عبدالخالق حسين
الحوار المتمدن-العدد: 868 - 2004 / 6 / 18 - 06:28
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
نعيش هذه الأيام مرحلة جديدة وغريبة لم يعتاد عليها عقل الإنسان وذلك نتيجة للتحولات العاصفة والسريعة فاختلط الحابل بالنابل كما يقولون. ففي مثل هذه الحالة ليس غريباً أن يسلك التقدمي سلوك الرجعي وأن تدافع منظمات حقوق الإنسان عن حقوق المجرمين بدلاً من حقوق الضحايا. إذ نجد الأحزاب اليسارية الأوربية تتخلى عن مبادئها في الدفاع عن حقوق الشعوب المضطهدة لتقف جنباً إلى جنباً مع الحركات النازية الجديدة في المظاهرات والمؤتمرات وتقود حملات جمع التبرعات للمنظمات الإرهابية في العراق من أجل مواصلة قتل الأبرياء من أبناء شعبنا بحجة مقاومة الاحتلال.
ولم تتوقف هذه الحالة الشاذة على الأحزاب اليسارية الغربية فقط، بل شملت حتى المنظمات الإنسانية غير المسيسة، والمفترض بها الدفاع عن ضحايا الأنظمة الديكتاتورية الجائرة وليس عن الجائرين. ولكن الذي يحصل الآن هو العكس تماماً، إذ تقوم هذه المنظمات بالدفاع عن المجرمين الذين انتهكوا حقوق الإنسان العراقي لما يقارب الأربعة عقود من حكمهم في العراق. إذ نسمع بين حين وآخر عن منظمات حقوق الإنسان ومنها الصليب الأحمر، تقوم بزيارات للموقوفين من فلول النظام الساقط في المعتقلات العراقية بعد تحرير العراق من الحكم الفاشي البعثي. طبعاً لا اعتراض على هذه الزيارات في عراق حر، ولكن اعتراضنا هو على مطالبة هذه المنظمات بإطلاق سراح المجرمين قبل التأكد من براءتهم. وفي الوقت الذي نؤكد فيه أنه لا بد من وجود عدد من الأبرياء ضمن المعتقلين ولكن هذا لا يعني أن جميع المعتقلين هم أبرياء يجب إطلاق سراحهم يشكل عشوائي وفوراً ليواصلوا قتل العراقيين، أو توجيه تهم لهم و محاكماتهم فوراً بشكل مبتسر.
لم نسمع بنشاط هذه المنظمات الإنسانية عندما كانت أجهزة البعث القمعية تقوم بثرم ألوف العراقيين في المطاحن البشرية وغرف التحقيق المرعبة وتملأ بهم المقابر الجماعية التي بلغ عددها ما يقارب الثلاثمائة مقبرة منتشرة في طول البلاد وعرضها. لم تقم هذه المنظمات بزيارة سجناء الرأي من العراقيين في عهد صدام لتتعرف على أحوالهم ومعاناتهم، بل كانت حتى تشكك في تقارير العراقيين في الخارج عن حصول مثل هذه الانتهاكات في الداخل. ولكن ما أن تم القبض على صدام حسين حتى صعَّدت هذه المنظمات من نشاطاتها وراحت تسعى لمقابلته وأعوانه للتعرف على أحوالهم، وعملت كساعي البريد لنقل الرسائل بينهم وبين عائلاتهم. فهل بذلت هذه المنظمات الإنسانية واحد بالمائة من نشاطاتها الحالية في الدفاع عن ضحايا النظام الساقط؟
وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل راحت هذه المنظمات تطلق تصريحات استفزازية لمشاعر العراقيين منها مثلاً: (دعت متحدثة باسم الوكالة الدولية للصليب الأحمر سلطات التحالف في العراق، الى تقديم ملف الاتهام ضد الرئيس العراقي السابق صدام حسين فورا او اطلاق سراحه عندما تعود السيادة الى أيدي العراقيين في 30 حزيران). وما أثار استغرابي هو تأكيد المتحدثة على كلمة (فوراً) وكأن جرائم صدام حسين هي مجرد مخالفات مرورية يمكن محاسبته عليها باللحظة وفي مكان الحادث وليس مجرم حرب ارتكب قائمة طويلة لا تعرف لها نهاية ومنها جرائم ضد الشعب العراقي وشعوب المنطقة وجرائم إبادة الجنس وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية...الخ، وكأن العراق تحول فجأة إلى إحدى الدول الاسكندنافية، يتمتع بالأمن والاستقرار وليس ساحة استقطاب الإرهابيين في العالم يعملون على تدميره وقتل شعبه. إذا كانوا يتحدثون عن الشرعية الدولية فصدام حسين ضرب عرض الحائط 18 قراراً صادراً من مجلس الأمن الدولي ومنها القرار 688 القاضي بحماية الشعب العراقي من الاضطهاد والذي لو نفذه صدام لما حصل ما حصل.
