|
الساسة والعدو اللدود
مصباح قطب
الحوار المتمدن-العدد: 2831 - 2009 / 11 / 16 - 01:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
" اللئيم" الذي يكافئ المدين ويعاقب الدائن عاد ليطل برأسه. لا يمكن أن أنسى الحوارات التي دارت حوله مع مجموعات الزملاء من الأقسام الاقتصادية بالصحف العمانية فى ابريل الماضي خلال ورشات التدريب التي رعتها وزارة الإعلام وكيف أبدع كل فريق منهم فى تصوير أثاره -أو بالأدق آثامه - وتجسيدها حين كنا نتبارى فى كيفية التعبير عن مصادره وانعكاسه على حياة الناس واستخدام الرسوم والأشكال التوضيحية فى هذا السبيل.عرفتم بالتأكيد اننى أتحدث عن التضخم والذي طالما اعتبرته عدو الفقراء اللدود .اننى احترم تماما المنطق الكامن وراء القول بان قليل منه يصلح المعدة الاقتصادية اى يحفز أصحاب المشاريع على التوسع والمبادرين على اقتحام مناطق جديدة لاستخدام الموارد المتاحة فى توليد نمو وفرص عمل وتحقيق أرباح ليعاد تدويرها فى مزيد من المشاريع وهكذا.اقدر هذا القول وافترض حسن النية فيمن يبررون به السياسات التوسعية وما يصاحبها من انفلات فى الأسعار .لكن أظل على اعتقادي بان الموقف من التضخم كان وسيكون أهم معيار للحكم على اى سياسي أو تنفيذي فى الزمن المقبل كما أومن بان قدرة اى نظام سياسي على صنع وصيانة الاستقرار ستتوقف على مدى استطاعته لجم هذا الغول وتحجيم هجومياته على محدودي الدخل طوال الوقت . ليست المسالة إعلان السلطة النقدية إنها تستهدف التضخم وكفى أو إعلان وجود تنسيق دائم بين السلطتين النقدية والمالية لضمان عمل التوازن المطلوب بين النمو واستقرار الأسعار . الموضوع ابعد من ذلك مع الأهمية البالغة للعنصرين السابقين فمحاربة التضخم بكل بساطة تستلزم ارداة كافية وواعية للتصدى للمستفيدين منه والواقفين وراءه. فى معيته – اى التضخم - صاحب الأصول يكسب وصاحب الدخول (الأجور ) يخسر فالأصول ترتفع قيمها والسلع التي يشتريها العامل بنفس الأجر تتناقص .. من عليه للبنوك يكسب لأنه سيسدد أموالا قلت قيمتها عن تلك التي اقترضها رغم انه ظاهريا ملتزم بسداد الفوائد ومن له ودائع يخسر لان الفارق يتسع مع التضخم المنفلت بين سعر الفائدة الاسمي وسعرها الحقيقي . إذن اتخاذ سياسة مناهضة للتضخم يعنى اتخذا موقف مع أو ضد خلال التعامل مع المعادلات السابقة وأربابها. ليغفر لي القراء إذا نسبت لنفسي فضيلة ما وأنا العبد الفقير إلى رحمة ربه بأوسع المعاني ، اننى اشعر بالآثار النفسية والسلوكية والاجتماعية للتضخم وكاننى مقياس " ريختر" المخصص لرصد هزاته وزلازله ... المس ملامح التغير فى نبرة الجيران والبواب والأهل فى القرية والمعارف وهم يردون تحية أو يطلقونها فى الأوقات التي يبدأ فيها الوحش فى البروز من مكمنه.. تقل الحميمية وتبدأ بوادر التوتر فى الظهور وتخفت نبرة الرحمة . أميز فى صوت سائق سيارة الأجرة ملامح تململ مكتوم لو أعطيته نفس الأجرة التي اعتدت دفعها فى الوقت الذي يكون فيه التضخم قد بدا يكشر عن أنيابه دون