|
في العمل مع الشباب: التنشيط الاجتماعي والثقافي
تيسير محيسن
الحوار المتمدن-العدد: 867 - 2004 / 6 / 17 - 06:49
المحور:
القضية الفلسطينية
تشكل فئة الشباب نسبة كبيرة في المجتمع الفلسطيني، ولهذه الفئة الاجتماعية سمات وخصائص، مشاكل وتطلعات، قلما تسترعي انتباه أحد من صناع القرار إلا بالقدر الذي يخدم توجهاً معيناً أو يسهم في تعزيز سلطة هؤلاء الذين يتحكمون في الموارد والقرارات على مستوى الأسرة كما على مستوى المجتمع ومؤسساته. يعاني الشباب الفلسطيني تهميشاً مزدوجاً، تارة بوصفهم جزءً من الشعب الفلسطيني الرازح تحت نير احتلال استطاني قامع للحقوق والحريات، وتارة بوصفهم فئة اجتماعية في مجتمع لا يولهِم كبير اهتمام، كما يسود في أوساطهم شعور عام بالخوف والإحباط والقلق، إلى ذلك، سيادة النزعة الأبوية في مجتمع ذكوري تشل من قدراتهم على التعبير عن أنفسهم وعن طموحاتهم، كما تقيد روح الإبداع لديهم، مع ما يواكب ذلك من قمع وكبت وتمييز تجاه الفتيات خاصة. تقوم فلسفة العمل مع الشباب أو رعايتهم على ضرورة دمجهم في المجتمع وتعزيز شعورهم بالانتماء وتدعيم تمسكهم بالقيم الأخلاقية والاجتماعية الايجابية، والعناية بحاجاتهم وتنمية قدراتهم ومواهبهم وترسيخ العمل الجماعي والطوعي في صفوفهم. العمل بين الشباب أو معهم ينطوي من حيث الجوهر على عملية اتصال مقصودة ومخططة وهادفة، وكأي عملية اتصال، يمكن تفكيكها إلى ثلاثة مكونات: المكون الأول هو جهة التدخل، الطرف المرسل في العملية، وهي جهة تمتلك رؤية محددة ولها أهداف تسعى لتحقيقها ويحكمها سياسات ومبادئ وقيم بعينها إلى جانب الوسائل والاستراتيجيات التي تتبعها في الوصول إلى تحقيق أهدافها المنشودة. المكون الثاني هو جهة الاستقبال، الطرف المستقبل في عملية الاتصال، وهم الشباب في هذه الحالة، كفئة اجتماعية لها سمات وخصائص، مشاكل وقضايا، حاجات وتطلعات، هواجس وتصورات. أما المكون الثالث فهو بمثابة موضوع الاتصال، الرسالة أو التدخلات ومضامينها، ومنها التنظيم والإرشاد والتوعية والترويح وتقديم الخدمات والتدريب والتعليم والتنشيط. يمكن إضافة ملاحظة حول المجالات التي تتم فيها هذه العملية (الاتصال)، فأهمها: المجالات الرياضية والطوعية والكشفية والتنموية؛ وتشمل الأخيرة العمل مع الشباب بهدف تأهيلهم وإكسابهم المهارات العملية اللازمة لدمجهم اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً في مجتمعهم. يعتبر التنشيط Animation من بين أكثر استراتيجيات العمل مع الشباب شيوعاً. والتنشيط عبارة عن مجموعة من الأنشطة الثقافية والاجتماعية والرياضية والترويحية التي يمارسها الإنسان بكيفية حرة وتطوعية خارج أوقات العمل المعتادة، أو في الوقت الحر، مع جماعة معينة من أمثاله، وبتوجيه من هيئة عبر شخص "منشط" يشرف على هذه الأنشطة ويسهر على تنفيذها بهدف تحقيق أهداف تربوية واجتماعية وأخلاقية وترويحية. تجري عملية التنشيط في النوادي الرياضية ومراكز الشباب والمخيمات الصيفية والحملات التطوعية إلى غير ذلك من المجالات. وكعملية اتصال، فإن نجاحها رهن بتوفر شرطين: الأول يتعلق بشخصية المنشط (المرسل) والصفات الإنسانية والمهنية الواجب توفرها فيه، والثاني يتعلق بالأسلوب الذي يتعامل فيه مع جماعة التنشيط (الشباب). من بين هذه الصفات قدرة المنشط ليس فقط على التعرف على الجماعة التي يتعامل معها وتكوين صورة موضوعية عن حاجات أفرادها وميولهم