أخبار الشرق - 30 حزيران 2002
الآن وبعد ما يزيد على الثلاثين عاما من عمر الجبهة الوطنية التقدمية في سورية، والتي قامت في السابع من آذار 1972، كيف يمكننا أن نقرأ هذه التجربة وان نقيمها؟ .. وهل استطاعت فعلا أن تحقق الأهداف التي حاول الموقعون على ميثاقها أن يقنعوا الجماهير بها؟
وهل ساهمت فعلا في تعزيز الوحدة الوطنية أو تمتين الجبهة الداخلية كما جاء في مقدمة ميثاقها؟ .. وهل استطاعت من خلال تكويناتها وبرامج هذه التكوينات حشد كل الطاقات من خلالها؟ .. وهل أنجزت كما جاء في الفقرة "ج" من ميثاقها علاقات التعاون والعمل المشترك بين "أحزابها" بديلا عن علاقات التنافر والتناحر التي كانت سائدة فيما بينها ؟.. وهل قامت كما جاء في الفقرة "د" بتكوين رأي عام جماهيري موحد تجاه أية قضية من القضايا؟ .. لقد ورد في مقدمة الميثاق الذي وقعه أطرافها إن ظروف عدوان حزيران 1967 وعملية تحرير الأرض جعلت من قيام هذه الجبهة من الناحية الواقعية ضرورة تاريخية وكذلك مسألة الوحدة العربية فماذا أنجزت في هذا الإطار؟
والجبهة الوطنية التقدمية كما جاء في ميثاقها تعمل في سبيل بناء "المجتمع العربي الاشتراكي الموحد"، فأي مجتمع حاولت بناءه؟ وكيف يمكن تقييم هذا البناء؟
وهل قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي لهذه التشكيلات وتمثيله بالأكثرية في كل مؤسسات الجبهة وتجسيد هذه القيادة وهذا التمثيل من خلال الدستور ساهم فعلا في تحقيق الديمقراطية التي وعد ميثاق الجبهة جماهير سورية بها؟
ثم هل الجبهة هي إبداع سوري وتجربة وطنية رائدة ومنبثقة من ثقافتنا وتاريخنا (كما يقول المنظرون لها) أم أنها أيضاً نموذج مستورد من دول "تخلت عن هذه التجربة بعد الفشل الذريع لها في بلدانها"؟ .. وإذا كان الاستيراد مسموحاً به في التجارب الفاشلة فلماذا لا يسمح به في التجارب الأكثر نجاحاً؟
ثم ما مصير الجبهات "التي كانت اكثر انفتاحا وتطورا من الجبهة الوطنية التقدمية في سورية" والتي قامت في عدة بلدان من دول أوربا الشرقية كألمانيا الديمقراطية (سابقاً) وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا (سابقاً)؟ .. ولماذا لم تستطع تلك الجبهات - رغم قوتها وقوة الأحزاب الشيوعية التي كانت تقودها - أن تحافظ على وحدة بلدانها وتماسك جبهاتها الداخلية والحفاظ على المكتسبات الشيوعية وغيرها من الأهداف الكبيرة والبراقة التي وضعتها لنفسها؟
ولماذا لم تستطع الجبهة الوطنية في تشيكوسلوفاكيا مثلاً أن تحافظ على وحدة الوطن رغم أنها أنشئت عام 1945 وكيف انهار هذا الاتحاد الهش في هذا البلد دون أن يجد أحدا من - الجماهير المعبأة - ليدافع عن هذه الوحدة؟!
وكيف فشلت الجبهة في ألمانيا الشرقية (سابقاً) في الحفاظ على المكتسبات الاشتراكية وفي "إقناع المواطن الألماني بأنه مواطن في المجموعة الاشتراكية"، كما جاء في ميثاقها الصادر في خريف 1949؟ .. وكيف تحولت الجماهير - المعبأة - إلى معاول تهدم جدار برلين الرهيب الذي أقامته هذه الجبهة لحماية "ازدهارها" من الغرب "الإمبريالي المتوحش"؟!
وهل تكفي هذه التجارب المرّة وغيرها من مسميات (الحزب الواحد والحزب القائد والطبقة الواحدة والجبهات الوطنية ..) وغيرها من المسميات والتجارب لأن نعيد النظر في تجربة (جبهتنا الوطنية التقدمية)؟!
ثم كيف يمكن أن ينتهي سيناريو هذه التجربة؟ وعلى سبيل المثال فإن الجبهة الوطنية البلغارية التي ظهرت عام 1944 انتهت عام 1947 بتوحد أحزاب الجبهة الخمسة في الحزب الشيوعي البلغاري، باستثناء حزب اتحاد الفلاحين. أما الجبهة الوطنية في المجر 1944 فقد تحولت في عام 1954 إلى حزب واحد بعد أن ماتت الأحزاب الديكورية الأخرى. وأما في ألمانيا الشرقية (سابقاً) فقد ظلت هذه الجبهة دون ميثاق مكتوب حتى تلاشت هذه الدولة نهائياً.