أن يكون قد ظهر بشكل واضح يجعل من تغيير الأجرة عملا مبررا ومقبولا . أكاد اعرف فى حينا من هو الذي ستجرفه موجة ارتفاع الأسعار هذه المرة إلى الجريمة لان دفاعاته الدينية والأخلاقية وخوفه من القانون والعقاب ستنهار تحت وطأة الضغط العنيف للأسعار المرتفعة – فى السلع الأساسية بالذات – على حياة الناس . يحسب البسطاء الأمور بمعايير محددة للغاية ولا يمكن خداعهم بشأنها.. بكم تشترى زجاجة زيت الطعام و الكيلو جرام من الجبن الأبيض أو من السكر أو الأرز ومصفوفة البيض وطبق الفول وخبز الأولاد وبعض الخضروات. اللئيم عاد ليطل بوجهه لكن كما قال المثل اليوناني الأشهر انك لاتستحم فى النهر مرتين بنفس الماء وكما أضاف اللاحقون ولا حتى مرة واحدة فكل شيء رهن التغير والتبدل طوال الوقت فما الذي طرا ياترى على منابع موجة التضخم الجديدة وما الذي استجد على تجلياته فى الأسواق المحلية والدولية ؟ .يجئ التضخم عادة من مصادر خارجية كالواردات من السلع والخدمات أو من قرارات إدارية تصدرها الحكومات كرفع أسعار الوقود مثلا أو من زيادات فى الدخول أو من احتكارات واختناقات فى الأسواق الداخلية أو من توسع نقدي او من صدمات عرض مفاجئة اى نقص مباغت فى المعروض كالتي حدثت فى أسواق الدواجن واللحوم من جراء أنفلونزا الطيور أو التي تحدث نتيجة تغيرات مفاجئة فى الطقس فى دولة من الدول بما يؤثر على الأسعار العالمية لمحصول اساسى تنتجه وهكذا ا. لكن الأزمة المالية العالمية نبهتنا إلى حقائق أخرى على رأسها الزيادة الرهيبة فى معروض الدولار- عملة الارتكاز الدولية – والتي لا تتناسب بحال مع الإنتاجية والإنتاج والصادرات فى الولايات المتحدة الأمريكية وهى الزيادة التي دفع ثمنها العالم كله بدرجات وأيضا تحول الكتلة الرئيسية فى طبقة المبادرين العالمية والمحلية إلى المضاربات المالية بديلا عن وجع القلب فى الإنتاج والمنافسة والابتكار والتطوير ما اوجد طفيلية دولية متشابكة المصالح راحت تتعيش بلا رحمة على حساب كل من يعمل او ينتج أو يوزع وابتكرت فى هذا الصدد أشكالا وصيغا شتى للتحايل والاستنزاف وكان من نتائج ممارسات هذه الطبقة أن رأينا أن عناصر التكاليف الظاهرة فى بلد من البلاد لسلعة من السلع – مثلا – كانت تبدو مستقرة ومعقولة غير أن شيئا خفيا يدفعها فى مرحلة غير منظورة إلى الارتفاع ليؤثر بشدة على سعر المنتج النهائي.. انه تكلفة الطفيلية المالية والاستشارات الوهمية والمناقلات الشكلية والفساد الذي تخلق فى تلك الأجواء وأصبحت له مطامع تتجاوز آفاق الفساد التقليدي بمراحل . وحين وقعت الواقعة المالية هب الكبار فى العالم لمعالجة هذا الوضع الذي هددهم فى عقر دارهم وتوصلوا إلى بعض النقاط فيما يخص تنظيم الأسواق المالية و العاب الحواة المالية ومعايير الرقابة على البنوك ومديريها وفيما يتعلق بجزر النعيم الضريبي .