|
درس من أوباما فى مسئولية الدولة عن صحة أبنائها
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 2831 - 2009 / 11 / 16 - 16:59
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لست من المغرمين بـ "النموذج الأمريكى" أو المبهورين بكل ما هو أمريكى. لكن الأمر الغريب هو أن أولئك الذين يتعبدون فى محراب "ماما أمريكا" لا يستوردون لنا من بلاد العم سام إلا ما هو سيئ، بل ربما الأسوأ على الإطلاق. أما الأجمل والأذكى والأرقى فى الولايات المتحدة الأمريكية فلا علاقة لهم به من قريب أو بعيد. وعلى سبيل المثال نجدهم يعتبرون "توافق واشنطن" إنجيلهم و"مدرسة شيكاغو" محرابهم باعتبارهم منبر النيوليبرالية وأكثر طبعات الرأسمالية توحشا، ويقومون بالترجمة الحرفية لهذه "الأصولية الرأسمالية" الفجة ويحاولون فرضها علينا وغرسها على ضفاف النيل وإسباغ هالات "الحكمة" على سياسات "تقديس" عشوائية قوى السوق التى تسفر عنها، وهى السياسات التى كانت أحد أهم أسباب الأزمة المالية والاقتصادية التى ضربت الاقتصاد الأمريكى مؤخراً وجرت الاقتصاد العالمى وراءه إلى نفق الأزمة. هؤلاء أنفسهم صمتوا صمت القبور عندما تحدث الرئيس الأمريكى باراك أوباما عن الحاجة إلى إصلاح نظام الرعاية الصحية فى أمريكا، ثم عندما خاض معركة بالغة الضراوة – ولايزال – مع شركات التأمين الصحى والقوى الأكثر يمينية فى أمريكا. وتعالوا نبدأ القصة المسكوت عنها من أولها عندما طرح أوباما هذا الموضوع ووضعه كأولوية متقدمة فى برنامجه الانتخابى. وقتها قال الكثيرون إنه "كلام انتخابات" شأنه شأن "كلام الليل" المدهون بزبدة والذى "يسيح" بمجرد طلوع النهار، لكن الرجل كان يعنى ما يقول، فبعد أن أصبح رئيسا للولايات المتحدة أعاد فتح الملفات رغم التحذيرات والمخاوف قائلا إن "وسائل الإعلام تركز معظم اهتمامها على الأصوات العالية، لكن ما لم نسمعه هو أصوات الملايين من الأمريكيين الذين يكافحون كل يوم مع نظام غالباً ما يعمل لصالح شركات التأمين الصحى أكثر مما يعمل من أجلهم". ثم أتضح أن أوباما لم يكن يردد شعارات جوفاء، بل كان يتحدث عن ملايين من البشر، وعن أناس من لحم ودم، قابلهم واستمع إلى معاناتهم وعاش معهم، مثل "لورى هيشكوك" التى قابلها فى نيو هامبشاير، وهى سيدة أمريكية تحاول بدء مشروع خاص تتكسب منه لكن لأنها مصابة بفيروس الكبد "سى" – الذى يعانى منه ملايين المصريين لا يمكنها أن تجد شركة تأمين تغطى رعايتها الصحية. ومثل رجل أمريكى فقد التأمين الصحى أثناء تلقيه لعلاج كيميائى لان شركة التأمين اكتشفت أن لديه حصوات فى المرارة، التى لم يكن يعرف عنها شيئا عندما تقدم للحصول على البوليصة. ولأن علاجه تأخر بسبب هذه المناكفات مع الشركة .. فان الرجل المسكين مات!! وبسبب هذه المعايشة الحميمة للناس "العاديين" تحرك الرئيس الأمريكى بقوة من أجل تمرير مشروع إصلاح التأمين، ولم يتحرك هذا الهدف معلقاً فى الهواء بل حدد له برنامجا زمنياً "فى العام الحالى"، فشعارات الإصلاح تصبح بلا قيمة إذا لم تكن مقترنة بجداول زمنية محددة وعاجلة وإذا لم تكن مرتبطة بآليات محددة تضمن تنفيذها. لذلك نجد أنه اقترح