|
الحاج رسول
جلال القصاب
الحوار المتمدن-العدد: 2840 - 2009 / 11 / 26 - 11:03
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ما الذي يجعل إخوةً وشعوبًا -ولأجل لعبة كرةٍ لا تضرّ ولا تنفع أو سواها- تنجرف لتُستثار وتتألّب على بعضها بإلهاء الساسة ومكائد فساد حُكّامها.. فتُستنزف طاقاتُها وتُهدر أوقاتُها وتنهار إنسانيّتُها ومقوّماتها لخدمة أعدائها.. لولا ندرةُ وجودِ "مربّين حقيقيّين" وبرامج تربويّة سليمة فعّالة تحجز النّاس وتهذّبهم على الفضائل.. وتجعل الأهداف العُليا حاضرةً في ضمائرهم؟!
موسمُ الحجّ يصنع ويُوفّر "طلائع المربّين" الحقيقيّين للشعوب، يومَ أنْ كان الحجُّ لله تعالى ووفادتُه لتزكية النفوس، إلاّ أنّ هذا الموسم قد خُطفتْ غاياتُه وبرامجُه فصارت الناسُ تسير إلى أكرم الغايات وهم ينقلون أقدامهم في الدّنَس والوحل، ويَخْطون إلى أخطر الأهداف وهم يخلطون ويهزلون ويفحشون. عندما قرّر سبحانه أنّه جاعلُ إبراهيمَ للناس إماماً.. أمرَه أن يُؤذّن فيهم بالحجّ ليأتوه، فحملت القوافلُ دعوته إلى جهات المعمورة، وسُنّت بذور الحجّ الإبراهيميّ بمضامينه العاليّة ورمزيّات مناسكه، بأنّه وفودُ "طلائع الناس" ليتمّ صناعتهم في المحضن الخاصّ.. فيتلقّوا رسالتهم الإنسانيّة وقيَمهم الحضارية والروحية ليرجعوا كرُسلٍ لمجتمعاتهم.. أكثرَ صفاءً وعلماً.. وينشروا علومهم وقيمَهم المُستفادة...فيفشو السلام.
ثمّ بعد دهور جاهليّة -بموت القادة الحقيقيّين أو إبعادهم- انحرف معنى الحجّ واحتُكر شكلُه وطقوسُه لنُظُم السفَه ولإزاحة القيَم الأصيلة، حتى بزغ نورُ محمّد(ص) فجاهَد لإرجاع الموسم الربّاني وفقَ السنّة الإبراهيمية فأُقِرّ الحجّ رُكناً خامساً للدين وجاء تشريعُه تاريخيا خامساً أيضا.. وأرى سبحانه المسلمين مناسكَهم الصحيحة، وعادت الخطّةُ الأمميّةُ المُعتنيةُ بصناعة "طلائع التربية والتغيير".. تتنفّذ بوفود طوائف الأمم إلى الحجّ وإلى حيث الرسول(ص): "فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ"، وكان محمّد(ص) هو الإمامَ المجعول للناس آنذاك الذي تفدُ طلائعُهم إليه ليستلموا مبادئ الحياة وقيَم السلام التي ينبغي أن يرجعوا بها ويُنذروا أقوامهم فيحيَوْن بها، صنع(ص) نموذجَ هذه الدورة التربويّة لنشر رسالة القيَم.. في حجّة الوداع.. وأصدرها كبيانٍ عالميّ يحتمل أمانتَها طلائعُ الحاجّ الشاهد ليبلّغ الغائب (بنود البيان كانت: نسف القيَم الجاهليّة مِن تمايزات قبليّة وقوميّة عنصريّة وعداوات، ترسيخ حرمة الكرامة والدماء والأموال، رعاية حقوق الآخر وعدم الظلم والاعتداء، تأكيد حقوق النساء، حفظ قوانين التعايش).
فـ(لا يَصلح أمرُ آخر هذه الأمة إلاّ بما صَلُح عليه أولّها) أيْ برعاية القيَم الفطريّة التي دأب الدينُ المشوّه والسياسةُ المشوّهة على نسفها ومسخها, فعاد دينُ (القيَم) غريباً بين أهلِه.. بعد سيطرة دينُ التوظيف السياسيّ والمذهبيّات والفِرق والأحقاد والخصومات والتكفير والقتل. فصلاح الأمّة يمرّ عبر بوّابة تصحيح دينها وأخلاقها الحضاريّة، وأحدُ وسائلِه.. بالعودة لانتهال القيَم بموسم الحجّ، بعد إصلاح الموسم نفسِه، لذلك نصب النبيّ(ص) علماء أمناء بالموسم يبثّون العلم والأخلاق، ولكنْ -بعد عبث القرون المتطاولة- عادتْ القيَمُ الجاهلية لتحكمنا.. قيَم التعصب والفخفخة وسيطرة المادة واحتكار وظائف الدّين.. وغلبة النزَعات.. ولتسلب الموسمَ جواهره ومضامينه... (ولابدّ من يومٍ تتقاطر فيه الصالحون المصلحون مِن بلدان المعمورة إلى الحجّ -كمؤتمرٍ سنويّ عالميّ- يتأهّلوا منه لإصلاح طبقاتِ أممهم ضمن خطّة استنقاذ عالميّة).
