بعد عبد الرزاق عيد ومحمد سيد رصاص ورضوان جودت زيادة هنا مقال ياسين الحاج صالح ضمن سلسلة كتابات مثقفين سوريين في اعادة القراءة النقدية لتجربة المعارضة السورية منذ وفاة الرئيس حافظ الاسد.
-1- طرح الأزمة وأزمة الطرح
الفضل لكل من الدكتور عبد الرزاق عيد ومحمد سيد رصاص ورضوان جودت زيادة و"قضايا النهار" في فتح باب النقاش لأوضاع المعارضة السورية. إن نقد المعارضة مقدم، منطقياً واخلاقياً، على نقد السلطة; واذا انطلق هذا النقد من موقع المعارضة ذاته فإنه مؤشر صالح على تجاوزها للتصور "التعبوي - الحربَوي" للعمل السياسي. بدوري سأحاول المساهمة في هذا النقاش وفي التحريض على استمراره مؤملاً ان "أجر أرجلاً" اخرى، او لعله يجب القول اقلاماً اخرى، اليه. سأحاول إثارة المشكلات كيلا تنطفئ نار النقاش لأنها البديل الحميد من نار العداء والعنف. وآمل ان أسلم العصا لمتسابق جديد من مواقع المعارضة، وربما - لم لا - من حزب البعث الحاكم او من احزاب "الجبهة الوطنية التقدمية".
في غياب منبر علني ومستقل للمعارضة السورية، وهذا وضع قد يكون فريداً في العالم كله اليوم، يستكشف المرء معنى مختلفاً لـ"الاخوة السورية اللبنانية" الممجدة كثيراً في دمشق الرسمية، معنى قد يكون الارقى: فتح الصحف اللبنانية صدرها امام المثقفين السوريين لمناقشة مستقبل بلدهم والنظر في معنى الاحداث التي يشهدون عليها او يساهمون في صنعها.
مفهوم المعارضة
يصدر مفهوم المعارضة عن تصور ديموقراطي للسياسة والدولة، وهو من هذا الاعتبار ينطوي على ارادة وتوجه نحو السياسة المدنية التي تعترف بالصراع وتقبل التسوية والمساومة والحلول الوسط، من جهة اولى، ونحو الدولة الديموقراطية كتمثيل وقيادة وعنف مشروع، من جهة ثانية. مفهوم المعارضة اذاً "تصور وارادة"; لا يعكس واقعاً فقط وانما يتعداه منحازاً نحو ممكنات التغيير الايجابية فيه. انه بحد ذاته برنامج للعمل فوق كونه مفهوماً للتحليل والنظر.
هناك بعد آخر في مفهوم المعارضة، البعد النسبي، حيث كل صراع هو صراع بين حقين لا بين حق وباطل، وحيث السياسة لعبة محكومة بقواعد ترفض مبدئياً وجود تناقضات تناحرية. وهذا يعني ان مفهوم المعارضة لا ينسجم مع الثقافة السياسية المبنية على مفاهيم الاستيلاء على السلطة او إسقاطها، ومن جانبها لا تستخدم هذه الثقافة المفهوم وتنفر منه غريزياً. إن الحزب الماركسي اللينيني او الحزب الاسلامي الجهادي او الحزب القومي الثوري لا يمكنها ان تكون احزاباً معارضة لأنها لا ترضى بتحويل المعركة الاجتماعية لعبة سياسية.
ثم إن هذا يفسر لماذا لم يكن مفهوم المعارضة يستخدم في سوريا لا قبل عشر سنين ولا اكثر منها خلافاً لما يقوله رضوان جودت زيادة. هنا يكمن عنصر اضافي خلف غيابه من قبل وحضوره اليوم: المضمون التوحيدي لهذا المفهوم. فمن يستخدم مفهوم المعارضة السورية يضمر، بوعي او بدونه، ان الفوارق بين المعارضين على اختلاف ايديولوجياتهم اصغر مما يفرقهم عن السلطة. وهذا ما لم تكن ترتضيه لنفسها احزاب مبرمجة على الانقلاب والحزب الواحد، فضلاً عن كون التوحيد مركب صعب في بلد تتراكب فيه التقدمية والرجعية السياسيتين مع انقسامات اجتماعية عمودية اكثر من الانقسامات الافقية.
