أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - رياض حسن محرم - دموع أم















المزيد.....


دموع أم


رياض حسن محرم

الحوار المتمدن-العدد: 2828 - 2009 / 11 / 13 - 19:01
المحور: سيرة ذاتية
    


حدث هذا فى نهاية العقد السابع من القرن الماضى، أى منذ حوالى الثلاثون عاما، كنت وقتها فى مرحلة التكليف بعد التخرج من كلية الطب وقضاء سنة الإمتياز (التدريب)، كلفت بالعمل فى إحدى قرى محافظة المنوفية " التى يوجد بها وحدة صحية ريفية، حيث كنت بالطبع الطبيب الوحيد بها، ومعى مجموعة من العاملين، ثلاث ممرضات، ثلاث تومرجيات، فنى مختبر واثنين من الفراشين.
فى الأيام الأولى لتوزيعنا على المحافظة، تم تدريبنا سريعا على التعامل مع الحالات الطارئة، كما تم تعريفنا بشكل أكثر تفصيلا على كيفية التعامل مع الموتى، حيث قام الدكتور "سعيد" وكيل المديرية بنفسه بتعليمنا كيفية الكشف على الجثة، والتسجيل فى دفتر الثلاث خانات ودفتر الجرافيك، وإصدار التصريح بالدفن وكتابة شهادة الوفاة.
منذ اليوم الأول لإستلام العمل بالوحدة الصحية بدأت عملية ترويضى من قبل العاملين بها، وتعليمى كيفية الإحتيال على القانون، إبتداءا من التزويغ من العمل، مرورا بالكشف الخصوصى، وليس إنتهاءا بتسوية المستهلك من الأدوية، وإكتشفت من خلال هذه العمليات كيف أن هذا النوع من العمل بكل شروطه ومتطلباته غول حقيقى لا يرحم، فإما ترضخ لقوانينه، وإما تعرّض نفسك وحياتك للخطر، وبمنتهى البساطة قد تجد نفسك فى السجن.
وكان لعلاقتى الوثيقة بعم "عبد الرحمن" فرّاش الوحدة أثر كبير فى تعليمى أسرار العمل، وفى تجنيبى إن لم يكن حمايتى من الوقوع فى كثير من الأخطاء القاتلة، كان هذا الرجل بنظارته السميكة، وطاقيته المزّهرة بصفة مستمرة، وجلابيته الإفرنجى البيضاء، ووجهه البشوش المبتسم ، يعطيك دائما الإحساس بالثقة والطمأنينة.
فى تلك الأيام إستطعت أن أقيم علاقات حقيقية مع كثير من أهل القرية البسطاء، الذين ساعدونى بشكل حقيقى على تحمل هذه الحياة، خصوصا واننى كنت فى هذه الأيام حديث الزواج، وكنت أقيم بالأسكندرية، حيث زوجتى وأصدقائى وحياتى الثقافية والسياسية، غير أن الذى كان يقنن علاقتى بأهل القرية فى الحقيقة كان عم "عبد الرحمن"، على الأقل بحكم معرفته الطويلة بهم، خاصة أنه كان يعمل حلاق صحة للقرية قبل تعيينه فى الوحدة الصحية، هذا الحلاّق الذى يقوم بختان الأطفال، وإعطاء الحقن، وتطبيب الجروح، وعلاج الأمراض البسيطة، فيما يرقى الى ما يقوم به طبيب تلك الأيام.
بسرعة أصبح هذا الرجل مستشارى الأول ومصدر ثقتى وخاصة فيما يتعلق بعلاقتى بالآخرين، هو الذى يشير على بكيفية التصرف فى معظم المشاكل وكيف أنظم "دفتر الأحوال" حتى لا أقع فى أخطاء قانونية، وحتى حالات الوفاة التى تحدث بالقرية كان هو الذى يحدد لى من هى الحالة التى أذهب للكشف عليها ومعاينتها فقد تكون بها شبهة ما، وتلك المعروفة التى لا تحتاج الى معاينة.
فى أحد الأيام وفى حوالى الساعة الثالثة عصرا وبينما كنت أستعد لركوب الأتوبيس المحلى ذاهبا الى الأسكندرية، طرق اذنى صيحات نسائية حادة (صوات)، وهذه الأصوات فى الغالب تعنى حدوث وفاة، تماما كم تعنى الزغاريد حدوث زواج، مما دعانى الى التريّث والعدول عن ركوب الباص، والعودة أدراجى الى الوحدة الصحية، حيث التقانى عم "عبد الرحمن" بهدوئه المعتاد، وأخبرنى أن المتوفى شاب يتيم فى مقتبل العمر، وأنه من الضرورى أن أعاين الجثة.
ذهبت الى الإستراحة فى إنتظار إستدعائى، وبعد قليل حضر غفير من الدوار ومعه فلاح من أقرباء المتوفى ليطلبا منى "تصريح دفن"، واستعجلانى حتى يمكن الدفن فى نور النهار، أخبرتهما اننى سأقوم بإرتداء ملابسى واللحاق بهم، بسرعة كان عم "عبد الرحمن" معى فى طريقنا الى بيت المتوفى، طوال الطريق لم نتبادل أى حديث.
كان المنزل عبارة عن بيت طينى متهالك، أسرع الحشد فى توسيع مكان لمرورى الى الداخل، أجلّسونى فى الحجرة الخارجية (المندرة) على كرسى خيزران قديم وقذر، بينما جلس الجميع على الأرض، أسرع أحدهم فى إحضار الشاى، بينما صمّم الكثيرون أن آخذ منهم سجائر، تملكنى إحساس داخلى أن هناك شيئ يتم تدبيره، خاصة عندما لمحت من فتحة الباب وعبر الفناء الداخلى أنهم ينقلون الجثة من غرفة الى أخرى.