لقد وظّفتْ قريش -بيافطات التشدّد- دينَها الجاهلي لتقويض قيَم الحجّ الإيراهيميّ، كانوا يُسمّون أنفسَهم "الحُمْس".. لتشدّدهم القشريّ وتحمّسهم لحُرمة الكعبة ولطقوسٍ اصطنعوها لمآرب طبقيّة.. اجتماعية واقتصادية، داسوا بها القيَم الحقيقية، فأنتج تشدّدُهم الزائفُ حيَلاً روّجوها بمسمّى "الشرعيّة" منها:
1- عدم وقوفهم بعرفة قبل الإفاضة إلى المزدلفة، زاعمين: (نحن أهلُ الحرم لا ينبغي لنا الخروجُ من الحرَم وتعظيمُ غيره)، فأنزل الله مصحّحًا وآمراً: "ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ"، وأكّدها النبيّ(ص) قائلاً: "الحجُّ عرفة"، لينسف دعاوي "الحُمْس" عن التميّز والاستعلاء بالتديّن وبالفوارق المصطنعة على الناس، إذْ في صعيد عَرَفة يتساوى الجميع، فيتعرّف الإنسانُ مهابةَ ربّه وضآلة نفسه ويتعارف بإخوةِ بني جنسه.
2- اصطناعُهم -تعظيماً لشعيرة الحجّ بعد فراغهم- مظاهرَ دعائيّة تشدّدية زائفة: (بألاّ يدخلوا البيوت من أبوابها)، فأنزل تعالى لإزالة الزيف: "وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا"، تُرى كم مِن البرّ تركناه بشعائرنا الجوفاء المفتعلة بمنتجات التشدّد، كم من الإسراف والعبث وضياع الجوهر الديني -الذي يستولد إنسانيّتنا- قد صنعناه بالطقوس "الدينيّة/التجاريّة" فما عاد الحاجّ يعود كيوم ولدته أمّه بل كما ذهبَ آبَ أو أسوأ.
3- بل استغلّوا الدينَ ومواسمه للاستئكال به، فأوجبوا على وفود الناس: "مَن أراد الطواف للمرّة الأُولى، أن يطوف بلباس أهل الحرم (أيْ الحُمْس)، وإنْ لم يجِدْ طاف عريان"، فسرقوا أموال الحجيج حتى نقل المؤرّخون أنّ امرأةً جميلة لم تجد -بحكمهم- ثياباً فاضطرّت للطواف عارية، ممّا دفع جمعاً للاحتشاد لمشاهدتها، وكان بعضُ المشركين ينتهزون الموسم فيتحلّقون حولَ الكعبة لرؤية هكذا مشاهد.. (تُرى كمْ من حجّاجنا وظّفوا قدسيّة الحجّ لإشباع نهمهم الجنسيّ.. دردشةًً، وتمتّعاً، ونظراً، واستغلالاً للزحام!)، هكذا صار دينُ "الحُمْس" مَرْكباً للأغراض وركوباً لأظهُر العامّة ونفضاً لجيوبهم، فتحوّلت الشعيرةُ المقدّسة إلى تكرارٍ ببّغاوي مُكْلفٍ ليس لله فيه نصيب، الأمر الذي عابه الوحي "وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً".. أصواتٌ جوفاء وتقليدٌ ومحاكاةٌ، كما في الأثَر أنّ شخصاً كُشف له فرأى أنّ بعضاً ممّن يطوف بالكعبة مجرّد قردة تقلّد الحركات وزعيق الأصوات بلا مغزى ولا انفعال مِن الرّوح.. أوضح هذا الانقلابَ زينُ العابدين(ع): بقوله "ما أكثرَ الضجيجَ وأقلّ الحجيج"!
4- تمادى "الحُمس" لنقضِ قيَم الحجّ حتّى اصطنعوا حيلة "النسيء" بتأخير الأشهر الحُرُم ليقوموا بغاراتهم ويُواطئوا ما حرّم الله، فيكون الدينُ وهلالُه وتواريخُه وأحكامُه.. ألعوبةً سياسيةً تُشهَر متى شاءوا وتُغمَد وقتَما شاءوا، هذا الخلَل فضحَه الوحيُ بقوله: "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ" واستأصله النبيّ(ص) بحجّة الوداع، لكنْ كم يُقابله اليوم مِنْ حيَل شرعية كثيرة للالتفاف على القيَم ولخدمة السياسة والمصالح ولتفريغ الممارسات الدينيّة من محتواها؟!
