|
اليسار المغربي.. مهام المرحلة وآفاق العمل الموحد
إسماعيل العلوي
الحوار المتمدن-العدد: 2862 - 2009 / 12 / 19 - 15:46
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية الرباط / المغرب
إن الحديث عن المهام التي تفرضها المرحلة الراهنة يجرنا، بالضرورة، إلى الحديث عن مميزات هذه المرحلة وعن مآل الديمقراطية في بلادنا. إن المرحلة الراهنة تتميز، من بين ما تميز به، بعملية تبخيس متعددة الأوجه وممنهجة استهدفت وما زالت تستهدف العمل السياسي الملتزم والمسؤول، إذ ما يلاحظ اليوم، من خلال قراءة للمشهد السياسي، هو العودة القوية للسلوكيات المصلحية والممارسات الانتهازية المخزية، المخربة لقيم الوطنية الحق، والمستهترة بالمصلحة العامة. كما أن ديمقراطيتنا الفتية، الهشة، كنظام لتسيير البلاد، وكآليات لتدبير تناقضات المجتمع والاستجابة لاحتياجاته، وكعامل للاستقرار، والتي من المفروض أن تنشطها أحزاب سياسية ذات مصداقية ومشروعية، تعاني من صعوبات جمة لتترسخ وتتقوى في مجتمعنا. وفي نفس المسعى الرامي إلى ضبط مميزات المرحلة، نستحضر المعطى المرتبط بتوافد حزب جديد على المشهد السياسي الوطني والذي صار غداة انتهاء المسلسل الانتخابي الأخير، يحتل، بقدرة قادر، صدارة الحياة السياسية، وهو حزب بحكم إدعائه قربه البين من الدوائر العليا للدولة، غير قابل للتصنيف كحزب عاد. ففي وقت كان مطلوبا فيه بذل الجهود من أجل المزيد من عقلنة وتنظيم المشهد السياسي على أساس تكتلات وتحالفات طبيعية ومنسجمة، تسبب الموفود الجديد في بعثرة الأسس الهشة للحياة السياسية، إلى درجة جعلت أغلب الملاحظين والمتتبعين في حالة حيرة أمام ما وقع وما يقع والذي من شأنه أن يهدد استقرار أوضاع البلاد. ومن ثم يجوز التساؤل بقوة حول الأهداف المتوخاة من هذه العملية السياسية التي تعيد، عمليا، النظر في المسار الذي سارت عليه البلاد في العقد الأخير، إذ إنها تروم، حسب عدد من المؤشرات البينة، استبدال الواقع السياسي الذي أدى بالمغرب إلى دخول عهد خصب من الإصلاحات والتغيرات، وإن كانت لا تخلو من إكراهات ومن بعض التعثرات، بوضعية جديدة ترتكز على فعاليات سياسية تدعي الجدة وعلى توجهات مغايرة لتلك القائمة إلى يومنا هذا، مما يجعلنا نعرب منذ الآن عن رفضها لها، لا لأنها تدعي التغيير من المعطيات السياسية الشكلية ولكن لأنها ستؤدي إلى درب مسدود ولن تعود بالخير على بلادنا وشعبنا. إن هذا الواقع يؤدي إلى طفح ظاهرة النفور من الانتخابات تلكم الظاهرة التي تتخذ أحيانا صبغة المقاطعة، لا سيما في المدن الكبرى، من قبل شرائح واسعة من المواطنات والمواطنين، تتشكل في معظمها من أنصار الأحزاب الديمقراطية ويبرر هؤلاء المواطنون إمساكهم عن المساهمة برفضهم المشاركة في اقتراع مغشوش ومحسوم بواسطة الأموال، غير مدركين أن إمساكهم ومقاطعتهم للانتخابات لن يغيرا الأوضاع في شيء. في حين أن المساهمة من شأنها أن تقوي الصف الديمقراطي. وهذا أدى، في غالب المدن، إلى إقصاء اللوائح اليسارية وبالتالي إضعاف تمثيليتها داخل عدد هام من المجالس الجماعية التي كانت توجد متمثلة فيها بشكل ملحوظ. لكن لا مناص من الاعتراف بأن من بين الأسباب التي تساهم في هذا العزوف وتزكيه نجد دخول أحزاب اليسار متفرقةً إلى المعارك الانتخابية. إننا اليوم، مقتنعون من أن تجربتنا الديمقراطية التي لا تزال فتية تحدق بها أخطار