كان فكرى مشغولا بمسألة السفر الى الأسكندرية، لذا كان الوقت يمر ثقيلا، بدأ الفلاحين يهمهمون بأحاديث جانبية عرفت أنها رسائل موجهه الى، المرحوم استراح من الدنيا والمرض، داخ على الأطبا، مسكينة أمه صرفت عليه اللى وراها واللى قدامها، ويتكرر هذا الكلام كإسطوانة مشروخة، أحسست بالضيق والملل، فصحت بصوت حاسم : هى أيه الحكاية، إنتوا جايبينى أقعد أتسامر معاكو والا أيه، حاول أحدهم بلؤم أن يثنينى عن عملية الكشف على الجثة، بحجة أن المرحوم كان مريضا، ومافيش داعى لتعبى.
حسمت الأمر بالنهوض واقفا والتوجه مباشرة الى الغرفة التى بها الجثة، إستحضرت من الذاكرة كل التعليمات التى علموها لنا، يجب ان يكون الضوء داخل الغرفة ساطعا، لا تسمح لأحد بالتواجد معك أثناء الكشف الاّ شخص واحد، إمرأة إذا كانت المتوفاة أنثى، وذكرا إذا كان رجلا، إحرص على أن تجرد الجثة من جميع الملابس ودقق فى كل جزأ منها، وإستحضرت كل خبرتى وما درسته فى هذا الشأن.
بعد تجريدى للجثة من الأسمال التى فوقها، ظهر لى لون الجسد وقد إكتسى زرقة لا تخطؤها عين، إذن هو السم ولا شيئ غيره، تعمدت الا يبدو على وجهى أى إنطباع، مددت يدى لأعيد الغطاء على الجسد المسجى، وأسرعت الخطى خارجا من باب الدار، وفى أعقابى عم"عبد الرحمن"، وسرعان ما لحقنى من كانوا فى المندرة ،أحاطوا بى متسائلين:- هو فيه أيه يا دكتور، ليه ماكتبتش تصريح الدفن، تعللت بأننى نسيت الدفتر فى الوحدة الصحية، وطلبت منهم أن يرسلوا أحدا لأخذه منى هناك، وواصلت سيرى مسرعا.
فى الطريق حكيت شكوكى لعم عبد الرحمن، لم يعلق وأيّدنى فى موقفى، ما إن عبرت الجسر المؤدى الى الوحدة حتى كان شاب صغير ينتظرنى عند البوابة على عجلة، عرفت أنه حضر لإستلام التصريح، دخلت الى مكتبى وهذا الشاب فى أعقابى، ما إن جلست على الكرسى وأحسست بالأمان حتى صحت فيه، موجها السباب لكل هؤلاء الفلاحين الملاعين الذين يريدون توريطى، وأننى سوف أبلغ النيابة والطبيب الشرعى للتحقيق فى حادثة القتل.
كنت أرغب فى إيصال هذه المعلومة للجميع، فى إنتظار ردود الأفعال قبل إتخاذ قرار التبليغ، كان قرارى نهائيا ولكنى كنت فى حاجة فقط لتفسيره للآخرين الذين أعيش بينهم، وتجمعنى بالكثير منهم صداقات عميقة،،، ولم يطل إنتظارى طويلا.
سرعان ما أبلغنى عم عبد الرحمن أن العمدة ومعه مجموعة كبيرة من الأعيان يقفون على البوابة حتى أأذن لهم بالدخول، أسرعت خارجا لأفتح لهم بنفسى مرحبا بهم فى السكن المخصص لى، وما أن جلسوا حتى بادر العمدة بالحديث معتذرا لى عما حدث، وأنه لم يكن مقصودا، القصة أن هذا الشاب التعيس كان يعمل باليومية فى مقاومة دودة القطن، وأنه بعد الإنتهاء من مرحلة المقاومة اليدوية يتم بدء المقاومة الكيمائية بالمبيدات، وكان الفقيد يقوم برش المبيد، ودخلت كمية منه بطريق الخطأ الى فمه، ورغم المحاولات التى أجريت لإنقاذه عن طريق تقييأه وشربه للبن الاّ أن قدر الله كان أسرع.
وإستمر العمدة فى الحديث دون أن أقاطعه، معتبرا أن ما حدث قضاء وقدر، وأن الولد غلبان ويتيم، وأنه إذا جرى تحقيق من قبل المسؤولين سيجازى أناس أبرياء مثل مهندس الجمعية الزراعية، وخولى الأنفار وآخرين، وبعد إنتهاء العمدة من حديثه تكلمت، قلت أنه كان يجب مصارحتى بالحقيقة منذ البداية دون محاولة خداعى، وأن مثل هذه الموضوعات لا يمكن عدم الإبلاغ عنها لأنها قد تسبب ضررا لا يمكن تعويضه بالنسبة لوضعى ومستقبلى الوظيفى، وانتهى اللقاء بعدم الإتفاق لكن إحتفظ كل طرف بإحترام الطرف الآخر.
بعد أن ودعتهم الى البوابة كما إستقبلتهم، وبينما أستدير عائدا فى الظلام، لمحت كتلة سوداء تتحرك ببطأ نحو البوابة، تبينت فيها إمرأة عجوزا، تمهلت قليلا وعدت أدراجى لأعرف ما الخبر، مدّت يدها من خلال الباب لتقبض على يدى بقوة، بوجه مغضّن وعينين غائرتين نظرت الى، وبصوت واهن مرتعش بدأت الكلام، أنا يابنى أم المرحوم، من يوم ما مات أبوه وهو حتة لحمة حمرا لم يبق لى فى الحياة غيرة، تصدق اننى كنت حتى الآن أقوم بتحميمه وتلبيسه، ولا ينام الاّ فى حضنى رغم أنه أصبح رجلا، أرجوك يابنى، أبوس إيديك مش عاوزة ابنى يتشرّح.
وبقوة لا أعرف من أين أتتها جذبت يدى بعنف لتقبلها، أحسست بدموعها على ظهر كفى، لم أستطع المقاومة، مسحت دموعى بظهر يدى لتختلط بدموعها فى مشهد درامي شديد القسوة، وشعرت بصعوبة بالغة، وعجز كامل عن اتخاذ موقف.
تركتها عند الباب وأسرعت لألحق بعم عبد الرحمن فى الداخل ليحل لى هذه المعضلة، شرحت له اننى لا أريد التبليغ لكننى أخشى العاقبة، صمت طويلا ثم رفع رأسه قائلا:- خلاص خلاص يا دكتور ولا يهمك، خليهم يدفنوا من غير تصريح، ولا كأنك عرفت خبر، حدّها أيه إذا إنكشف الموضوع فى أى يوم، يدفعواغرامة دفن بدون تصريح.





