أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد هشام - باراك أوباما: دلالات النصر وأعباء المستقبل ... عرض كتاب -ماذا يعني أوباما لثقافتنا وسياستنا ومستقبلنا-















المزيد.....


باراك أوباما: دلالات النصر وأعباء المستقبل ... عرض كتاب -ماذا يعني أوباما لثقافتنا وسياستنا ومستقبلنا-


محمد هشام

الحوار المتمدن-العدد: 2834 - 2009 / 11 / 19 - 21:06
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


الكتاب: ماذا يعني أوباما لثقافتنا وسياستنا ومستقبلنا
المؤلف: جباري عاصم
الناشر: وليام مورو (تابع لدار هاربر كولينز، نيويورك)
تاريخ الصدور: 2009
الحجم: 223 صفحة من القطع المتوسط


كيف نجح باراك أوباما في الوصول إلى البيت الأبيض بالرغم من جميع التوقعات المضادة والمخاوف المحبِطة، فيما يُعد تحوُّلاً جوهرياً في كل التقاليد التي ظلت تحكم الحياة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية منذ نشأتها؟ وهل يمكن أن يُعزى هذا الإنجاز إلى براعة أوباما السياسة ومهاراته الشخصية فحسب، أم أنه جاء محصلةً للجهود المضنية التي بذلها أناس شتى على مر عقود، بل ودفع بعضهم حياته ثمناً لها؟ وماذا يعني انتخاب شخص أسود من أصول إفريقية لرئاسة دولة عُظمى لم تتخلص تماماً من إرثها الطويل في التمييز العنصري واضطهاد من لا ينتمون إلى الجنس الأبيض؟ وهل سيتغير مسار هذه الدولة، بكل قدراتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية وما يترتب عليها من توجهات ومصالح، في ظل إدارة يقف على قمتها رئيس مغاير ثقافياً وعرقياً لكل من سبقوه من رؤساء؟ وهل سيظل هذا الرئيس، الذي ينتمي تاريخياً واجتماعياً وثقافياً إلى جماعة بشرية عانت طويلاً من التهميش والتمييز والإقصاء، أسير أصوله العرقية وما يرتبط بها من مظالم، أم أنه سيكون قادراً على أن يقود الأمة الأمريكية بأسرها، من البيض والسود وغيرهم من أبناء الأعراق المختلفة على حد سواء، إلى آفاق جديدة من التسامح وتجاوز مآسي الماضي والقبول بالتنوع؟

هذه بعض التساؤلات التي يطرحها جباري عاصم، وهو كاتب أمريكي مرموق من أصول إفريقية أيضاً، في كتابه الجديد: "ماذا يعني أوباما لثقافتنا وسياستنا ومستقبلنا"، الذي صدر مؤخراً في أعقاب فوز باراك أوباما في انتخابات الرئاسة الأمريكية، وحاول إلقاء الضوء على مغزى انتصار أوباما والآثار التي يمكن أن يخلفها، سواء على وضع الأمريكيين السود وغيرهم من الفئات المهمَّشة أو على مستقبل الأمة الأمريكية بكل مكوناتها.

إلا إن أهمية الكتاب لا تكمن في هذا السعي إلى فهم أبعاد الحدث وانعكاساته المستقبلية فحسب. فهناك عشرات الكتب التي صدرت منذ انتهاء المعركة الانتخابية الأمريكية بما أسفرت عنه من نتائج كانت بمثابة مفاجأةً حتى لأكثر أنصار أوباما تفاؤلاً. وكان من الطبيعي أن تحاول هذه الكتب، مثلما حاول كتاب جباري عاصم، استجلاء المقدمات التي قادت إلى تلك النتائج واستطلاع ملامح المستقبل استناداً إلى الواقع الجديد الذي تمخضت عنه الانتخابات. وبالمثل، فإن التساؤلات التي يطرحها كتاب "ماذا يعني أوباما" تكاد تكون عنصراً مشتركاً في أغلب الكتب التي تصدت لتفسير ما أصبح يُطلق عليه اسم "ظاهرة أوباما"، وإن تباينت زوايا النظر وطرق التحليل، ومن ثم الإجابات على تلك التساؤلات.