ونعود إلى الجبهة الوطنية التقدمية في سورية التي أكدت وثائق حزب البعث العربي الاشتراكي القائد فيها أنها تجربة مستوحاة من تجارب أخرى سبقتها "تختلف عن مجتمعاتنا دينا وتاريخا وثقافة"، بل إنها ومن خلال تركيبتها وميثاقها وأسلوب عملها هي الأضعف والاوهن من بين مثيلاتها في الدول الأخرى فالميثاق الذي وقعته "أحزابها" واستثنت منه حزب البعث وتعهدت فيه باستبعاد الطلبة من صفوفها كان إقرارا وتصديقا على حكم الإعدام الحقيقي لهذه الأحزاب، والذي ظهرت نتائجه أخيرا ببدء موات هذه الأحزاب واندلاع رائحة العفونة من تراكيبها الميتة.
كما أن إقرار هذه "الأحزاب" باحتكار حزب البعث لتسعة أعضاء يُضاف إليهم رئيس الجبهة والذي هو الأمين العام لحزب البعث أو من يعينه نائباً عنه من اصل السبعة عشر عضوا في لجنتها المركزية يعني - وبحساب الأرقام قبل النتائج - انتفاء أية صفة تمثيلية حقيقية لهذه "الأحزاب" مجتمعة كما انه يعني انتفاء أية ممارسة ديمقراطية حقيقية داخلها!
ومما زاد الطين بلة أن هذه "الأحزاب" لا تستطيع انتخاب أي أمين عام لها بمفردها، بل إنها ارتضت لنفسها أن تكون تحت الوصاية المباشرة لحزب البعث فهو الذي يختار لها أمينها العام وهذا ما حصل مؤخراً في "حركة الاشتراكيين العرب" بعد وفاة امينها العام السابق عبد الغني قنوت، إذ اعترف البعث بامينها العام الجديد رغما عن قرار مؤتمرها الذي انتخب أمينا عاماً غيره! وهذا ما يحصل الآن في "حزب الوحدويين الديمقراطي" الذي توفي أمينه العام احمد الأسعد منذ فترة طويلة وما زال عاجزا عن انتخاب بديل عنه بانتظار تعليمات السلطة.
وكذلك الأمر في ما يتعلق بالمناصب الموزعة بين هذه الأحزاب، إذ أخذت السلطة في توزيع المناصب الوزارية بأسماء غير تلك التي رشحتها "أحزابها" لشغل هذه المناصب (الغنائم).
أما الأمر الآخر والأكثر خطورة فهو تحول هذه الأحزاب الديكورية إلى تشكيلات هي الأكثر انتهازية ووصولية في البلاد، تبني كل تكتلاتها وتصوغ مؤامراتها على أعضائها وانقساماتها للحصول على وزارة أو مقعد نيابي أو رخصة لاستيراد سيارة أو مقعد في المجالس المحلية. بل أشيع أن أميناً عاماً لأحد أحزابها يبيع هذه الغنائم والمكاسب بيعا وحتى لأشخاص لا ينتسبون إلى "حزبه" ويعيد ريع هذه المبيعات إلى جيبه الخاص وليس إلى مالية "الحزب"!
وشيئاً فشيئاً فقدت هذه "الأحزاب" مصداقيتها وتواجدها وانقسمت داخل كل "حزب" من أحزابها لأسباب كان أكثرها نفعيا وانتهازيا وليس لأسباب فكرية أو سياسية، وانتهى الحال إلى ما هو عليه اليوم فالوحدويون الاشتراكيون أصبحوا "حزبين"، وداخل كل تشكيل منهما انقسامات وخلافات وخاصة ورثة المرحوم احمد الأسعد فالصراع على اشده بين نجله فراس وبين العديد من أعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي (هاني هيكل وفضل الله وغيرهما). أما الشيوعي وباستثناء الفصائل التي انشقت عنه واختلفت معه في الخط السياسي واختارت المعارضة (كفصيل رياض الترك وغيره) فإن القسم المتبقي داخل الجبهة انقسم إلى حزبين يحملان نفس الاسم، يتزعم القسم البكداشي منه ورثة المرحوم خالد بكداش (زوجته وصال فرحة ونجله عمار) ويتزعم القسم الثاني منه يوسف فيصل ويعتبر جناح فيصل الأكثر فعالية وانسجاماً من باقي التشكيلات الموجودة داخل الجبهة ويحاول أن يقدم من خلال صحيفته الأسبوعية (النور) شيئا مختلفا ويطرح بعض القضايا بشيء يستحق الذكر من الجرأة.
أما الاتحاد الاشتراكي ورغم خروجه نهائيا من الجبهة فقد بقيت بعض العناصر داخلها، وهي تعاني من انقسامات شديدة واتهامات متبادلة وتذمر شديد من ممارسات الأمين العام الحالي لها صفوان قدسي وقد تخلى هذا "الحزب" مؤخراً عن ناصريته واعتنق الأسدية كمنهج عمل وفكر وخط للمستقبل.