تتجسد في احتمال نهج شبيه بما هو ساري المفعول به في العديد من الدول العربية شمال إفريقيا، والذي يذكر بنمط الاستبداد الشرقي أكثر ما يوحي بالديمقراطية الحداثية وتتجلى كذلك هذه الأخطار في آثار الأزمة الاقتصادية العالمية على اقتصادنا الذي لم يتخلص بعد من توجهاته المبنية على اقتصاد الريع. أما في الميدان الاجتماعي فبالرغم من المجهودات المبذولة في الميدان ما زالت الفوارق الاجتماعية صارخة، وما زالت جماهير الكادحين تئن من قساوة أوضاع عيشها. إن هذه المعطيات التي أتينا بها في عجالة لبالغة الخطورة وتضاعف مسؤوليات أحزاب الصف الديمقراطي، التي يتعين عليها أن تصون مكتسبات شعبنا وتعمقها وتحرز وطننا من عواقب هذه الانزلاقات التي تحيكها أطراف تريد العودة ببلادنا إلى الوراء. وهذه هي أم المهام المطروحة على قوانا حاليا. إن التجربة التاريخية للمغرب الحديث، بما يتميز به من خصوصيات، وبطبيعة واقعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وتداخل مصالح فئات مختلفة، أثبتت، عبر التحديات القديمة التي واجهها، بدءا بالمعركة من أجل الاستقلال، ومرورا بالنضال من أجل الديمقراطية وانتقاد معركة التغيير التي يخوضها اليوم، حتمية سياسة التحالفات على مستويات مختلفة وحسب الأهداف المرحلية المتوخاة. كما أثبتت هذه التجربة التاريخية أن أي قوة سياسية، مهما كان وزنها، لا يمكن أن تتحمل لوحدها عبء الانتقال بالمغرب إلى مرحلة أرقى دون الاعتماد على تظافر الجهود وتوحيدها مع قوى سياسية أخرى. وحزب التقدم والاشتراكية يعد وريثا ومحركا لثقافة وحدودية صهرها الكفاح ضد المستعمر والنضال من أجل الديمقراطية في كل تجلياته السياسية والنقابية والطلابية... هكذا فإن مفهوم «الوحدة» يعتبر جزءا من رصيد هويتنا، ليس من منطلق دغمائي، بل العكس من ذلك، إذ ينطلق من أوضاع مجتمعنا السوسيولوجية، وكذلك انطلاقا من اقتناعنا الراسخ أن التعددية الفكرية والمذهبية والسياسية تعد معطى سوسيولوجيا أوليا وضمانة للديمقراطية التي تتنافى في الاستحواذ على رأي أوحد. لقد كان هاجس الوحدة في العمل السياسي ملازما لحزب التقدم والاشتراكية منذ نشأته، وهو أمد ينسجم مع نمط في التفكير ومقاربة لواقع البلاد عبر مراحل تطوره المختلفة ومع جرأته الفكرية وواقعيته السياسية وتغليبه مصلحة البلاد على المصلحة الحزبية، مما كان يملي عليه مبدأ التحالفات كسبيل لتحقيق الأهداف السياسية المنشودة. هكذا كان الحزب، الذي أمثله، مؤسسا، إلى جانب فرقائه في الصف الديمقراطي للثقافة الوحدوية ببلادنا، وعمل بدون ملل ولا كلل على ترسيخها، جاعلا منها جزءا من هويته وسعيا استراتيجيا في توجهه. وتاريخنا السياسي الحديث، سيحتفظ بتجربة الكتلة الديمقراطية باعتبارها أحد أبرز المشاريع الوحدوية الناجحة، التي كان لها الفضل الكبير في تسريع وتيرة التغيير، والدور الحاسم في جعل موازين القوى تميل لصالح القوى الوطنية والديمقراطية، مما مكن من إنجاز جزء أساسي من برنامج الإصلاحات السياسية والدستورية، في إطار توافقي خلاق بين المؤسسة الملكية ومكونات الحركة الوطنية الديمقراطية التقدمية. والمهمة المطروحة اليوم باستعجال، والتي ما فتئ حزبي يضاعف الجهود لإنجازها، تتمثل في ضرورة تفعيل وتقوية نشاط الكتلة الديمقراطية ـ التي يجب أن تضم كل المكونات التي أنشأتها أول مرة، وأساسا الحزب الاشتراكي الموحد، الوريث