أربع طرق توفر مزيداً من الأمان لجميع الأمريكيين: أولا: إذا لم يكن لديك تأمين صحى سيكون أمامك خيار التمتع بتغطية صحية عالية الجودة معقولة التكلفة لك ولأسرتك، تستمر معك سواء انتقلت من وظيفتك أو غيرتها أو فقدتها. ثانيا: سيضع الإصلاح تكاليف الرعاية الصحية الهائلة تحت السيطرة. ثالثا: من خلال تحسين فاعلية برنامج الصحة الفيدرالية "ميديكير" سيكون هناك ضمان لذهاب مزيد من أموال الضرائب مباشرة لكبار السن بدلا من إثراء شركات التأمين، وستقلل أعمال الاصلاح المقترحة من المبالغ التى يدفعها كبار السن لشراء الأدوية. رابعاً: سيقدم الإصلاح لكل أمريكى إجراءات حماية للمستهلك الأساسى التى تجعل شركات التأمين مسئولة فى النهاية، وأوضح أوباما – بهذا الصدد – أن بحثا قوميا أجرى عام 2007 أظهر أن شركات التأمين تمارس التمييز ضد ما يزيد على 12 مليون أمريكى فى الأعوام الثلاثة السابقة، لا لشىء إلا لأنهم كانوا يعانون من حالات مرضية أصيبوا بها فى أوقات سابقة، وكان تصرف الشركات إما برفض تغطية الشخص أو برفض تغطية مرض أو حالة معينة أو بطلب دفع مقابل مالى أعلى. وتعهد أوباما بوضع "نهاية لتلك الممارسات" حيث "سيمنع هذا البرنامج الاصلاحى شركات التأمين من رفض التغطية بسبب التاريخ الطبى للشخص. ولن يكون باستطاعتها وضع حد قسرى على قدر التغطية التى يمكن ان يتلقاها الشخص فى أى عام أو طول حياته.. ولن يفلس أى شخص فى أمريكا لأنه أصيب بالمرض". والأهم من ذلك ما قاله أوباما عن أنه "سيطلب من شركات التأمين تغطية الفحوص الروتينية والرعاية الوقائية والفحوص الدورية، مثل إجراء الأشعة على الثدى ومنظار القولون. فلا يوجد سبب لعدم اكتشافنا لأمراض مثل سرطان الثدى والبروستاتا مبكرا. إن ذلك أمر منطقى فهو ينقذ حياة الناس ويمكن أيضا أن يوفر المال". أما استمرار الوضع الحالى "فمن شأنه أن يفقد 14 ألف أمريكى تأمينهم الصحى يوميا، وأن تستمر تكاليف التأمين المميز فى الارتفاع، وان تستمر شركات التأمين فى التربح بالتمييز بين المرضى". وباختصار فان الإصلاح لنظام الرعاية الصحية الذى يقترحه أوباما يفيد 46 مليون أمريكى لا يتمتعون بالتأمين الصحى حاليا، ويفيد أيضا الأمريكيين الذين لديهم تأمين ما. ومن أجل إقناع الرأى العام الامريكى بهذا البرنامج الاصلاحى طاف أوباما بعدد من الولايات ليتحدث مع المواطنين وجمعيات المجتمع المدنى وكل من يعنيه الامر قبل أن يرسل مشروعه إلى الكونجرس. وشارك بنفسه فى مناظرات ساخنة مع خصومه الجمهوريين واليمينيين الأكثر تطرفا الذين نظموا مظاهرات ومسيرات احتجاجية للاعتراض على مشروعه بدعم من شركات التأمين الكبرى صاحبة المصلحة فى إجهاض المشروع. لكن هذا لم يوقف النقاش الجاد، والحاد، حتى وصل المشروع إلى مجلس النواب الأسبوع الماضى للتصويت لصالحه بفارق بسيط، بأغلبية 220 صوتا مقابل 215 صوتا. وستنتقل المعركة إلى مجلس الشيوخ حيث من المتوقع أن يكون الصراع أكثر حدة، وتعقيبا على ذلك قال أوباما: "بفضل العمل الجبار لمجلس النواب أصبحنا على بعد خطوتين فحسب من تحقيق إصلاح التأمين الصحى فى أمريكا". وهو ما يعتبره المراقبون أكبر تغيير فى السياسة