|
استئناف نقاش غائب في شأن مفهوم الإيديولوجية وإحالاته
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2830 - 2009 / 11 / 15 - 15:40
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
يختلط في التداول العربي لمفهوم الإيديولوجية تراثان، من أصل غربي بطبيعة الحال، قلما يجري التمييز بينهما. التراث الخاص بنقد الإيديولوجية بوصفها وعيا جزئيا أو مشوها تمتد جذوره في علاقات الإنتاج والبنى الطبقية في أية مجتمعات مدروسة، والتراث الخاص بتيار نهاية الإيديولوجيات، وهو ينظر إلى هذه كنظم فكرية كلية ومغلقة، ذات بعد طوباوي بارز. التقليد الأول ماركسي، والثاني ليبرالي معاد للشيوعية. يقابل التقليد الماركسي بين الإيديولوجية والعلم. والعلم هذا معرفة تتكون بنقد الإيديولوجية ووعي عوامل تزييف الوعي المتأصلة في البنى الطبقية، الأمر الذي يبدو أنه متاح للطبقة العاملة أو لمثقفيها أكثر من غيرهم، إن لم يكون دون غيرهم. الفكر الماركسي "علمي"، يتكون عبر نقد الإيديولوجية البرجوازية، ومنها "علم" الاقتصاد السياسي الذي يخفي العلاقات الطبقية ويشيئ العلاقات الاجتماعية الاستغلالية فيضفي عليها صفة طبيعية. ويولد الفكر الماركسي اعتقادا بأن الإيديولوجية، مثل الدولة، مصيرها الزوال في المجتمع الشيوعي الذي يشف تماما أمام ناظر أعضائه المحظوظين. يبقى صحيحا أن مفهوم الإيديولوجية عند ماركس نقدي، موجه في آن ضد الأوهام والتزييفات الباطلة للطبقات المسيطرة، كما ضد الأوضاع الطبقية الاستغلالية. وهو مندرج في نظرية موجهة نحو العمل أو الممارسة الثورية، مرتبط تاليا بالصراع السياسي والاجتماعي. ومنذ أيام انجلس الذي عمل (ليس الوحيد بحال) على مذهبة فكر ماركس و"صنع" الماركسية، أخذ يبدو أن الصراع الإيديولوجي (الموجه نحو فضح تدليسات الوعي البرجوازي) بعد من أبعاد الصراع الطبقي، إلى جانب كل من الصراع الاقتصادي أو النقابي (الموجه لتحسين أوضاع الطبقة العاملة..)، والصراع السياسي (الموجه نحو تعزيز موقع الحزب العمالي أو الاستيلاء على سلطة الدولة). على أن مفهوم الإيديولوجية اكتسب معنى مختلفا في ظل الشيوعية السوفييتية وما ارتبط بها من تيار عالمي. صار يجري الكلام على "إيديولوجية علمية" هي الماركسية اللينينية أو الشيوعية التي كانت مشروعا ودولة وعقيدة في آن في الاتحاد السوفييتي وأشباهه. والإيديولوجية هذه متفوقة معرفيا وأخلاقيا، فهي علمية أكثر من أي فكر آخر، وعادلة أكثر من أية عقيدة أخرى. والتقاء العلم بالعدل بالطبقة العاملة هو معنى التقدمية. بيد أن مفهوم الإيديولوجية العلمية متناقض من وجهة نظر ماركسية بالذات، كأن نقول الثلج الساخن. غير أن له وظيفة اجتماعية مهمة تتيح حجب التناقض ونسيانه، أعني توفير شرعية علمية وتاريخية لنظام جنح أكثر وأكثر نحو طغيان شامل. الإيديولوجية العلمية لا تتسامح مع الانشقاق والمعارضة ووجود رؤى وتصورات أخرى عن المجتمع والسياسة والدولة لأن من شأن ذلك أن يكون خرقا لقوانين التاريخ الموضوعية، فضلا عن خيانة مصالح الطبقة العاملة وجماهير الكادحين في كل مكان من العالم. تحولت الشيوعية بالفعل إلى إيديولوجية تحجب الواقع وتقدم وعيا مشوها به. وفي صورتها هذه، وفي إحالتها إلى نظام اجتماعي سياسي بدا منافسا على السيطرة العالمية طول نحو أربعة عقود بعد الحرب العالمية الثانية، بنى تيار نهاية الإيديولوجيات دعواه. ظهر التيار هذا في الغرب الرأسمالي الليبرالي في سياق الحرب الباردة والصراع ضد المعسكر الشيوعي. وكانت الشيوعية هي الإيديولوجية بأل التعريف في عين منظري هذه المدرسة التي ظهرت في ستينات القرن العشرين وبلغت أوج ازدهارها في سبعيناته وثمانيناته، حيث اندغمت في عقائد النهايات (نهاية السرديات الكبرى، نهاية التاريخ،..) التي بدا أن نهاية الاتحاد السوفييتي تصادق عليها. لم يكن ثمة إيديولوجية أخرى "انتهت"، لكن الشيوعية جعلِت علما على نوع واسع، يحصل أن تضاف إليه فكرة التحرر الوطني والعالم ثالثية، وتقف قبالته إما الليبرالية الغربية، أو مقاربة