الشرعي لمنظمة العمل الديمقراطي، أحد الأحزاب المؤسسة لهذه التجربة ـ على أسس جديدة تراعي تطورات الوضعية السياسية وما عرفته من مستجدات منذ مرحلة التأسيس إلى اليوم، وتقوية التفاف مكوناتها حول الميثاق الذي وضع سنة 2007، والتركيز على ما يوحدها من مبادئ وقناعات وبرامج، والتدبير الديمقراطي والحضاري للقضايا الخلافية، وتوسيع مجالات العمل المشترك على الأصعدة الوطنية والجهوية والمحلية، ومن خلال القطاعات والمنظمات الموازية، والانفتاح على الفصائل الديمقراطية بما يقوي جبهة الحداثة والتقدم، وبما يمكن من إنجاز المهمة التاريخية المتمثلة في تعبئة أوسع فئات جماهير شعبنا القادرة على صنع التغيير وبناء مستقبل أفضل للوطن وللأجيال المقبلة. وفي نفس الوقت، فإن القناعة المبدئية بضرورة انتظام القوى التقدمية في جبهة موحدة لتصير أكثر قدرة على تعبئة الجماهير وقيادتها نحو التغيير، جعلت الحزب ينتبه مبكرا إلى جدوى إطلاق دينامية وحدة اليسار، ليس باعتبار هذا اليسار بديلا عن الكتلة الديمقراطية، بل كدعامة أساسية لهذا المنحى الوحدوي، والذي من إيجابياته، هيكلة المشهد السياسي الوطني على أسس موضوعية قوامها التقارب الأيديولوجي والبرنامجي، وعقلنة العمل الحزبي، والسمو بالفعل السياسي إلى مستويات أرقى، ضمانا لبناء ديمقراطية مرتكزة على قيم حقوق الإنسان، سلمية ومحصنة ضد أي انتكاسة أو ردة. فإذا كان مفهوم اليسار مفهوما نسبيا ومرحليا، أي أنه مقرون في نسبيته بالمعيار الذي نقيس عليه: السياسي أو الأيديولوجي أو الاجتماعي أو التنظيمي، ومقرون في مرحليته بالأهداف الرئيسية المتوخاة من كل مرحلة، فإن اليسار الذي نعنيه يتشكل من كل القوى التي تشترك فيما بينها (ومع بعض القوى الأخرى) في المشروع الديمقراطي الحداثي، وتشترك أيضا في مرجعيتها الثقافية الاشتراكية الواحدة التي تسم إلى حد كبير نوعها الإيديولوجي ومشروعها المجتمعي المستقبلي، وتناضل من أجل العدالة الاجتماعية ونصرة قضايا الكادحين. وفي هذا السياق الجوهري لهوية اليسار ولانتمائه الاشتراكي، تبرز مجموعة من القواسم المشتركة، والتي لا تعفيه من مسؤولية البلورة الثقافية لمشروعه المجتمعي في كل مرحلة تاريخية بعينها. ولا تعفيه أيضا من ضرورة المراجعة النقدية الشاملة للتراث الاشتراكي في اتجاه تقوية رصيد المعرفي وتأسيس مرجعيته النظرية في ضوء الخبرة المكتسبة وتراكمات المعرفة الإنسانية. في تعيين القواسم المشتركة بين قوى اليسار الاشتراكي عادة ما يتجه التفكير مباشرة إلى نصوص الخطابات و البرامج للبحث عن المتشابه فيها, بينما الهوية الحقيقية لأي حزب تملأ تاريخه الفعلي الممارس في مجموعه... و لذلك غالبا ما يقع إغفال أحد هؤلاء القواسم المشتركة لهذا التاريخ لحساب تشابهات الخطاب و فن القول. وهي مسألة في غاية الخطورة في اللحظة السياسية الراهنة التي يحاول فيها «اليمين» تقمص خطاب اليسار لتمييع الحياة السياسية و زرع الخلط و اللبس لدى الجماهير.. إن القاسم المشترك الأول و الأساسي, و الذي ينبغي إبرازه على غيره في هذا التاريخ, يتجسد في الممارسات النضالية التي أدت بقوى اليسار الاشتراكي إلى تقديم تضحيات غالية ما زالت ذكرياتها حية و عالقة بالأذهان. و ما اختبر لهذا اللقاء من عنوان و ذكرى إلا تأكيدا لما نقول. إن هذه الركيزة الروحية, إن صح التعبير, هي الخلفية التاريخية الأساس لكل القواسم المشتركة