|
بقايا صور من الحياة اليومية 3/النول
نقولا الزهر
الحوار المتمدن-العدد: 2850 - 2009 / 12 / 6 - 23:52
المحور:
سيرة ذاتية
بقايا صور من الحياة اليومية 3 النول كنت قريباً جداً من والدي، ومنذ أواسط أربعينات القرن الماضي بدأت أرافقه إلى الكروم، وفي كثير من الأحيان كان يأخذني معه إلى الشام (دمشق)، حين ينزل إليها لشراء ربطات الغزل. فقد ورث عن والده مهنة النسج على النول اليدوي. ومنذ تلك الفترة أخذت أتعرف على أسواق دمشق (سوق الغزل، سوق القطن، سوق الصوف، سوق الحرير، الحميدية، سوق الخجا،المسكية، النافورة، القيمرية... كان النول يحتل مكان رئيسياً في حياة أسرتنا. وفي تلك الفترة، في أربعينات القرن الماضي، لم يكن قد بقي يعمل من أنوال صيدنايا سوى نول والدي، ونول آخر كان لايزال لدى المدعو (جميل المعري)، ينسج عليه العبي الصوفية(جمع عباءة). ويبدو أن الأنوال اليدوية كانت منتشرة في صيدنايا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكاد أن لا يخلو بيت من نول تعمل عليه العائلة، خاصة في فصل الشتاء، حيث لاعمل في الحقول والكروم والبيادر، وخاصة في أيام الأمطار والثلوج والشَرْد والبرد الشديد. وكانت والدتي تساعد والدي في مهنته، فتقوم بتسدية (خيوط السداة) بعد تنشيتها وتنشيفها. أما أخي الاكبر أسعد، وأنا، فكنا غالبا ما نقوم بلف الخيوط على مواسير المكوك على الدولاب (المِردَنْ). كنت أحب كثيراً لفَ (خيوط اللُحْمَة) على مواسير (المكوك). وكنت حين مجيئي من المدرسة في فترة الظهر، وبعد الغداء مباشرة، كنت أجلس خلف هذه الآلة البدائية التي كنت أعتبرها تسلية ممتعة جداً لي، خاصة في تلك الأيام التي لم يكن لدينا ما نلعب به كما هو الحال لدى أطفالنا واحفادنا اليوم. كان نول والدي منصوباً في (المربع التحتاني ) من منزلنا في صيدنايا، وفي أغلب الأحيان كان هذا المكان لا يخلو من الأصدقاء الذين كانوا يتبادلون الأحاديث المختلفة مع والدي، في الوقت الذي كانت قدماه تحرك تلقائياً دفة النول إلى الأعلى والأسفل ويداه تدخل المكوك من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين بين طبقتي خيوط النسيج. ومن أهم المنسوجات التي كان يحوكها والدي هي قصات الخام السادة وشراشف النوم، وفي أحيان نادرة كان ينسج حرامات من صوف المرعز، ولكن مثل هذه التواصي كانت قليلة جداً نظراً لارتفاع اسعار هذا النوع من الصوف. وفي الطرف الآخر من المربع التحتاني كانت تقيم جدتي (مريم ) مع ابنها الوحيد ونوله. كنت على علاقة وطيدة معها، وهي التي تمنت على والديَّ أن يسمياني (نقولا) على اسم خالها(نقولا هلال) الذي طالما كانت تحكي لنا عن بطولاته وقدرته في رفع الصلبات وأعدال القمح ومصاراعاته مع الآخرين. في عام 1976 ، وبعد 24 عاماً على ترك والدي عمله على النول ، وهجرتنا الثانية إلى مدينة دمشق، كان خالنا (حنا) قادماً في زيارة ثانية له إلى الوطن بعد اغترابه إلى الأرجنتين، وفي يومٍ كان يزور دير سيدة صيدنايا، استقبلته الحاجة كاترين أبي حيدر رئيسة الدير، وهي تعرفه من قبل سفره إلى بوني سيرس في 4 تشرين الأول عام 1948، حيث كان قد عمل فترة في بستان دير السيدة. وقد رافقته في جولةٍ على جميع حارات الدير لتريه ما حدث من تجديدات وتحسينات فيه. وحين وصلنا في جولتنا إلى ميتم البنات، كم سررت وكم كان افتخاري بوالدي عظيماً حينما قالت له رئيسة الدير بعد أن وضعت يدها على شرشف أحد الأسِرَّة: " شوف حنا، ما زال لدينا شراشف من التي كان يشتغلها زوج أختك (أبو أسعد) " منذ أكثر من 25 عاماً. الله يرحمه، كان شغله ماكِنْ وتقوى". كانت مهنة النسيج على النول مهنة فنية وممتعة جداً، ولكنها لم تكن تغني عن جوع ولا تكفي أوَدَ عائلة تتألف من ثمانية أفراد. لذلك كان يضطر والدي، بالإضافة إلى عمله على النول، إلى أن يقوم بأعمال مأجورة مختلفة. فقد عمل كرَّاماً حيث يقوم في أذار ونيسان من كل عام بتقليم أشجار الكرمة، وفي حزيران يقوم بتوريقها ويتقاضى عن كل يوم أربع ليرات سورية. وكذلك عمل