|
حزيران 1967 وما بعده تفاعلات الحرب والسلطة
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 861 - 2004 / 6 / 11 - 04:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
طرحت هزيمة حزيران على العرب الخيار الذي تطرحه عادة الهزائم الكبرى: إذا شئنا الحفاظ على أهدافنا فلا بد من مراجعة جذرية لتنظيماتنا الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية التي احتضنت تلك الأهداف وسوغت نفسها بها. فإذا لم نقم بهذه المراجعة وما قد تزكيه من تغييرات، فإننا نجازف بأن نخسر أهدافنا مقابل ارتداد التنظيمات المذكورة إلى هياكل وأجهزة سلطة مادية بلا معنى، بل مضادة لكل للمعنى. بعبارة أخرى لا بد من دفع ثمن الهزيمة من جيب النظم السياسية والاجتماعية والإيديولوجية أو من جيب الأهداف الوطنية. وهذا لأن الخيار المطروح هو بين الحفاظ على استمرارية على مستوى تلك النظم أو على مستوى الأهداف. ف"الكتلة التاريخية" القومية المكونة من وحدة النظام والأهداف، السلطة والمعنى، أو ماسمي فيما بعد بمفعول رجعي "المشروع القومي" العربي، قد انفكت تحت وطأة الهزيمة ولم يعد يمكن الحفاظ على مكونيها معا. وقد قاد تجاهل ضرورة المراجعة إلى انقلاب وظيفي محتوم تمثل في التآكل العملي للأهداف التحررية والتغييرية المعلنة للنظام من جهة، وتحولها من جهة أخرى إلى إيديولوجية منفصلة عن الواقع وعن القوى الاجتماعية الحية في الوقت نفسه، وظيفتها ضمان شرعية النظام المهزوم ووحدة النخبة الحاكمة فيه. فالنظام لم يلبث أن أصبح هدفا أو الهدف بحد ذاته بينما أمست أهداف التحرر والوحدة والتنمية والعدالة الاجتماعية عقيدته المشرعة. وبمنطق الأشياء تقود هذه الوظيفة الجديدة إلى عزل النخبة الحاكمة الموحدة عن الجمهور وعزل الجمهور عن شؤونه العامة وعن قضايا السلطة والدولة والسياسة. فإرادة عدم التضحية بأي شيئ رغم الهزيمة، ومحاولة الفوز بالحسنيين، أي السلطة والقيم التحررية معا، يشكلان نظاما من الغش الذي لا يمكن أن يكون أرضية إجماع وطني. فالناس لا يمكن أن يجمعوا على باطل حتى لو لم يكن الاجماع على حق مضمونا. وعلى كل حال أخذ تفسخ نظام الغش أو الباطل هذا يعبر عن نفسه بطرق انفجارية قد لا يكون سقوط بغداد غير حلقة من حلقاتها. حروب وظيفية منذ عام 1967 أخذ يتضح أكثر فأكثر أن هناك طرفا واحدا يكسب الحرب هو الطرف الإسرائيلي، وأن من مصلحة العرب تجنب حرب الجيوش. لكن غطى على هذه الحقيقة أمور ثلاثة: الأول هو النقاشات المضببة بالإيديولوجية حول حرب التحرير الشعبية التي كانت راية قتال ومصدر شرعية تنظيمات وأحيانا أنظمة متنوعة، أي فرصة لتكون مراتب وقيادات وسلطات ونفوذ، وفي النهاية مال سائل (اغتيل زهير محسن، رئيس منظمة الصاعقة، في أحد فنادق مدينة نيس الفرنسية أواخر السبعينات). الثاني هو إخضاع الصراع العربي الإسرائيلي لمنطق الحرب الباردة واستدراجه أو اجتذابه بحكم قوانين علم الفلك السياسي، إن جاز التعبير، نحو صراع القطبين المسيطرين الذين لم يكن الصراع المباشر بينهما ممكنا. ورغم أن السوفييت أنفسهم مالوا إلى التهدئة فقد كان منطق إيديولوجيتهم الشيوعية القائم على فكرة التناقض التناحري مع المعسكر الرأسمالي مناقضاً لمنطوق التهدئة الذي كانت تنصح به تحليلاتهم السياسية. وقد تغلب المنطق الضمني للإيديولوجية لأن الأنظمة العربية بدورها كانت محتاجة إلى فكرة المواجهة والحرب لضمان مركزة السلطة وسيطرة النخب الجديدة التي لا تستند إلى مواقع اجتماعية تقليدية ولا إلى عقيدة دينية. ولعله لذلك تشبه الإيديولوجية العربية في ذلك الوقت (والإسلامية اليوم) الإيديولوجية الشيوعية