لكن يخطئ كثيرا من يتصور أن " وول ستريت" ستسلم بتلك السهولة ولا أعنى هنا حي المال فى أمريكا فقط ولكن كل " وول ستريت" فى اى بقعة من العالم. لقد بدأت أسعار بعض السلع الأساسية تعانى تقلبات حادة من جديد وبما لايعكس مستوى الندرة فيها مثل السكر والأرز واللحوم والألبان وقد سبق ذلك عمليات مضاربة على الذهب – لازالت مستمرة وتتصاعد – كان هدفها فى تقديري الالتفاف حول القيود التي وضعت على حركة الأموال فى أسواق المال من ناحية وإظهار قوة المتلاعبين بالسيولة من ناحية أخرى والإيحاء بان زمن المضاربات السعيد سيعود ومن هنا بدأت موجة تضخم عالمية ومحلية تطل برأسها بدرجات متفاوتة مدعومة بأحاديث عن بدء تعافى الاقتصاد العالمي. إن الخطورة الشديدة تكمن فى أن هذا الارتباط الشرطي بين ظهور التضخم مرة أخرى وبين العودة إلى النمو سيولد مرارة بين الفقراء ومحدودي الدخل إزاء النمو والتعافي هذين .. إنهم يرون انه كلما ثارت أحاديث عنهما وعن نوع النمو السريع بالذات اندلعت نيران التضخم وتحولت حياتهم إلى جحيم . وكما قلت منذ عام إن أهل قريتي كانوا يبتهلون إلى الله أن يديم نعمة الأزمة المالية العالمية لان أسعار السلع التي تعنيهم تراجعت بقوة فإذا أردنا من الجمهور العام أن يساند سياسات الإصلاح والنمو السريع لا بد أن نتفهم هذا النوع من المخاوف ونحاول أن نطمئن الناس بجدية ونحميهم من توابعهما وعلى رأسها " اللئيم " . ليست صدفة أبدا أن يكشف استطلاع الراى الذي أجرته " بى بى سى" مؤخرا عن موجة رفض واسعة فى العالم كله لسياسات السوق الحرة حتى فى الدول التي نجت من بطش الأزمة العالمية ولازال النمو الجيد يتواصل فيها كما أنها ليست صدفة أن تبدأ فى العالم موجة اهتمام واسعة هذه الأيام بدراسات فوائد النمو السلبي أو غير الموجب أو النمو صفر أو النمو المحدود . الم اقل لكم أن التضخم صاعدا أم هابطا هو الذي سيحدد المزاج السياسي لعالم الغد ؟ .
.ينشر اليوم الاحد 15 نوفمبر بصحيفة عمان العمانية
#مصباح_قطب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مادة -أخلاق المهنة-
-
بين إمبرياليتين
-
ندوة: الضربة المائية هي مفتاح نصر أكتوبر
-
اختبار لإيماننا بالعالم التعددي : كيف سنستقبل كلمة رئيس وزرا
...
-
قميص واقٍ من الرصاص
-
مطلوب تشريع لإشهار الإفلاس السياسي لحكومات مصر
المزيد.....
-
فيديو يكشف ما عُثر عليه بداخل صاروخ روسي جديد استهدف أوكراني
...
-
إلى ما يُشير اشتداد الصراع بين حزب الله وإسرائيل؟ شاهد ما كش
...
-
تركيا.. عاصفة قوية تضرب ولايات هاطاي وكهرمان مرعش ومرسين وأن
...
-
الجيش الاسرائيلي: الفرقة 36 داهمت أكثر من 150 هدفا في جنوب ل
...
-
تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL في ليتوانيا (فيديو+صورة)
-
بـ99 دولارا.. ترامب يطرح للبيع رؤيته لإنقاذ أمريكا
-
تفاصيل اقتحام شاب سوري معسكرا اسرائيليا في -ليلة الطائرات ال
...
-
-التايمز-: مرسوم مرتقب من ترامب يتعلق بمصير الجنود المتحولين
...
-
مباشر - لبنان: تعليق الدراسة الحضورية في بيروت وضواحيها بسبب
...
-
كاتس.. -بوق- نتنياهو وأداته الحادة
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|