واذ دخل المفهوم في التداول اخيراً فعلى يد مثقفين يدفعون بوعي نحو تكون المعارضة كقطب سياسي، ويعملون على ظهور ثقافة سياسية مدنية وتعددية. وهكذا حين نستخدم هذا المفهوم في سوريا فإننا، من ناحية، نتبنى عمداً تصوراً منحازاً - وإن شئت ايديولوجياً - للواقع ينطوي على انفتاح على السياسة والديموقراطية والتغيير، ومن ناحية اخرى نعبّر عن خروجنا على الثقافة السياسية الانقلابية وقبولنا المبدئي بالسياسة كلعبة "معقدة"، كما نترجم بواسطته شعورنا بوحدة الحال مع المعارضين الآخرين المختلفين عنا من وجوه متعددة.
وكما نرى ينطوي مفهوم المعارضة على رهانات متعددة، عملية ونظرية، تجعل منه برنامجاً سياسياً قائماً بذاته.
اذا تجردنا من الاعتبارات الثلاثة المضمرة في المفهوم: التغييري والنسبي والتوحيدي، وأخلصنا لوصف الواقع وحده، يمكن ان نرى ان هناك موقعاً معارضاً في سوريا اكثر مما هناك اداء معارض، هناك قضية معارَضة اكثر ما هي قوة معارِضة. فمنذ عشرين عاماً لا تملك "المعارضة" السورية وزناً اجتماعياً يؤهلها لان تكون قطبا؟ً في السياسة والنظام السياسي في بلدها. لذلك نتحدث عن موقع معارض، او "معارضة في ذاتها" إن جاز التعبير، لا عن فاعلية معارضة. يشغل الموقع المعارض في سوريا اليوم اولئك الذين يأخذون موقفاً نقدياً من نظام الحكم لكنه مقصور على المجال الثقافي الاعلامي ولا يكاد يمتد الى المجال الاجتماعي السياسي.
ازمة المعارضة السورية هي في الجوهر قصور فاعليتها السياسية وهزال حضورها الاجتماعي. وما يجعل من القصور والهزال ازمة لا مجرد مصاعب هو تواطؤ ضعف الوعي بها والعجز عن مواجهتها مع قسوة شروط العمل العام في البلد، اي تحالف التقصير الذاتي مع الصعوبات الموضوعية.
اسباب ومسؤوليات
لنلاحظ قبل استئناف المناقشة اننا نقصد اليوم، حين نتحدث عن المعارضة: "التجمع الوطني الديموقراطي" فقط، ونستبعد كلاً من الاسلاميين السوريين وحزب البعث الموالي للعراق وحزب العمل الشيوعي والتنظيم الشعبي الناصري. وهناك سببان لذلك على الاقل. الاول هو بداهة الوجود; فالتجمع هو الوحيد الموجود فعلياً، وهو الممثل الواقعي الوحيد للمعارضة السورية. والسبب الثاني هو ان التجمع اقرب من الاطراف الاخرى الى مفهوم المعارضة، وأبعد منها عن الثقافة السياسية الانقلابية.
يتجاهل كل من رصاص وزيادة، وبدرجة اقل عيد، الاسباب الموضوعية لازمة المعارضة السورية، او عثار مسار بعض مسالكها بلغة الاخير، مفضلين التركيز على المسؤوليات الذاتية. اذ بينما يتيح لهم منظار المسؤوليات ان يلوموا ويوبخوا المسؤولين عن الازمة على تقصيرهم، فارزين أنفسهم عنهم وفوقهم، فإن منظار التفسير بالاسباب، حيث لا لوم ولا ثناء، يحرم اللائم من متعة التوبيخ ويعطل الفرز بين الشاطر والكسلان. بيد ان التركيز على المسؤوليات لا يؤدي الى جعل ازمة المعارضة معلقة في فراغ لا سببي فحسب، وانما يجعل الخروج منها امراً غير مفهوم بالفعل، او هو مرهون بالشطارة وحدها. فمن اين لنا ان نعرف كيف نخرج من الازمة إن لم نفهم كيف وقعنا فيها اصلاً؟ ومما لا يحتاج الى بيان ان التركيز على مبدأ المسؤولية يناسب اكثر في خوض المعارك الايديولوجية.