الأخرى. بعد ذلك و على ضوئه يمكن إبراز القواسم المشتركة التي سنعرضها موجزة و بطريقة تكاد تكون وصفية. إذا أمعنا النظر في ما يشترك اليسار فيه و ما يميزه عن باقي القوى الأخرى في كل المستويات الحزبية (الإيديولوجية و السياسية و البرنامجية) فإننا نستطيع أن نبرز الميولات الرئيسية الآتية, إلا أنه ينبغي أن نؤكد قبلا على أن لطبيعة المرحلة الانتقالية ولاشتراطاتها و أولوياتها الإصلاحية الهيكلية, ما يجعل بعض الميولات, رغم أنها من صميمي هوية اليسار, مدغمة إلى حد كبير مع استهدافات المرحلة و مقيدة بها : 1)على المستوى الإيديولوجي: من اللافت للنظر أن اليسار ما زال يعلن عن تشبثه وعن نسبة الصريح إلى الإيديولوجية الاشتراكية و إلى كل تراثها الإنساني. و هذه علامة فارقة ينبغي الوقوف عندها, إذ رغم المخاض العسير الذي تعيشه النظرية الاشتراكية, و رغم تفاوت الاجتهادات في استثمار هذا التراث و تقييم حصيلته التاريخية, فإن اعتماد اليسار للاشتراكية كمرجع ثقافي رئيسي ينمي لدى مكوناته ثقافة مشتركة تتقارب في إشكالياتها وهمومها و منطلقاتها. إن كون اليسار منشغلا بقضايا و هموم واحدة في حواره مع التجربة التاريخية الاشتراكية و استنطاقه لمستقبلها هو في حد ذاته عامل تقارب و تشابه بين القوى اليسارية.. و علامة دالة على رفض اليسار في اجتهاده من أجل تغيير الحياة لهيمنة الفكر الوحيد و الخضوع للنزوعات البرغماتية السائدة و الفاقدة لكل منظور تاريخي إنساني شمولي و المفتقرة للبعد الثقافي الحضاري. أضف إلى هذا أن اليسار في بلادنا يتفق في الجملة على«بيت القصيد» من ضرورة المراجعة النقدية، حيث يبدو أن عنوانها الواضح يدور, نظرا«للمرحلة التاريخية»التي يمر منها مجتمعنا حاليا, حول«التقدم و الحداثة». ولا غرو في ذلك, فالمعضلة التاريخية التي يواجهها اليسار ليست بكل المعايير «التقليدية»مهمات اشتراكية, إنها بالأحرى معضلة التأخر المجتمعي بكل حمولاته الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و الثقافية... و في هذا الصدد, لا يوارب اليسار في أنه صاحب نزعة تقدمية تحديثية واضحة المعالم في كل القضايا التي يطرحها علينا واقع التأخر. و من البين لدى اليسار أن معاركه التحديثية لا يمكنها أن تتنكر لإطارها الحضاري المغربي, أو أن تكون ضده, بل هي تنطلق منه و تتواصل معه لكي تؤسس لمعاصرة صلبة ضاربة بجذورها في العمق الثقافي للشعب المغربي بأبعاده الإفريقية و الامازيغية و العربية التي تشكل المبادئ السامية للإسلام أسمدتها. 2) على المستوى السياسي, حقق اليسار بالمغرب منذ ثلث قرن على الأقل, طفرة نوعية في وعيه الديمقراطي, طفرة برأته من كل الاختلاطات و النقائص التي شابت قسما من مسيرته, و أرست اختياره الديمقراطي على أساس نهائي و ثابت. لقد استعاد اليسار للاشتراكية طابعها الديمقراطي الأصيل. فالاشتراكية باعتبارها تحرير للإنسان, و هو قيمتها العليا, ولا يمكنها أن تكون إلا ديمقراطية في المبنى و المعنى أو في الوسيلة و الغاية. و يتوفر لليسار, بالمغرب, اليوم, برنامج مرحلي للإصلاحات السياسية سواء ما تعلق منها بالحقوق السياسية و المدنية أو ببعض الجوانب الدستورية أو بالقوانين المنظمة للجهوية و للمجالس الجماعية و الغرف المهنية أو بالقوانين الانتخابية... هذه و غيرها من الإصلاحات الهادفة إلى ترسيخ دولة الحق و القانون و المرتكزة على نظام الملكية الدستورية الاجتماعية تتطابق في معظمها وجهات نظر أحزاب اليسار بل ويملك اليسار في معظمه تصورا سياسيا مشتركا لمرحلة الانتقال عبر عنه, بعد تصويته عن الدستور المعدل و تحمله للمسؤولية الحكومية, بمطالبته بمراجعة دستور 1996 انطلاقا من التراكمات التي تحققت طيلة 12 سنة. و هما دالتان على مقاربة موحدة للوضع السياسي و لأولوياته و انتظاراته. 