#رياض_حسن_محرم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 2-فلسطينيون فى مصر
- لماذا تطالب الحكومة المصرية بعودة الآثار المسروقة ولا تطالب ...
- فلسطينيون فى مصر
- العلمانيون بالقميص الإسلامى
- الحب المستحيل
- ذكريات هزيمة
- القضية الفلسطينية.....رؤية تحليلية
- دكان شحاتة .. والواقعية المصرية
- جريشة..حكاية بطل شعبى
- سلطنة عمان..وتوليفة التسامح
- هل كانت العالية بنت ظبيان أما للمؤمنين؟
- الهجّالة
- النقاب والتحرش
- حماس تهزم عسكريا,,, وتنتصر سياسيا
- وسيم صلاح حسين...الطفل الكبير..وداعا
- الجماعات السلفية الجهادية وفقه التكفير(6)
- الحب فى زمن الكوليرا
- قصص من السجن
- هل يحلم فلسطينى أن يصبح رئيسا لدولة إسرائيل؟
- ظاهرة الحجاب ... من منظور سياسى


المزيد.....




- السودان يكشف عن شرطين أساسيين لبدء عملية التصالح مع الإمارات ...
- علماء: الكوكب TRAPPIST-1b يشبه تيتان أكثر من عطارد
- ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
- مصادر مثالية للبروتين النباتي
- هل تحميك مهنتك من ألزهايمر؟.. دراسة تفند دور بعض المهن في ذل ...
- الولايات المتحدة لا تفهم كيف سرقت كييف صواريخ جافلين
- سوريا وغاز قطر
- الولايات المتحدة.. المجمع الانتخابي يمنح ترامب 312 صوتا والع ...
- مسؤول أمريكي: مئات القتلى والجرحى من الجنود الكوريين شمال رو ...
- مجلس الأمن يصدر بيانا بالإجماع بشأن سوريا


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - رياض حسن محرم - دموع أم