|
مكسيم رودنسون .. مفكر وضع أصبعه فى عين - حكيم أوروبا -
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 862 - 2004 / 6 / 12 - 07:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
توفى المفكر الفرنسى مكسيم رودنسون يوم الأحد الموافق 23 مايو الماضى ، فى مدينة مرسيليا الفرنسية عن 89 عاماً وكالعادة تلكأت الصحف المصرية فى إعطاء النبأ الأهمية التى يستحقها صاحبه ، بينما تلعثمت معظمها فى نقل معلومات مفيدة يمكن ان ترسم صورة تفيد القارئ فى التعرف على هذا الباحث الذى أجاد ثلاثين لغة ولهجة ، وكانت له صولات وجولات فى ميدان الاستشراق ، والاهم انه انفق سنوات طويلة من عمره فى الدفاع عن الثقافة العربية والإسلامية ، كما كانت له مواقف مشهودة فى الدفاع عن القضية الفلسطينية وهذه النقطة الأخيرة تستحق الاهتمام .. فقليلون هم المفكرون الغربيون الذين تجاسروا على قول الحقيقة فيما يتعلق بالصراع العربى – الإسرائيلي ، لان الحركة الصهيونية – كما هو معروف – دأبت على ابتزاز الجميع بالمتاجرة – من جانب – بالاضطهاد الذى تعرض له اليهود فى أوروبا وبالتلويح من جانب آخر بسيف معاداة السامية لكل من تسول له نفسه انتقاد الدولة اليهودية مهما فعلت بالفلسطينيين والعرب ! بيد ان هذا الابتزاز لم ينفع مع رودنسون ، وربما كان أحد أسباب ذلك انه ينحدر من عائلة يهودية روسية ، وبالتالى كان من الصعوبة اتهامه بمعاداة اليهود ، رغم انه هو نفسه لم يكن يهودياً .واذكر بهذه المناسبة اننى – فى إحدى مقابلاتي معه فى شقته العتيقة بالعاصمة الفرنسية باريس – أشرت مجرد إشارة الى اصله اليهودى فارغى وأزبد وأسهب فى الحديث عن "علمانيته" بل وذهب ابعد من ذلك الى تفاصيل " شكلية " ، من بينها انه رفض الختان على الطريقة اليهودية ، وكاد يخلع سرواله ليؤكد ذلك ! المهم .. ان رودنسون – اليهودى الأصل الذى التزم بالقضية الفلسطينية – أسس مجموعة عمل وأبحاث من اجل هذه القضية العربية مع المستشرق المعروف جاك بيرك . وكان ثمن ذلك حملة متصلة من التهجم الصهيونى ومحاولة الاغتيال المعنوى لمكسيم رودنسون . وفى حوارى معه فى احد مقابلاتنا بالعاصمة الفرنسية سألته عن رأيه فى مستقبل الدولة اليهودية فقال لى بإيجاز بليغ : ان إسرائيل غلطة تاريخية .. واستطرد قائلاً : لكن لا تنسى ان الأخطاء يمكن ان تستمر سنوات وعقود . والدليل على ذلك – ومازال الكلام لرودنسون – هو بلجيكا .. التى ليست سوى " غلطة جغرافية "! هذا هو الوجه الاول الذى يهمنا من هذا المفكر الفرنسي الكبير الوجه الثانى هو وجه المستشرق . وهذا الوجه يعبر عن جهد وبحث ودأب استمر عقوداً متصلة . فهذا الرجل الذى ولد فى 16 يناير 1915 فى باريس لم يولد وفى فمه ملعقة من ذهب او حتى من خشب ، بل انه مر بظروف بالغة الصعوبة اضطرته ان يعمل فى صباه "ساعياً " باحد المكاتب ، وشق طريقه بأظافره ، ونجح فى سن السابعة عشرة فى مسابقة أهلته للالتحاق بمعهد اللغات الشرقية ، والنجاح فى الحصول على شهادة البكالوريا أيضاً. وفى عام 1937 تزوج والتحق بالمركز الوطنى للبحوث العلمية ، وانتسب فى نفس الوقت الى الحزب الشيوعى . واقترب بعد ذلك اقترابا حميما من العالم العربى ، حيث عمل فى لبنان فى اربعينيات القرن الماضى ، وعاش فى العالم العربى نحو سبع سنوات . واسفر هذا الاقتراب الحميم عن عدد من الكتب التى كرسها رودنسون للإسلام والعرب ، من اشهرها "محمد" (1961) و "الرأسمالية والإسلام" (1966) و "الماركسية والعالم الإسلامي" (1972) و " روعة الإسلام " (1980) وكان من أوائل من رصد صعود التيار الأصولي الإسلامي وتناوله بالتحليل بعين الباحث المدقق لابعين المراقب المتعصب .وهذه الملحوظة الأخيرة تتصل بالاستشراق والمستشرقين عموماً حيث اصبح من المسلم به ان قطاعاً لا يستهان به من هؤلاء المستشرقين كان ينظر الى العالم العربى والإسلامي نظرة عنصرية متغطرسة ، وان بعض المستشرقين كانوا أسوا من ذلك لانهم باختصار كانوا "جواسيس" للدول الاستعمارية ، ولعبوا دور الكتيبة الأمامية للغزو الاستعماري فى أحيان كثيرة .وهو الامر الذى كان أنور عبد الملك من أوائل من كشفوا عنه النقاب بمقاله الشهير "الاستشراق فى أزمة" الذى نشره عام 1963 واثار ضجة واسعة ، ثم سلط عليه الدكتور إدوارد سعيد مزيداً من الأضواء بكتابه الأشهر " الاستشراق " عام 1978 ، ثم بكتاب "الثقافة والإمبريالية" صدرت طبعته الإنجليزية عام 1993 .ووفقا لمقال نهاد سيريس بهذا الصدد فانه " بينما كانت ردود المستشرقين على مقالة أنور عبد الملك متعالية ويجرى فيها التساؤل عن البديل الشرقى للدراسات الاستشراقية وان العلماء العرب والمسلمين لا يمتلكون المنهجية العلمية اللازمة لدراسة تاريخهم ومجتمعاتهم فقد تحولوا ( اى علماء الاستشراق ) الى موقف الدفاع عن علمهم بعد كتاب ادوارد سعيد " .ويشير المقال نفسه الى بحث مكسيم رودنسون " وضع الاستشراق المختص بالإسلاميات : مكتسباته ومشاكله " الذى قام بترجمته هشام صالح ونشره فى كتاب " الاستشراق بين دعاتة ومعارضيه" وفى هذا البحث نرى رودنسون يعدد الجهود الكبيرة التى قام بها المستشرقون الكلاسيكيون حتى تمكن علم الاستشراق من الوصول الى ما هو عليه فبينما كان علم التاريخ الاوروبى يكتفى بدراسة الحضارتين الإغريقية والرومانية جاء عصر التنوير ليضم إلى هاتين الحضارتين كلا من الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الصينية ليوسع من أفق دراساته الإنسانية بعد ان كان هذا العلم يحتقر الشعوب الأخرى غير الأوروبية ، كبداية لتأسيس علم الاستشراق . وحسب رودنسون فان الأوروبيين قاموا بعمل كبير وجبار فى اكتشاف ودراسة تاريخ الحضارة العربية الإسلامية فأرسلوا العلماء الذين كانوا فى معظمهم آنذاك من العلماء اللغويين فجمعوا المخطوطات العربية ثم قاموا بتصنيفها وفهرستها وترجمتها وإزالة الغبار عنها . اى ان المستشرقين الأوائل قاموا بعملية جمع كم هائل من المعلومات وتبويبها ثم الانتقال ابتداء من القرن التاسع عشر الى دراسة هذه المعلومات والوصول الى وجهة التنظير .