وأما الاشتراكيون العرب فقد انقسموا إلى عدة أشلاء قسم منهم في المعارضة وقسم يتزعمه وليد رضوان عضو المكتب السياسي السابق وهو ما زال ينتظر له دوراً داخل الجبهة. أما القسم المتبقي داخل الجبهة فقد انشق بين زعامتي مصطفى حمدون ومحمد الأحمد، والانقسامات ما زالت مرشحة للازدياد في المستقبل القريب.
والسؤال المطروح بإلحاح هنا هل يمكن لهذه التشكيلات (أقل من أحزاب) والتي أخفقت فعلياً - ومن خلال التاريخ والتجربة - في الحفاظ على تماسكها الداخلي وفي اتفاق قياداتها حتى على الغنائم والمكاسب كحد أدنى؛ هل يمكنها "رص الصفوف وتعبئة الجماهير وتحقيق الوحدة الوطنية" كما تعهدت في ميثاق الجبهة؟ .. وهل "بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد" يتحقق من خلال سيارات المرسيدس والشبح والمزارع والفيلات والقسائم البنزينية؟!
ثم أين هو تواجد هذه الأحزاب وأين برامجها وما أفكارها وما حجمها وثقلها الجماهيري الفعلي؟ وهل يمكن لأي مرشح أن يتقدم من بين صفوفها - إذا لم تتبناه السلطة في قائمتها - أن يحصل على 100 صوت وليس 250 ألف صوت أو أكثر كما يحصل في العادة؟!
وما المواقف التي اتخذتها هذه الأحزاب عبر تاريخ وجودها داخل الجبهة انحيازاً للمواطن الذي تدعي تمثيله؟ وأين هو الرأي الآخر داخل برامجها؟ بل أين برامجها أصلا؟ أين قياداتها الشعبية؟ أين تواجدها داخل المنظمات والنقابات؟ أين إعلامها وصحافتها؟!
وللأسف فقد اختارت هذه التشكيلات أن تتحول من أحزاب كان لها تاريخ وتواجد في يوم من الأيام إلى مجرد ديكورات ومجموعات شللية، وأخيرا إلى ورثة للامتيازات والمكاسب فأساءت إلى نفسها والى تاريخها والى حزب البعث والى التجربة السياسية بأكملها وساهمت في تشويه صورة الممارسة السياسية الحزبية في سورية والإساءة إلى سمعة البلاد وكرست عند قطاعات واسعة من جماهيرنا السلبية وعدم الاكتراث وأبرزت من صفوفها وجوها وشخصيات يتسمون بالديكتاتورية والفساد والانتهازية وساهمت في عودة الناخب السوري إلى مرشح قبيلته وعشيرته أو صاحب النفوذ المالي وحلت هذه الولاءات محل الولاءات للأهداف والبرامج والتي تهدف إليها العملية الانتخابية في كل المجتمعات.
هذه هي باختصار خلاصة تجربة الجبهة الوطنية التقدمية في سورية بعد ثلاثين عاما على إنشائها. فكم يحتاج هذا الجسد المترهل الداخل في غيبوبة سريرية منذ فترة طويلة لإعلان وفاته وهل الإصلاح يكون بإبقائه داخل غرفة الإنعاش ثلاثين سنة أخرى؟ أم أن طلقة الرحمة هي الحل؟ وهل يمكن لهذه الصيغة المتلاشية أن تكون قادرة فعلا على خوض معركة التطوير والتحديث وتجسيد الرأي الآخر والتعددية السياسية في سورية؟ أم أنها أساءت وما زالت تسيء إلى كل هذه الشعارات المطروحة اليوم؟
أعتقد أن المخرج لا يمكن أن يتم إلا بالإعلان عن موت هذه الصيغة وبسن قانون عصري وجديد للأحزاب وبفتح المجال أمام القوى الحيوية وأمام الفكر الشاب الجديد بأن يؤسس أو أن يعيد التأسيس للحياة السياسية السليمة في هذا البلد. وباعتقادي فان هذه التشكيلات الميتة قد أخذت فرصتها الذهبية، منذ تسلم الدكتور بشار الأسد مقاليد الرئاسة منذ عامين، لإعادة ترتيب أوضاعها والانتباه إلى ما وصلت إليه حالها، وآن لهذه الفرصة أن ينتهي أوانها، فالإنعاش لن يرد لقلبها المتوقف أصلا منذ عقود عن أي خفقة من خفقان الحياة واعتقد أن الوصول إلى هذه النهاية لم يعد أكثر من مسألة وقت .. ولكن الوقت في هذه الأيام أصبحت له قيمة كبيرة جداً.
فهل تكون الانتخابات النيابية الجديدة بما يمكن أن يسفر عنها، إذا تُركت هذه الأحزاب تخوض غمارها اعتماداً على نفسها، من نتائج ومعطيات وتمثيلات حقيقية هي الإعلان النهائي لمستقبلها؟!
سؤال ما زال ينتظر الإجابة.
__________
* ناشط في جمعية حقوق الإنسان في سورية - حلب