|
أعداء -السببية- يَنْعُون -السبب-!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2847 - 2009 / 12 / 3 - 13:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"السببية" هي المبدأ، أو القانون، الفلسفي والعلمي الأهم الذي اكْتُشِفَ، والذي لَمْ يُسْتَنْفَد (ولن يُسْتَنْفَد أبداً) بَحْثاً، وفَهْماً؛ ولَمْ (ولن) تنتهِ أسئلته، والمساعي المبذولة من أجل إجابتها، إجابة موضوعية، أو إجابة مجافية مجانبة، عن عمد، للحقيقة الموضوعية، عِلْماً أنَّ كل إجابة لا تُوْلَد إلا ومعها أسئلة وتساؤلات جديدة.
وليس من مبدأ، أو قانون، حُورِبَ، وشُوِّه، كـ "السببية"؛ لأنَّها جوهر العِلْم، منطقاً، ومنهجاً، وتفكيراً، ونتائج، فالعِلْم، مع كل فكر يقوم عليه، ويَضْرِب جذوره عميقا في حقائقه، هو المِعْوَل الذي به تُهْدَم الأوثان والأصنام الفكرية، التي صنعها البشر بأيديهم، ليعبدوها، ولتستعبدهم، وهو الذي يُقلِّص، في استمرار، حُصَّة الوهم والخرافة من المعرفة البشرية، التي ستظلُّ في صراعٍ لا ينتهي بين جانبها هذا وبين جانبها الآخر المضاد وهو الحقيقة، فليس من عَصْرٍ إلا وله ما يُمَيِّزه من الحقائق والأوهام.
لقد اسْتَمَعْتُ إلى "مُفَكِّر"، معادٍ لمبدأ "السببية"، وهو يُمْعِن في هذا المبدأ مسخا وتشويها، عَبْر "فضائية" عربية. وشاهدتُ جمهور المعجبين به، وهُمْ أناس لا يملكون من الوعي إلا ما يَجْعَل لهم آذاناً لا تسمع، وعيوناً لا تُبْصِر، وعقولاً لا تَعْقِل.
هذا "المُفَكِّر"، الذي فَكَّر، فَسُمِّي مُفَكِّراً، "اكتشف" مَوْضِعاً في "أرض الفيزياء"، يَصْلُح "تُرْبةً"، يَغْرِس فيها شيئاً من بقايا الميتافيزيقيا، فَبَيْن "السبب" و"المسبَّب (النتيجة)" أقام "جِسْراً ميتافيزيقياً"، ينبغي لـ "السبب" أن يَعْبُره حتى يغدو "سبباً"، أي حتى يؤدِّي إلى ما يؤدِّي إليه. وجوهر "اكتشافه"، أو الفكرة الجديدة التي أبدعها، نَقِفُ عليه في المثال الذي أوْرَد.
لقد قال مخاطِباً جمهوره الذي يُصَدِّق؛ لأنَّه يريد أن يُصَدِّق: أُنْظُروا إلى حبَّة الأسبرين. إنَّها دواء يشفي من الصداع؛ ولكن ليس دائماً، فهي إنْ شَفَت هذا من الصداع فرُبَّما لا تشفي غيره. هناك مَنْ يَعْتَقِد أنَّ تلك الحبَّة هي "السبب".. سبب الشفاء من الصداع، وأنَّ هذا الشفاء هو "النتيجة".. نتيجة تناولها. هذا وَهْمٌ، فهناك مَنْ جَعَل الشفاء في الدواء!
وتَذَكَّرْتُ لافتة، تُعلَّق في كثيرٍ من العيادات الطبية، كُتِبَ فيها ما يفيد المعنى الآتي: "العلاج" من الطبيب، و"الشفاء" من الله.
هذا هو مبدأ "السببية" في صياغته الميتافيزيقية الجديدة ـ القديمة، فثمة قوَّة ميتافيزيقية يَرْجِع لها الفضل في جَعْل الدواء سبباً للشفاء، فحبَّة الأسبرين في حدِّ ذاتها لا تشفي من الصداع، وإنْ ظَنَّ بعضنا (وهذا الظنُّ من الإثم) أنَّها هي "سبب" الشفاء من الصداع، فهذا لا يمكنه أبداً أن يكون سببا لذاك إلا إذا أرادت له تلك القوَّة (أي الله) أن يكون كذلك!