وإذا كان الأمر كذلك، فأين يكمن الاختلاف، إذن، بين كتاب جباري عاصم وغيره من الكتب التي تناولت الموضوع نفسه؟ وما الذي يدفع إلى الاعتقاد بأن هذا الكتاب سوف يظل لفترة طويلة مرجعاً لفهم ما حدث، بينما يُرجح أن تتضاءل أو تتلاشى أهمية أغلب الكتب الأخرى التي تَصْدُق عليها تسمية "كتب المناسبات"، حسبما يرى كثير من المعلقين الذين تناولوا الكتاب؟

يمكن القول إن أهم ما يميز كتاب "ماذا يعني أوباما" هو قدرته على ربط أحداث الحاضر بجذورها في الماضي، ونظرته الأوسع للحدث، والتي تجمع ما بين التحليل السياسي والعرض التاريخي والتفسير الثقافي فضلاً عن التجربة الشخصية للمؤلف نفسه.

فبينما تركز معظم الكتب الأخرى على تفاصيل الحملة الانتخابية لأوباما وما صاحبها من تقلبات وعلى المشهد السياسي الأمريكي في الوقت الراهن، يمضي كتاب "ماذا يعني أوباما" إلى أبعد من ذلك، منطلقاً من أنه لا يمكن النظر إلى لحظة الانتصار الحالية بمعزل عن أحداث الماضي والتي تعود إلى ما يزيد عن قرنين من الزمان. ولعل كلمات أبراهام لنكولن (1809-1865)، الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأمريكية، والتي يصدِّر بها جباري عاصم كتابه، توضح بجلاء هذا المنظور التاريخي الذي يستند إليه الكتاب. فقد كتب لنكولن:

"ليس ثمة مصادفات في فلسفتي. فلابد لكل أثر أو نتيجة من علَّة. والماضي هو علَّة الحاضر، وسوف يكون هذا الحاضر بدوره هو علَّة المستقبل. وهذه الأحداث جميعها هي بمثابة حلقات في سلسلة لا نهائية تمتد من المحدود إلى غير المحدود".

وانطلاقاً من إدراك هذه الصلة الوثيقة بين الماضي والحاضر، يسترجع الكاتب التاريخ الطويل الذي تعيَّن على الأمريكيين السود أن يتكبدوا ويلاته، منذ استجلابهم بأساليب وحشية من بلدانهم الإفريقية الأصلية طوال الفترة من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، ثم استعبادهم في ظروف مزرية في أشد الأعمال قسوةً وشقاءً في المزارع والمناجم التي فرض المستوطنون الأوروبيون البيض سيطرتهم عليها في القارتين الأمريكيتين، أو ما أصبح يُعرف باسم "العالم الجديد". ويستعرض الكاتب، في الوقت نفسه، الجهود التي بذلها الأمريكيون السود عبر تاريخهم، على الأصعدة السياسية والثقافية والاجتماعية، من أجل التحرر من مصير "العبد التابع"، وما يستتبعه من مسلك عنصري وإهدار لأبسط الحقوق الإنسانية، ومن أجل تغيير الصورة النمطية لشخصية "الأسود" التي فرضها سادة "العالم الجديد" وساعدت على شيوعها وترسيخها وسائل الإعلام المختلفة التي ما برحت تزداد نفوذاً وسطوةً في المجتمع الأمريكي.

إلا إن الكاتب لا يلجأ، في عرضه هذا، إلى السرد التاريخي المفصَّل والموثَّق لسيرة الأمريكيين السود، ولا يخوض طويلاً في صنوف المظالم التي تعرضوا لها مع غيرهم من أبناء الجماعات المهمَّشة، مثلما فعل كُتَّاب آخرون كالمؤرخ هوارد زن في كتابه المتفرد "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة" (الذي صدرت طبعته الأولى في عام 1980، وترجمه إلى العربية باحث من طراز فريد أيضاً هو الراحل د. شعبان مكاوي، وصدرت الترجمة في مجلدين في القاهرة عام 2005). فعلى النقيض من ذلك، يحرص الكاتب على الطابع العام والمقتضب للعرض، والذي يتلاءم تماماً مع هدف الكتاب وموضوعه. فليس من أهداف الكتاب أن يكون سجلاً تاريخياً لأحداث الماضي، وليس القصد من عرض هذه الأحداث سوى إظهار جوانب أساسية من الخلفية السياسية والثقافية التي شكَّلت مقدمات انتصار أوباما، ومن ثم جاء هذا العرض موجزاً بالقدر الذي يكفي للتعرف على أبرز الملامح في صورة الماضي.

