|
في الذكري المئوية لمعاوية محمد نور(1909 - 1941)
تاج السر عثمان
الحوار المتمدن-العدد: 2824 - 2009 / 11 / 9 - 21:38
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يرجع اهتمامي بمعاوية نور الي منتصف سبعينيات القرن الماضي حيث كنت متابعا الدراسات التي كتبت عنه وأعماله التي جمعها الأستاذ رشيد عثمان خالد والتي صدرت في كتابين بعنوان(دراسات في الأدب والنقد)، (وقصص وخواطر) وقامت بنشرهما دار جامعة الخرطوم للنشر. وكانت حصيلة تلك المتابعة أن أنجزت كتابا عن معاوية، تناولت جوانب حياته واعماله المتنوعة ومعاناته وفي ظل الاستعمار البريطاني وتضحيته بدراسة الطب ليدرس الأدب في جامعة بيروت وكتاباته الداوية والمثير للاهتمام في الصحف المصرية، ومحاربة الانجليز الشرسة له، حتي وصل لحالة مرضه المعروفة في السنوات الأخيرة من حياته القصيرة المليئة بالابداع والنشاط الفكري، حيث فارق دنيانا وهو في بداية الثلاثينيات من عمره، وكيف تم اغتيال ذلك النبوغ المبكروتلك الشعلة الوطنية الوقادة، لازلت اذكر تلك الدراسة العميقة التي انجزها معاوية عن (الادارة الأهلية) وتناوله الناقد لأهداف الادارة البريطانية منها. أذكر في اوائل الثمانينيات من القرن الماضي وفي غمرة النشاط السري، حيث كنت اعمل في سكرتارية مديرية الخرطوم في الحزب الشيوعي السوداني ضد نظام الديكتاتور جعفر نميري، وخلال تنقلي المستمر، أن فقدت تلك المخطوطة عن معاوية نور، وان يفقد الانسان مخطوطة بذل جهدا كبيرا في اعدادها تعد خسارة كبيرة. ورغم ذلك اذكر أنني بعد انتفاضة مارس - ابريل 1985م، راجعت أوراقي القديمة ووجدت ورقة من تلك المخطوطة فيها تعليق علي الأعمال الفلسفية لمعاوية والتي اعتبرتها من بدايات النشاط الفلسفي العلمي في السودان في ثلاثينيات القرن الماضي وتم نشرها، ولابأس من اعادة نشرها مرة أخري بمناسبة الذكري المئوية لمعاوية نور. * معاوية محمد نور كاتب سوداني معروف في الثلاثينيات من القرن الماضي، ولم تكن كتاباته قاصرة علي الآداب والفنون، وانما امتدت للاهتمام بالمسائل الفلسفية، ومهما كان المستوي الذي تناول به معاوية هذه المسألة، فلابد من الاشارة اليه، اذا كنا نريد ان نتتبع بدايات ومسارات التفكير الفلسفي لكتّاب الثلاثينيات والعشرينيات من القرن الماضي، باعتبارها البذور التي قامت عليها نهضتنا الفكرية والسياسية فيما بعد. اذا نظرنا بصورة عامة للفترة التي عاش فيها معاوية محمد نور، نجد أنها كانت تتميز بتطورات هائلة في العلوم الطبيعية، وانهيار النظريات القديمة في الفن والعلوم والفلسفة والسياسة، كما تميزت هذه الفترة بالثورات والهزات الاجتماعية مثل الثور الاشتراكية في روسيا، ونهوض حركات التحرر الوطني في بلدان المستعمرات، كما تميزت بصعود الفاشية والنازية للحكم والازمة الاقتصاية في اوائل الثلاثينيات. ومن أبرز التطورات التي حدثت في العلوم الطبيعية هي اكتشاف الالكترون والبروتون وانشطار الذرة، مما ادي الي انهيار الفرضيات القديمة حول المادة والتي كرسّتها نظرية دالتون الذرية، وانهيار المفاهيم القديمة حول المادة وتركيبها، بعد اكتشاف جسيمات أصغر من الذرة. وهذا التطور جعل بعض الفلاسفة المثاليين يطرحون من جديد أن المادة قد تلاشت ، وبالتالي التشكيك في قوانين الطبيعة باعتبارها رموز وفرضيات لاقوانين موضوعية. ثم كان اكتشاف النظرية النسبية علي يد البرت اينشتين التي احدثت ثورة عنيفة في ميدان العلوم الطبيعية، حيث تم تعديل وتطوير مفاهيم نيوتن عن الزمان والمكان، وأشارت الي الترابط بين المكان والزمان والمادة، واصبح جليا خطأ مفهوم المكان والزمان المطلقين، وليتم تعميق وتطوير قوانين الحركة لنيوتن لتشمل الأجسام التي تتحرك بسرعة الضوء وتصحيح مفهوم الجاذبية عند نيوتن..الخ.