وطبيعة سلوكهم، وإنما أيضاً قدرته على تكوين صورة واقعية عن شخصيته من حيث إمكانياتها وردود أفعالها وميولها. إلى ذلك، على المنشط أن يتقبل الآخرين كما هم بمعزل عن أية أفكار مسبقة أو أحكام قبلية، وأن يتعامل مع الجميع باحترام ودون تمييز، وأن يكون مؤمناً بأسلوب الحوار والإقناع بعيداً عن أية نزعات سلطوية، وأن يتحلى بقدر كبير من المرونة والقدرة على الإبداع والعمل في ظروف غير ملائمة، أن يمتلك قدرات التعبير الكتابي والشفوي لتوصيل أفكاره وآراءه بيسر وسهولة، وأخيراً على المنشط أن يكون على معرفة تامة بتقنيات التنشيط وملاحقة مستجداتها. يستهدف التنشيط تحقيق مجموعة من الوظائف الاجتماعية والثقافية، فأما الوظائف الاجتماعية فهي: التكيف مع المجتمع والاندماج فيه، الاستغلال المنظم للوقت الحر بحيث يشعر الأفراد خلاله بالراحة والمتعة. وأما الوظيفة الثقافية فتتمثل في تنمية التفكير ومواكبة الاهتمامات الثقافية للمجتمع وتعزيز الارتباط القيمي به. ثمة وظيفة أيديولوجية للتنشيط محل خلاف وجدل في أوساط المهتمين، فبينما يرى ألتوسير أن التنشيط هو وسيلة تشجعها الدولة للتخفيف من حدة التناقضات بين الأفراد بإشراكهم في أنشطة ثقافية توهمهم بعدالة ثقافية لا وجود لها في الواقع، يرى آخرون أن التنشيط ليس وسيلة للدعاية وإنما يساهم في تغيير الواقع وتصحيح الجوانب السلبية فيه ويعزز الفكر النقدي لدى جماعة التنشيط. تجدر الإشارة إلى أن التنشيط بوصفه عملية تواصلية يشترك فيها أكثر من طرف، يمكن أن تواجه بصعوبات وعراقيل، من أبرزها الموقف السلبي لجماعة التنشيط، حيث يواجه التنشيط الاجتماعي والثقافي من طرف الجماعة بواحد من الاحتمالات الثلاثة التالية: أولاً، الميل إلى التنشيط السهل والذي تغلب عليه النزعة التجارية. الثاني، ميل المجتمعات الحديثة المنقسمة إلى طبقات وفئات اجتماعية إلى التوزيع غير العادل للإنتاج الثقافي بحيث يتم في الغالب لصالح الفئات الأكثر ثقافة وهو ما يتجسد في عمليات التنشيط الاجتماعي والثقافي. الثالث، ميل الخطاب الإعلامي والسياسي والأخلاقي إلى عدم تبني الحلول الجذرية للمشاكل المتعلقة بالتغيير الاجتماعي ورفع المستوى الثقافي. وتفسر سلبية الجماعة أو لامبالاتها إزاء عملية التنشيط بالتخوف من القيم والأفكار التي تتضمنها، وهي أفكار تستهدف تصحيح الكثير من الممارسات السائدة لدى الجماعة، كما يمكن تفسيرها بعدم الرغبة في التغيير. ومن العقبات التي تقف في وجه التنشيط الأسرة والتلفزيون، حيث أن الكثير من الآباء يتخوفون من التأثير على أبناءهم ودفعهم نحو السلوك المنحرف، أو من إضاعة الوقت على حساب "العمل الجدي" من وجهة نظرهم. وأما التلفزيون، فقد بات من أكثر الوسائل التي يلجأ إليها الأطفال والشباب لقضاء أوقات الفراغ أو ما يسمى بالوقت الحر، ولديه ميزات مغرية حيث أن مشاهدة التلفزيون لا تتطلب أي مجهود عقلي أو عضلي وتمارس في جو مريح على عكس التنشيط، هذا إلى جانب تفضيل بعض الآباء بقاء الأطفال والشباب بالقرب منهم ما يدفعهم إلى تأمين بعض التجهيزات الثقافية في المنزل. في بلدان العالم النامي تعتبر البطالة عائقاً إضافياً أمام التنشيط. فأنشطة الوقت الحر، كما يقول ماركس، مرتبطة بالشغل وتستهدف جعل العامل أكثر استعداداً لاستئناف الشغل بحماس أكبر، وهو الأمر الذي يختلف في العالم النامي وذلك بسبب انتشار البطالة والبطالة المقنعة. الوقت الحر بالنسبة للعاطل