أنتَ ـ بحسب تلك الفكرة الخرقاء ـ تَعْطَش، فَتَشْرَب الماء، فترتوي، أي يزول عطشكَ، أو شعوركَ بالعطش؛ ولكن هناك مَنْ أوحى إلى الماء أن يؤثِّر في العطشان (الذي شربه) كما أثَّر، جاعِلاً الماء، بالتالي، "سبباً" للارتواء، وزوال العطش، فالماء في حدِّ ذاته لا يؤثِّر أي تأثير في أي شيء.. لا يروي. لا يزيل العطش. لا يُطفئ النار. لا يؤدِّي إلى انحلال الملح إذا ما وَضَعْناه فيه. إنَّه في حدِّ ذاته "عديم الخواص والقوى والتأثير". إنَّ هناك مَنْ أوحى إلى الماء، أيضاً، أن يطفئ النار، وأن يَحُلَّ الملح الموضوع فيه.
هذا "المُفَكِّر" يَقْبَل العِلْم؛ على أن يَلْزَم حدوده، ويكف عن التطاول على "مملكة الميتافيزيقيا"، فـ "العِلْم" من حقِّه، بحسب شريعة هذا "المُفَكِّر"، أنْ يسأل، مُسْتَعْمِلاً أسماء استفهامٍ مثل "كيف"، و"متى"، و"أين"؛ أمَّا كلمة "لماذا" فلا يحق للعلماء استعمالها إلا إذا كانوا "علماء دين".
مِنْ حقِّ العِلْم أن يسأل، مثلا، "كيف (أو مِمَّ) يتكوَّن جزيء الماء؟"؛ ومِنْ حقِّه، أيضاً، أن يجيب قائلاً: إنَّ غازي الأوكسجين والهيدروجين (ذرَّة أوكسجين واحدة وذرَّتا هيدروجين) يتفاعلان كيميائيا، فَيَنْتُج من تفاعلهما مُرَكَّب، أو جزيء، الماء.
أمَّا "لماذا" يؤدِّي تفاعلهما، أو اتِّحادهما، إلى نشوء الماء، ولا يؤدِّي إلى نشوء "بيضة" مثلاً، فهذا إنَّما أمْرٌ يَحِقُّ لـ "علماء الميتافيزيقيا" فحسب، تفسيره، ولو كان من قبيل "تفسير الماء (بَعْد جهد) بالماء"، فثمَّة قوَّة ميتافيزيقية أرادت لاتِّحاد الأوكسجين والهيدروجين، أو لتفاعلهما الكيميائي، أن يُنْتِجَ ماءً (وليس "بيضة") فأنْتَجَ. ولو أرادت له أنْ يُنْتِج بيضة (وليس "ماءً") لأنْتَج.
تلك القوَّة، التي لا يُعْجِزها شيء، ولا تَعْجَز عن فعل أي شيء، أرادت لـ "1+1" أنْ يساويا "2"؛ ولو أرادت لهما أنْ يساويا "5" لكان لها ما أرادت!
إذا جِئْتَ بسلك نحاس، وعرَّضته للتسخين، فإنَّه "يتمدَّد"، ثمَّ "ينصهر". العِلْم اكتشف، في هذه الظاهرة الطبيعية من ألفها حتى يائها، قانونا فيزيائيا موضوعيا، مادِّياً من ألفه حتى يائه، هو قانون "التمدُّد الحراري للمعادن"، فللمعدن خاصيَّة أنَّه يتمدَّد (قبل أن ينصهر) بالحرارة. العِلْم أخضع كل معدن للتجربة ذاتها (تجربة التسخين) فاستنتج بعد ذلك، ومن خلال ذلك، أن كل المعادن تتمدَّد بالحرارة، فـ "تكرار" الظاهرة الفيزيائية ذاتها (في أمكنة وأزمنة مختلفة) إنَّما هو خير دليل على وجود قانون فيزيائي (موضوعي) يتحدَّانا أن نكتشفه، وأن نستخدمه من ثمَّ.
