هيثم جبار عباس
شاعر ، كاتب، صحفي
(Haitham Jabbar Abbas)
الحوار المتمدن-العدد: 2834 - 2009 / 11 / 19 - 20:40
المحور:
الادب والفن
ضمن اصدارات اتحاد الادباء والكتاب العراقيين في البصرة وعلى نفقة شركة اسيا سيل للاتصالات صدرت المجموعة الشعرية الثانية للشاعر كريم جخيور الموسومة (الثعالب لاتقود الى الورد) و رغم قراءآتي العديدة لهذه المجموعة الا انني لا استطيع ان امسك ما يغيضني او يغيض الشاعر اذ مهما كثرت التداعيات والارهاصات من حواجب جمة بين المصّدر والمستلم (الشاعر والقارئ) فلا نستطيع ان ننكر وجود علاقة تكافئية بينهما , خصوصا بعدما اتضحت القراءة قراءة نخبوية لذا اصبحت آلية التوصيل من اكبر العوائق في الادب الحديث ليس على نطاق الشعر فحسب , الا ان الشاعر كريم جخيور قد تجاوز كل هذه العقبات واستطاع ان يخترق قلوب قرائه قبل خروجه من السواد الاول , ناهيك عن الشهادات التي جاءت مهرولة اليه على لسان كبار الادباء فان فاضل ثامر اطلق على مجايليه من الشعراء ب(جيل كريم جخيور) كما كان قبله جيلا يدعى جيل حسين عبد اللطيف , وبما انني لا اعد نفسي ناقدا بل قارئا فلا بد ان اكتشف سر علاقتي بالنص , لماذا يشدني هذا النص دون غيره ؟ علما ان لكل قارئ شروطه وخصوصياته وآلياته التي يعمل عليها في تحديد مفهوم النص وهضمه . لذا سيكون اشتغالنا ثنائي يجتمع فيه النص والقارئ .
المفارقة والتوظيف
في مجموعة (الثعالب لا تقود الى الورد) توجد ثلاثة محاور (المفارقة , توظيف الموروث , التكرار اللفظي) وبدءا من العنوان أي ما هو وجه الترابط بين الثعالب هذه الحيوانات المبغضة بمكرها وخدعها وبين الورد وهو ارق انواع النبات , اذن بلا شك ان ثعالب كريم جخيور ليست حيوانات مفترسة ربما ثعالب بشرية او اسطورية وربما اخطر من الثعالب الحقيقية ونستنتج من هذا ان الورد ليس هو ذلك الورد المعروف , فلو حدقتنا مليا بقصيدة (الثعالب لاتقود الى الورد) نلاحظ من خلال مفرداتها (الخرافة , قباب الذهب , حجارة من سجيل , حروب طويلة , ملائكة غافرون) هذه المفردات ليس لها صلة بالورد او الثعالب لامن قريب ولا من بعيد اذن المفارقة اصبحت ثنائية الاولى في العنوان نفسه (عنوان القصيدة) والثانية بين النص والعنوان وسر ابداع كريم جخيور في هذه القصيدة هو حينما نقرأءها نجد فيها ظلم , خداع , كذب , خرافة , افئدة ملوك قاسية أي (الثعالب) بالمقابل تجد براءة , هزائم نقية , افراح مخذولة , أي (الورد ) .لقد استطاع كريم جخيور ان يرغم القارئ في البحث عن الثعالب والورد في نص لا علاقة له بالمفردتين ظاهريا ولا تستطيع الكشف عنه في قراءة واحدة وهذا عمل ابداعي في ذاته.
الثعالب لا تقود الى الورد
وليس لهذا الغبار تسمية اخرى
هكذا لا دليل لها
افراحي يخذلها الصفصاف ص48
ربما يسأل القارئ نفسه لم قال الشاعر عن الثعالب هكذا لا دليل لها ؟ وماذا يقصد بالدليل ؟ علينا قراءة النص من جديد , في بداية النص (هكذا تذبل الخرافة) أي خرافة ؟ (وهكذا تنحني قباب الذهب) وهل لقباب الذهب علاقة بالخرافة ؟ نعم هذا ما اكده الشاعر حيث اسفر في ضربته الشعرية حينما قال : (السماء اكثر هجيرا من افئدة الملوك) والكل يعلم كم هي قاسية افئدة الملوك الا ان السماء قد اصبحت اكثر هجيرا وسعيرا منها وحينما نرجع الى السماء نرجع للموروث الديني او الاسطوري او الخرافي اذ ان جميع الاديان بشتى اشكالها هي سماوية حتى البوذية والهندوسية والمجوسية ونعني بكلمة سماوية ان جميع هذه الاديان لديها وسيلة تقربها الى السماء اذن جميع اصل الديانات هي السماء وعند ذكر السماء يتبادر الى اذهاننا ذكر الموروث . لقد جسد الشاعر كريم جخيور نسيجه الفلسفي من خلال توظيفه للموروث هذه اجابة عن سوال الثعالب التي لادليل لها , اذن ثعالب كريم هي نتيجة مخاض موروث ديني او اسطوري خرافي لا دليل لها ,ففي هذه القصيدة محوران هما المفارقة وتوظيف الموروث .