ويخلص الكاتب من هذا العرض التاريخي الموجز إلى نتيجة مفادها أن انتصار أوباما هو "محصلة لاتجاهات ثقافية لا يمكن الرجوع عنها، ولتطورات سياسية جوهرية، ولنمو قوى السوق التي لا يمكن وقفها".

وللتدليل على هذه النتيجة، التي تمثل عصَب الكتاب، يسوق الكاتب عدداً من الأمثلة على الشخصيات التي كان لها الدور الحاسم، حسب رأيه، في تمهيد الطريق الذي قاد أوباما إلى البيت الأبيض. وتتباين هذه الشخصيات إلى حد كبير في توجهاتها واهتماماتها ومسار حياتها، وحتى في نظرتها إلى انتمائها العرقي وإلى موقعها في نسيج مجتمع تضرب فيه العنصرية بجذور عريقة. فقائمة الشخصيات التي يوردها الكاتب تجمع، على سبيل المثال، بين عدد من رموز "حركة الحقوق المدنية" التي سعت في سنوات الستينات والسبعينات من القرن العشرين إلى التصدي للتمييز العنصري وإلى إقرار المساواة بين الأفراد كافةً بغض النظر عن لونهم أو أصلهم العرقي، مثل مالكولم إكس (1925-1965) ومارتن لوثر كينج (1929-1968) ووليام إدوارد دي بوا (1868-1963)، وكذلك بعض الكُتَّاب الذين لعبوا دوراً أساسياً في إبراز الهوية الثقافية الخاصة للأمريكيين السود وفي اكتساب الاعتراف العام بها، مثل الشاعر لانجستون هيوز (1902-1967) والكاتب المسرحي أميري بركة (1934- )، جنباً إلى جنب مع عدد من المغنين والممثلين والموسيقيين والرياضيين الذين حققوا "إنجازات" ملموسة بمعايير المجتمع الأمريكي نقلتهم من الموقع الهامشي التقليدي للأمريكيين السود إلى موقع مرموق في التيار الأساسي للحياة الأمريكية، من أمثال برينس وسيدني بواتييه ومايكل جاكسون وجيمي هندريكس وسلاي ستون.

وبالرغم من أن هذا المنظور الأوسع للعناصر السياسية والثقافية هو أحد السمات التي تجعل كتاب "ماذا يعني أوباما" كتاباً متميزاً وسط سيل الكتب التي تعرضت لنتائج الانتخابات الأمريكية، فإنه لا يخلو من قصور في الوقت نفسه. فليس من المقنع أن تُوضع في سلة واحدة كل هذه الشخصيات المتباينة، بل والمتناقضة أحياناً، لمجرد أنها تتفق مع بعضها البعض ومع باراك أوباما في لون البشرة. ويكفي إلقاء نظرة سريعة على سيرة بعض هذه الشخصيات لإدراك البون الشاسع الذي يفصل بينها.

فقد وقف دعاة الحقوق المدنية، والكُتَّاب المدافعون عن الهوية الثقافية المغايرة للأمريكيين السود، ضد النزعة العنصرية بكل تجلياتها، ومن ثم تحدوا ببسالة إحدى الأساطير المحورية التي شُيِّدت على أساسها علاقات المجتمع الأمريكي ونظمه السياسية والاجتماعية، ألا وهي أسطورة "التفرق العرقي للرجل الأبيض البروتستانتي المنحدر من أصل أنجلوساكسوني" (والذي يُشار إليه في بعض الأحيان بكلمة "واسب" WASP، وهي اختصار الأحرف الأولى من عبارة White Anglo-Saxon Protestant). وكان كفاح هؤلاء الدعاة والكُتَّاب على المستويين السياسي والثقافي يسعى بدرجات متفاوتة وبأشكال شتى إلى إحداث تغيير جوهري في عدد من العناصر الأساسية المُكوِّنة للمجتمع الأمريكي وفيما نجم عنها من مواقف اجتماعية وصور نمطية وأحكام متحيِّزة. وكان اغتيال اثنين من رموز هذا الكفاح الشاق، وهما مالكولم إكس (في 21 فبراير/شباط 1965) ومارتن لوثر كينج (في 4 إبريل/نيسان 1968)، دليلاً دامياً على استحالة التصالح أو التوفيق بين تطلعات الداعين إلى المساواة بين البشر بغض النظر عن لونهم أو عِرقهم أو أصلهم أو لغتهم، من جهة، وتوجهات القابضين على مراكز السلطة والنفوذ في مجتمع يقوم على التمييز والإقصاء وادعاء التفوق، من جهة أخرى.