العالِم، أو الفيزيائي، يُخْبِرنا أنَّ "النار" تؤدِّي، حتماً، إلى تمدُّد، فانصهار، فتَبَخُّر، المعدن الذي نضعه فيها. ويُخْبِرنا، أيضا، أنَّ كل ظاهرة فيزيائية يمكن ويجب أن يتكرَّر حدوثها عندما تستوفي أسبابها وشروطها، نوعاً وكمَّاً. وفي هذا يكمن مبدأ "الحتمية الطبيعية"، الذي لن تنال من قوَّته نظريات عِلْميَّة في ظاهرها، ميتافيزيقية في باطنها.
ثمَّ يأتي إلينا "مُفَكِّر" يُمَثِّل الفكر البائس لينفث في رَوْعنا أنَّ "النار" في حدِّ ذاتها لا تؤدِّي، ولا يمكنها أن تؤدِّي، إلى "تمدُّد" سلك النحاس؛ لأنَّها، في حدِّ ذاتها، لا تؤدِّي إلى أي شيء، فالقوَّة الميتافيزيقية العليا هي التي جَعَلَت في النار تلك الخاصيَّة.. هي التي أوْحَت إلى "النار" أنْ كوني "سبباً" لتمدُّد سلك النحاس الذي وُضِعَ فيها، فكانت؛ ولو أرادت تلك القوَّة أن تَجْعَل "النار" تَنْزِل على رأس "مُفَكِّرنا" ذاك بردا وسلاما لنزلت.
لقد أدَّت النار إلى "تمدُّد" المعادن، فجاءوا بسؤالهم الفاسِد "لماذا أدَّت النار إلى تمدُّد المعادن ولَمْ تؤدِّ إلى تقلُّصها؟"؛ أمَّا لو كانت النار تؤدِّي إلى "تقلُّص" المعادن، لسألوا "لماذا أدَّت النار إلى تقلُّص المعادن ولَمْ تؤدِّ إلى تمدُّدها؟".
"النار"، بحسب هذا المنطق المتهافِت، شيء، وخواصُّها شيء، فثمَّة "نار" في حدِّ ذاتها، وهي نار "عديمة الخواص"، وثمَّة "نار" أُوْحي إليها أن تؤثِّر في غيرها من الأشياء تأثيراً معيَّناً، وكأنَّ الشيء، أي شيء، يمكن أن يُوْجَد، وأن تقوم له قائمة، من غير خواصه وسماته الجوهرية (التي تُمَيِّزه عن غيره).
ولو أردتُ أن أبسط لكم آراءهم لبسطتها على النحو الآتي: في البدء، كانت (أي خُلقت) النار في حدِّ ذاتها؛ وكانت لا تَحْرِق، ولا تُبخِّر الماء، ولا تُمدِّد المعادن، ولا..
كانت النار التي ليست بـ "سببٍ" لأي شيء؛ لأنْ لا وجود لـ "السبب" من غير "المُسَبِّب (الميتافيزيقي)". ثمَّ جاءت القوَّة الميتافيزيقية العليا، فأدْخَلَت في تلك "النار" إدْخالاً كل خواص النار التي نَعْرِف، فهذه القوَّة هي التي جَعَلَت "الدفء" و"الحرق" و"التمدُّد (للمعادن)".. في تلك "النار (البدائية، الأوَّلية)".
وهذا "الإدخال" لـ "خواص الشيء" في "الشيء" لا يختلف، منطقا، عن إدخال "الروح" في التمثال الطيني، فـ "الطبيعة (أو المادة)" التي قد يعترفون بوجودها إنَّما هي الطبيعة الميتة، الخامدة، الهامدة، التي ليست بـ "دينامية"، في حدِّ ذاتها، و"المُفْرَغة" من قوانينها وخواصِّها وقواها.. ومن "السببية المادية الموضوعية".
لقد شوَّهوا ومسخوا مبدأ "السببية" إذا أقاموا برزخا (ميتافيزيقيا) بين "السبب" و"المُسَبَّب (النتيجة)"، قائلين بوجود، وبوجوب وجود، "المُسَبِّب (الميتافيزيقي)" لـ "الأسباب"، وكأنَّ "النار في حدِّ ذاتها"، أي النار التي لَمْ يُجْعَل فيها بَعْد سبب التمدُّد للمعادن، هي "مسلَّمة"، ليس من حاجة إلى إثبات وجودها، أو إلى إثبات أنَّها ممكنة الوجود.