لقد حذّرتنا النبوءاتُ -بعصر أهلِ آخر الزمان- مسألةَ انحدار القيَم.. حتى لَيكون: (الفاسقُ عندهم مكرم، والظالمُ عندهم معظَّم، والضعيفُ عندهم هالك، والقويّ عندهم مالك)، وذلك عند إضاعتنا مغزى موسم الحجّ، فتفتقد شعوبُ الأمصار رسلَ الخير أن تُهذّبها بالقيَم، فتتآكل مبادئُها وتفسد ضمائرُها وتتعايش بالظلم والغشّ، لاحظْ الربطَ بهذا النصّ بين المقدّمة والنتيجة الاجتماعيّة: (تحجّ الناس لثلاثة وجوه: الأغنياء للنزهة، والأوساط للتجارة، والفقراء للمسألة، فتبطل الأحكامُ، ويُحبَط الإسلام، وتظهر دولةُ الأشرار، ويحلّ الظلم في جميع الأمصار، فعند ذلك يكذب التاجرُ في تجارته، والصايغُ في صياغته، وصاحبُ كلّ صنعة في صناعته، فتقلّ المكاسب، وتضيق المطالب، وتختلف المذاهب، ويكثر الفساد، ويقلّ الرشاد، فعندها تسْوَدّ الضمائر، ويحكم عليهم سلطانٌ جائر)، ومرويٍّ آخر: (يأتي على الناس زمانٌ يحجّ أغنياءُ أمّتي للنزهة، وأوسطهم للتجارة، وقرّاؤهم للرياء والسمعة، وفقراؤهم للمسألة)، بل غايات الحجّ اليوم أكثر وأعجب: للوناسة، لمرافقة الصُحبة، للعادة، للمتعة، لقضاء عطلة، لمقتضيات الوجاهة، وأهونهم مَن يحجّ اعتقاداً أنّه يُبرّئ ذمّته من أوساخٍ احتطبَها طوالَ سنته، ليعود ويستأنف! فإذا كانت النوايا بائسةً هكذا، فكم من السلوكيات الخاطئة واختلال الموازين الفكرية والعملية نتحصّلها مِن موسم الحج.. ويرتكبها العالِمُ قبل الجاهل؟ ألدى النّاس اليومَ خطّةٌ إصلاحيّة ونوايا حسنة من الذهاب للحجّ؟ كان زمانٌ لمّا يُقال "الحاجّ فلان" أو "الحاجّة فلانة" يعني أنّنا أمامَ قامةٍ مكدَّسةٍ بالقيَم مملوءةٍ وقاراً وصلاحاً واحتراماً، فهل بات الأمرُ كذلك اليوم، أم أنّها هزُلَت؟! بل ربّما "الحاجّ فلان" هو اليوم قدّاحةُ الحروب وكيروسين المعارك وثقاب المقالب.. ونستجير بالله أن نستجير به... وعيدُكم سعيد.
#جلال_القصاب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صلاتنا الخشبيّة.. الاتّصال مقطوع
-
حقوق الإنسان بين صورة مخزية والصورة الأمثل
-
الشرعيّة.. تُستورَد أم تُصنَع؟
-
أوانُ نلمّ ثيرانَنا عن مهانةِ الانفلات
-
أدعيةٌ أطوَل.. لاستجداء السماء أنْ تهطل
-
شهر صناعة -أشرف الناس-
-
الحرّية والكرامة حسبَ الوصفات الساركوزية
-
-خَلقَ الإنسانَ مِنْ علَقٍ- وما يزال..
-
لصالح رونالدو
-
-حلاّل المشاكل-
-
أهلُ الخير حين يصبحون أهلَ الخير
-
لعبة الخنازيز..ولعنة الخنازير
-
قانون الشهامة ومسرحيّات الأمن
-
الأجرُ الجزيل.. بالجُهد الهزيل
-
كياناتنا الدينيّة والمدنيّة.. ذاتُ الفلقتيْن
-
أفواهٌ وأرانب.. وتسوسُها ذئاب
-
تُجّار الأذكار ونيْل الأوطار
-
الصهيونية الملعونة على لسان عيسى
-
فبراير.. تحيّة وذكريات وآمال
-
دعه في النار وأنا في الدار
المزيد.....
-
السيسي لرئيس الكونغرس اليهودي العالمي: مصر تعد -خطة متكاملة-
...
-
الإفتاء الأردني: لا يجوز هجرة الفلسطينيين وإخلاء الأرض المقد
...
-
تونس.. معرض -القرآن في عيون الآخرين- يستكشف التبادل الثقافي
...
-
باولا وايت -الأم الروحية- لترامب
-
-أشهر من الإذلال والتعذيب-.. فلسطيني مفرج عنه يروي لـCNN ما
...
-
كيف الخلاص من ثنائية العلمانية والإسلام السياسي؟
-
مصر.. العثور على جمجمة بشرية في أحد المساجد
-
“خلي ولادك يبسطوا” شغّل المحتوي الخاص بالأطفال علي تردد قناة
...
-
ماما جابت بيبي..فرحي أطفالك تردد قناة طيور الجنة بيبي على نا
...
-
عائلات مشتتة ومبيت في المساجد.. من قصص النزوح بشمال الضفة
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|