على أنه ليس من العدل ان نقول إن أحداً من مثقفينا الثلاثة لم يتساءل عن اسباب ازمة المعارضة، او لم يحاول ان يلمح السر في ضعفها. فمحمد سيد رصاص يشهد بأن تصدر المثقفين للعمل السياسي، وهو الوجه الآخر لتخلف الاحزاب عنه، يحصل في بلدان "اصبحت مثل الصحراء السياسية القفر بعدما كنس تعبيراتها الاخرى نظام شمولي بقيادة الحزب الواحد"; لكنه لا يلبث ان ينفي هذه الصحراء الى تشيكوسلوفاكيا عام .1989 لماذا اذن هذه الاشارة؟ ولماذا لم يطور رصاص هذه الملاحظة السديدة؟ الارجح انه لم يعرف ماذا يفعل بفكرة بروز دور المثقفين في الانظمة الشمولية فلم يستفد منها او يبنِ عليها لأنه آثر، كما اشرنا فوق، ان يركز على المسؤوليات الذاتية اكثر من الاسباب الموضوعية (ولا ريب ان لديه اسباباً اقنعته بعدم التفكير بالاسباب).
اما الدكتور عيد فيعيد ما يسميه "عثار المسار في مسالك اليسار" (المقصود الحزب الشيوعي - المكتب السياسي) الى اسباب ثلاثة: الحبس المديد الذي ادى الى "اندياح مزاج سلبي، انتقامي، عدمي، مشحون بالثأر..." عند الخارجين من السجن، ثم "فقدان المرجعية القادرة على منح الرؤية السياسية والفكرية تناغمها"، واخيراً غياب رياض الترك. لكل من الاسباب التي استخلصناها (بشيء من المشقة نظراً الى اسلوب الكاتب الاستطرادي وطلعاته الخطابية) من مقال عيد وجاهته وتأثيره، لكنه يغفل ان الازمة هي ازمة السياسة والاجتماع السياسي السوري قبل ان تكون ازمة هذا الحزب او ذاك; ولعلها لذلك، على كل حال، ازمة هذا الحزب وذاك.
-2- في اصول أزمة المعارضة السورية
الفرضية التي قد تفيد لتفسير ازمة المعارضات الحزبية في ظل الشمولية وبروز دور المثقفين تقول إن الاحزاب السياسية قد تكون فاعلة في مواجهة النظم التسلطية، اما النظم الشمولية فلا يبقى في مواجهتها الا المثقفون الشكّاك والمنشقون. قد يبدو هذا التوزيع اكثر هندسية من ان يكون صحيحاً، لكنه "نموذج مثالي" (ماكس فيبر) يفيد في تنظيم التفكير اكثر مما هو واقع معاين.
ما هي المعطيات الواقعية التي نستند اليها لتصور هذا النموذج؟ المعطى الاول هو مصادرة السياسة. فالانظمة الشمولية لا تتعاطى السياسة، تصادرها من المجتمع وتصحّر الوسط السياسي; وبذلك تبيد شروط تكوّن معارضة سياسية. معارضة تشتغل بالسياسة وتفكر بالسياسة وتعمل بادوات السياسة وقيمها التوسطية.
إن السياسة هي الماء التي تسبح فيها الاحزاب السياسية المدنية - تمييزاً عن الاحزاب العقائدية الانقلابية - بالقدر نفسه الذي تكون فيه الجماهير هي الماء التي يسبح فيها رجال حرب العصابات حسب نظرية ماو تسي تونغ.
خارج الماء السياسي تموت الاحزاب او تختنق بالانطواء على حياتها الداخلية لتصبح احزاباً غير سياسية او "أحزاباً في ذاتها". ولأن السلطة الشمولية - وهنا المعطى الثاني - سلطة عقائدية اولاً، سلطة تحكم بالعقيدة المقدسة المرفوعة فوق مستوى المساءلة، فإن مقاومة الشمولية تبدأ من هتك المقدس الخاص بها، الركن الاساسي لسلطتها، اكثر من القمع المباشر الذي يميز الانظمة التسلطية.