وعلى النقيض من ذلك، فإن كثيراً من "مشاهير" الأمريكيين السود الذين حققوا "إنجازات" في المجالات الفنية أو الرياضية أو حتى السياسية قد قبلوا، في حقيقة الأمر، بالشروط التي تفرضها طبيعة هذا المجتمع وسعوا إلى التكيِّف والتعايش، وليس إلى الصدام، مع واقع التمييز وأساطير التفوق، حتى يتسنى لهم أن يجدوا لأنفسهم مكاناً في التيار الأساسي للحياة الأمريكية. بل يمكن القول إن تلك "الإنجازات" التي حققوها ترجع، في جانب منها على الأقل، إلى ذلك القبول والنزوع إلى تجنب المواجهة. وليس أدل على ذلك، مثلاً، من حالة كل من كولن باول، وزير الخارجية الأمريكية (2001-2005) خلال فترة الرئاسة الأولى للرئيس السابق جورج بوش والذي شغل أيضاً عدة مناصب عسكرية وأمنية رفيعة في إدارات أمريكية متعاقبة، وكونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية (2005-2009) خلال فترة الرئاسة الثانية للرئيس السابق جورج بوش. فقد لعب الاثنان، على الرغم من انتمائهما إلى الأمريكيين السود، دوراً بارزاً في خدمة مصالح المؤسسة العسكرية الأمريكية، بوجه خاص، ومصالح السياسة الأمريكية الرسمية، بوجه عام، في الهيمنة وتوسيع مناطق النفوذ في شتى أنحاء العالم، وهي مصالح لم تكن في جميع الأحوال متوافقة مع مصالح جموع الأمريكيين السود الذين استُخدم كثيرون منهم كوقود في أتون الحروب المدمرة التي أشعلتها الإدارة الأمريكية السابقة.

لكن الحالة التي تُظهر بشكل أكثر وضوحاً مدى التناقض بين الشخصيات التي يستشهد بها جباري عاصم في كتابه هي حالة المغني مايكل جاكسون، الذي لم يكتف بقبول الأمر الواقع والتكيِّف معه بل تجاوز ذلك إلى رفض انتمائه العرقي والخروج تماماً من أسر الوشائج التي تربطه بأصوله العرقية، بما في ذلك لون البشرة. ولعل سعيه المتواصل إلى تغيير لون بشرته، من خلال عدد كبير من العمليات الجراحية، هو تعبير عن هذا الرفض، الذي يرى فيه البعض تجسيداً لنزعة "كراهية الذات". وبعيداً عن هذا الوصف الذي قد يبدو قاسياً، فإن أية مقارنة بين مايكل جاكسون، المتمرد على انتمائه العرقي، ولانجستون هيوز، الساعي إلى تأكيد هذا الانتماء واحترامه وقبوله، لن تكون بالتأكيد في صالح الفكرة الأساسية التي يبني عليها مؤلف الكتاب تحليله للمقدمات التي أدت إلى فوز باراك أوباما.

وقد كان هذا الخلط بين شخصيات ذات توجهات متناقضة مثار انتقادات شديدة من بعض المعلقين الذين تناولوا الكتاب، ومنهم مثلاً ريتشارد ثومبسون فورد، أستاذ القانون في جامعة ستانفورد، والذي وصف هذا الاستشهاد بعدد من "نجوم" الفن والرياضة، بسبب لون بشرتهم ليس إلا، بأنه من أضعف أجزاء الكتاب وأقلها إقناعاً (صحيفة "واشنطن بوست"، 18 يناير/كانون الثاني 2009).