إن الضغوط على الحكومة العراقية الجديدة هي جزء من الحملة المستمرة التي قامت بها بعض الدول والمنظمات الغربية ومعها الإعلام العربي، ضد الحرب على الحكم البعثي الفاشي. وقد انكشفت اللعبة بعد سقوط النظام، فالدول الأوربية مثل فرنسا وروسيا وألمانيا التي كانت تتباكى خوفاً على الشعب العراقي من الحصار أيام حكم صدام حسين عارضت إلغاء الحصار بعد سقوط حكم البعث، كما وعارضت تخفيض الديون ولم تدعم مشروع بناء العراق. ومع ذلك راحت هذه الدول وخاصة فرنسا تزايد على العراقيين حرصها على سيادة العراق أكثر من العراقيين أنفسهم، والغرض واضح هو الضغط على قوات التحالف للانسحاب من أجل توفير فرصة عودة صدام حسين إلى الحكم وإفشال دمقرطة المنطقة. وليس مستبعداً أن تكون الضغوط الموجهة على الحكومة العراقية الجديدة من قبل المنظمات الإنسانية جزء من هذه الحملة المنسقة.
إن إعداد قائمة الاتهام ضد صدام ورجال العهد البائد فوراً ليس بالأمر السهل ولا يمكن إنجازه بعجالة. قرأت قبل فترة أنه حتى المسؤولين الأمريكان يضغطون على العراقيين في هيئة إعداد محاكمة صدام حسين، ويطالبونهم بحصر التهم في ثلاثين تهمة بدلاً من ثلاثمائة. المشكلة هي ليست في اختزال قائمة التهم من اجل توفير الوقت، ولا إطالة القائمة ستزيد من العقوبات التي يستحقها، لأن كل جريمة من جرائمه كافية لإصدار حكم الإعدام بحقه أو سجنه مدى الحياة. كما وليس الأهم هو محاكمة الطاغية كشخص، بل المحاكمة هي محاكمة مرحلة تاريخية برمتها وعلى رأسها الفكر القومي البعثي المسؤول الأول عن هذه الكوارث طيلة 35 عاماً. لذلك لا يمكن تحضير لائحة الاتهام لهؤلاء المجرمين بشكل مبتسر ومتسرع.
وعليه، فالمطلوب من الحكومة العراقية والإدارة المدنية لقوات التحالف وهيئة المحكمة عدم الإذعان لمطالبات هذه المنظمات المشبوهة ولا تتعجل بإطلاق سراح المعتقلين إلا بعد إثبات براءتهم وذلك بعد بإجراء محاكمات قانونية وعادلة. إن إطلاق سراح المجرمين دون محاكمة وبشكل عشوائي له عواقب وخيمة لا تقل خطورة عما أقدم عليه صدام حين أطلق سراح مائة ألف مجرم قبل سقوطه حيث دفع الشعب وما زال، ثمناً باهظاً من جراء ذلك.
كذلك نذكر المسؤولين بما قامت به بعض الجهات من فرض ضغوط شديدة على الإدارة الأمريكية في حملتها ضد الإرهابيين في الفلوجة في شهر نيسان الماضي وانظم إلى هذه الحملة حتى أعضاء من مجلس الحكم الإنتقالي المنحل، للانسحاب من الفلوجة، عندما كانت قوات التحالف على وشك الانتصار والقبض على الإرهابيين الأجانب في المدينة وتخليص العراق من شرورهم. ونتيجة لإجهاض النصر تحولت الفلوجة الآن إلى جمهورية طالبانبة يتخذ منها "أمير المؤمنين" الزرقاوي قاعدة له للهجوم على بقية المدن العراقية. فكلنا نعرف أن العمليات الانتحارية والسيارات المفخخة في بغداد والمدن العراقية الأخرى قد توقفت خلال حصار الفلوجة وعادت بشكل أشد بعد رفع ذلك الحصار. فهل من درس يستخلص من هذه الكوارث؟
لقد اختطف الإرهابيون أهالي الفلوجة وفرضوا عليهم حكماً قرقوشياً باسم الإسلام. إنهم ينتضرون ساعة الخلاص من هؤلاء المجرمين حيث أفادت الأنباء أن (التقى وفد عسكري اميركي امس باعيان الفلوجة ووعدهم بتقديم 85 مليون دولار لاعادة بناء هذه المدينة التي دمرت خلال هجوم لمشاة البحرية الاميركية في ابريل (نيسان) الماضي وتعويض أسر الضحايا. ... ولدى علمهم بالنبأ، نزل الاهالي الى الشوارع للتعبير عن سعادتهم). وهذا دليل على أن أغلب أهالي الفلوجة هم ضد الإرهابيين، لذلك يجب كسبهم وربط صرف هذا المبلغ بشرط استتباب الأمن وتعاونهم مع الحكومة وقوات التحالف للقبض على الإرهابيين وتسليمهم إلى المسؤولين.
خلاصة القول، أن المنظمات الإنسانية المفروض بها أن تدافع عن حقوق المظلومين، ولكن في العراق تحولت إلى منظمات تدافع عن حقوق المجرمين من أمثال صدام حسين وأعوانه. لذلك على الحكومة العراقية أن لا تذعن لضغوط هذه المنظمات وإلا سيكون الثمن باهظاَ على الشعب الذي عانى الكثير سواءً في عهد صدام الجائر أو على أيدي فلوله وحلفائه من المنظمات الإرهابية الإسلامية الأخرى بعد سقوطه.
#عبدالخالق_حسين (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