3) على المستوى البرنامجي: لقد استطاع اليسار أن يكيف برامجه مع المعطيات الدولية الجديدة و أوليات المرحلة. و تكاد تكون نقط الاتفاق بين الأحزاب اليسارية على الاختيارات الكبرى متطابقة هنا أيضا. و نذكر منها عل سبيل المثال لا الحصر: ـ اختيار الانخراط الإيجابي في الاقتصاد العالمي, لا رضوخا لواقع إمبريالي, لكن تأكيدا على فكرة الكونية Universalisme التي أتى رواد الاشتراكية و بما يستلزمه هذا الانخراط من تأهيل للاقتصاد المغربي ليكون قادرا في المواعيد المحددة (الانعكاسات المترتبة عن المنطقة العالمية للتجارة و اتفاقية الشراكة مع أوروبا...) على المنافسة و الاستفادة من التحولات التي يعرفها الاقتصاد العالمي, دون إغفال ولا قبول الجانب الإمبريالي بالمفهوم اللينيني للاقتصاد العالمي الراهن. ـ اختيار الاقتصاد المختلط مع الاحتفاظ للدولة بدور وازن في القطاعات التي لا يستطيع الرأسمال الخصوصي ولوجها سواء في ميدان التجهيزات التحتية أو غيرها من المشاريع الكبرى أو القطاعات الرائدة... إضافة لدورها في التوجيه و ضبط التوازنات الاقتصادية و الاجتماعية. و هذا ما يفرض نفسه بإلحاح أكبر جراء الأزمة العالمية و عواقبها على اقتصادنا الوطني. ـ اختيار العدالة الاجتماعية و التضامن المجتمعي, بما يعنيه من ارتباط صميمي بين التنمية الاقتصادية و التنمية الاجتماعية, مع إعطاء الأولوية لتكافؤ الفرص في ميادين الشغل و التعليم و الصحة, و محاربة الفقر و إدماج المرأة في عملية التنمية الشاملة, و تشجيع المقاولات الصغرى و المتوسطة, و الاقتصاد الاجتماعي مع الوعي التام أن المجتمع هو مجتمع يعتمد الصراع الطبقي و بالتالي فلا هوادة في الدفاع على مصالح الكادحين و رفض كل أنواع استغلال الإنسان للإنسان. ـ اختيار البعد المغاربي أولا, و العربي بمعناه اللاإثني ثانيا, باعتبارهما البعدين الحضارين و الاقتصادين الأكثر ملحاحية في عالم التكتلات الضخة و الرافعة التاريخية للخروج من حلقة التخلف و التبعية المطلقة. ـ الاختيار الثقافي الذي ينطلق من الهوية المغربية ذات الأبعاد الإفريقية والامازيغية والعربية المجتمعة في البوتقة الإسلامية. ـ الاختيار السياسي الديمقراطي الذي ينبذ كل أشكال الكليانية ـtoalitarisme وينبني على احترام الحريات العامة والفردية والرأي الآخر. كل هذه الاختيارات هي قواسم مشتركة بارزة في برامج أحزاب اليسار أو في تصوراتها وتكون في مجموعها محاور مشروعه المجتمعي الديمقراطي والمتجدد البناء وترتيب الأولويات بحسب طبيعة كل مرحلة.. وتأسيسا على ذلك، ظل السعي الوحدوي لحزبي حاضرا عبر مختلف مراحل تاريخه النضالي الحافل، بدءا بالعمل من أجل ميثاق وطني، ثم الدعوة إلى جبهة وطنية تقدمية والسعي الدؤوب لتطوير علاقات متميزة مع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والإسهام البين لقيادة حزبنا في إنجاح تجربة الكتلة الديمقراطية، وصولا إلى ما يبذل من جهود لبلورة مشروع قطب اليسار. إن العبرة