حجاراً ولقد تعرفت على كل مقالع الحجر في البلدة، في جبل مار جريس وقرنة (شيرْنَطْبَا) وقرنة (حِصْبنَيا) حيث كنت أوصل له طعام الغداء. وفي الصيف كان يعمل والدي أيضاً بتذرية الحبوب. فهو وبعض أصدقائه (جريس الزين ونقولا الهامس أبو ديب ودرغام سمعان). كانوا يستأجرون مكنة للتذرية اليدوية ويحملونها من بيدر إلى بيدر في القرية لتذرية محاصيل الفلاحين. وفي الواقع هذا العمل كان يؤمن جزءاً كبيراً من مؤونة عائلتنا من القمح والشعير والعدس والحمص والكرْسَنَّة. وبالإضافة إلى كل هذه الأعمال المختلفة كان والدي يعتني بكرومنا الخاصة التي كانت توفر لنا فاكهة العنب والتين ومؤونة التين اليابس والزبيب والدبس والسماق. وأيضاً كان يعمل مع زملائه في جبل الباطون حينما بدأ يحل الإسمنت محل الطين في البناء، وكان يشتغل بأعمال موسمية مختلفة. وكذلك والدي كان واحداً من أناس عدة من بلدة صيدنايا، الذين دفعتهم ظروفهم الفقيرة لكي يحملون على ظهورهم تنويعة من الحاجيات المختلفة، من ألبسة داخلية وجوارب وحطاتٍ للرأس وغيرها من الأشياء، يتسوقونها من دمشق، ثم يقطعون مسافات طويلة مشياً على أقدامهم جبالاً وودياناً، مغرِّبين عابرين الجرود المختلفة باتجاه الأراضي اللبنانية، ثم يتنقلون في القرى البقاعية، من قرية إلى قرية لبيع حاجياتهم. لا أتذكر سفرات والدي إلى لبنان. ويبدو أنه كان يقوم بها قبل ولادتي. ولكن سفرات لبنان بقيت مادة لحديثه طوال عمره، وكان يحكي لنا عن الناس الذين تعرف عليهم في هذه القرى اللبنانية. وقد حفظت أسماء بعض القرى عن ظهر قلب قبل دخولي إلى المدرسة وقبل أن أطلع على خارطة سورية ولبنان، مثل سرغايا ومعربون والنبي شيث وجب جنين وسعد نايل وثعلبايا وعلي النهري وعنجر وزحلة ورياق.. وقد بقي من الصيادنة الذين يذهبون إلى لبنان ويحملون على ظهورهم الحاجيات لبيعها في القرى البقاعية، زوج خالتي ساره أبو ميلاد (ميخائيل نجمة) إلى أن جاء من آخر سفرة له ووقع مريضاً بالحمى السحائية وتوفي في خريف عام 1947.
نقولا الزهر دمشق في 6/12/2009
#نقولا_الزهر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إلغاء الآخر... لا يقتصر على دين أو مذهب بعينه
-
قراءة في رواية أسلاف/لزميل السجن الدكتور خالد الناصر
-
حول العودات الفكرية وإعادة التأسيس ونفي النفي
-
الحريات والحقوق حجر الزاوية في احتجاجات طهران
-
مداخلة في العامية السورية(1)
-
لمحة عما بين الفصحى والعامية في بلاد الشام
-
استطرادات لغوية وفكرية
-
حكاية الأعداد والأيام والكواكب والآلهة
-
معرفتي حول النيروز وأعياد الربيع
-
النيروز وأعياد الربيع
-
في العراق تراجع الهويات المذهبية أمام الهوية الوطنية
-
حول الخصوصية والحامل الاجتماعي في الديموقراطية
-
ليس انتصاراً!! لكنه احتجاج فردي مكثف بتعبيراته ورمزيته؟؟
-
مبروكة للحوار المتمدن سبعه الملاح
-
مشهد عولمي من قبل الميلاد
-
مقاربة فكرية حول الأزمة الاقتصادية العالمية
-
روسيا بين أن تدافع عن وجودها....وألا تنزلق إلى حرب باردة
-
بقايا صور من الحياة اليومية/المكان
-
العلمانية والديموقراطية والمجتمع المدني بين فكي التسلط والتط
...
-
مشاهد متقطعة من الطفولة المبكرة
المزيد.....
-
جنسيات الركاب الـ6 بطائرة رجال الأعمال الخاصة التي سقطت وانف
...
-
الدفعة الرابعة في -طوفان الأحرار-.. 183 فلسطينيا مقابل 3 إسر
...
-
-كتائب القسام- تفرج عن أسيرين إسرائيليين وتسلمهما للصليب الأ
...
-
بعد 50 يومًا من التعذيب.. فلسطيني يعود بعكازين إلى بيته المد
...
-
توأم الباندا في حديقة حيوان برلين: التفاعل بين الأم وصغيريهْ
...
-
دراسة تكشف حقيقة الفرق في الثرثرة بين الرجال والنساء
-
هل صورك الخاصة في أمان؟.. ثغرة في -واتس آب- تثير قلق المستخد
...
-
تاكر كارلسون يصف أوكرانيا بـ -مصدر الجنون-
-
لا يوم ولا مئة يوم: ليس لدى ترامب خطة سلام لأوكرانيا
-
الصداقة مع موسكو هي المعيار: انتخابات رئيس أبخازيا
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|