هذا بالنسبة للعنوان وقصيدته , اما لو تصفحنا المجموعة من بدايتها نرى اول قصيدة هي (هبوط جماعي)
قال اهبطوا
فهبطنا
فرادى وزرافات
وتركنا فوق الجنة برآئـتـنا ص3
في هذه القصيدة منذ البداية وقبل الولوج بحروب الافاعي نستنشق رائحة الموروث الديني فهنالك هبوط فرادي وجماعات وهنالك اوزار وتفاح وافعى , الشي الجميل الذي استخدمه الشاعر في توظيفه للموروث انه خالف هذه الفكرة (فكرة هبوط آدم من الجنة) اذ كان هبوط الشاعر فرادى وجماعات ليس آدم وزوجه فقط وثمة نحيب للحوريات واكداس من التفاح ليست شجرة واحدة هذا التناص مع فكرة الموروث الديني جاء مخالفا من قبل الشاعر , اراد كريم جخيور ان ينسف هذه الفكرة فصاغ فكرة مخالفة لها باسلوب مضحك وبلغة شعرية خاضعة لجميع قواعد البلاغة , اذ جعل الجنة مليئة بالحوريات العاشقات لفحولهن وعند الهبوط اخذن يولولن ويبكن عليهم والظريف في ذلك ان الشاعر جمع بين كلمتي (الاسرة ونحيب الحوريات) في جملة واحدة وكأن الحوريات النادبات يبكن اللذة اوالمتعة التي كانت تتأوه فوق الاسرة .
تركنا قصائدنا / وعلى الاسرة تركنا نحيب الحوريات
وهبطنا / دونما سلالم وبلا مظلات /تسحبنا اوزارنا ص3
كل من يخوض بقراءة مجموعة (الثعالب لاتقود الى الورد) يتوجس هنالك علاقة باهتة او شبه منتهية بين الشاعر ومفردة (السماء) من خلال بعض المفردات التي تتغلغل في احشاء قصائده فمثلا في قصيدة الثعالب لاتقود الى الورد يقول (السماء اكثر هجيرا من افئدة الملوك) ص47 , وفي قصيدة المعاصي تجمعنا معا مباركة يقول (السماء تبلل احلامنا بنهارات صاخبة) ص29 , وقد صب جام غضبه على السماء في قصيدة (شبهة) حيث قال :
السماء التي نطيل تحتها الوقوف
تصطفي الملوك وتمدهم بالخيول
وترمينا بسوءاتهم
.........
السماء التي نحب
تأخذ من اعمارنا
وتبارك اعمارهم
تقطع من ارزاقنا
وتربي خزائنهم ص60
هذه المفردات والكلمات التي صاغها الشاعر باسلوبه الخاص لها دلالات اعتراضية على فكرة الموروث جملة وتفصيلا , لقد استطاع الشاعر كريم جخيور ان يطلق العنان لافكاره من خلال اسئلته عن الرزق والعمر (تقطع من ارزاقنا , تأخذ من اعمارنا) , نحن نعرف جيدا ان للموروث حرمة مقدسة في مجتمعاتنا العربية والاسلامية وكثير من الناس من يؤمن بتجريد الفكر من أي عوالق او شوائب مناطة به ولكن لايستطيع ان يبوح بهذا التجريد او هذه الحرية والسبب هو الخضوع لعدة اعراف وقوانين اجتماعية او دينية او قبلية الا ان كريم جخيور قد احتج وكان احتجاجه سافرا عن حرية فكره غير المقيدة باي اواصر دينية او اسطورية تتسرب الينا من قبل الموروث .