لهذا تنطلق معارضتها دائماً من الفعل الشيطاني للمثقفين الشكّاكين، مدنسي المعبد الشمولي، المنشقين والهراطقة. هذا هو السبب في ان الشموليات بمختلف انواعها لا تطيق المثقفين المستقلين والنقديين. لذلك ايضاً يقود انفصال الاحزاب السياسية عن الفعل النقدي للمثقفين الى تهافت عمل الاحزاب وسقوطها في العقائدية، وتالياً إحكام انغلاق الدائرة الشمولية.
من ناحية اخرى تقع هذه المهمة على عاتق المثقفين اكثر من غيرهم لأنهم الاقوى احساساً بذواتهم، بينما تعتمد الشمولية في دوامها بالضبط على إنكار الذات، اي مبدأ حرية الارادة (ولا نقول نكران الذات لانه لا ينكر ذاته من لا ذات له). الاحساس بالذات يجعل المثقف عصياً على التعليب والتعبئة; لكنه، من ناحية اخرى، وكما تظهر امثلة مثقفينا الثلاثة، مصدر للذاتية في التحليل وللاطلال من علٍ على الآخرين، سواء بصيغة ابوية عند عيد حين يتحدث عن "كبيرهم" و"نمرهم" ("هم": الحزب الشيوعي - المكتب السياسي ، والنمر الكبير: رياض الترك) الذي غاب فبدأ الصغار بالتخبط; او بصيغة استاذية عند رصاص عندما يحدد مقاييس المستوى السياسي الثلاثة والثالوث الذي يجب إتقانه للقبول في نادي العمل السياسي... او بصيغة حَكمية مترفعة عند زيادة حين ينكر على المعارضة كونها مستأنسة لكنه يتفهم هذا الاستئناس ويحاذر ان يطالبها بالعودة الى البرية.
لم تكد تبدأ بعد عملية نقض الشمولية لدينا لان مقدسها يحتمي، مثل كل مقدس، بأحسن الكلام: وطنية وقومية وتقدمية، لجعل الاعتراض عليها مستحيلاً ولتوليد ايديولوجية تشاركية، ابوية وعضوانية، تنفي التعدد والصراع والاختلاف الى خارج "مدينتها". إن نقد المقدس مجازفة محفوفة بمخاطر التكفير وعواقبه، وتمثل الدعوة الى التعددية نوعاً من الشرك السياسي الذي يناظر الشرك بالخالق: لا يغتفر. معلوم، من جانب آخر، ان هناك حضوراً قوياً للايديولوجيات الشمولية في وعي المثقفين السوريين. ولا يزال هذا الحضور، بمرجعية ماركسية او بعثية او ناصرية او اسلامية، مصدر رفد للشمولية او تعامٍ عن مناوراتها وألاعيبها. فحتى وقت غير بعيد كان المأخذ الاساسي لمعظم المثقفين السوريين على نخبة الحكم هو عدم تطابق وعيها المتقدم مع ممارستها غير المتقدمة. وبما اننا لا نستطيع توكيد الذات بالدور الاجتماعي او حتى بالفاعلية الثقافية نظراً للافتقار الى منابر مستقلة ومحترمة، فإنه تغرينا بسهولة المزايدة بالوطنية والقومية، وهي تمثل جسر العودة الى أحضان التشاركية الشمولية.
بطبيعة الحال يصعب نقد الشمولية في الواقع دون التحرر منها في الفكر، ويزيد من هذه الصعوبة ان المقدس الشمولي - وكل مقدس - محصن بالقوة المطلقة، بالموت ذاته.
