|
عفوية الجماهير و دور الحركة السياسية في الوطن العربي
سلامة كيلة
الحوار المتمدن-العدد: 858 - 2004 / 6 / 8 - 07:08
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
( كتبت الدراسة سنة 1990) 1/ سلسلة من الإنتفاضات شهدها الوطن العربي، خلال العقد الماضي، وتحركات جماهيرية واسعة هزت أركانه*، وإذا كنا لن نشير هنا إلى الإضرابات، والتحركات الإحتجاجية المختلفة، والمتصاعدة التي حدثت في معظم «الدول» العربية، وخصوصاً الضرابات العمالية في مصر، التي إتخذت منحىً مهماً، وبلورت نضالاً جماهيرياً حقيقياً، فلأننا نركز على الإنتفاضات الكبيرة التي حدثت في خمس «دول» عربية، والتي تشير إلى أنها فاتحة مرحلة جديدة، وتنذر بالانتقال إلى «دول» أخرى، نتيجة تحوّل الوطن العربي إلى منطقة خاضعة للسيطرة الإمبريالية، وتابعة في إطار النظام الإمبريالي العالمي. وبالتالي نتيجة سيادة نمط الرأسمالية التابعة في معظم أرجائه، هذه الرأسمالية التي تعمق من السحق الطبقي، وتؤدي إلى حالة الإفقار المطلق لجماهير واسعة من السكان، لا يكون من خيار أمامها سوى الإنتفاضة. إن سيادة الرأسمالية التابعة أوجدت تشابهاً واسعاً في الظروف الاقتصادية الاجتماعية العربية، جعل أوضاع الجماهير العربية موحّدة إلى حدٍّ بعيد (هذا دون تناسي الفروقات الجزئية، التي كانت، والتي سوف تبقى دائماً، ما دام المجتمع لم يصل إلى مرحلة متقدمة من التطور). وأدت هذه الوحدة إلى أن تصبح الإنتفاضة الشعبية خياراً لكل الجماهير العربية، طريقاً للتعبير عن رفض لمنطق الإستغلال الطبقي السائد، ودعوة من أجل التغيير، التغيير الثوري، الذي ينهي الاستغلال الطبقي، ويسمح للجماهير العربية أن تعيش بكرامة، وأن تتمتع ببعض خيرات هذا الوطن الكثيرة والمتنوعة. وإذا كانت أنماط مختلفة. على الصعيد الاقتصادي الاجتماعي،د سادت في مرحلة معينة، بدت متناقضة، وأوجدت خصوصيات، بن هذه «الدولة» أو تلك، وخصوصاً حينما سيطر نمط رأسمالية الدولة في عدد من الأقطار المهمة، فإن تطورات السنوات العشرين الماضية، أدت إلى أن يسود نمط موحَّد، مادامت السيطرة الإمبريالية الأميركية، قد فرضت نفسها، ومادام الوطن العربي، قد أصبح جزءاً تابعاً في إطار النظام الإمبريالي العالمي. ولهذا نلاحظ تشابه المشكلات الاقتصادية في معظم الدول العربية (العجز في الميزان التجاري، العجز في ميزانية الدولة، التطور المحدود للدخل المحلي مع التطور الكبير لعدد السكان، الزيادة المحدودة للأجور مع الزيادة الكبيرة لأسعار السلع والخدمات، انهيار العملة المحلية وتحوّل الدولار إلى مقياس لأسعار السلع والخدمات، السوق السوداء للعملة، تراكم الديون الخارجية،...). وبالتالي تشابه الأسباب التي تفرض الانتفاضات الشعبية (ارتفاع أسعار الخبز تحديداً، لهذا سميت هذه الانتفاضات انتفاضات الخبز، أو السميد...). إن سيطرة الرأسمالية التابعة، وتوطد السيطرة الإمبريالية الاميركية (وبالتالي حالة النهب الاقتصادي التي تمارسها، فرض حدوث ثلاث انتفاضات كبيرة في مصر، وثلاث في السودان، وإثنتين في المغرب، وواحدة في الجزائر، لكن يشير إلى انتفاضات قادمة في هذه البلدان، وبلدان أخرى دخلت الدوامة نفسها (الأردن...)