|
رسائل وعناوين خاطئة (1)
علي الأمين السويد
الحوار المتمدن-العدد: 2848 - 2009 / 12 / 4 - 14:12
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إنّ من أبسط قواعد الحوار المباشر وغير المباشر؛ أن يحدد الأطراف المتحاورون مطالبهم من بعضهم البعض بوضوح تام وحرفية، بحيث يـُعِـدُّ كل طرف ما استطاع من حجة وأدلة وبراهين ليواجه خصمه مواجهة تفضي إلى النتائج العملية والملموسة التي يتوخّاها على أرض الواقع، وبوضوحه هذا؛ يؤَمـِّنُ أكبر عدد من المناصرين الغير لاعبين في عملية الحوار نفسها، والذين بالرغم من ثانويتهم؛ فهم يشكلون أوراقاً ضاغطة مؤثرة قليلاً أو كثيراً حسب علاقتهم بالأطراف المتحاورة، فينتهي صراع الإرادات إلى حالة من تطابق المطالب مع النتائج يدعونها نصراً، أو إلى حالة من الانتظار، حينما لا يصل الحوار إلى نتيجة مرضية لأحد غير إظهار الخبيث من الطيب والمتعنت من المتعاون و المعتدي من المظلوم. فقوة المحاور تنبع أولاً من الأرضية التي يستند عليها وثانياً وثالثاً ومليوناً من كيفية تنظيمه و إدارته للحوار بغض النظر عن نتائجه. و إنه لمن أبجديات الحوار؛ أن يضمـِّن المحاور مطالبه أو رسائله بنوداً مفهومة واضحة لجميع الناس و أن تكون نقاط رده مبنيةً على ما يعلنه الخصم وليس على أساس ما يخفيه. و هذا لا يعني أنه لا قيمة لما يخفيه؛ بل على النقيض تماماً، فما يخفيه أهم مما يعلنه، و هذا ما يحتم محاربة ما يخفيه الآخر بما يخفيه الطرف الأول. أما تضمين المطالب بنوداً تتعامل مع، أو تحارب نيات الأخر التي لم يعلنها؛ فهو الضعف بعينه والاستسلام قبل المعركة العسكرية أو السياسية، فالمُـقدِمُ على ذلك يضيف إلى خصمه نقاط قوة إضافية ودعاية مجانية تجلب له تأييداً واسعاً ويستقطب حتى أولئك الذين كانوا يُصنفون على أنهم ضده أو من حياديين أو مشككين أو متذبذبين. و لإيضاح ما تقدم يكفي أن نراجع عينات من أحداث اتسم بها تاريخنا العربي الحديث على مدى عقود خلت، لنرى أمثلة صارخة عما نذكر من صور الاصطفاف و استنفار القوى والجهود العارمة ولكن خلف عناوين غير ذات الصلة وكلها في غير صالح العرب وسنأخذ المقاومة العراقية "الشريفة" و حزب العدالة والتنمية التركي كنموذجين مهمين وقريبي العهد علماً أنهما ليسا الوحيدين في هذا المرمى. من المعروف أنه قد تشكلت جماعات المقاومة المسلحة كنتيجة طبيعية للواقع العراقي الجديد، و اثر تشكلها، أطلقت تسميات تعرِّف نفسها بها، وجعلت لها عناوين إسلامية جهادية حماسية بامتياز، وأعلنت نضالها جهاداً مقدساً ضد الغزو الأمريكي وهو كذلك في حقيقته. ولكنها وللأسف خدمت المحتل الباحث عن عدوٍ ذو مميزات تسوِّغ له بقاءه و هيمنته بغطاء الأوفياء له وبدعم المحايدين والمتذبذبين؛ بـدأً من اللحظة التي ظهرت فيها تسميات جماعات المقاومة و إعلان أهدافها من العمل المسلح و التي شملت بالإضافة إلى هدف التحرير؛ أهداف محاربة النيَّات الغير معلنة للغزو والتي منها السيطرة الأمريكية على مقدرات العراق وحماية إسرائيل وتدمير قدرات العراق المادية والبشرية واللائحة تطول التي أخرها يأتي بند تقزيم دور العراق الريادي المنتظر.