ألا يحقُّ لنا أن نسألهم: لماذا افْتَرَضتم أنَّ النار ما كان لها أن تَحْرِق إلا بَعْد أن أوْحَت إليها القوَّة الميتافيزيقية العليا أن تكون سببا للحرق؟!
أين هي النار التي إنْ وَضَعْنا فيها معدنا فلا تؤدِّي إلى تمدُّده؟!
وأين هو المعدن الذي إنْ وَضَعْناه في النار لا يتمدَّد؟!
وقبل ذلك، قطعوا "سلسلة السببية"، التي لا نهاية لها، فقالوا بشيء أوْجَدَته القوَّة الميتافيزيقية العليا من لا شيء، أي من العدم، مع أنَّ كل شيء في الطبيعة يؤكِّد لنا أن لا شيء إلا ويَنْتُج من شيء آخر، أو من أشياء أخرى.. حتى ما يسمى "الجسيم الأوَّلي"، كـ "الكوارك" و"الإلكترون"، لن يشدَّ أبدا عن هذه القاعدة.
"السلسلة" قطعوها، مع أنَّ كل شيء يتحدَّاهم أن يأتوا ولو بدليل واحد على أنَّ "العدم" كان ولَمْ يكن من شيء، أو على أنَّ "العدم" فرضية تنطوي ولو على نزر من الحقيقة الموضوعية، فـ "العدم" الذي لا دليل عليه أصبح، في منطقهم، "مسلَّمة".
إنَّ كل منطقهم يَصْدُر عن "مسلَّمات" يتحدَّاهم العِلْم، والواقع، والمنطق، أن يُثْبِتوها قبل أن يتِّخذوها "مسلَّمات"، وكأنَّ العِلْم "الحقيقي" عندهم هو الذي يقوم على استعمال "ما هو في حاجة ماسَّة إلى الإثبات" دليل إثبات أو نفي لغيره!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هذا التمادي في شتم العرب!
-
الطريق الملتوية إلى -الدولة ذات الحدود المؤقَّتة-!
-
رياضة بروح سياسية.. وسياسة بروح رياضية!
-
طاب الموت يا طابة!
-
-نعم- للقرار الدولي.. و-لا- لإعلان الدولة!
-
مسار -الدولة من طرف واحد-.. ماذا يعني؟
-
عندما يجوع البشر لوفرةٍ في الغذاء!
-
بعض من ملامح -البديل- الفلسطيني
-
ما هي -المادة-.. وكيف يُمْسَخ مفهومها ويُشوَّه؟
-
كيف تُدَجِّن شعباً؟
-
خرافة -الدولة- في عالمنا العربي!
-
-قرار عباس-.. كيف يمكن أن يوظَّف في خدمة الفلسطينيين؟
-
السَّفَر في الفضاء.. كيف يكون سَفَراً في الزمان؟
-
بلفور.. -الأسلمة- بعد -التعريب-؟!
-
الحُبُّ
-
90 في المئة!
-
خيار -السلام- أم خيار -اللا خيار-؟!
-
-بالون أوباما- إذ -نفَّسه- نتنياهو!
-
فساد شيراك..!
-
في التفسير الميثولوجي للتاريخ.. والسياسة!
المزيد.....
-
برلمان كوريا الجنوبية يصوت على منع الرئيس من فرض الأحكام الع
...
-
إعلان الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. شاهد ما الذي يعنيه
...
-
ماسك يحذر من أكبر تهديد للبشرية
-
مسلحو المعارضة يتجولون داخل قصر رئاسي في حلب
-
العراق يحظر التحويلات المالية الخاصة بمشاهير تيك توك.. ما ال
...
-
اجتماع طارئ للجامعة العربية بطلب من سوريا
-
هاليفي يتحدث عما سيكتشفه حزب الله حال انسحاب انسحاب الجيش ال
...
-
ماسك يتوقع إفلاس الولايات المتحدة
-
مجلس سوريا الديمقراطية يحذر من مخاطر استغلال -داعش- للتصعيد
...
-
موتورولا تعلن عن هاتفها الجديد لشبكات 5G
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|