ورغم ان رودنسون يقول ان الدافع العلمى كان الدافع الأساسي فى هذه العملية ، فانه يتفق مع إدوارد سعيد، ويعترف، بان الأمر لم يكن يخلو من نزعة عنصرية اوروبية تجاه الشعوب المدروسة وبالتالى لم يكن يخلو من نزعة مركزية أوروبية . ولكن الأهم – حسب نهاد سيريس – هو اعتراف رودنسون بان الدول الأوروبية وحكوماتها لم تكتف بالدافع العلمى للمعلومات التى جمعها علماؤها عن بلاد الشرق بل انها استفادت منها لغزو هذه البلاد واستعمارها لقد وجدت الدول الأوروبية فى المعلومات والدراسات اللغوية والأنثروبولوجية والفقهية والفلسفية والأدبية وبالتاريخ الوقائعى لبلاد الشرق مساعدا قوياً لها فى بسط هيمنتها على هذه البلاد ونهب خيراتها طوال اكثر من قرن .وبصرف النظر عن هذا الجدل ، فان الامر المؤكد هو ان رودنسون كان باحث نزيهاً،ومعادياً للاستعمار والإمبريالية ، كما كان خصماً لدوداً للعنصرية ، وبالتالى فان كتاباته فوق مستوى الشهبات من هذه الوجهة .واذكر بهذا الصدد ان رودنسون شخصياً قال لى فى معرض حديثه معى عن الظاهرة الأصولية فى العالم العربى ، ان الرئيس الفرنسى الراحل فرانسوا ميتران كان معتاداً ان يدعوه هو وعدد محدود من المفكرين الفرنسيين لتبادل وجهات النظر حول الأمور المهمة .. بين وقت واخر وفى احد هذه اللقاءات كان الحديث يدور حول الأصولية الإسلامية وتدخل ميتران بإبداء رأى .. فما كان من رودنسون الا ان قاطعه قائلاً : أنت حمار ! ولاحظ رودنسون ان الدهشة قد ملأت كل قسمات وجهى فاستطرد قائلاً انا اعرف انك كصحفى قادم الى فرنسا من مصر تستنكف ان أحدث رئيس الجهورية الفرنسي بمثل هذه الألفاظ .. لكن ميتران نفسه الذى كان يحلو للبعض ان يطلق عليه لقب " حكيم أوروبا " لم يكن يجد غضاضة فى ذلك ، خاصة واننى فندت كلامه بل وقلت له بصريح العبارة ان تفسيرك للأصولية الإسلامية فيه رائحة العنصرية والتعالى الأوروبي .سألته : وماذا فعل ميتران ؟ أجاب رودنسون ببساطة : وافق على اعتراضى .. وتراجع عن فكرته السخيفة والسطحية ! ولا يفوتنى – بالمناسبة – ان أقول ان فرنسا منحت رودنسون وسام الفارس فى الآداب والفنون تعزيزاً له على إسهاماته الفكرية رغم ان الكثير من مواقفه جاءت متعارضة مع السياسة الفرنسية الرسمية ، ورغم انه امضى اكثر من عشرين عاماً من حياته عضواً قيادياً بالحزب الشيوعى الفرنسى قبل ان يختلف معه ويغادر صفوفه .ولا يفوتنى أيضا ان استشهد بالمؤرخ جيرار خورى الباحث فى معهد دراسات العالم العربى والإسلامي فى اكس – اون – بروفانس بالقرب من مرسيليا الذى قال ان رودنسون ساهم فى تعديل القراءة الطائفية للإسلام الذى لا يعجز عن الدخول الى الحداثة حسب رأيه " .وهذا ينقلنا الى العمل الرئيسى لرودنسون ، أعنى كتاب " محمد " عن نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم . وهو كتاب بالغ الأهمية ومن سوء الحظ ان الغوغائية وضيق الأفق والجهل النشيط نفخت رياح تلك الحملة الشعواء التى كللت بحظر تدريسه فى الجامعة الأمريكية فى إطار منهج كان يستهدف تدريب الطلاب على التفكير النقدى والقراءة الخلاقية .وهى حملة أصابت رودنسون بكآبة وحزن . وقد قابلته فى ذروة هذه الحملة فى منزله العتيق الذى تغطى جدرانه آلاف من الكتب والمخطوطات المكتوبة بعشرات اللغات ، ومن بينها اللغة العربية ، وكان تعيساً للغاية وامسكني من يدى وقادنى الى مكتبه المكدس بالأوراق .