تضمن لها أن تكون حرَّة مستقلة، سياسياً وفكرياًُ.
مِلْكية الصحافة عندنا تطرَّفت في تناقضها، فلم نرَ حتى الآن إلاَّ صحافة "القطاع العام"، أي التي تملكها الدولة، أو صحافة "القطاع الخاص"، أي التي يملكها أفراد. وأحسب أنَّ هذا التناقض يُقوَّم على خير وجه بالتأسيس لصحافة مملكوكة ملكية جماعية، فالجماعات الحزبية، وغير الحزبية التي يشترك أفرادها في مصالح وحاجات ما، هي التي ينبغي لها أن تتملَّك جرائد، تَعْكِس مصالحها وحاجاتها وقضاياها، وتُعبِّر من خلالها عن وجهات نظرها العامة.
إنَّ جريدة تموِّل نفسها بنفسها، وبالمساهمات المالية من أعضاء الجماعة المالكة لها، ومن أنصارها، هي التي يجب أن تكون الاتِّجاه الجديد في تطوُّرنا الإعلامي.
أمًَّا "الإعلان" بأنواعه المختلفة، فيجب ألاَّ يكون له مكان في صحافتنا اليومية، فالدولة يمكنها وينبغي لها أن تُصْدِر "جريدة إعلانية"، تُوزَّع مجاناً مع كل صحيفة يومية، فالمواطِن يشتري جريدة يومية ما، ويحصل معها على تلك "الجريدة الإعلانية"، التي تشتمل على "الإعلانات الحكومية" و"الإعلانات التجارية" و"الوفيات"..
إنَّ استقلال الجريدة اليومية عن "الإعلان الحكومي"، و"الإعلان التجاري"، وعن الدولة والقطاع الخاص في مِلْكيتها، هو السبيل إلى إعلام قوي وحيوي، يصنع الرأي العام بما يخدم المصالح العامة.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قيادات في تيه سياسي!
-
-جدارٌ فولاذي- لفَلِّ -الأنفاق-!
-
أزمة الإصلاح السياسي والديمقراطي في الأردن
-
الحقُّ في السؤال!
-
معالي الوزير!
-
ترقَّبوا -النبأ العظيم- من -سيرن-!
-
بين مفاوضات مُفْلِسَة ومقاوَمة عاجزة!
-
أعداء -السببية- يَنْعُون -السبب-!
-
هذا التمادي في شتم العرب!
-
الطريق الملتوية إلى -الدولة ذات الحدود المؤقَّتة-!
-
رياضة بروح سياسية.. وسياسة بروح رياضية!
-
طاب الموت يا طابة!
-
-نعم- للقرار الدولي.. و-لا- لإعلان الدولة!
-
مسار -الدولة من طرف واحد-.. ماذا يعني؟
-
عندما يجوع البشر لوفرةٍ في الغذاء!
-
بعض من ملامح -البديل- الفلسطيني
-
ما هي -المادة-.. وكيف يُمْسَخ مفهومها ويُشوَّه؟
-
كيف تُدَجِّن شعباً؟
-
خرافة -الدولة- في عالمنا العربي!
-
-قرار عباس-.. كيف يمكن أن يوظَّف في خدمة الفلسطينيين؟
المزيد.....
-
السودان: غوتيريس يدين تواصل تدفق السلاح والمحاربين ويدعو لوق
...
-
مصر.. فيديو لفرد شرطة يتشبث بسيارة والداخلية تكشف السبب
-
ولي نصر لـCNN: الولايات المتحدة قد تبدأ حربًا مع إيران لكنها
...
-
العيون تتنفس!.. علماء يكشفون عن رابط غامض بين التنفس والبصر
...
-
قنبلة جرثومية موقوتة في غرف نوم الصغار!
-
MSI تطلق واحدا من أفضل حواسب الألعاب المحمولة
-
الملح وتأثيره غير المتوقع على الصحة العقلية
-
ثورة في الطاقة الخضراء.. اختراع بطارية تشبه معجون الأسنان يم
...
-
الفاشر تحت الحصار، بي بي سي تهرّب هواتف من المدينة لكشف معان
...
-
مصادر دبلوماسية تكشف أن الجولة المقبلة من المحادثات النووية
...
المزيد.....
-
مكونات الاتصال والتحول الرقمي
/ الدكتور سلطان عدوان
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
المزيد.....
|