إنّ إعلان أهدافٍ غير التحرير حصرا كمحاربة الهيمنة الأمريكية وإرادتها في حماية إسرائيل وتدمير مقدرات العراق والقضاء على الإسلام وأمركة المنطقة لا يبرر تماما لبعض فصائل المقاومة الانضواء تحت تسميات "جهادية" أو "طائفية" جعلت دورها محل تشكيك من قبل أعداء الداخل والخارج، وأحرج المفاوض السياسي الممثل عنها فأخرّ ظهوره كثيراً. كان يكفي أن تعلن الفصائل هدف التحرير كهدف وحيد في هذه المرحلة وكان يكفي أن تطلق على نفسها أسماء وتحدد لها عناوين تعكس هدفها وغاياتها الواقعية وعلى رأسها تحرير العراق وتبتعد عن التسميات الحماسية الجهادية ذات الطابع التقسيمي، فمن المؤكد أن الاسم الرنّان لا يقدم و لا يؤخر في تحقيق الأهداف، ولا يقدم ولا يؤخر أيضاً في قبول الله العمل طالما أنّ الله وحده يعلم النيات ويحاسب عليها، فإن باغت زيدٌ دورية أمريكية فقاتلها حتى قتل، سينال جزاءه الذي يتمناه كشهيد، ولا يؤثر في إمكانية تقبل الله عمله كونه كان يحمل راية مكتوباً عليها "الموت للكفار" أو "الحرية للعراق."
غير أن الراية الأولى تـُفرح المحتل لأنها توفر له مبرراً إضافياً لوجوده لقتال الإرهابيين على حد زعمه، و تـُفرح المراقب البعيد من غير المسلمين أي ممن ينضوون تحت تصنيف ما يسمى بـ "كفار" لأنهم تخلصوا من شخص يبحث عن قتلهم أينما ثقفوا، بينما الراية الثانية – "الحرية للعراق"، تحرج المحتل الذي لا يعترف بكونه محتلا وهو الذي يصرف وقتاً وجهداً ومالاً محاولاً أن يقنع العالم بأنه يكسب العقول والقلوب و أنه فاتح أرحم من العرب، و كما تثير هذه الراية المتفق إنسانياً على مشروعيتها حفيظة المراقب الصديق وحتى المراقب – "الكافر" لصالح المقاومة والمقاومين، فعقلية الغير مسلم تقدم الحياة والحرية على المعتقد الذي تعتبره أمراً شخصياً بحتاً.
ليس المطلوب أن تتصرف المقاومة وفق رغبات العدو فتتجرد من كونها مقاومة بقدر ما تتصرف وفق ما يُحرج ذلك العدو وحلفاءه مباشرة بحيث ينضوي هذا التصرف تحت أجندة تقدم فيها مصلحة العراق الموحد على أي مصلحة دون ذلك. فالمطلوب من تلك المقاومة أن تكون في الواجهة السياسية كما الواجهة العسكرية لتقطع الطريق على من تقاومهم في كل المسارات وان تتجنب معارك إضافية تناضل فيها لتقنع أهلها و شعبها أنها تعمل لمصلحة العراق فهذه المعارك لا معنى لها وبكل تأكيد كان يمكن تجنبها. طبعا لا مجال للتعميم فهنالك من نجح في تحقيق هذه المعادلة بكل ذكاء ولكن بالتأكيد كثرٌ هم الذين أخفقوا.
لقد لعب تقديم المقاومة نفسها على أنها حارسة الدين في العراق دورا سلبياً عليها وعلى توحيد الجهود لإخراج المحتل عسكرياً وسياسياً وذلك بإعطاء الاحتلال ذرائع كافية ليقوم بتنفيذ مخططاته الغير معلنة وبقاءه في أرض العراق لأسباب لا تنتهي، يبلغ عددها عدد أهداف المقاومين العسكريين والسياسيين وأمــدَّ في عمر المستفيدين المحليين من الوضع الراهن. فما الضرر لو سمَّت الفصائل نفسها بأسماء مثل " الاستقلال" أو "العراق الواعد" أو"العراق الجديد" وأضمرت في جوفها التسمية التي تريد والهدف الذي ترمي إليه كرد العدوان الصليبي الشيطاني مثلاً، و قطع الطريق على المخططات الإقليمية، والمخططات القادمة عبر البحار؟ أم أن الله لا يتقبل هكذا عمل؟ ماذا سيغير في الأمر لو أنها أطلقت تعبير "نضال" أو "قتال" بدل "جهاد" علماً أنه جهاد بامتياز؟ أم أن الله لا يتقبل هكذا تسميات؟ إن نظرة إلى شمالنا الجغرافي القريب تكفي لأن نرى مثالاً على الحكمة الهادئة والمتوازنة التي أظهرها ويظهرها حزب العدالة والتنمية التركي، ولنقرأ الرسالة من عنوانها – الاسم "حزب العدالة والتنمية" وليس "جيش قطّاعي الرؤوس المحمديون."