تسييرية للمجتمع والدولة والاقتصاد تتمحور حول السوق. والسمة الجوهرية لهذه المقاربة هي صفتها اللاصراعية، أي افتراضها نوعا من الانسجام الاجتماعي الذي يتحقق تلقائيا بتعميم اقتصاد السوق وعلاقاته. في التداول العربي هناك خلط غير شرعي بين التراثين كما سبقت الإشارة. ينكر منتسبون إلى الماركسية نهاية الإيديولوجيات فيسوقون أنفسهم إلى دفاع دوغمائي عن مفهوم الإيديولوجية. هذا مسلك غير ماركسي. وهو أقل تأهيلا بعد لإخراج النقد الماركسي من مأزقه: هل ما زال يصح الكلام على حقيقة "علمية" يضببها أو يشوهها التفكير الإيديولوجي؟ الحساسية النقدية المعاصرة تتوجس كثيرا من مفهوم العلم في مجال الاجتماعيات والإنسانيات. يبدو مدخلا إلى الدوغما فكريا وإلى الاستبداد سياسيا، بابين للمطلق. لكن إذا كانت الإحالة إلى العلم تفتح باب المطلق وسياسته وعقائده شبه الدينية، فإنه دون إحالة إلى العلم يغرق كل شيء في النسبية. هنا يزول مفهوم الإيديولوجية تماما. فإن لم يكن ثمة نسخة صحيحة من الواقع تحجبها نسخة أو نسخ إيديولوجية زائفة، وإذا لم يكن هناك أصل حقيقي بل مجرد نسخ وتأويلات، كما يقول ما بعد الحداثيون، فسيبدو مفهوم الإيديولوجية ذاته دوغمائيا وميتافيزيقيا. شيء كهذا كان أخذه ميشيل فوكو على المفهوم، وقاده إلى رفض استخدامه. وفكر فوكو يبطن ذهنية ما بعد الحداثة التي تتقبل تفتت الواقع وتناثره وموت الحقيقة ولا توفر وقاية من النسبوية الشاملة. هذا مسار لسنا خارجه وإن لم نكن محيطين به. إنه يبطن بصورة ما كل ما يأتينا من الغرب اليوم، فيؤثر على تفكيرنا وأدوارنا الاجتماعية ووعينا الذاتي ونظرتنا إلى العالم. الدفاع عن الإيديولوجية لا يجدي أمام هذا الواقع. ولا الموقف الماركسي الأرثوذكسي الذي يقابل الإيديولوجية بالعلم، ويرهن إحراز هذا بنقد تلك. بالمقابل نجد في مداولاتنا الجارية زراية بالإيديولوجية، تستبطن التعالي الليبرالي على الماركسية وما تتضمنه من نقد للعلاقات الرأسمالية التي باتت عالمية أو دخلت طورا جديدا من العالمية مع العولمة، زراية توهم بأنها تمارس نقدا متحررا وتحيل إلى معرفة أعلى. في واقع الأمر هي غالبا ترفَع نخبوي غافل عما تنطوي عليه أحكامه من رهانات، لكنه هانئ في نخبويته ومستسلم إلى دوغماه الخاصة. وهو ما يبيح وصفه بأنه إيديولوجي بالمعنى الماركسي الأصلي للمفهوم. يحمل الاستخدام الماركسي المعتنق للإيديولوجية البرنامج الوراثي الشيوعي دون زيادة أو نقصان. وهذا غير جدير بالاستعادة. بالمقابل يحمل نعي الإيديولوجية وإعلان موتها برنامجا ليبراليا غير نقدي أو نقدي بصورة انتقائية. كيف نطور نقدا متسقا لا يحن إلى الشيوعية ولا يركن إلى التسييرية اليبرالية؟ المسألة فكرية في جانب منها، لكنها في الأساس سياسية. لقد ولد مفهوم الإيديولوجية في السياسة، ومات في السياسة، وقد يبعث فيها حيا.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عبيد السلطة وعبيدهم وما إلى ذلك
-
ما هي الرقابة؟ وماذا تراقب؟
-
في أبنية الدولة السلطانية المحدثة: ليبرالية اجتماعية وطغيان
...
-
من الطاعة المفروضة إلى التطوع الذاتي
-
في الوقائع نصف الغريبة لاختفاء الشعب
-
في شأن إيران والغرب و..العرب!
-
-الدولة السلطانية المحدثة-: سيادتان وسياسة واحدة
-
تركيا كنموذج عملي يُتعلّم منه
-
ما وراء الزيدي وحذاءه: اعتلال الروح العربية
-
المحركات المحتملة للعلاقات الأميركية السورية في النصف الأول
...
-
سورية ولبنان وفشل بناء الأمة
-
من الاقتصادوية إلى الثقافوية إلى السياسوية إلى آخره
-
ثلاث أسئلة بخصوص كتاب عبدالله العروي -السنة والإصلاح-، وثلاث
...
-
في تأسيس المحاصّة الطائفية معرفياً
-
ربيع الأقوياء العائد... مخيف حقا!
-
عن التماهي مع الشاعر في حضرة غيابه
-
سياسة التعقيد ك-جدار فصل- للفلسطينيين عن قضيتهم
-
في نقد السياسة.. أو من تأليف القلوب إلى انشراح الصدور
-
الحداثة كخير عام، كوني وضروري
-
في شأن الذاكرة والسلطة والرقابة
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|