وترتبت علي ذلك نتائج حاول الفلاسفة المثاليون استغلالها لتوجيه ضربة قاصمة لنظرية المادية في المعرفة. وتصدي لينين في كتابه( المادية والمذهب النقدي التجريبي) لهذه الاتجاهات واكد أن الذي انهار ليس هو المادة، بل الفهم القديم عن المادة والمنهج المادي الميكانيكي في التفكير، واعطي تعريفه الشامل للمادة باعتبارها (الواقع الموضوعي المستقل عن حواسنا)، وان ماحدث يؤكد صحة المادية الديالكتيكية التي تقول بأن المادة لانهائية ولاتنفد، وانما تتغير وتتنوع أشكالها، كما تناول ديالكتيك الحقيقة المطلقة والنسبية، باعتبار ان الحقيقة المطلقة هي المجموع اللانهائي للحقائق النسبية. واذا نظرنا الي الثقافة الغربية في ذلك الوقت، نجد انها كانت تتميز بالاضطراب والتناقض وتفاقم ازمتها، حتي وصلت درجة الافلاس والانهيار في القيم والمبادئ التي غرستها البورجوازية في مرحلة صعودها وشبابها في اذهان الجماهير. احسّ معاوية نور بذلك الاضطراب في الثقافة الغربية والانهيار التام للنظريات الفلسفية البورجوازية وفي الفنون والآداب..الخ، وتوجه الفلسفة نحو الروح.يقول معاوية( ان هناك موجة قوية في سير العلوم الطبيعية وفي الفلسفات المعاصرة نحو الروح، ونحو نوع من القيم الانسانية التي لاترجع الي عمليات المنطق ومكتشفات الذهن الرياضي)( معاوية نور:دراسات في الأدب والنقد، ص: 86). ثم يتابع معاوية تمزّق الثقافة الغربية فيقول: ( ذلك الروح هو روح النص والشك في معظم الحقائق السابقة والقيم الماضية)(المرجع السابق ص:88). ويتابع الشك والنفي في كتابات (الدوس هكسلي) الأدبية وكتابات(د.ه. لورانس) ويتابع نفاق الآباء والاجداد الذين شرّبوا الأجيال الجديدة بقيمهم حول الحرب والمجتمع ويقول: (اذا كانت الأمور علي هذا النهج من الكذب والنفاق فمن أين لهم ان يطمئنوا الي أي حقيقة في أدب او فن؟ وظهر هذا الشك وذلك النفي وعدم الايمان في منتجاتهم الفنية، ولجاوا الي اللعب (بالقالب) اذ انهم لايعرفون الحقيقة واللباب ولايمكنهم ان يطمئنوا الي حق قديم اذا لم يلاحظوه ويجربوه مرارا علي النسق العلمي) (ص 89). هذه الثقافة والأوضاع المضطربة والمتناقضة قذفت بمعاوية نور ليتبني منهجا فلسفيا متكاملا هو منهج الشك الفلسفي في فترة من حياته، واتخذه هاديا ومرشدا له في دراساته الأدبية والنقدية. ولتأكيد ما ذهبنا اليه يقول معاوية نور في مقالة: عالم القيم والنظريات في الفلسفات والفنون: (والناس في الأغلب الأعم يرتاحون الي الشك الفلسفي وما اليه من مثارات التفكير ودواعي التيقظ والحيرة وهم لايرتاحون الي مضطربي الحال، بل يرحبون بآرائهم في شئ من الاطمئنان والهدوء)( ص:47). ومعاوية هنا لايرضي بالقليل ولايقبل بالحال كما هو ، وانما يمعن التفكير في العالم، ويبذل الفكر ويجهد عقله من اجل معرفته، ولايؤمن بقيم نهائية ثابتة، وانما يطرح كل شئ للجدل والنقاش. وهذا المنهج كما قلنا توصل اليه معاوية بعد احساسه بانهيار القيم والنظريات التي كانت تعج بها الثقافة الغربية: انهيار في النظريات الفلسفية القديمة لتحل محلها نظريات جديدة، ويتابع معاوية تاريخ الفلسفة من الأغريق الي الفلسفات الحديثة(افلاطون،ارسطو، دارون، سبنسر،..الخ)، ويشير الي التغيرات الهائلة التي حدثت في الفلسفة وكيف أن الفلسفة الجديدة تقضي علي الفلسفة القديمة وتضارب النظريات)(ص: 48). ويضع معاوية نور يده علي أزمة الفلسفة البورجوازيةفيقول: ( فهذه النهضة الأخيرة التي يقوم بها أمثال (لودج)، (وانجتون) و(بلكان)..الخ واضرابهم بان عنصر الحياة غير مادي، وانما هو قوة وروح وحركة، وهذه الحالة الفكرية التي نعيش فيها الان قمينة أن تفتح عيوننا لتظورات الافكار والنظريات. أصحيح كما قال ناقد أديب اننا نعيش في عصر قد تحول علماؤه الي متصوفة ورجال دين شكوكيين)( ص 49). ثم يتوصل معاوية بعد ذلك الي فقدان الثقة في عالم النظريات فيقول: (فما الذي تدل عليه هذه الظاهرة؟ تدل علي أن ليس هنالك نظرية واحدة ثابتة، وان عالم الفلسفات والآراء هو عالم أشد مايكون تنقلا، واننا يجب أن نحتاط في التشيّع لهذا الرأي او ذاك، وان ناخذ الآراء في شئ كثير من التيقظ والشك، فليس هناك مايسمي صدقا كله أو خطأ كله! ونحن اذا شككنا ايضا، فلا يجب ان يكون شكنا ايمانا بالشك)(ص 49). ومعاوية عندما يطرح الشك، لا يرفض دراسة الفلسفة ولكن مع ذلك لايؤمن بمذهب فلسفي معّين، دون ان يمنعه ذلك من الارتياح لبعض الفلسفات كما يقول كفلسفة(وليم جيمس) وفلسفة(برجسون) ويعرف امان قوتها وضعفها. يقول معاوية( فالشك الفلسفي مفيد، ولكن يجب الا ينزل من نفسنا مكان الايمان القوي، فان ذلك لايدل الآّ علي الضيق ومناقضة الشك نفسه)(ص 49). وموقف معاوية من الفلسفات عموما هو النظر اليها كمجرد نظريات قد تخطئ وتصدق يقول: ( يحسن بنا أن ننظر الي الفلسفات علي انها مجرد نظريات وفروض قد تصدق وقد تخطئ)( ص 50). ويهاجم سلامة موسي لأنه يكتب بصيغة فيها الجزم في العلم وعلم النفس بنوع اخص. وبعد ان استقر معاوية علي منهج الشك الفلسفي، حاول تطبيقه علي النقد الفني، فنجده يطبق هذا المنهج في عالم الفن في مقاله: عالم القيم والنظريات، وبالتحديد عند تعرضه للتحف الفنية المتفق علي جودتها وعلوّها في عالم الفن)( ص 50). وفي قصة ايمان يستخدم هذا المنهج عندما يصور(هاشم عرفات) الذي جعل جلال افندي يشك في حياته، وهاشم عرفات شاب كثير الاطلاع، كثير الشك الفلسفي، لايؤمن بالاقاويل ولايستطيب الحزم في شئ)( راجع قصة: ايمان ص 110 في كتابه: قصص وخواطر). و وأخيرا، هذا نموذج لبدايات تفكير فلسفي في الثلاثينيات من القرن الماضي قصدنا تسجيله والتوثيق له، وكما عبر عنه معاوية محمد نور باعتباره من ابرز كتاب ومثقفي تلك الفترة والذي يعكس الاضطراب والتناقض الذي كان يعاني منه المتعلمون الذين نهلوا من الثقافة الغربية.
#تاج_السر_عثمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الذكري ال 92 لثورة اكتوبر الاشتراكية: بعض المفارقات في ال
...
-
علي هامش مؤتمر جوبا: الحزب الشيوعي والمناطق المهمشة
-
علي هامش مؤتمر جوبا: حول الماركسية وقضايا المناطق المهمشة في
...
-
حول سياسة الادارة الامريكية الجديدة تجاه السودان
-
أضواء علي مؤتمر جوبا(4)
-
اضواء علي مؤتمر جوبا(3)
-
أضواء علي مؤتمر جوبا(2)
-
أضواء علي مؤتمر جوبا، سبتمبر 2009م
-
خطل دعاوي تكفير الحزب الشيوعي(2)
-
خطل دعاوي تكفير الحزب الشيوعي(1)
-
الدين والتنمية: اشارة للتجربة السودانية *
-
في الذكري ال77 لرحيل خليل فرح
-
تجديد الماركسية مع تجدد الواقع
-
نقد تجربة الاسلام السياسي في السودان(2)
-
تعقيب علي احمد الحاج:حول مقاله:الشيوعيون السودانيون: كرنفالي
...
-
نقد تجربة الاسلام السياسي في السودان الفترة(1967- 2007م).
-
الحزب الشيوعي السوداني وتجربة استغلال الدين في السياسة
-
من اجل درء الفتنة الدينية في السودان:الرابطة الشرعية للعلماء
...
-
في الذكري ال63 لتأسيسه: كيف ادار الحزب الشيوعي الصراع السياس
...
-
بمناسبة 63 عاما علي تأسيسه: كيف أدار الحزب الشيوعي الصراع ال
...
المزيد.....
-
-خطوة مهمة-.. بايدن يشيد باتفاق كوب29
-
الأمن الأردني يعلن مقتل مطلق النار في منطقة الرابية بعمان
-
ارتفاع ضحايا الغارات الإسرائيلية على لبنان وإطلاق مسيّرة بات
...
-
إغلاق الطرق المؤدية للسفارة الإسرائيلية بعمّان بعد إطلاق نار
...
-
قمة المناخ -كوب29-.. اتفاق بـ 300 مليار دولار وسط انتقادات
-
دوي طلقات قرب سفارة إسرائيل في عمان.. والأمن الأردني يطوق مح
...
-
كوب 29.. التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداع
...
-
-كوب 29-.. تخصيص 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمواجهة
...
-
مدفيديف: لم نخطط لزيادة طويلة الأجل في الإنفاق العسكري في ظل
...
-
القوات الروسية تشن هجوما على بلدة رازدولنوي في جمهورية دونيت
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|