وبمقارنة بسيطة بين هذا الحزب التركي وأحزاب إسلامية عربية ، نجد أن الحزب التركي ينجز أجندته بهدوء ووعي وهو يكتسب الاحترام يوما بعد يوم من قبل الصديق والمنافس على حد سواء، بينما الأحزاب الإسلامية تنجح بالصراخ والاضمحلال شيئاً فشيئاً قبل أن تصدأ في السجون، ليصبح من يعيش خارج السجون كالذي داخلها يعاني تبعات لم يكن ليعاني منها لولا ذلك الصراخ والجعجعة من غير طحين. إنّ أحد أهم أسباب نجاح الأتراك وفشل العرب هو هذا الخطاب الموجه إلى الآخر، فالخطاب في الفريق الأول حقق نجاحه بسبب واقعيته ومعالجته لمتطلبات المجتمع المادية، كالسعي خلف اقتصاد متماسك يهم كل فرد في المجتمع ، والمتطلبات المعنوية من حرية ومساواة بين أفراد المجتمع ويكون بذلك قد أثبت التزاماً بشعاره وأهدافه بكل دقة وموضوعية، بينما سعى لتحقيق أهدافه الغير معلنة بطرق مباشرة ودستورية كرفع حظر الحجاب، وبطرق غير مباشرة بدعم القوى الإسلامية الأخرى تحت غطاء رفض الظلم الواقع عليها والمرفوض إنسانياً، ومثال هذه ابتعاد تركيا عن إسرائيل بسبب أعلنته بوضوح ألا وهو تعنت الأخيرة وتعاظم جرائمها في غزة وغيرها ولكنه بالرغم من هذا وذاك لم يعلن أي مسئول فيه أبدا عن طبيعة أهدافه الغير معلنة ولم يقل أنه يطمع في الحكم ليزيل صورة مصطفى أتاتورك ويزيل إسرائيل من على الخارطة ولا أظنه سيفعل. بينما أول ما تعلن عنه الأحزاب الإسلامية في البلاد العربية؛ أنها ستقيم حكماً إسلاميا طالبانياً، وأنها ستعلن عن إمارة إسلامية تفرض الجزية على الكفار المتواجدين على أرض الوطن عن يدٍ وهم صاغرون، ولا يهم إن كانوا مواطنين أم غير مواطنين، وسيقطعون رأس المرأة التي تكشف عن شعرها، ويجعلون الدنيا تأن تحت مفاهيم من مثل "فتاوي وحلال وحرام وكافر ومؤمن"، و هذا بلا شك من حسن حظ المعارضين لهم الذين يجعلون من هذه الحركات ولائم دسمة يتلذذون بالتهامها في المكان والزمان المناسبين، فهي تزودهم بالطاقة الفائقة التي تبقيهم على قيد الحياة وتزيد من بطشهم وسطوتهم، أو يجعلونها شغلهم الشاغل الذي يستخدمونه لإلهاء الآخرين عن استحقاقات تطالهم شخصياً وتنهي وجودهم لدرجة أنه أحيانا يُظنُ أن هذه الحركة أو تلك ما هي إلا تمثيلية من تأليف أعدائها .
فكم قلنا أننا سنرمي الصهاينة في البحر، فرمانا الصهاينة تحت أرجلهم، وكم قلنا لعقود خلت: أمة عربية واحدة فأثبت التاريخ والبرهان ما أكدته "كرة القدم" أننا بالكاد أمة وليست واحدة وبالكاد عربية، وكل ما فعلته هذه المخرجات الحوارية الجوهرانية الخاطئة وغيرها أنها أثبتت أننا أبطال كلام و أصحاب دماء زئبقية تغلي وتبرد على حرارة المحيط. ويبقى السؤال: هل فات أوان الوصول إلى ملعب الواقعية و إرسال الرسائل بعناوين صحيحة؟ ويبقى الجواب التقليدي دائما: أن تصل متأخراً خيرٌ من أن لا تصل أبداً، فهل إلى إعادة النظر في خطاباتنا من سبيل؟ والى أن نجد ذلك السبيل أقدم تحية إجلال وإكبار لشهداء الله والوطن في كل مكان.
#علي_الأمين_السويد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإعجاز و الإفلاس
-
يأخذ ويرد حتى من علي (ر)
-
الراعي الجديد
-
البهيمية! و ما أدراك ما البهيمية؟
-
كيس خيار
المزيد.....
-
كلمة مرتقبة لقائد الثورة الاسلامية بذكرى تأسيس منظمة تعبئة ا
...
-
كلمة مرتقبة لقائد الثورة الاسلامية آية الله السيد خامنئي بمن
...
-
إيران تنفي التورط بمقتل حاخام يهودي في الإمارات
-
قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين
...
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|