في التحالفات، من منظور حزب التقدم والاشتراكية، ليست في التضخيم المصطنع للتنظيمات وأعداد المناضلين، بل المبتغى هو ما ينتج عن دينامية الوحدة من حركية مجتمعية منفتحة على المستقبل، بمقدورها صهر مجهودات مناضلات ومناضلين ينحدرون من آفاق مختلفة، في قوة مادية موحدة، تمكن من تأطير وقيادة الحركة الاجتماعية من أجل التغيير، وتؤلف بشكل خلاق بين إسهامات القوى المتحالفة وكل من يناصرها داخل المجتمع، في احترام للخصوصية وبعيدا عن الحسابات العددية وبالأحرى الذوبان أو ابتلاع «الحلفاء» لبعضهم البعض. لهذا، فالحزب يظل متشبثا بمنحاه الوحدوي المنفتح على مكونات وفعاليات تقدمية مختلفة. وفي هذا الاتجاه، مع استمرارنا في مساعينا التنسيقية مع باقي فصائل اليسار، شرعنا بشكل ملموس في تشكيل تكتل أولي مع كل من حزب جبهة القوى الديمقراطية والحزب العمالي داخل وخارج البرلمان، عاقدين العزم على أن يشكل ذلك خطوة أولى نحو وحدة اليسار التي ما فتئنا نسعى إليها. وسنشرع في الفترة المقبلة في القيام بعدد من الخطوات المشتركة مع هذين الحزبين معلنين في ذات الوقت عن انفتاحنا الدائم والمبدئي على باقي أطياف اليسار التي تريد بشكل فعلي أن تواكب وتدعم وتغني هذه الخطوة الأولية البناءة. إن وحدة اليسار من شأنها أن تبعث من جديد الأمل في صفوف أنصاره، وأن تساهم في تعبئة المواطنين والمواطنات التواقين إلى الديمقراطية الحق والحرية والعدالة الاجتماعية، أي بعبارة أخرى إلى الديمقراطية المشاركاتية والحداثة الحقيقية، خصوصاً في هذا الظرف الدقيق الذي تجتازه بلادنا والذي يتميز بمخاطر تهدد مصير ومستقبل المسلسل التقدمي والمكتسبات الديمقراطية التي حققها الشعب المغربي من خلال نضالاته بقيادة قوى الصف الديمقراطي ومن ضمنها اليسار. ومن نافلة القول، أن فوز الديمقراطية، في جانبها التمثيلي أولا، ثم في جوانبها الأخرى ثانيا، ورسوخها في أي مجتمع، يبنيان فيما يبنيان عليه، على مدى نضج المجتمع المدني ومدى حضوره وفاعليته. ولا يخامرنا شك في أن اليسار الديمقراطي هو القوة الأكثر انسجاما والأكثر مصلحة في الدفع بقوى مجتمعنا المدني إلى هذا المستوى التاريخي المطلوب، وهي مهمة صعبة المنال في ظل التشتيت والضعف الذي يعاني منها يسارنا اليوم. إن حالة الضعف والتشتت التي طالت كل القوى الديمقراطية في بلادنا، هي المحفز الأول و الأخير لقيام القطب اليساري الموحد، وبالتالي فإنها تستحق منا التفحص في معانيها البعيدة. وبدون أن نفرض على التاريخ قراءة وفق قناعتنا ورغبتنا الإرادية، فإننا سننطلق من أن ما جرى من تعديد للقوى اليسارية، كان يعبر عن تنوع في الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والسياسية والتنظيمية التي أفرزها المجتمع المغربي في مختلف مراحل الصراع السياسي. إن الإقرار بهذه الواقعة التاريخية، لا يلغي في نظرنا، اليوم حقيقة أخرى، مفادها، أن التحولات التي عرفها المجتمع المغربي والطفرة الكبرى التي عاشها المجتمع المدني، قد أضعفت كثيراً تلك الخصوصيات الحادة الموجودة بين أحزاب اليسار الديمقراطية، وقاربت بالتالي بينها سواء في التوجهات الإيديولوجية أو السياسية أو البرنامجية أو الاجتماعية. إن هذه الحقيقة يلمسها اليوم كل المناضلين ويحس بها كل جماهير وعاطفي هذه الأحزاب، وهذا لوحده يعتبر دليل إثبات وداعيا قويا للتفكير في توحيد هذه القوى، أو إعادة