وبالإضافة إلى ذلك، ينطوي تحليل جباري عاصم على قصور آخر لا يقل جسامةً عن القصور المتمثل في جمع هذا الشتات المتنافر من الشخصيات وإغفال الفروق بينها. فالتركيز على الشخصيات "السوداء" دون غيرها يصوِّر انتصار أوباما وكأنه فصل في مسار تاريخي مقصور على الأمريكيين السود ومنبتِّ الصلة بالمسار الأشمل لتاريخ الولايات المتحدة وتاريخ العالم بصفة عامة. وتتجاهل هذه النظرة الأحادية الجانب كثيراً من العناصر الأخرى التي كان لها أبلغ الأثر في التطورات التي قادت أوباما في نهاية المطاف إلى سدة الحكم، بل وربما كان أثرها أكثر حسماً من أثر العنصر المتمثل في "النجاحات" التي حققتها شخصيات من الأمريكيين السود.
فعلى سبيل المثال، يتجاهل الكتاب القواعد التي تحكم النظام السياسي الأمريكي بأكمله، والانتخابات الرئاسية على وجه الخصوص، وهي قواعد لا يملك باراك أوباما، كما لم يملك سابقوه من الرؤساء الأمريكيين، الخروج عن إطارها أو عدم الاعتداد بشروطها. فالقول بأن أصوات الأمريكيين السود لعبت دوراً مهماً في فوز أوباما هو قول صحيح بشكل عام، إلا إنه لا يكفي لتفسير جميع جوانب هذا الفوز، ولا للرد على تساؤلات من قبيل: لماذا نجحت هذه الأصوات في تحقيق هدفها في حالة أوباما ولم تنجح من قبل في حالة القس الأسود جيسي جاكسون في عامي 1984 و1988؟ وهل كان بوسع أوباما أن يحقق هذا الفوز لو لم يكن مرشحاً عن أحد الحزبين الرئيسيين اللذين يحتكران جميع مفاتيح العملية الانتخابية في الولايات المتحدة تقريباً؟

من الواضح أن حصر أسباب الفوز في الإطار الضيق لإسهامات الأمريكيين السود، بغض النظر عن قيمتها، لا يمكن أن يقدم إجابات شافية لهذا النوع من الأسئلة، التي يستدعى التصدي لها التعرف بشكل أكثر عمقاً ودقة على طبيعة المؤسسات الأمريكية والنظام الحزبي وخصائص وتعقيدات العملية الانتخابية لمنصب الرئاسة، وحدود دور الناخب الفرد في ظل هذه المنظومة المتشابكة. ولعل من المفيد هنا العودة في عُجالة إلى الكتاب القيِّم لخبيرة الشؤون الأمريكية د. منار الشوربجي، الذي صدر في القاهرة عام 2008 تحت عنوان: "كيف يُنتخب الرئيس الأمريكي: قيود وتعقيدات.. وأشياء أخرى"، والتأكيد مجدداً على بعض النقاط التي لا غنى عنها لكل من يتعرض لانتخابات الرئاسة الأمريكية، بوجه عام، ولانتخابات عام 2008 التي أتت بأوباما، بوجه خاص.

فالكاتبة تستهل كتابها بالتأكيد على أنه:

"من الصحيح أن الولايات المتحدة تأتي في مرتبة متقدمة من حيث تقييم الديمقراطية المؤسسية بها، إلا إنه ليس صحيحاً على الإطلاق أن الشيء نفسه يَصدُق على العملية الانتخابية فيها".

واستناداً إلى تحليل تاريخي وقانوني لنظام الانتخابات الأمريكية ولشواهد عملية من نتائج الانتخابات الأمريكية على مدى عقود، ترفض الكاتبة الفكرة الشائعة بأن انتخاب الرئيس يعتمد بالأساس على أصوات الناخبين الأفراد، فتقول:

"ليس صحيحاً أن الناخب الأمريكي هو الفاعل الرئيسي الذي يحدد من يتولى منصب الرئاسة الأمريكية، فدور الناخب في النظام السياسي الأمريكي محكوم بقيود عدَّة تُحجِّم الدور الذي يلعبه، بل وتفرغه من محتواه أصلاً في بعض الأحيان".

وتخلص د. منار الشوربجي إلى نتيجة مؤداها أن انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة هي انتخابات ذات طابع نخبوي محافظ تحيد في كثير من الأحيان عن مبادئ أساسية تطبقها أغلب دول العالم، مثل الاقتراع السري المباشر واحتساب صوت واحد لكل مواطن، وغير ذلك من المبادئ التي لا يكفلها نظام المجمع الانتخابي بتعقيداته ومثالبه التي تجلت بصورة واضحة في انتخابات عام 2000.

ومن الضروري أن تُوضع هذه القواعد الحاكمة للانتخابات الأمريكية في الحسبان عند تحليل أسباب النصر الذي حققه أوباما، لكي لا ينزلق التحليل إلى التقليل من أثر عناصر أساسية أو الإعلاء من أثر عناصر أخرى ثانوية أو أقل أهمية.

