|
الدولة السلطانية المحدثة وسيف الحروب الأهلية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2863 - 2009 / 12 / 20 - 20:49
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
بعد إعادة اكتشافٍ لها في سبعينات القرن العشرين، حازت فكرة الديمقراطية هيمنة غير منقوصة عربياً في عقدي الثمانينات والتسعينات. كان تقرر لمثقفين مرموقين أن بلداننا العربية تعاني من مرض وبيل في رأسها السياسي، الاستبداد. وهي بسبب هذا المرض تراكم فشلا تنموياً وتفككاً اجتماعياً وهزائم عسكرية وخفة وزن في النظام الدولي. من شأن الديمقراطية بالمقابل أن تتيح تقدماً اقتصادياً وتلاحماً وطنياً وتماسكاً في وجه المعتدين الإسرائيليين وسياسات إقليمية ودولية أكثر عقلانية. لكن في السنوات الماضية، بعد الاحتلال الأميركي للعراق بخاصة، أخذ يبدو أن هذا الطرح تبسيطي نظرياً وعملياً. كان ظهر في الفترة نفسها أن هناك عائقاً غير الاستبداد يعطل فرص الديمقراطية، يتمثل في هشاشة البنية الوطنية لمجتمعاتنا ونقص اندماجها. يفرض نفسه هنا تساؤل عن إمكانية معالجة مشكلة الاستبداد من دون التسبب في تفاقم التفكك الوطني؛ وبالعكس، عما إذا كان يمكن معالجة فتوق البنية الوطنية دون تزكية حلول استبدادية. بات واضحاً أن الطرح الديمقراطي كما عرفناه في عقدي القرن العشرين الأخيرين غير كاف للرد على هذا الواقع المركب. السؤال الملح في هذا السياق هو: هل كانـــت بنى مجتمعاتنا المعاصرة دوماً على درجـــة ـــمن الهشاشة تنذر بتفكـــك شامل إن أطيـــح بهياكل السلطة الاستبدادية، أم أن هشاشتهـــا هـــــذه واقع مكتسب، ربما يكون تعزز بفعل الاستبداد ذاته وتحت رعايته؟ نرجح أن مجتمعاتنا المعاصرة مثل غيرها لا تتماسك من تلقاء ذاتها، وأنها تعتمل في داخلها نزعات تفكك لا يحد منها غير دور معاكس تنهض به أولا وأساساً الدولة، وفي المقام الثاني أحزاب سياسية ومثقفون ونخب اجتماعية ارتفعت فوق مستوى روابطها العضوية ومصالحها الضيقة. لبعض الوقت بعد استقلالها وحتى صعود الفكرة الديمقراطية بدا أن قوى الجذب والتماسك أكثر فاعلية في مجتمعاتنا من قوى النبذ والتفكك. لم يكن هذا خاطئاً تماماً. ولم يهجس أحد في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته بأن تغير نظام حكم هنا أو هناك يفتح باباً لتفكك المجتمع وربما انقسام البلاد. لكن الهاجس نما شيئاً فشيئاً منذ تلك الأيام مع ترسخ ظاهرة الحكم الاستبدادي المؤبد، الذي ينشط العلاقات الأهلية القائمة على الثقة والمحسوبية ضماناً لدوامه، والذي يرهن بقاء المجتمع المحكوم بتسيده عليه ووحدة البلاد بسيطرة النظام. تأخرت رؤية الديمقراطيين لهذه الظاهرة، ربما من باب رفض ما كان سماه برهان غليون الابتزاز بالحرب الأهلية. لكن خطر الحرب الأهلية حقيقي. تفجر في الجزائر في مطلع تسعينات القرن السابق، وتفجر في العراق بعيد احتلاله وتغيير نظامه. ويحتمل أن يتفجر في غير بلد إن تعرض النظــام الحاكم للتغيير. رفض الابتزاز صعب حين يكون المبتز بلطجياً قوي القلب. لا ريب أنه ما كان لذلك أن يتحقق لولا أن في مجتمعاتنا المعاصرة ما يسهل التلاعب بتماسكها ووحدتها. لكن هذا صحيح في كل مكان. ودور الدولة الأول هو بالضبط هو تغليب قوى التماسك والوحدة على قوى التبعثر والانقسام. غير أن الاستبدادية المعاصرة في بلداننا لا تمتنع عن النهوض بهذا الواجب بل تتولى نقيضه تماماً. هل هي مضطرة؟ ولا بحال من الأحوال. هناك مسؤوليات. وهي تقع على عاتق نخبة الدولة السلطانية المحدثة الراغبة في حكم مؤبد. هذه الرغبة تقودها (تضطرها) إلى تحطيم كل أشكال الانتظام العام الحديثة المستقلة أو استتباعها وتفريغها من محتواها (أحزاب، نقابات، منظمات اجتماعية، جامعات...). هذا بينما ترعى الروابط الأهلية وتضمن لوجهائها نفاذاً مقيداً إلى هياكلها وأجهزتها. والمحصلة الطبيعية لضرب الانتظامات الحديثة هي تدهور البنية الوطنية، وحرمان السكان من التجارب والتمارين والتشكيلات التي قد تمكنهم من تطوير إرادة عامة والتشكل كشعب. على هذا النحو طور استبدادنا المعاصر خاصية خبيثة تربطه بصورة وثيقة بمستوى مترق من التفكك الوطني وبالتحكم بمستوى التفكك في كل حين بحيث لا يتماسك المجتمع المحكوم ذاتياً ولا يتفكك ذاتياً، لكن ينفرط تماما إذا أفلت خيطه من يد الحاكم الاستبدادي الحديث. بعبارة أخرى، ـليس مستوى التماسك الوطني معطى مستقلا عن بنى السلطة القائمة، تابعاً لشيء قد يسمى طبيعة مجتمعاتنا أو ثقافتها أو نوعية عقائدها الدينية، على ما يفضل تصوير الأمر إيديولوجيون يصح وصفهم بأنهم «مستشرقون داخليون». ليس هذا هو الاستبداد الذي يتكلم عليه عموم الديمقراطيين السوريين والعرب. لا يتعلق الأمر هنا بدكتاتورية عسكرية أو بقوة منفصلة عن المجتمع تتحكم به من خارجه وتكفي إزالتها لتحرره، بل بقوة متغلغلة فيه ومخترقة له، وولاؤها الأول لحكمها لا لمحكوميها. نتكلم هنا عن مجتمع مفخخ، يحتمل أن يجري تمزيقه إرباً إذا قرر مفخخوه أنهم مهددون بخطر جدي. الديمقراطية ليست حلا للاستبداد المحدث. يلـــزم إذا كان التحليل قريباً من الصواب التخلص من الورم الاستبدادي الخبيث وترقية مستوى التماسك الوطني فـــي آن معاً. التخلـــص مـــن الاستبــــداد لا يكفــــي. أما التعــــويل علـــى اندماج أعلى في ظل بنى السلطة الحالية، وهــــو افتــــراض لا يستقيم تفكيـــر منسوبين إلى العلمانية فــــي سورية وغيرها إلا على أساسه، فهو خداع للذات والغير. هل من مفهوم يستوعب هذين الالتزامين معاً؟ ربما البناء الوطني، جملة السياسات التي تفضي إلى تشكل «شعب» ودولة حديثة، أو بناء الدولة الأمة. نقول ربما تعبيراً عن التردد والحيرة. من جهة المفهوم يحول خلاصات مستفادة من تاريخ تكون الأمم الغربية خلال أزمنة طويلة إلى برامج عملية، قصيرة الأجل تعريفاً، لبناء أمم عصرية. ومن جهة ثانية يخاطب المفهوم نخباً سياسية، يضعها بصورة ما فوق «المادة المجتمعية الأولية» التي يراد بناء أمة منها. من أين تأتي هذه النخب؟ وكيف لها ألا تنتهي إلى بناء دولة غول، قد تتابع سياسة «فرق تسد» الاستعمارية، أي إلى ما انتهت إليه نخب السلطة عندنا؟ أو تتولى المهمة صراحة قوة احتلال أجنبية (استخدمت مراكز الأبحاث الأميركية المفهوم على نطاق واسع وقت احتلال العراق)؟ ومن جهة ثالثة تبدو العملية عسيرة في ظل العولمة. عسيرة أيضاً في ظل النظام الشرق أوسطي القائم على استثناء أميركي واستثناء إسرائيلي واستثناء استبدادي عربي. نحاول تجنب القول إن الموقف الأقل تناقضاً هو سقوط الاستبداد ولو بثمن نزاع أهلي باهظ الكلفة. نتجنبه ليس لقسوته فقط، وإنما لأننا لا نتحكم بشيء من شروطه. لكننا لا نتحكم بشيء من شروط البناء الوطني أيضاً. هذه الوضعية القدرية، ألم يسبق لنا رؤيتها؟
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثقافوية العربية المعاصرة، خصائص منهجية ومحددات أساسية
-
من -الخيار الثالث- إلى -وضعية يسارية- جديدة
-
الواقع سيئ، اماذا ينبغي أن نكون سيئين؟!
-
طوباوياتنا المعاصرة... جامدة متناقضة وغير تحررية
-
في اقتران التفكير التسليمي بالعلاقات الولائية، والعكس
-
استئناف نقاش غائب في شأن مفهوم الإيديولوجية وإحالاته
-
عبيد السلطة وعبيدهم وما إلى ذلك
-
ما هي الرقابة؟ وماذا تراقب؟
-
في أبنية الدولة السلطانية المحدثة: ليبرالية اجتماعية وطغيان
...
-
من الطاعة المفروضة إلى التطوع الذاتي
-
في الوقائع نصف الغريبة لاختفاء الشعب
-
في شأن إيران والغرب و..العرب!
-
-الدولة السلطانية المحدثة-: سيادتان وسياسة واحدة
-
تركيا كنموذج عملي يُتعلّم منه
-
ما وراء الزيدي وحذاءه: اعتلال الروح العربية
-
المحركات المحتملة للعلاقات الأميركية السورية في النصف الأول
...
-
سورية ولبنان وفشل بناء الأمة
-
من الاقتصادوية إلى الثقافوية إلى السياسوية إلى آخره
-
ثلاث أسئلة بخصوص كتاب عبدالله العروي -السنة والإصلاح-، وثلاث
...
-
في تأسيس المحاصّة الطائفية معرفياً
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|