(*). لقد بدأت الانتفاضات ف مصر في 18/19 يناير عام 1977، ثم في 26 يناير عام 1978 في تونس، ثم عام 1979 في السودانن و1981 في المغرب، ثم عام 1983 في السودان ثم في يناير عام 1984 في تونس والمغرب، ثم في مصر، ثم في آذار/ نيسان عام 1985 في السودان، ثم عام 1986 في مصر، ثم في أيلول عام 1988 في الجزائر، ولاشك أن الأمور تنذر بانتفاضات في السودان ومصر تحديداً. 2/ ولاشك أن هذه الحادثة تشير إلى عمق الأزمات التي تعيشها الجماهير العربية هذه الأزمات التي دفعت كتلاً واسعة من الطبقات الفقيرة لأن تعبِّر عن غضبة، أوجدتها ظروف معاشية غدت تعيشها، ظروف تجعلها تسقط عن كاهلها كل الخوف الذي انزرع فيها، الخوف من الأنظمة، من أجهزة القمع، من الدول، والذي تكرس في وعيها بشكل تلقائي، وأخذته كموروث يركن له، إنها تسقط في لحظة شعور بالضعف، في مواجهة جبروت أنظمة، خصوصاً وهي تعيش في قوقعة الفردية المفرطة، بقوة الجماهير، وهنا يغدو مفهوم الجماهير، ليس كجمع عددي، بل ككتلة متراصّة، موحّدة، تعيش ظروفاً واحدة، وتواجه إشكالات موحّدة، وبالتالي ترى أنها أقوى من مضطهديها. إنه يقابل قوة وجبروت الأنظمة، بقوته هو كفرد، إنه يقابلها بضعفه بالتالي، لذا يلوذ بالصمت، يقبل كل الأفكار التي تبثها ايديولوجيات مختلفة، سواء الايديولوجيا السائدة التي تمتلك حدّ اخضاع الجماهير، وتكييف وعيها، لكي تقبل الاضطهاد والاستغلال والقمع كقدر حتمي، كحتمية لا مفرّ منها، كسنّة إلهية، أو سواء المفاهيم الانهزامية والإصلاحية، والانتهازية التي تنبثق من داخل صفوف الجماهير، والتي تهدف إلى إعلان التوبة، أو ترفع راية الاستسلام، وتعود لتعلن قبولها الاضطهاد والاستغلال والقمع كقدر حتمي، من أجل أن تربح فئة قليلة، بما تلقيه عليها من فتات، الطبقة المستغلة ـ الحاكمة. إن «فردية» الإنسان تجعله يهجر السياسية كنشاط عملي، ويقبل بكل أشكال السلطة، التي تفرضها الطبقة المستغلة ـ الحاكمة، وينفذ كل سياساتها. الفردية هنا سلبية انهزامية، وبالتالي مناقضة لمصلحة الفرد، إنها صيغة التكيف مع منطق الاستغلال السائد، ومع الوعي السائد، المعبَّر عنه في ايديولوجيا الطبقة السائدة. هنا تتبلور ثنائية فرد ـ سلطة (التي تعني الجبروت، القوّة، القمع، السحق، الاضطهاد، الجيش، الشرطة، المخابرات...). وفي هذه الثنائية، يتبلور مطمح الفرد في القدرة على العيش، أي على إعادة تجديد ذاته (بما فيه التوالد، وتربية أطفاله). وعلى إيجاد السبل «الشرعية» لتحسين هذه الوضعية، التي قد تعني التملّق، أو السرقة، أو الانتهازية، ولما كانت هذه الصفات لا تفتح الآفاق نحو تحسين الظروف المعاشية، أو حتى نحو الانتقال الطبقي، سوى لفئة محدودة، من كتلة كبيرة من الجماهير، فإن وعي الأغلبية، يتحدد في إعادة تجديد الذات فقط. لذا تغيب السياسة، الممارسة السياسية، تنحصر في أقلية