من حيث علاقة كل منها بمعتنقيها ونمط النظام الاجتماعي الذي تزكيه، وكونها بخاصة "عقائد علمية" تَجُبُّ غيرها. وهكذا فإن الأمر الثالث هو أن فكرة الحرب والمواجهة ولوازمها التنظيمية والقانونية والإيديولوجية باتت محور شرعية الأنظمة المستمرة وأداتها المفضلة في التعبئة الاجتماعية والحد من فرص الانشقاق السياسي، فضلا عن تضييق القاعدة الاجتماعية والثقافية للاعتراض عليها. بعبارة أخرى باتت الحرب وظيفة اجتماعية ضرورية لاستمرار نمط محدد من ممارسة السلطة. ونعني الحرب ذاتها وليس إيديولوجية الحرب وحدها مهما بدا ذلك غير معقول وغير عقلاني. فكما قلنا بات النظام أو السلطة هو الهدف، والحرب وعقيدة الحرب وأجواء الحرب تؤهل الظروف المناسبة لتحكم السلطة بالعملية الاجتماعية، وجعل الاعتراض عليها خروجا على الوطن أو خيانة له. وهكذا تتغلب وظيفة الحرب كأداة للضبط الاجتماعي والتحكم السياسي على الحرب كنشاط هادف لتحقيق غاية محددة ضد عدو واضح. وبالطبع بقدر ما تصير الحرب وظيفة سياسية لبنية سلطة محددة فإنها تفقد هدفها التحريري المعلن. وأكثر من ذلك فإنها تقود بصورة محتومة إلى الهزيمة لأنها حرب وظيفية، يخضع النصر فيها لمعيار مختلف: استمرار النظام أو بنية السلطة الامتيازية. وهذا أحد وجوه الانقلاب الوظيفي المشار إليه. وفيما عدا تغير رهان الحرب ومعيار النصر فيها فإن من العواقب المتوقعة لهذا الانقلاب نفسه تغير العدو وانتقال خطوط الجبهات من الخارج إلى الداخل، وبالتالي تشويش مفاهيم الداخل والخارج، ومن ثم مفاهيم الدولة والوطن. ففي الأصل ترتسم خطوط الجبهة للفصل بين الخارج والداخل، أو لمنع الخارج وقواه الغريبة من التدفق إلى الداخل وتشويش نظامه. فإذا تحولت خطوط الجبهة نحو الداخل قامت الحالة التي تدعى الحرب الأهلية وساد التشوش القيمي واختلطت الحدود وفقد المجتمع داخليته، بل واجتماعيته. ومثل هذا خبرته، بدرجات متفاوتة، أكثرية الدول العربية في الربع الأخير من القرن العشرين. وكان من نتائج حرب تشرين 1973 أن أكدت استحالة الحرب، وجسمت بصورة أكبر من ذي قبل عسر الخيار العربي بين استمرارية السلطة واستمرارية الهدف، أو استمرارية النظام واستمرارية المعنى. وإذ لم يسع أحد جديا لاستخلاص العبرة (ياسين الحافظ الذي مرض بهزيمة حزيران ومات بها استثناء مهم)، وإذ فكر النظام في تلك الحرب من جهة واحدة هي دورها في تدعيم شرعيته، فإن منطق دوام النظام تغلّب مرة أخرى على منطق متابعة الأهداف. وهكذا شيئا فشيئا تحولت الأهداف إلى إيديولوجية مفصولة عن الوقائع ومفصولة عن الناس بقدر ما هي متصلة بالسلطة ومطالبها وحدها. وهكذا أيضا كانت الحرب الأهلية العربية متعددة الأساليب والساحات تعبيرا عن الفشل في الرد على هزيمة حزيران والعجز عن بناء كتلة تاريخية جديدة على أسس جديدة. ومن الطبيعي بعد انهيار الكتلة التاريخية السابقة أن ينهار الإجماع القيمي الذي قامت عليه، أي المشروع القومي. إذ لم تكن "الأمة العربية" ولا "العدو الإسرائيلي" موجودين خارج هذا الإجماع الذي لم يتمأسس ولم يكد يتعدى الدائرة القيمية، ولم يعمر أكثر من عقد ونصف من السنين. وإذا كان حتى اليوم يذكر كثيرا ويفتقد بكثير من الحنين فلأن أحدا لم يستطع أن يملأ الفراغ الذي خلفه سقوطه. بعد تلعثم "العروبة الفصيحة" في حزيران أخذت السيادة تدين لبابلية شاملة لا تبين عن أي معنى أو هدف، ووجد النظام نفسه مضطرا لفعل ما يناسبه تماما، أعني التوسع في وسائل القسر وصناعة الكاريزما لمنع الأوضاع البابلية من انفلات مدمر. وهكذا أمسى السلطان الذي يجمع بين الاستبداد والشخصنة حلا؛ وهنا المشكلة الكبرى.