تشكيلها على أرضية جديدة غير خصوصياتها القديمة. وقد لا نغالي في الاستنتاج، إذا قلنا أن لدينا اليوم أحزابا يسارية وظيفية تتمايز في أحجامها وأدوارها في هذه القضية أو تلك (القدرة النسبية على صنع الحدث أو التأثير فيه، الوضوح في الأهداف والبرامج، الإشعاع الثقافي..) لكنها جميعا ليست قوة تاريخية، إلا بقوتها الجماعية وتكامل تمايزاتها التاريخية، نعني ـ هنا ـ القدرة على تمثل مصالح المجتمع وعلى نقله من حالة نوعية إلى حالة نوعية أخرى أكثر تقدما. ينبغي إذن الانتقال من قوى وظيفية متمايزة في أحجامها وأدوارها النسبية إلى قوة تاريخية يمكنها أن تضطلع بمسؤوليات مهمات التقدم الثقافي والسياسي والمجتمعي والتنظيمي المنسوبة إليها. إن تحقيق القطب اليساري الكبير الذي ندعو إليه يفرض أولا لقاءا ممنهجا حول مائدة مستديرة، ثم تجميعا وتوحيدا لقوى اليسار كما هي. وسيؤدي هذا النهج إلى تطوير وتحديث هذه القوى بالقدر الذي يزيد من تقدمها. إن الحالات الشبيهة بهذا النهج الذي نقترحه كثيرة في العالم، وآخرها ما يجري حاليا بألمانيا في إطار حزب Die linke وما يمكن أن يترتب عن ذلك من توحيد عمل كل قوى اليسار هناك. ومن منظور الرد على الهجمة اليمينية وعلى الأخطار المحدقة بتجربة بلادنا الفتية في ميدان الدمقرطة والتقدم، فإننا في الوقت الذي نعمل فيه من أجل توحيد اليسار الاشتراكي في قطب جماهيري كبير علينا أن نعمل في آن واحد، من أجل تطوير الكتلة الديمقراطية وتوسيعها والرفع من فعاليتها.. قناعة منا من أن اليسار الاشتراكي لا يمكنه أن ينمو ويقوى إلا في نهوض جماهيري ديمقراطي واسع يشمل كل القوى والفعاليات ذات نفس الطموح. هكذا ننظر، في حزب التقدم والاشتراكية، إلى الإشكال الذي تطرحونه على سديد رأي المشاركين، أيها الرفاق الأعزاء لا ندعي أننا نمتلك الحقيقة وبالتالي نحن على أتم الاستعداد للنقاش الموضوعي الرسين... لكن في نفس الوقت ندعو الجميع إلى التخلي عن كل موقف متعنت وكل حكم مسبق على الآخرين أو تجريح في حقهم. * نص مداخلة الرفيق العلوي في ندوة سياسية في الرباط يوم 30/10/2009 بمشاركة قيادات خمسة أحزاب يسارية ومغربية هم بالإضافة للعلوي: محمد مجاهد الأمين العام للحزب الاشتراكي الموحد، عبد المجيد بوزيغ الأمين العام للحزب الاشتراكي، عبد السلام العزيز أمين عام المؤتمر الوطني الاتحادي، وعبد الرحمن بن عمر نائب أمين عام حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي.
#إسماعيل_العلوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
-أرض العجائب الشتوية-.. قرية ساحرة مصنوعة من كعكة الزنجبيل س
...
-
فيديو يظهر ضباط شرطة يجثون فوق فتاة ويضربونها في الشارع بأمر
...
-
الخارجية اليمنية: نعتزم إعادة فتح سفارتنا في دمشق
-
تصفية سائق هارب اقتحم مركزا تجاريا في تكساس (فيديو)
-
مقتل 4 أشخاص بحادث تحطم مروحية تابعة لوزارة الصحة التركية جن
...
-
-فيلت أم زونتاغ-: الاتحاد الأوروبي يخطط لتبنّي حزمة العقوبات
...
-
مقتل عنصر أمن فلسطيني وإصابة اثنين آخرين بإطلاق للنار في جني
...
-
بعد وصفه ضرباتها بـ-الوحشية-... إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب
...
-
أكاديمي إسرائيلي: بلدنا متغطرس لا تضاهيه إلا أثينا القديمة
-
كيف احتمى نازحون بجبل مرة في دارفور؟
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|