|
مادة -أخلاق المهنة-
مصباح قطب
الحوار المتمدن-العدد: 2826 - 2009 / 11 / 11 - 21:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يقول المثل العامي المصري : " قالوا للحرامى احلف قال جاءك الفرج "، أي أن اللص مستعد وبسهولة لان يقسم بالباطل على انه بريء ، ليتخلص من مأزقه ، ومن ثم يتعين على من يريد الوصول إلى الحقيقة أن يتخذ وسائل أخرى ، ومن الواضح أن المثل السابق ، المفرط فى واقعيته، يقلل من اثر ما هو قيمي فى كبح اللصوص والفاسدين ، بيد أن الأمر ليس كذلك أو لايمكن أن يكون كذلك ، على الأقل فى غالب الحالات ، إذ تخبرنا الحياة طوال الوقت بما لا ينتهي من القصص التي تؤكد أن الإنسان لم يزل هو الإنسان ، بما هو مفطور على أن يكون صاحب معتقد روحي وأخلاقي، أيا كانت طبيعته ، ومع التسليم بتزايد نسبة الانحراف عن هذا القانون العام .
ومن الواضح أن الفوضى التي تسود عالمنا العربي قد كرست أو تكرس نوعا من اليأس من أي قاعدة أخلاقية لضبط الممارسات العملية ، ففي أي محفل ما يكاد امرئ يقترح عمل ميثاق شرف للمهنة الفلانية أو العلانية إلا ويهب بعض الحضور للسخرية من هذا المنهج ويقولون لك إذا كانت كتب الله السماوية ذاتها لم تردع البشر ، فهل ستردعهم تلك المواثيق التي يسنها بشر ؟. ثم يروحون يعددون المواثيق التي صدرت من جهات عمل عربي مشترك أو جهات مهنية عربية أو تنفيذية ويسردون فى شماتة كيف تم الالتفاف عليها أو إهمالها التام ورميها جانبا الخ ، ورغم الوجاهة الظاهرية لذلك المنطق فان آخرون يردون مؤكدين على أن ذلك ليس لعيب فى المواثيق ذاتها أو فى الرهان الذي تنطوي عليه – أي الرهان على الضمير الأخلاقي للإنسان - كما أن أحدا لم يقل أبدا أن سن المواثيق هو بديل عن اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات قانونية مدنية لردع المخالفين أو المنحرفين .
عن نفسي كثيرا ما أرد على منطق الساخرين بالقول أن كتب الله وألواحه لم تتنزل مرة واحدة ولم ترسل للعلم والإحاطة لمرة واحدة ، فى حياة كل إنسان ، وإنما ليتم التذكير الدائم بها ، والحث على إتباع تعاليمها ، وتقديم القدوة من الصفوة الأخلاقية فى المجتمع، حتى يرى الغافلون أي راحة وأي انسجام نفسي بل و أي نجاح حقيقي ذلك الذي يمكن أن يتمتع به الإنسان المتمسك بها ، والأمر نفسه ينطبق على مواثيق الشرف إذ يجب على الجهات التي تتبناها أن توالى الحث على تطبيقها والدعوة للعض عليها بالنواجذ وعزل المتحللين منها ولو معنويا ، بل وتأديبهم وفقا للقواعد المنصوص عليها فى تلك المدونات ذاتها ، ليشعروا بان ثمة خسارة لا يستهان بها من جراء خروجهم عليها . أقول كل ما تقدم لأني انتوى أن اطرح عليكم أمرا : أن نشغل أنفسنا فيما تبقى من الصيف وعلى مداخل رمضان الكريم فى أمر النزاهة ومكافحة الفساد وان نتعلم ممن سبقونا فى هذا المجال.
هناك اتجاه عالمي قوى لإنشاء معاهد أخلاقيات الأعمال وتدريس مادة أخلاق المهنة فى كليات مستقلة أو ضمن مواد الدراسة فى كليات الإعلام والتجارة وإدارة الأعمال وقد جمعني منذ أيام لقاء بأعضاء المجلس الاستشاري للشفافية والنزاهة ومكافحة الفساد بمصر وهو مجلس تطوعي يضم مثقفين وإعلاميين ورجال أعمال وجامعيين وأصحاب وصاحبات خبرات عملية نشطاء المجتمع المدني وممثلين من جهات حكومية معنية بتطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي وقعت عليها مصر منذ فترة طويلة ( الكاتب مشارك فى عضويته ). يرعى اجتماعات المجلس ، بمعنى توفير مقر مناسب للاجتماع والنقاش ، مركز المشروعات الدولي (سايب ) . كنا نبحث كيفية إطلاق مبادرات للحد من الفساد وقسمنا أنفسنا إلى مجموعات تبارت فى اختيار أهم القضايا التي يجب التركيز عليها واقتراح أجندات عمل للتصدي لها وبيان كيفية تمويلها ونوع الأنشطة التي ستقوم بها المجموعة والتحالفات التي ستبنيها الخ.