رداء المجنون وكما نرى فإن اصل الأزمة العربية لا يعود إلى الهزيمة بحد ذاتها بل إلى نوعية الرد على الهزيمة. فإذا جاز لنا ان نسمي الزمن المنصرم بين حزيران 1967 وسقوط بغداد باسم القوة المؤثرة فيه فقد نسميه زمن السلطة. وقد لا نضيف شيئا إن قلنا إنها سلطة ضد المعنى وغير شرعية. لماذا إذن تحتل هزيمة حزيران 1967 في الوعي العربي المعاصر دور الخطيئة الأصلية في اللاهوت المسيحي؟ المسألة في وجه أساسي منها مسألة جيلية. فمن يكتبون ويديرون منابر الكتابة والنشر هم أناس تلقوا رضة الهزيمة في طور يفاعتهم أو شبابهم. ومن الأمور الإنسانية المفهومة أن يميل الناس إلى تعميم تجاربهم وخبراتهم على التاريخ. ثم إن "المشروع القومي" الذي سقط في حزيران خلف فراغا معنويا واستراتيجيا وسياسيا لم يُملأ ولا يبدو أنه على وشك أن يملأ اليوم. ولم تساعد الأنظمة ما بعد الحزيرانية على نسيان الهزيمة لأنها ظلت أنظمة حربية ولم تحاول بناء ذاكرة مدنية، وإن تكن حروبها من النوع الوظيفي كما قلنا. ولا شك بالطبع أن إسرائيل والولايات المتحدة لم تساعدانا ايضا على الشفاء من تلك الرضة عبر تنشيطهما المستمر لذاكرة الهزيمة ومنعكساتها الشرطية. ليس هناك أخطاء أصلية في التاريخ، لكننا نميل إلى أن "الخطيئة التاريخية" التي كانت أصلا لحزيران وما بعده وقعت قبل الهزيمة بخمسين عاما. ففي ثنايا الحرب العالمية الأولى، وعبر هيمنة القوى العالمية المسيطرة أنذاك على لحظة حاسمة، لحظة النشوء، في تاريخ تكون المشرق العربي الحديث، أمكن لهذه القوى أن تلبس جسد المشرق حداثة سياسية وجغرافية- سياسية أشبه برداء المجنون. هذه الرداء مصنوع من ثلاثة وقائع مركبة مديدة هي الدولة الوظيفية العربية التي تكونت عند انهيار السلطنة العثمانية، ثم تفجر البترول في العراق والجزيرة العربية بين الحربين العالميتين، وأخيرا دولة الحرب المستمرة: إسرائيل. وهكذا خلق عقل الغرب السياسي جنون الشرق العربي. وهكذا ايضا باتت كل حركة من المجنون للتحرر من الرداء الذي يقيده تثير حربا جديدة تؤذيه أكثر وتزيد من جنونه. هذا بكل بساطة وضع منتج للحرب الدائمة التي لا تفضي لأي سلام. كان حزيران 1967 نهاية فاجعة للمحاولة الوحيدة لخلع رداء المجنون الذي بات اسمه فائق الشهرة: "الشرق الأوسط"، نهاية أيضا للاعتراض (الملتبس، وأحيانا المتناقض) على القدر الحربي للشرق العربي. ولعل سقوط بغداد تجديد لرداء المجنون، بقدر ما هو "تأمين" لإسرائيل والبترول وإعادة بناء الدولة الوظيفية على أسس جديدة.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أخطاء تطبيق في الماضي وانتخابات حرة في ...المستقبل
-
اضمن طريق للديمقراطية في العالم العربي -تغيير النظام- في ...
...
-
عرض كتاب -صور محطمة: نهضة حركة تحطيم الأيقونات النضالية في س
...
-
زمن المقالة وأزمة الثقافة
-
ما بعد القامشلي الشأن الكردي والنظام السياسي في سوريا
-
أسامة بن لادن، هيغل، وما بعد الحداثة
-
اعتقال طلاب الجامعة سياسة العزل السياسي والجيلي
-
بين عهدين: قضايا تحليل الانتقال السوري
-
-العقد الاجتماعي- البعثي وتناقضاته
-
نظام الاستثناء الشرق أوسطي
-
ثلاثة برامج قتل وفكرة عزلاء
-
اضطرابات الجزيرة ضرورة تجديد التفاهم الوطني السوري
-
سوريا أمام المنعطف مــن هنا إلى أيــــن؟
-
اعتصام دمشق فاعلون مترددون وإعلام يقيني
-
طبائع العمران وصناعة الواقع في الدولة الحزبية
-
في السنة الحادية والأربعين فصل حزب البعث عن الدولة ضمانة له
...
-
صـــراخ فـي لـيــل عــراقــي
-
سوريون ضد حالة الطوارئ!
-
هل سيكون 2004 عام التحول في سورية؟ عرض تقرير -التحديات السيا
...
-
سورية والتحديات الخارجية عرض لتقرير -مجموعة الأزمات الدولية-
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|