لقد وظف كريم جخيور الموروث في عدة قصائد منها قصيدة (المعاصي تجمعنا معا مباركة) حيث ان المعصية لم تكن مباركة في يوم من الايام فالمفارقة والمخالفة لفكرة المعصية بانت منذ العنوان , انا لا اريد ان اغوص بهذه القصيدة بقدر ما اريد ان اقول شيئا عن الشاعر كريم جخيور , فربما خروج كريم و تطاوله واحتجاجه على افكار الموروث جلبت له بعض الندم فمن الصعب جدا ان يتخلى الانسان عن جميع موروثاته حتى لو كانت ميثولوجية بل حتى لو كان محصنا فلسفيا فقد سئل (جاك دريدا) في احدى حوارياته هل تؤمن بالله ؟ فاجاب ( في داخلي يوجد على الارجح طفل مازال يؤمن بالله , ولكن ذلك ليس شأن الفيلسوف الكهل) اذن ربما الشاعر كريم جخيور اخذه الحنين الى اصله فهو الولد العاق او العبد الآبق اذ اخذته نزوة طيش فهرب من سيده وما ان توارى الليل حتى عاد الى مولاه نادما وهذا ما اشار اليه في مطلع قصيدته (ذكرى اندلاق عام 1959)
عاليا امجد السماء
تأخذ باستاري
تمسدني باللطف ص31
هذا الحنين والرجوع الى السماء بعدما كان محتجا وثائرا عليها ربما يضع اشارة استفهام في المنجز الشعري , كان من الجدير بالشاعر ان يحذف هذا المطلع لئلا يكون ثمة تناقض في افكار الشاعر.
التكرار اللفظي
تتميز مجموعة الثعالب لاتقود الى الورد بتكرار لفظي في اغلب قصائدها , والتكرار هو اسلوب من اساليب التوكيد والتوكيد اللفظي انواع عدة منها الاسم والفعل فالجملة سواء كانت فعلية او اسمية . في قصيدة (المعاصي تجمعنا معا مباركة) استخدم الشاعر الاسم (مباركة ) 16 مرة , وفي قصيدة (اندلاق عام 1959) استخدم الفعل (امجد) 15 مرة , وفي قصيدة (تفاحة القلب) استخدم الجملة (وانت البرئ الوحيد هنا) 7 مرات , وهنالك قصائد وردت بها مفردات مكررة عدة مرات ؟ . هنا يأتي دور القارئ اما هذا الكم من المفردات المكررة , يجب على كل قارئ او ناقد ان يجيب عن الاسئلة التي يطرحها النص او يقوم باستخراج الاسئلة من باطن النص فيجيب عليها . اذن ماذا اراد الشاعر بهذا التوكيد وهذا التكرار ؟ هل يريد ان يملي قصائده باي شي كان حتى لو بتكرار كلماتها ؟ طبعا لا فلو اراد الشاعر ذلك لوجدنا في نصوصه فجوات تخترق نسيج وحدة النص , فاذا حذف التكرار من أي نص ولم يؤثرعلى وحدة بناء النص فهو حشو وعدمه افضل من وجوده ولكن اذا كان حذفه يترك فراغا او نقصا في وحدة النص فهو يأتي كمتمم لبناء النص . فهل ان تكرار كريم جخيور عفويا تلقائيا ام تكلفي ؟ .
اولا يجب ان نعرف ان التكرار جاء من الاصل ولكنه مختلف عنه في العمل اذ يقوم بوظيفة غير وظيفة الاصل , فالشاعر حينما يريد ان يربط جمل النص بنسيج واحد لابد من وجود مفردة الاصل لتكتمل وحدة النص , اما المفردة المكررة تأتي لتملئ الفراغ الذي نشأ نتيجة غياب الاصل , فهل نستطيع ان نتخلى عن هذه المفردات المكررة ؟ بالتأكيد لانستطيع لانها لم تأت عبئا على النص فلو اخذنا أي مقطع من قصيدة (تفاحة القلب) بكلماتها التي تنساب رقة وحنين ابوي
مازال قميصك سيدي
في البئر
تبكيه النادبات
وتتبرأ منه الكواكب
ولانه ذئب
انا اشك
فحينما نقف عند هذا الحد في نهاية كل مقطع من مقاطع هذه القصيدة ندرك ثمة نقص لايمكن اتمامه الا بوجود جملة التوكيد المكررة (وانت البرئ الوحيد هنا) . اعتقد ان الشاعر كريم جخيور هو البرئ الوحيد من مطبات التكرار اللفظي الذي دائما ما يستخدمه الشعراء حشوا في قصائدهم ونقصا في شاعريتهم التي لا يتممها تكرار لفظي ولا معنوي ولا أي شي. اذن بلا شك ان التكرار الذي استخدمه الشاعر كريم جخيور لم يكن تكلفي بل جاء عفويا تلقائيا حتى موسيقاه الداخلية جاءت واضحة في بناء النص . فكريم جخيور صوت مميز كما ذكره مالك المطلبي حينما استعرض مجموعته الشعرية الثعالب لا تقود الى الورد في مجلة الاسبوعية قال هو احد الاصوات المميزة لا في فضاء البصرة الشعري بل في العراق .
#هيثم_جبار_عباس (هاشتاغ)
Haitham_Jabbar_Abbas#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