محدودة تسمى الأحزاب، أو المثقفين، وتختفي المعارضة، لتنحصر في بعض الأحزاب والمثقفين، ويتحول الفرد إلى آلة، إلى شيء، يتوه في دوّامة العمل المضني، من أجل تحصيل قُوْته، وتوفير مستلزمات إعادة إنتاج ذاته، كفرد وكأسرة، يقوم على إعالتها، من أجل أن تنتج عبيداً جدداً، يؤمَّنون استمرارية الاستغلال الطبقي. وبهذا تفر السلطة سطوتها، وتزيد من قوّتها وجبروتها، لتصبح القوة الحاسمة، الثابتة، السرمدية، المطلقة، حسب وعي الجماهير الشعبية، التي تبدو، في المقابل، خارج إطار الصراع الاجتماعي الواقعي، لامبالية، سلبية، يائسة وصامتة. في هذا الإطار يمارس الاستغلال، وتمارس السلطة كل قسوتها، وتظهر كل قوتها، ويجري نهب الجماهير العشبية، استغلالها، من أجل أن تراكم قلَّة ثروة هائلة، ومن أجل أن تنهب الشركات الاحتكارية الإمبريالية والأميركية تحديداً، وأن تصبح قوّة استغلال محلية. لكن تعمق النهب، الذي يوضِّح الانقسام الطبقي، ويظهر الفروقات بين الطبقة المستغِلة الناهبة، والطبقات المستغِلة، المضطَهدة، يسهم في مفاقمة الصراع الطبقي، حيث تأخذ الطبقات المستغَلة المضطهَدة في التعبير عن موقفها ـ بشكل هامش محدود في البدء، لكن مع مراكمة حقد داخلي هائل. إن الشعور بالاستغلال الطبقي، يتطور تدريجياً، لكن في وجهة واحدة، هي وجهة الظرف المعاشي. بمعنى أن شعور الفرد بالعجز عن إمكانية إعادة تجديد ذاته، هو الذي يطغى، حيث يتمركز الاهتمام في الحفاظ على الحدِّ الأدنى الذي يسمح بالعيش. إن الشعور بالعجز عن إمكانية إعادة تجديد الذات، الناتج عن سياسات النهب التي تسيطر في المجتمع، هي التي تجعل الشعور بالاستغلال الطبقي، ينتقل «فجأة» من كونه شعوراً سلبياً إلى كونه شعوراً ايجابياً تماماً. إن التطور المحدود في الأجور، الذي يبقي العامل في أقصى درجات لرب العمل، من جهة، والارتفاع الهائل في أسعار السلع والخدمات، التي تستفيد منها الطبقة المستغِلة الحاكمة من جهة أخرى، يجعل قدرة الفرد على العيش صعبة، ومن ثم مستحيلة، وإذا كان تدني الأجور يشعر الفرد بالاضطهاد الطبقي، فإن الشعور بالعجز عن إعادة تجديد الذات، يدفعه إلى الانفجار، إلى أن يعلن موقفه، بالفعل لا بالكلمات ـ وهي عادة المثقفين ـ من خلال أشكال عديدة، منها الإضراب والاحتجاج، لكن الظاهرة البارزة التي أخذ الوطن العربي يعيشها هي الانتفاضة، الانفجار الجماهيري الكبير، العفوي، المحدود المطالب، العنيف والانفعالي، هنا يكون الفعل انفعالياً، لا واعياً، لحظياً وبالتالي لا يؤدي إلى نتيجة واضحة، وإن كان يؤشر إلى مدى الأزمة التي غدا يعيشها الفرد، هذه الأزمة التي تحوّل وعي الفردي، «فرديته» إلى وعي جمعي، لكنه وعي جمعي مؤقت، سرعان ما يسقط حالما تنتهي شحنات الغضب، أو حالما تتراجع السلطة عن قرار، كان هو السبب المباشر لحالة الانفجار هذه، ولاشك أن رفع أسعار الخبز أو السميد، إضافة إلى سلع أخرى، هو سبب كل الانفجارات التي حدثت، لأن فئات واسعة من الجماهير، تعيش على الخبز كمادة أساسية، لأن دخلها لا يسمح