عن العمل هو وقت القلق والحيرة وأحياناً الانهيار الأخلاقي، ولذلك، يجب الحذر من توظيف التنشيط كغطاء للبطالة، ولضمان ذلك، يجب إدماج الشباب في المجتمع من خلال ممارستهم لعمل منتج يتناسب مع إمكانياتهم وميولهم. في مجتمعنا الفلسطيني، وفي ظل التحديات الجمة التي يمر بها، لا يمكن اعتبار التنشيط الاستراتيجية الأساسية لدمج الشباب، فهم ليسوا بحاجة إلى التنشيط بقدر حاجتهم إلى العمل وإلى تكوين يتيح لهم التكيف مع واقع اجتماعي واقتصادي متغير ويزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. هذا لا يعني التخلي كلياً عن هذه الاستراتيجية، فهي تظل واحدة من الاستراتيجيات الهامة، ولكن يمكن استخدامها بالتوازي مع استراتيجيات أخرى، وبالتركيز على بعض وظائفها أكثر من وظائف أخرى، فمثلاً الوظيفة الأيديولوجية بما تنطوي عليه من تعبئة وتوعية وتعزيز التمسك بقيم المقاومة والكفاح والصمود تشكل حاجة ضرورية وماسة، أو الوظيفة التربوية التي تنطوي على تعزيز العمل الجماعي والطوعي. إن ممارسة التنشيط في ظل إمكانات محدودة وضعف التأطير وغياب الأهداف الواضحة والمحددة لهذه العملية، سيغلب عليها طابع الترفيه وملء الوقت بأي نشاط وذلك على حساب البعد التربوي والاجتماعي والثقافي، وستكرس فلسفة التكيف مع الواقع كما هو على حساب الأنشطة التي تحض على التغيير. ما يحدث في المخيمات الصيفية مثلاً يستدعي وقفة جدية، فهي إما تغرق في أنشطة ترفيهية مبتذلة، وإما تمعن في الجانب الأيديولوجي الذي ينمي مواقف فئوية متعصبة وميول تطرفية ونزعات رفضوية للواقع دون امتلاك قدرة نقدية عقلانية له. وما يحدث في المخيمات الصيفية يمكن أن يحدث في أماكن أخرى بكيفيات مختلفة، فالنوادي الرياضية تشجع الميول الجهوية، ولا تبذل جهداً كبيراً في توظيف الرياضة في خدمة أهداف اجتماعية وثقافية وقيمية، وبعض التنظيمات السياسية تسعى إلى تنمية قدرات كفاحية مجردة لدى أعضاءها من الشباب دون مراعاة لحاجاتهم الأخرى، ومراكز التأهيل تسرف في الجوانب المهنية على حساب أشياء أخرى ضرورية لتنمية المواهب وصقل القدرات. نحن في حاجة إلى إعادة النظر في مجمل سياساتنا وتوجهاتنا في العمل مع الشباب، انطلاقاً من المحددات التالية: طبيعة مجتمعنا والتحديات التي تواجهه، التوجه التنموي المبني على الحقوق، نتائج التجارب السابقة في العمل مع الشباب من حيث نقاط القوة ونقاط الضعف، متطلبات النهوض بالحالة الفلسطينية وصولاً إلى تحقيق أهدافها المتمثلة في التحرر والاستقلال وإقامة دولة عصرية وتحقيق التنمية والتطور.
#تيسير_محيسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدفيديف: الناتو منخرط بشكل كامل في الصراع الأوكراني
-
السعودية.. إحباط 5 محاولات لتهريب مئات آلاف حبوب -الكبتاغون-
...
-
مصر.. الداخلية تكشف تفاصيل واقعة مصرع عامل دليفري بعد تداوله
...
-
اليونيفيل: إصابة 4 جنود إيطاليين من قوات حفظ السلام في جنوب
...
-
محمود الهباش: وجود إسرائيل في غزة لن يكتسب شرعية مهما طال
-
مشاركة عزاء للرفيق رؤوف الحباشنة بوفاة جدته
-
من هو الكاتب بوعلام صنصال وما مصيره منذ وصوله للجزائر؟
-
خبير عسكري: الاحتلال يستهدف مربعات سكنية بسبب تعثر عمليته ال
...
-
هل اكتشفت أم محمد هوية الواشي بنصر الله؟
-
قوات الاحتلال تقتحم جنين ونابلس واعتداءات للمستوطنين في الخل
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|