باحتكار السياسة وردّ الناس عن الميدان العام يرتدّون الى رعايا: يتجردون من فردياتهم واستقلالهم ويصبحون حوامل للعصبيات الموروثة او لانتاج عصبيات جديدة. هذا الارتداد شيء موضوعي واضطراري، لكنه ايضاً خيار مناسب للاحتماء من التأطير الاجتماعي المشتط الذي يقوم نظام الشمولية عليه. هذا الحل الناجح في مجال الاحتماء والاعتصام يعوِّق، لأنه ناجح، فرص اختبار المشترك الاجتماعي والوطني وبنائه، والذي يشكل قاعدة تكوّن العام والارادة العامة. وسيكون من العسير تكون احزاب وطنية بالمعنى الحقيقي للكلمة، اي احزاب عابرة للروابط الاولية والتكوينات الفئوية الضيقة.
فالمشترك الاجتماعي والعمومية الوطنية هي البنية التحتية، إن جاز التعبير، لانتاج التمثيل الاجتماعي ولتكوّن كل اشكال التعبير العامة. وخارج الاجتماعية المشتركة والعمومية والتمثيل يزول الشعب كفاعل سياسي، او كطبقات اجتماعية منتجة للفاعلية السياسية، لتحل محله الجماهير. هنا تزول الطبقات كطبقات اجتماعية تماماً كما تزول الاحزاب كأحزاب سياسية. والقاعدة واحدة: فليست السياسة شيئاً غير اجتماع الناس وتعارفهم وتواصلهم وبناء المشترك بينهم.
لا تتعارض العصبيات الموروثة بأي شكل مع أطر التعبئة والتأطير الاجتماعي الرسمية، "المنظمات الشعبية"، سواء من حيث الشكل أم من حيث الوظيفة أم من حيث آلية انتاجها. فمن حيث الشكل ليس التأطير الرسمي طوعياً رغم حداثته الخارجية، وليس خياراً حراً; ولفرط بطء التغير السياسي يكاد هذا التأطير يمسي موروثاً ايضاً. ومن حيث الوظيفة يلتقي النمطان على طرد الساسة والمنازعة الاجتماعية والصراع. وكلاهما مضاد للحداثة السياسية على حد سواء. ومن التقاء هذين النمطين وتراكبهما تنتج "الجماهير" التي ترث الاسوأ من العالمين: انحطاط الحداثة السياسية وتفسخ العصبيات التقليدية. واخيرا فان العصبيات الموروثة هي ايضا "منظمات شعبية" من حيث انها نتاج اجتماعي لاجهاض الحداثة السياسية: المواطنة وحقوق الانسان والتمثيل الاجتماعي، ان العصبيات الموروثة مكتسبة بدورها.
الاحزاب السياسية اما ان تستسلم لهذا الوضع وتنحبس في منطق العصبية والغيتو (بذوبانها فيه، او بتصلبها خارجه في غيتو خاص بها له اذواقه المشتركة ورموزه ونمط حياته ولغة تعارفه)، او ان اصرت على رفض هذين الخيارين، تجازف فعليا بالتبخر والتلاشي. ان خياراتها من وجهة نظر اجتماعيات السياسة تقع بين ثلاثة دروب تفضي الى الانقراض السياسي.
كانت سوريا قد استقرت، خلال اكثر من ربع قرن، على نظام قطب واحد مفرط في واحديته. وقد ساهمت مواجهات ما بين 1979 و1982 في تثبيت قلب نخبة القرار على هذا الخيار. قام هذا النظام على استبعاد المراتب السياسية الوسطى من اصدقاء وحلفاء وخصوم لمصلحة الحدين الاقصيين: الاتباع والاعداء. فهو لا يرتضي ممن معه الا ان يكونوا اتباعا، وهذا ما ينطبق على "الجبهة الوطنية التقدمية" التي لا يمكن اعتبارها تحالفاً بين انداد او اصدقاء، بقدر ما هي سجن بوسائل اخرى لاحزابها، او شكل من اشكال الاستقالة السياسية لها.