لها إلاّ بالتخلي عن سلع ضرورية مختلفة، إضافة إلى تخليها عن السلع الكمالية. إن محدودية دخل الفرد، والارتفاع الهائل في أسعار السلع والخدمات، يقلِّص مطالب الفرد إلى الحدِّ الأدنى الضروري للعيش، فيصبح الخبز، السكر، الأرز، الشاي، هو كل ما يستطيع الفرد شراءه، وتستهلك هذه المواد (إضافة إلى ضروريات أخرى، مثل السكن، الكهرباء، المواصلات...) كل الدخل، والتالي يتوزع الدخل الشهري بما يكفي شراءها، وحينما ترتفع أسعارها، يحدث اختلال يدفع الفرد إلى الشعور بأنه عاجز عن تجديد ذاته، لهذا نراه يسقط كل الخوف الذي تملّكه، وينسى كل القيم والأفكار التي ترسخت لديه، حول السلطة، والطاعة، والخضوع، لأنه غدا في وضع يقارب من الموت، وأمام الموت يسقط الخوف، ولا تعود هناك حاجة إلى الخنوع والخضوع، والابتعاد عن النشاط الاجتماعي. هذه اللحظة تؤسس لحالة من الوعي الجمعي المؤقت، الذي يدفع (الفرد ـ المجموع) للتعبير عن احتجاجها. لكن لابُدّ من ملاحظة أن هذه الممارسة، لا تقود إلى تأسيس وعي جمعي شامل، بل تبقى الصفة اللحظية هذه هي السائدة. ولا تقود إلى تأسيس وعي جمعي بالمعنى السياسي للكلمة، لأن الوعي الجمعي يتقوم في مسألة أساسية واحدة، هي مسألة الدفاع عن الذات، والسعي من أجل توفير الظرف الذي يسمح بإعادة تجديدها. وبالتالي، وإن كانت الجماهير تمارس نشاطاً سياسياً حينما تنتفض، فإنها تحافظ على مبدأ العزوف عن السياسة، أي أنها تحافظ على مسألة ابتعادها عن ربط الجزئي بالكلي، أي ربطها الحالة التي تُدفع لها، نتيجة الاستغلال الطبقي، بنشاط الطبقة المستغِلة الحاكمة، ولذلك يبقى الخوف مسيطراً عليها، لكنها في المقابل تعيش حالة من الأمل ـ الحلم، بظهور مخلِّص يسقط السلطة، ويحقق المساواة، إن عجز الجماهير عن تحقيق التغيير، في كل مرَّة تخوض فيها حرباً طبقية صريحة، يجعلها تنتظر مخلِّصاً، ينقذها من كابوس الاستغلال القائم، ولاشك أن خوقها من الممارسة السياسي، وشعورها بالحاجة إلى تحسين ظروفها يدفعانها إلى الركض وراء حلم، يقوم على أساس انتظار مخلِّص ما، وهي هنا تنتظر التغيير من قوّة أخرى، هي خارجها، وهنا هي لا تصل إلى فكرة أن صراع الطبقات هو الذي يفرض التغيير، لكن هذه المسألة تفتح الآفاق أمام فئات طامحة، سواء من داخل الطبقة، المستغِلة ـ الحاكمة ذاتها، أو من الفئات الوسطى، لكي تستفيد من هذا الحلم لتفرض استغلالها هي، وسلطتها هي، وبهذا تدخل الجماهير في دوامة الانتظار، وتُستَهْلَك عن طريق تأييد فئة مستغلة ضد أخرى، على أمل أن تحقق لها بعض العدل، لكنها تكتشف أن الفئة الجديدة أكثر استغلالاً من سابقتها، فتؤيد فئة أخرى وهكذا. هذه الدوامة تعبِّر عن إشكالية، هي إشكالية تحوّل العمل العفوي، إلى عمل منظم، والنشاط الجزئي إلى نشاط شمولي، والتصور الاقتصادي إلى تصور سياسي، ولاشك أن نشاط الجماهير يحقق نقلات في هذا الاتجاه، يخلق تراكماً ما، لكن الأهم يهيء أرضيّة مناسبة لهذا الانتقال من العفوي إلى المنظّم، ومن الجزئي الشمولي، ومن التصور الاقتصادي إلى