وكان فوق كل هذه الأوراق الكثيرة المتراكمة جميعاً قصاصة من جريدة " الأهرام " لمقال كتبه أحد مراجعنا الدينية يصب فيه اللعنات على رأس رودنسون المولع بحبنا والمدافع عن قضايانا فى مواجهة حركات صهيونية مهووسة لا ترحم ! وقال لى الرجل وصوته يقطر اسى : كل الحملات الصهيونية لا تحرك شعرة فى رأسى .. اما هجوم الأزهر على شخصى فيصيبنى بغصة .. وحيرة .. وألم .فهل أصبحت انا مكسيم رودنسون – وليست إسرائيل أو أمريكا - عدو العرب والمسلمين، لا لشئ الا لكتاب ملئ بالحب والإنصاف للنبى محمد ، وهو فى كل الأحوال كتاب خرج الى النور عام 1961 اى منذ اكثر من 37 عاماً .(كانت مقابلتنا الأخيرة فى يوليه 1998 ) .. ولم ير فيه عربى او مسلم واحد إساءة الى الإسلام او نبى الإسلام طوال هذه السنوات .. فماذا حدث لتنقلب الآية الآن ؟ ولحساب من ؟ ولماذا ؟ .. وزاد من حزنى وخجلى .. اننى لم أجد إجابة واحدة لأسئلة المفكر الفرنسى الكبير .. صديق العرب .. الذى لقى منهم جزاء " سنمار" حياً .. وتجاهلهم بعد رحيله الأبدي !
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شاهد عيان فى عنبر المعتقل وبلاط صاحبة الجلالة - شهادة مقدمة
...
-
لماذا أصبحت الطبقة السياسية سميكة الجلد؟!
-
خصخصة حق تقرير المصير.. هى الحل
-
مهرجان »كان« السينمائي أهم من قمة تونس العربية
-
يحيا العدل.. الأمريكي !
-
اكبــر ديمقـراطيـة .. فى بـــلاد تركب الأفيــال
-
الغضب .. أفيون العرب!
-
جــريمـــــة الـقــــرن الحــــادي والعشـــــــرين
-
الــــــورطــــــــــة !
-
- وعد بوش - .. لاقامة إسرائيل الكبرى
-
حكاية سيدة محترمة اسمها - ميريام - اطلبوا الإصلاح .. ولو من
...
-
بعد أن تحول العراق من »وطن« إلي »كعكة« سباق دولي وعربي محموم
...
-
رسالة مفتوحة الى أصحاب الجلالة والفخامة والسموالبقية فى حيات
...
-
بين -الدير- و-الشيخ- .. -ياسين- يدفع فاتورة الاستشهاد جرائم
...
-
رئيس الحكومة صاحب المزاج العكر .. أول ضحايا لعنة العراق
-
من لا يقـــدر على - بــوش- وزعــانفــــه فليقــــذف نــادر ف
...
-
من لا يقـــدر على - بــوش- وزعــانفــــه فليقــــذف نــادر ف
...
-
العربى مريض .. فمن يكون - بوش - : الطبيب أم الحانوتى ؟
-
صاحبـــة الجــلالة تنهـض من تحـت الأنقــاض
-
بمناسبة انعقاد المؤتمر العام الرابع للصحفيين مـصــــر تستـحـ
...
المزيد.....
-
شاهد لحظة قصف مقاتلات إسرائيلية ضاحية بيروت.. وحزب الله يضرب
...
-
خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
-
وساطة مهدّدة ومعركة ملتهبة..هوكستين يُلوّح بالانسحاب ومصير ا
...
-
جامعة قازان الروسية تفتتح فرعا لها في الإمارات العربية
-
زالوجني يقضي على حلم زيلينسكي
-
كيف ستكون سياسة ترامب شرق الأوسطية في ولايته الثانية؟
-
مراسلتنا: تواصل الاشتباكات في جنوب لبنان
-
ابتكار عدسة فريدة لأكثر أنواع الصرع انتشارا
-
مقتل مرتزق فنلندي سادس في صفوف قوات كييف (صورة)
-
جنرال أمريكي: -الصينيون هنا. الحرب العالمية الثالثة بدأت-!
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|