وبالمثل، يتجاهل كتاب "ماذا يعني أوباما" عنصراً آخر من العناصر الحاسمة في العملية الانتخابية، ومن ثم في اختيار الرئيس الأمريكي، ألا وهو دور الاحتكارات والشركات الكبرى وجماعات المصالح والمؤسسات الإعلامية، على اختلاف توجهاتها ومصالحها، في تمويل وتسويق الحملات الانتخابية للمرشحين. فمن الصحيح أن أوباما قد نجح في اجتذاب عدد غير مسبوق من صغار المتبرعين، الذين تقل قيمة مساهمتهم عن 200 دولار، إذ شكلت نسبة التبرعات الصغيرة هذه ما يقرب من نصف مجموع التبرعات التي حصل عليها أوباما، والتي بلغت نحو 400 مليون دولار. ولكن الصحيح أيضاً أن مؤسسات المال والنفوذ قد ساهمت بأكثر قليلاً من نصف هذه التبرعات. وهنا لابد أن يثور التساؤل: لماذا أقبلت هذه المؤسسات على تمويل مرشح مثل أوباما؟ وهل يستطيع الرئيس، الذي يدين بجانب كبير من فوزه إلى أموال هذه المؤسسات، أن يتغاضى عن مصالحها فيما سوف يتخذه من قرارات أو يطبقه من سياسات مستقبلاً؟

لا يتطرق كتاب جباري عاصم للرد على هذا التساؤل وتساؤلات أخرى كثيرة، لكنه يبدو متفائلاً بآفاق المستقبل في ظل رئاسة أوباما، وخاصةً فيما يتعلق بأوضاع الأمريكيين السود وغيرهم من الفئات المُهمَّشة وبالعلاقات بين الأعراق المختلفة في المجتمع الأمريكي. فعلى سبيل المثال، يرى الكاتب أن الخيارات والممارسات السياسية للأمريكيين السود تمر بمرحلة تحول صحي نحو مرحلة أكثر نضجاً تبتعد بهم عن المواجهات التي تحتمها مفاهيم الصدام بين الثقافات، ومن شأن هذا التحول أن يجعل الأمريكيين بشتى أعراقهم أكثر تقبلاً للدور الذي يلعبه السود في مواقع السلطة. إلا إنه لا يفْرط في التفاؤل، فيؤكد في وضوح أن:

"صعود أوباما لا يعني نهاية القهر، ولكنه يفنِّد المقولة الخاطئة التي تذهب إلى أن جميع الأمريكيين السود يخضعون للقهر، أو أنهم يتعرضون للقهر بسبب لونهم الأسود، على وجه الخصوص".

وما زال الوقت مبكراً، بطبيعة الحال، للتحقق من صحة هذا التفاؤل، ولكن المؤكد أن الجدل حول مغزى انتصار أوباما سوف يستمر لفترة طويلة.



#محمد_هشام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يومٌ آخر.. غيابٌ آخر
- دولٌ أم مَتَاع ؟ (1) ليس إلا...
- دولٌ أم مَتَاع ؟ (2) ولا شيء أكثر
- تعليق على مقال الأستاذ/ جاسم المطير بعنوان -إلى المثقفين الم ...


المزيد.....




- الأكثر ازدحاما..ماذا يعرقل حركة الطيران خلال عطلة عيد الشكر ...
- لن تصدق ما حدث للسائق.. شاهد شجرة عملاقة تسقط على سيارة وتسح ...
- مسؤول إسرائيلي يكشف عن آخر تطورات محادثات وقف إطلاق النار مع ...
- -حامل- منذ 15 شهراً، ما هي تفاصيل عمليات احتيال -معجزة- للحم ...
- خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
- الجيش الإسرائيلي يعلن تصفية مسؤولين في -حماس- شاركا في هجوم ...
- هل سمحت مصر لشركة مراهنات كبرى بالعمل في البلاد؟
- فيضانات تضرب جزيرة سومطرة الإندونيسية ورجال الإنقاذ ينتشلون ...
- ليتوانيا تبحث في فرضية -العمل الإرهابي- بعد تحطم طائرة الشحن ...
- محللة استخبارات عسكرية أمريكية: نحن على سلم التصعيد نحو حرب ...


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد هشام - باراك أوباما: دلالات النصر وأعباء المستقبل ... عرض كتاب -ماذا يعني أوباما لثقافتنا وسياستنا ومستقبلنا-