التصور السياسي، من الوعي الزائف إلى الوعي المطابق، لكن فقط من خلال الدور الذي يمكن، ويجب، أن تلعبه حركة سياسية قادرة على تحقيق ذلك، وهذا ما سوف نشير إليه لاحقاً. إذن، ليس صدفة أن تحدث حالة الإفقار المطلق التي تعيشها الجماهير، لأن أساسها يكمن في الاستغلال الطبقي، الذي يجعل جماهير واسعة تعيش في حالة الكاف، وبالتالي يأتي حدث «بسيط»، و«عرضي» لكي يقلب أحوالها، ينقلها من الحياة إلى الموت. وهو أيضاً ليس حدثاً بسيطاً وعرضياً في كل الأحوال، بل أنه نتيجة لجشع الاستغلال، هذا الجشع الذي يدفع إلى تحقيق زيادة مضطردة في الأسعار، في الوقت الذي يفرض تثبيت الأجور، فيأتي قرار رفع الدعم عن السلع الأساسية، هذا القرار المبرر بعجز ميزانية الدولة، وبالتالي عدم قدرتها على دعم السلع الأساسية، لكي يحدث حالة الانتقال النوعي من حالة الكفاف، إلى حالة العجز عن العيش. من هنا من الضروري أن تنفتح الآفاق أمام تفاقم الصراع الطبقي، بتحويله من حالة رفض جزئية مؤقتة، تنطلق من مناهضة قرار «بسيط»، يتعلق برفع الدعم عن السلع الأساسية، أو برفع أسعارها، إلى صراع ضد الاستغلال الطبقي، الذي ينتج هذه الظاهرة، وتحويله أيضاً من صراع مطلبي جزئي، إلى صراع سياسي شامل. إن تفاقم الاستغلال الطبقي هو الذي يلغي إمكانية الفرد لأن يكون قادراً على تجديد ذاته، وبالتالي يدفعه لأن يأخذ موقفاً دفاعياً، لكنه موقف يوضح مدى القدرة التي يمكن أن يصنعها (الفرد ـ المجموع). في هذه اللحظة بالذات، في الوقت الذي يتوضح أن الوعي الجزئي بهذه المسألة لا يقود إلى تجاوزها. وبالتالي فإن حالة الإفقار المطلق يجب أن تدفع ليس فقط باتجاه الحفاظ على حالة الكفاف، بل إلى إسقاط حالة الكفاف هذه من أساسها، أي إسقاط الطبقة المستغِلة ـ الحاكمة (وغير الحاكمة). وتأسيس نمط جديد، يهيء لحياة مستقرة. 3/ لكن ورغم الطابع الجزئي الذي تأخذه الانتفاضة، على صعيد الأهداف، رغم اهتمام الجماهير في مواجهة القرار الجزئي الذي حوّل حياتها إلى جحيم، الذي ألغى طابع الكفاف الذي تتسم به حسانها، وألقى بها في غياهب الموت، أو كاد، رغم ذلك لابُدّ من الإشارة إلى أهميتها، إنها توضح مدى الجرأة التي يمكن لفرد بسيط، مسالم، خانع، أن يحققها في لحظة معينة، وتوضح مدى القوّة التي تكوّنها الجماهير، حينما تتجاوز كونها مجموعة أفراد، إلى كونها كلاً موَّحداً، حينما يسقط الوعي الفردي، لمصلحة وعي جمعي، حينما تذوب الأنا في المجموع (دون أن ننسى أن كل ذلك تحقق بشكل لا واعٍ، ونتيجة الشعور بالعجز عن تجديد الذات). هنا لا يصبح جبروت السلطة قائماً، لأن موازين القوى الواقعية تختّل، حيث تصبح قوة الجيش والشرطة والمخابرات، هامشية أو محدودة، أمام اندفاع عشرات الآلاف، رغم امتلاكها السلاح، ورغم كون الجماهير عزلاء. ولكن لابدَّ أن نضيف هنا أن الانفجار الجماهير ينعكس على بنية السلطة كلها، سواء على شكل ارتباك، أو تعاطف قطاعات من الجيش والشرطة، ونتيجة انتمائها الطبقي المتداخل مع الانتماءات الطبقية للجماهير. إنها