في المقابل لا مجال لوجود معارضين او خصوم سياسيين، انهم اعداء يحل الغاؤهم. وقد اخذ هذا الالغاء شكل حملات الاعتقال المتكررة التي استنزفت حتى الموت السياسي عددا من الاحزاب المعارضة في عقد الثمانينات، حزب العمل الشيوعي مثلا، ولولا عضوية "التجمع الوطني الديموقراطي" لكان الحزب الشيوعي - المكتب السياسي مثالا آخر. على انه يمكن تصور صيغة لوجود الخصوم السياسيين اذا ارتضوا طوعا تجميد عملهم، اي اذا فرضوا على انفسهم نوعا من الاقامة الجبرية السياسية، او ارتدوا الى احزاب غير سياسية كما سبق ان اشرنا; وهذا ما ينطبق على احزاب التجمع الاخرى (الاتحاد الاشتراكي العربي وحزب العمال الثوري العربي...)، بل وعلى "المكتب السياسي" منذ اوائل التسعينات. وكما نرى فان الخيارات السياسية العملية المتاحة للاحزاب، غير الواحد منها، تراوح بين ثلاث صيغ من السجن. وهكذا نرى ان ازمة الاحزاب السياسية في سوريا تعود الى التأثير المتضافر لتدهور "الاجتماعية" بصفتها البنية التحتية للحزبية، وتجفيف مائها بمصادرة السياسة، فضلا عما تلقته من ضربات مباشرة. ولمنع السياسة تأثير متناقض على الاحزاب السياسية. فهو من ناحية يعزلها ويضعفها بالآليات التي بيناها، وهو من ناحية اخرى يجعل منها الشكل الوحيد للعمل السياسي لانه يقود الى تدمير اشكال الانتظام الاجتماعي المستقلة واللامركزية والمحلية (التي يستوعبها اليوم اسم المنظمات غير الحكومية NGOS). فالاحزاب، خلافا للاشكال الاخرى، تستطيع اعلان حالة الطوارئ واللجوء الى السرية بحيث تتكيف مع شروط منع السياسة. وهكذا تتكون حلقة جهنمية: منع السياسة يجعل الحزب هو الشكل الوحيد للعمل السياسي، والحزب السري في الشكل الوحيد للحزب، وهذا الاخير هو الاسهل كسرا من جانب الاجهزة المختصة بمنع السياسة. وقد رأينا منفذ نجاة جانبيا من هذه الحلقة هو الامتناع عن السياسة او تفضيل الاقامة الجبرية سياسيا. ان وجود منفذ النجاة هذا يشير الى ابتعاد محدد للنظام السياسي في سوريا عن النموذج المثالي للشمولية الذي يدرك الجميع ولا يترك لهم منتأى عنه الا الانشقاق الفردي.
-3- السياسة المستحيلة
ركزنا في ما سبق على شروط الوسط السياسي الذي تتحرك فيه الاحزاب، وتحديداً على الدولة والمجتمع. ووجدنا ان هذه الشروط تشكل الاساس الموضوعي لازمة المعارضة وازمة العمل السياسي في سوريا. لكن هناك عناصر ذاتية تمس بناها الايديولوجية والتنظيمية، وخياراتها السياسية العملية. والجانب الاخير وحده ينتمي الى دائرة المسؤوليات وتالياً اللوم والادانة على التقصير، والثناء على الاجادة. وهو الجانب الذي سيتم تناوله هنا مع ترك دور العوامل الايديولوجية التنظيمية الى مقام آخر.
سنقتصر هنا ايضا على احزاب "التجمع الوطني الديموقراطي"، لكن سنشير الى مآل حزب العمل الشيوعي كعنصر فقط في سياق توضيح محنة السياسة خلال خمس القرن الاخير من القرن العشرين.
عمل التجمع بالسياسة عاما واحدا فقط هو عام 1980. نعني بالسياسة هنا الشيء المختلف عن العقائد الحزبية من ناحية، وعن العنف من ناحية اخرى. كان تشكيل التجمع بحد ذاته حدثا سياسيا مهما لانه اكد على استقلال السياسة عن العقيدة التي كانت دائما قوية الحضور بالنسبة الى الاحزاب السورية. ثم ان ميلاده عند بداية اعنف ازمة وطنية شهدتها سوريا في تاريخها الحديث، ازمة المواجهة بين تيارات اسلامية متشددة والسلطة، ومحاولته تقديم خط ثالث ينقذ السياسة من العنف المادي والرمزي المنفلت، مثل دخولا قويا الى الحياة السياسية الوطنية.
(دمشق)
ــــــــــــ |