|
وتركنا العقلَ لأهله!
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 2847 - 2009 / 12 / 3 - 00:46
المحور:
سيرة ذاتية
قالتِ العربُ الكثيرَ عن الحُبّ. وأجملُ قصائد الحبِّ عربيةٌ. يبدو أن الطبيعةَ الصحراوية، بسكونها وشساعتها وغموضها ورهبتها، بوهج رمالها تحت هجير الشمس نهارًا، وظلمتها الموحشةِ ليلا، إلا من نجوم تنتثرُ على صفحة السماء، وقمرٍ يتوسّطُ جبهتها، مثل قنديل ينتظره المحبّون ليبثّوه أخبارَهم وشجواهم، يبدو أن تلك الطبيعةَ الفريدةَ ساهمتْ بشكل أساسيّ في جعْل العربيّ يستجيرُ بالحبّ الحنون الرغد الأخضر من قسوة الصحراء وصُفرتها. وجعلته، من ثَمَّ، يفتّش في أسرار الهوى، ويصنّفه ويرسم له لوحاتٍ وخرائطَ وجداول، ويؤرشفه ضمن مراتبَ ودرجاتٍ ومستويات. يقول منصور الثعالبي عن مراتب الحب، في كتابه الجميل "فقهُ اللغةِ وسرُّ العربية": إن أوّلَ مراتبِ الحبّ الهوى؛ أي المَيْل، ثم العَلاقةُ؛ أي أن يَعْلَقَ القلبُ بالمحبوب، ثم الكَلَفُ؛ وهو شِدّة الحب، ثم العِشقُ؛ وهو ما يزيد عن مقدار الحب، ثم اللوعةُ؛ وهي إحراقُ الحبِّ القلبَ، ثم الشَّغَفُ؛ وهو أن يبلغَ الحبُّ شغافَ القلب، أي غشاءه الخارجيّ، ثم الجوى؛ وهو الهوى الباطن، ثم التَّيْم؛ وهو استعباد الحبِّ للإنسان، ومن هذه المفردة أن نقول: "تَيْمُ الله"، أي عبد الله، وأن نقول: رجلٌ مُتَيَّمٌ، ثم التَّبْلُ؛ وهو أن يُسْقِمَ الهوى الإنسانَ المُحِبَّ، ومنها نقول: "رجلٌ مَتْبول"، ثم التدْليهُ؛ وهو ذهابُ العقل من فرط الهوى، ومنها رجلٌ مُدَلَّهٌ، ثم الهُيومُ؛ وهو أن يهيمَ المُحبُّ على وجهه من فرط الهوى، ومنها رجلٌ هائم. ونعرفُ الكثيرَ من قصص الهوى العربية، وطبعًا غير العربية، تلك التي تحكي لنا عن جنون المُحبين وسلوكاتهم التي نَصِفُها بالطيش والرعونة. ولا شك أن كلاًّ منكم شَهِد بنفسه نادرةً أو نادرتين من نوادر المحبين من حولنا. أنا شخصيًّا أعرفُ شابًّا مجنّدًا هرب من معسكره ليلةَ عيد ميلاد حبيبته؛ ليقفَ تحت شرفتِها ويعطيها وردةً، ثم يعود إلى ثكنته ويُسجَن، فيتلقى ظلمةَ محبسه بنَفس راضية. نفس أحبّتْ وارتوتْ بنظرة رضًا من عينيْ الحبيبة. وأعرفُ شابًا تسلّل من بيروت إلى الأردن، أيام حصار بيروت الشهير، ليقرأ على حبيبته قصيدةً كتبها في عينيها. فتعتقله شرطةُ الحدود، ويمكثُ خلف جدران المحبس شهورًا، ما فكر خلالها إلا في كيف يوصلُ أوراقَ قصيدته إلى الحبيبة البعيدة. ويحدثنا الأسبانيُّ أنطونيو جالا في روايته الفاتنة "الوَلَه التركي" عن امرأة تتبعّت شغفها الخاصَّ غير عابئة بالمنطق ولا بالعالم. ماذا تسمّون هؤلاء المحبّين وسواهم ممن ركبوا فَرَس الجنون الحرون من أجل مَن يحبّون؟ مجانين؟ طائشون؟ فاقدو عقل ومنطق؟ اِطلِقوا ما شئتم من نعوتٍ، أما أنا فأقول، وحسب، إنهم أحبّوا واتّبعوا حَدسَ قلوبهم. كانوا أنفسَهم، فنسوا المنطق. ومَن قال إن بالحبِّ منطقًا؟! وخروجًا من شرنقة العشق الضيقة الخاصة بالمرأة والرجل، لنشارفَ حالاتِ العشق الأرحب. عشق الفكرة، عشق المبدأ، عشق الجَمع، عشق الوطن، نحكي أكثر عن جنون الهوى. حينما صام المهاتما غاندي، بجسده النحيل،عن الطعام شهورًا، وعندما مشى حافيًا 400 كم في مسيرة الملح، عاريًا إلا من شال بسيط لا يقيه بردًا ولا حرًّا، ما كان مجنونًا، بل عاشقٌ من طراز رفيع. عاشقٌ قومَه، وفكرةَ الحريّة. كذلك كان محمود أمين العالم، حينما تلقّى على ظهره سياطَ السَّجّان، والابتسامةُ لا تبرحُ وجهه العذب، كان عاشقًا مصرَ، وعاشقًا هذا الجلاد ذاته! لأنه يعرف أن الجهلَ والتضليل هو عدوهما معا. هو العدو الذي يُلهبُ ظهره بالسياط، وليس ذلك البائس الجاهل المُضلَّل، الذي يحمل السوط. لماذا تذكرت كل هذا اليوم؟ لأنني، أنا التي يرميني أصدقائي بالمنطق والصرامة في إعمال العقل، أتيتُ، شيئا طائشًا مثل ما سبق. دُعيتُ للمشاركة بأمسية شعرية في معرض الكتاب الدولي بالكويت في الفترة بين 28/10- 7/11. وتزامنتْ، ضمنَ هذه الفترة، مشاركتي في مؤتمر ببيروت تقيمه الحركة الثقافية أنطلياس في الفترة من 4- 8 نوفمبر. قررتُ العودةَ من الكويت يوم 3 نوفمبر لأسافر إلى بيروت اليوم التالي. عرض عليّ منظمو مهرجان الكويت أن تكون تذكرة عودتي: الكويت- بيروت، فهذا منطق الأمور. رفضتُ وعدتُ للقاهرة، ومنها لبيروت! لماذا؟ لأنني لا أقدرُ أن أسافرَ إلى أيّ بلدٍ إلا عبر مطار القاهرة! لابد أن تودِّعَني مصرُ، ولا بلدَ سواها! ورماني الأصدقاءُ بالخَبل وقِلّة العقل! وقلتُ بل هو لونٌ من الشغف عميق! وتركتُ العقلَ لأهله.- جريدة "المصري اليوم" 16/10/09
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا شيءَ يشبهُني
-
طيورُ الجنة تنقرُ طفولتنا
-
المرأةُ، ذلك الكائنُ المدهش
-
مصنعُ السعادة
-
شباب اليوم يعاتبون:وطني حبيبي الوطن الأكبر
-
سور في الرأس، سأسرق منه قطعةً
-
التواطؤ على النفس
-
حاجات حلوة، وحاجات لأ
-
التخلُّص من آدم
-
بلال فضل، وزلعةُ المِشّ
-
الثالثُ -غير- المرفوع
-
كريستينا التي نسيتُ أنْ أقبّلَها
-
أعِرْني عينيكَ لأرى العالمَ أجملَ
-
أنا عيناك أيها الكهلُ
-
التردّد يا عزيزي أيْبَك!
-
قطارُ الوجعِ الجميل
-
بوابةُ العَدَم
-
الشَّحّاذ
-
الإناءُ المصدوع
-
الملاكُ يهبطُ في برلين
المزيد.....
-
في ظل حكم طالبان..مراهقات أفغانيات تحتفلن بأعياد ميلادهن سرً
...
-
مرشحة ترامب لوزارة التعليم تواجه دعوى قضائية تزعم أنها -مكّن
...
-
مقتل 87 شخصا على الأقل بـ24 ساعة شمال ووسط غزة لتتجاوز حصيلة
...
-
ترامب يرشح بام بوندي لتولي وزارة العدل بعد انسحاب غايتس من ا
...
-
كان محليا وأضحى أجنبيا.. الأرز في سيراليون أصبح عملة نادرة..
...
-
لو كنت تعانين من تقصف الشعر ـ فهذا كل ما تحتاجين لمعرفته!
-
صحيفة أمريكية: الجيش الأمريكي يختبر صاروخا باليستيا سيحل محل
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان مدينة صور في جنوب لبنا
...
-
العمل السري: سجلنا قصفا صاروخيا على ميدان تدريب عسكري في منط
...
-
الكويت تسحب الجنسية من ملياردير عربي شهير
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|