وأود هنا أن انقل للقراء بعض ما توصلنا إليه لعله يفيد فى مجتمعاتنا العربية . لدينا أولا دعوة لإقامة مرصد لمتابعة إعلانات المناقصات والمزايدات العامة والتعرف على مواطن الخلل بها وكشفها وتلقى أي شكاوى بشأنها والدعوة إلى سن قوانين وقواعد عصرية وشفافة وعادلة للمناقصات والمزايدات وكان من رأينا أن من شان ذلك أن يمنع فسادا لا آخر له . اقترحنا أيضا ، وجريا على السائد عالميا كما سلفت الإشارة ، تدريس مدونات القيم فى الكليات العملية والنظرية على السواء ، أو إنشاء معاهد خاصة لهذا الأمر ، على ألا يلتحق أي مواطن بوظيفة ، قبل أن يحصل على دورة فى تلك المادة (مدونة الأخلاق ) ، وبناء تحالفات للنزاهة حول مبادرات محددة تنتقل إلى غيرها حالما أدت الغرض منها ، والدعوة إلى تبنى نظام محامى المواطن أو الشعب المنصوص عليه فى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (امبودسمان ) فى كل جهة تنفيذية وفقا للمعمول به فى دول مثل فرنسا أو السويد أو كندا مع تعديل النموذج بما يناسب مجتمعاتنا ، وإعادة هندسة دورات المستندات والأعمال فى شركاتنا ومنظماتنا الحكومية لإزالة ما بها من تعقيدات وبما يحول دون استفادة الفاسدين مما فيها من غموض ، وتطوير ونشر المعايير الأساسية لأداء الأعمال فى الدول المتقدمة ومقارنة أوضاع مؤسساتنا بها (مثلا كم يستغرق استخراج رخصة مرور فى بلد متقدم وكم عندنا ) ونشر تقارير سنوية عن أفضل وأسوأ المؤسسات فى أداء الخدمات للمواطنين وتبنى مفاهيم جديدة لحماية الشهود والمبلغين عن وقائع الفساد ، وإشراك المؤسسات الدينية فى حملات لمجابهة الفساد بدلا من أن يظل الخطاب الديني الرسمي يعمل – تقريبا - فى فراغ ويسير على وتيرة تقليدية لا تثير الحماس للفضيلة والشرف ، و لجعل المجتمع ينفر من تلك الممارسات ويتشجع على التصدي لها ( قلت للحاضرين تخيلوا مثلا تأثير شعار يقول : لا تتزوجوا بناتهم -أي الفاسدين- ولا تزوجوهم بناتكم ) .
ونبهنا إلى وجوب إيلاء عناية خاصة فى متابعة معدلات الربح السائدة فى النشاطات الاقتصادية المختلفة حيث تؤكد الخبرة العملية انه كلما زادت معدلات الربح فى فرع اقتصادي معين عن الحدود المعقولة والمقبولة كلما كان هناك إغراء باستخدام الإفساد للحصول على الصفقات ( الذي سيكسب عشرات الملايين من مجرد الحصول على توقيع معين غالبا سيكون على استعداد لدفع نسبة معتبرة كرشوة للحصول على هذا التوقيع ) أيضا قلنا أن دور المرأة مهم للغاية فى التصدي للفساد لأنها كمربية وزوجة أول من تعلم به وتحسه ولا يعقل أن يكون هناك موظف كل راتبه لا يزيد عن بضع مئات من الجنيهات بينما يمنح زوجته مثلها كل يوم أو ينفق هو مثلها ولا تسال الزوجة نفسها من أين جاء بالمال أو تسأله .
بالطبع هناك أعمال مؤسسية وتشريعية وتنظيمية كثيرة يمكن القيام بها لمجابهة الفساد ، فوزارة الاستثمار فى مصر أنشئت ، وعلى سبيل المثال ، لجنة للشفافية والنزاهة ومكافحة الفساد ، وولت عليها واحدا من أفضل الخبراء الذين عملوا لسنوات فى وزارة الخارجية المصرية ( السفير احمد رجب ) ويمكن إنشاء وحدات من هذا النوع فى كل جهة مصرية أو عربية لتتابع وتدرس وتقترح وتدق نواقيس الإنذار كلما دعت الحاجة ، وهناك احتياج إلى تفعيل قواعد محاكمة المسئولين الكبار وتوسيع نطاق ما يسمى بقواعد المسئولية الاجتماعية للشركات وإدماج المدونات الأخلاقية فى تلك القواعد والتأكد من أنها ليست للشهرة والمنظرة. الخلاصة إن الحد من الفساد وإراحة الناس مما يجلبه من مشاق وتكاليف وما يسببه من يأس وفقدان للثقة والانتماء ، ممكن، بل وهو واجب وضرورة عملية ، حتى قبل أن تكون دينية أو قانونية . ألا يستحق كل ما تقدم أن نشغل بالنا به؟
أغسطس 2009
#مصباح_قطب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بين إمبرياليتين
-
ندوة: الضربة المائية هي مفتاح نصر أكتوبر
-
اختبار لإيماننا بالعالم التعددي : كيف سنستقبل كلمة رئيس وزرا
...
-
قميص واقٍ من الرصاص
-
مطلوب تشريع لإشهار الإفلاس السياسي لحكومات مصر
المزيد.....
-
قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين
...
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|