حدجامي عادل
الحوار المتمدن-العدد: 2842 - 2009 / 11 / 28 - 00:23
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لم أتمالك نفسي، و أنا أشاهد عجيبة من عجائب ما تعرضه قناة الجزيرة، لسان حال جهلنا المعاصر ، من أن أضرب كفا بكف ، حسرة و حنقا ، وأنا أسمع أحد قهارمة الإرهاب و رؤوس القتل، و هو لا يتحرج من نعت نفسه بكونه من “أهل علم” و من”العلماء”، وينعت مخالفه “العلماني” الطبيب ب”الجاهل” و ب “الرويبضة”.و لم يكن مبعث كمدي و حسرتي قدر الكبر الذي تطفح به تقولات هذا الكائن ، بل قدر الجهل و الغربة التاريخية التي يحيا فيها و التي تجعله ، وتجعل نفرا من “فقهاء الدش” أمثاله ،و هم الذين لا يملكون من مسائل العلم و همومه غير بعض الثيولوجيات البالية ، و لا يملكون من مناهج المعرفة غير بعض الأقيسة المنقضية ؛ ينسبون أنفسهم، و هم على ما هم عليه من جهل بأبجديات العلم الأولى، في زمرة العلماء دونما خجل، و قد فاته أن مفهوم العلم و مناهجه و مقدماته و قضاياه قد تغير منذ قرون ، و أن مفهوم الباحث أو العالم و مجال اشتغاله و مناهج هذا الاشتغال قد تحول في أطوار ، و أن ما يدعوه هو ”بالعلم” و الذي يبرر انتسابه من منظوره إلى سلك العلماء، أصبح يسمى باللاهوت، و هي “المعرفة” التي لا تتداول، هناك في بلاد العقلاء، إلا بين زمرة من القلائل، و هي الدراسة التي لا تعتبر، بأي حال ، جزءا فاعلا في العلم بمعناه المعاصر.
مفهوم العلم في الفكر المعاصر:
ينبني الفكر الحديث و المعاصرعلى أسس منهجية و فلسفية تختلف تماما مع منطق المعرفة اللاهوتية و السحرية، بل تتناقض و إياها، كيف لا و المعرفة الحديثة لم تستقر إلا بعد صراع مرير و طويل مع المعرفة اللاهوتية، كانت نتيجته إضطهاد عدد كثير من المفكرين و العلماء من طرف سدنة الفكر التقليدي؟
يتأسس العلم الحديث، من ناحية المقدمات أولا؛ على اعتبار مصدر المعرفة و معيار صحتها هو العقل و الاجتهاد البشري الخالص الذي لا يستند في مسيرة بحثه الطويلة المضنية إلا على نفسه. ويتأسس ثانيا على أن هذا الجهد العقلي الإنساني الخالص قابل لأن ينصب على أي موضوع كان، و أنه لا يمنع نفسه عن أي قضية ، لا بدعوى القدسية و لا بحجة التعالي. و يشتغل العلم، من ناحية الموضوع على العالم الملموس و الطبيعة الحية، فمجال البحث المفيد، بل و الممكن، هو المادة و الطبيعة، أي ما تدركه الحواس و يعقله العقل؛ و هكذا فهو يستقصي الكون في أبعاده المجهرية و الكبرى، منظما بحثه هذا في قطاعات : فيزياء ذرية، فيزياء فلكية، تشريح ،كيمياء، علوم أحياء. و يسند هذا البحث بمنهج دقيق هو المنهج الرياضي،الذي يجتهد في ربط النتائج بالمقدمات بحسب مبادئ عقلية و منطقية محكمة. و هكذا تكون مقدمات العلم المعاصر و الحديث هي العقل و الإنسان، و موضوعه هو الطبيعة و العالم المعيش و يكون منهجه هو الرياضيات و التجربة.
أين هذه المقدمات العقلية الصارمة التي تؤمن بالإنسان و العقل و معياريته من تلك اللاهوتيات التي “تجرم” الإنسان و تحرم استعمال العقل بدعوى القصور و الجهل الإنسانيين، و تهاجم أي اجتهاد بشري بدعوى أولوية النقل على العقل وأسبقية السماء على الأرض؟ و أين موضوع العلم المعاصر الذي ينصب على المادة المقيسة وعلى العالم الحي الملموس ،من تلك المواد الغرائبية و العوالم السحرية العجيبة المليئة بالجن و الحوريات و العفاريت التي يحيا في مثلها هذا الكائن و أشباهه؟ و أين هذا المنطق الرياضي الدقيق من تلك النظرة “الأسطورية” التي تخرق أبسط مقدمات العقل السليم؟ فإن كان الباحث العالم يرى في السماء، بحسب مقدماته العلمية، تركيبة من المواد و الغازات و الطاقات و القوى،المحكومة بمبادئ علية (Astrophysique) ، فإن اللاهوتي يرى في الفضاء سماء من ذهب و فضة و نحاس ، سماء مليئة بالآلهة و الشياطين ، تكون هي الأولى قياسا على هذا العالم “المادي” الملموس ، الذي يصير، من منظوره “العجائبي” المقلوب، هو عالم الخطيئة و الزيف؟ و أين تلك النظرة إلى الحقيقة باعتبارها شيئا نسبيا ما يفتأ ينبني و يتقدم في المستقبل بحسب الجهد البشري ، من تلك النظرية القطعية إلى الحقيقة باعتبارها شيئا أدرك و حصل في الماضي؟ و من تصورهم السلبي للجهد العلمي ،الذي يصير من منظورهم ”اتعابا للأذهان و تضييعا للزمان و كثرة هذيان” بحسب تعبير ابن تيمية الشهير، حين يلحون على أن طاقة الفكر ينبغي أن تتوجه، إلى تأمل علم الملء الأعلى و ما بعد الموت، بدل أن تسعى إلى تحسين أوضاع الناس المعيشية ؟ لا علاقة بينهما أبدا، فالعلم الحق علم للحياة و لتمجيد الإنسان، في حين أن التصورات اللاهوتية هي معارف لتجريم الإنسان و للموت ؛ العلم الحق معرفة بالعقل و التجربة، في حين أن التصور الغيبي معرفة بالسمع و المعجزة ؛ العلم الحق بحث في المادة و المدركات، و التصورات الأسطورية بحث في اللامادة و في كائنات لم يرها أحد من البشر. فليكف هؤلاء عن وصف أنفسهم “بالعلماء”، لأن بين تصوراتهم و تصورات العلم مسيرة ألف عام ، و ليضعوا أنفسهم في المكان المناسب لهم هناك بين زمرة المشعوذين و الكهان و رواة الأساطير القدماء ،الذين حكوا و دافعوا، كما هؤلاء المعاصرين لنا، عن عالم مليء بالألهة و الملائكة و عرائس البحر و الفيانق و الغيلان ، و هي التصورات التي قد تكون من جنس الخيال الجميل الذي يمتع الصغار، أو من نوع الشعوذات المحبوكة التي تفتن الجهلة، و لكنها لايمكن أبدا أن تنتمي إلى مجال “البحث العلمي” الذي يفيد حياة الناس عمليا و ماديا.
#حدجامي_عادل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