الصحية منذ إنشاء برنامج "ميديكير" للرعاية الصحية للمسنين عام 1965 . هذا يحدث الآن فى أمريكا.. وقد يسأل سائل: ما شأننا نحن فى مصر بذلك؟! صحيح أن هناك اختلافات كبيرة بين أوضاع قوة عظمى مثل أمريكا وبلد ينتمى إلى العالم الثالث مثل مصر.. لكن الحديث بإسهاب عن هذا النموذج الأمريكى فى الرعاية الصحية حافل بالعديد من الدروس المفيدة لنا، ومن أهمها أن أمريكا هى أكبر بلد رأسمالى فى العالم، ومع ذلك فإن هذا لم يمنع رئيسها من مواجهة كبريات الشركات الرأسمالية العاملة فى مجال التأمين الصحى، والوقوف فى وجه أطماعها لأن صحة الناس مسألة "أمن قومى" ولان تحسين الرعاية الصحية "يشكل خطوة مهمة وضرورية نحو تقوية وتعزيز اقتصاد البلاد" بنص تعبير أوباما. فهناك دور للدولة لا يمكن التنازل عنه لشركات لا يهمها شىء سوى تكديس الأرباح والمكاسب. ونرجو من إخواننا الذين يعكفون على صياغة مشروع قانون جديد للتأمين الصحى فى مصر المحروسة أن يتأملوا أقوال، وأفعال، الرئيس الأمريكى أوباما الذى لا يمكن اتهامه بـ "الشمولية" أو "الانغلاق" .. وغير ذلك من الكلاشيهات البالية. أم أنهم يريدون أن يكونوا أكثر رأسمالية من رئيس أكبر دولة رأسمالية فى العالم؟!
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل يتساوى الشهيد الذى ضحى بحياته مع لاعب الكرة الذى سيتقاضى
...
-
إنها مجرد لعبة.. فلماذا كل هذا الصخب؟!
-
قطار -الخصخصة- وصل إلى تاريخ الحركة الوطنية!
-
كنيسة -الوطن-.. أم حائط مبكى -الطائفة-؟!
-
نريدها دولة -طبيعية-.. هل هذا كثير؟!
-
التهمة هي انتهاك الحق في الصحة والحق في الحياة
-
مستقبل مصر: إلهام التاريخ وكوابح الحاضر
-
تبرع يا مسلم لبناء إنسان
-
لماذا يخاف 48 مليون مصرى من المستقبل؟!
-
محمد السيد سعيد: وكل هذا الحب.. وأكثر
-
موقعة ذات النقاب .. أهم من حرب 6 أكتوبر
-
صحافة الفضائح .. وفضائح الصحافة
-
حديث ليس فى الرياضة: الأولمبياد يسبح فى »نهر يناير« البرازيل
...
-
اختفاء النصف السفلي لإنسان!
-
نظرية -المؤامرة- فى تفسير -نكسة- موقعة اليونسكو!
-
زيارة السفير الإسرائيلي.. بداية أم نهاية؟̷
...
-
العالم يتغير.. ونحن نائمون فى العسل!
-
يا دكتور حاتم الجبلى.. تكلم!
-
عندما يتحول -الوطن- إلى -شقة مفروشة-!
-
الحياة.. بدون محمود عوض!
المزيد.....
-
مصر: الدولار يسجل أعلى مستوى أمام الجنيه منذ التعويم.. ومصرف
...
-
مدينة أمريكية تستقبل 2025 بنسف فندق.. ما علاقة صدام حسين وإي
...
-
الطيران الروسي يشن غارة قوية على تجمع للقوات الأوكرانية في ز
...
-
استراتيجية جديدة لتكوين عادات جيدة والتخلص من السيئة
-
كتائب القسام تعلن عن إيقاع جنود إسرائيليين بين قتيل وجريح به
...
-
الجيشان المصري والسعودي يختتمان تدريبات -السهم الثاقب- برماي
...
-
-التلغراف-: طلب لزيلينسكي يثير غضب البريطانيين وسخريتهم
-
أنور قرقاش: ستبقى الإمارات دار الأمان وواحة الاستقرار
-
سابقة تاريخية.. الشيوخ المصري يرفع الحصانة عن رئيس رابطة الأ
...
-
منذ الصباح.. -حزب الله- يشن هجمات صاروخية متواصلة وغير مسبوق
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|