لنظرة متعالية، تلك التي تتجاهل القوّة التي تكوّنها الجماهير في لحظة ثورتها، لهذا نرى أن في الحركة السياسية اتجاهاَ قوّياً، يسقط من حسابه هذه اللحظة، لحظة تبلور الوعي الجمعي، وانفلات غضبة الجماهير من عقالها، فيرى جبروت السلطة، من خلال «حجم» الحركة السياسية فقط، ولهذا تبدو السلطة أقوى في كل الأحوال، ولهذا تبقى الحركة السياسية عاجزة في كل الأحوال، نتيجة الكم العددي المحدود الذي تمتلكه، وكذلك نتيجة التأثير الفكري الضيِّق. إن مواجهة جبروت السلطة يستلزم قوى أكبر مما تملك، وهذه حقيقة، لكن في الحركة السياسية اتجاه طاغ ينطلق من أن المواجهة لا تكون سوى بضم جماهير واسعة في إطار الحزب، بتوسيع العضوية لتشمل قطاعات واسعة من الجماهير بغض النظر عن المؤهلات التي تسمح لها بذلك. ولما كانت هذه مسألة مستحيلة، نتيجة أن ظرف الجماهير المشار إليه سابقاً، حيث يؤدي استلاب الفرد، وإنحكامه لحاجته في تجديد ذاته، وبالتالي خوفه من النشاط السياسي، وإن كان يتعاطف مع هذا الاتجاه أو ذاك، يؤدي إلى أن تنتظم قلّة تمتلك حداً من الوعي، وشعوراً بضرورة النضال السياسي، ولهذا يبقى الحزب حزب أقلية في كل الأحوال، وهذا وضعه الطبيعي الذي لا يجوز تناسيه بأي حال من الأحوال. فالحزب يضم العناصر الأكثر وعياً وجرأة وثورية من الجماهير، وهو «هيئة أركان الثورة». ولا يمكنه أن يكون غير ذلك، إلا إذا كان حزباً برجوازياً في إطار نظام ليبرالي، حيث يمكنه من خلال العمل العلني، ووسائل الإعلام واسعة الانتشار أن يقولب قطاعات جماهيرية، وفق رؤيته، لكي تكون سنده الانتخابي. أما في وطن يعيش القهر والتسلط، والاستبداد، فإن للحزب مهمة ثورية، لا تتحقق إلا في إطار عمل سرّي، وهو هذا لا يمكنه أن يكون حزباً جماهيرياً، بل هو حزب أقلية منظمة، لها نفوذها الجماهيري بالقدر الذي ترتبط بطبقة، ارتباطاً حقيقياً، وتعبّر عن مصالحها ومطامحها، وبالتالي تنبذ التهويمات النظرية، والأحاديث العمومية، لتعالج مشكلات محددة. ولاشك أن انعزال الحركة السياسية، نتيجة رؤيتها الخاطئة، ونتيجة شعورها بانفصام العلاقة بينها وبين الجماهير، نتيجة «حلمها» الوهمي، وشعورها أنها أقلية في مواجهة جبروت السلطة، أسس فيها المنطق الإصلاحي، هذا المنطق الذي يدفع الحركة السياسية إلى التفكير، مادامت صغيرة العدد، قليلة التأثير، وغير قادرة على التحوّل إلى حركة جماهيرية، بالمساومة مع السلطة، والسعي لإيجاد قواسم مشتركة، تتيح لها التواجد، في «الرقعة السياسية» التي تسمح بها السلطة، وأن تلعب دور المراقب، أو الحكم، أو المرشد، حيث تعمل على «عقلنة» الحركة الجماهيرية، أي تعمل على إفراغها من مضمونها الثوري، وهي إضافة إلى كل ذلك، تقف مع فئة في السلطة وتنتقد الأخرى تراهن على فئة، وتعمل على إقناع الجماهير بصحة هذه المراهنات. إن شعورها أنها تمثّل بنية متميزة (واعية، حديثة)، يجعلها ترى تمايزها من الجماهير (المتخلفة، شبه الإقطاعية، السلفية)، ولهذا ترى في السلطة بنية عقلانية، فتميل نحوها، لكن مع «نقدها»، وتلعب دور تطويع الحركة الجماهيرية لسيطرتها. والحركة السياسية هنا، تبدو خارج إطار الصراع الطبقي الفعلي، بل تصبح جزءاً من تعارضات الطبقة المستغلة ـ الحاكمة، إنها تنفصل عن الجماهير، وتقترب من الطبقة المستغلة ـ الحاكمة، على ضوء تقييمات شكلية، وتصورات انتقائية متعالية، إنها تنتمي شكلاً للطبقات المسحوقة. لكنها تنظر بتعالٍ إليها، وبالتالي فهي لا تعرف من الانتماء لها سوى الكلمات، بينما هي تراها غير جديرة بالعمل، وغير أهل لتغيير ثوري. أما مصالح الطبقات المسحوقة، العمال والفلاحين الفقراء، وجمهرة واسعة من البرجوازية، الصغيرة، فينحدر وضعها كلما تعمق الاستغلال وتوطدت التبعية، فلا حلَّ لها إلا باقتناع الطبقة المستغلة ـ الحاكمة، بحسن نيّتها، و«أخلاقها» العالية، أو أن حلّها مرتبط بالدور «الثوري» الذي تلعبه الحركة السياسية، من خلال نصائحها،و مناشداتها، ومقترحاتها، وانتقاداتها، الموجهة كلها للطبقة المستغلة ـ الحاكمة، من أجل أن تبدي حُسْن نيّتها، وتقدم ما تجود به من أجل تحسين أوضاع الفقراء. أما الجماهير فإما خانعة، مستسلمة، وتكدّ من أجل توفير وسيلة عيشها، وإعادة إنتاج ذاتها، وهي بذلك بعيدة عن الهمَّ السياسي، وغير معنية بمعارضة السلطة «الطبقة المستغلة ـ الحاكمة)، وإن كمدت غيظها، وهي تُستغل وتُنهب، وبالتالي تبدو كجمع مهمّش، يعيش خارج الواقع، وهذه الحالة الغالبة، والتي تلازمها سنوات، أو تتفجر في انتفاضة صاخبة، تهزّ عروشاً، وتسقط أنظمة، إنها تتراوح بين اللاشيء (أو الشيء) وكل شيء، بين الحياة الهامشية في المجال السياسي، وبين امتلاك زمام الأمور في لحظة صاخبة وهذه النقلة من السكون إلى الحركة، من الجمود إلى النشاط، هي القوّة القادرة على هزيمة جبروت السلطة، وتهميش قواها. وبالتالي فإن هذه النقلة من السكون إلى الحركة، من الجمود إلى النشاط، تهيء الظروف لتحقيق تغيير ثوري، لإسقاط الطبقة المستغلة ـ الحاكمة، لتصفية سياساتها، من أجل تأسيس بنية جديدة. لكن ذلك مرتبط، ليس بعفوية الجماهير فقط، لأن الجماهير تعرف كيف تنفجر، لكنها لا تعرف إلى أين توجه انفجارها، وتعرف كيف تغضب، لكنها لا تعرف من أجل ماذا بالضبط، وتعرف كيف تهز عروشاً وتسقط أنظمة، لكنها لا تعرف أي الأنظمة تقيم إن لحظة الانفجار، المبنية على اندفاعة عفوية، يفرضها الشعور بالعجز عن تجديد الذات، والتي تحدث زلزالاً هائلاً، يمكنها أن تنهي رئيساً، وسلطة فئة مستغلة، لكنها لا تحقق سلطة الجماهير الشعبية، سلطة العمال والفلاحين الفقراء، لأن وعي الجماهير، وأشكال تنظيمها لا تسمح بذلك، وبالتالي نعود هنا إلى دور الحركة السياسية المعبِّرة عن العمال والفلاحين الفقراء تحديداً، فما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه من أجل تحقيق ذلك؟ لابدّ من أن نشير هنا إلى أن الحاجة إلى حزب ما، تفرضه ظروف واقعية والحزب الذي يعبّر عن العمال والفلاحين الفقراء، هو حاجة بسبب من إشكالية الحركة الجماهيرية التي حاولنها توصيفها سابقاً، وبالتالي فإن مهمته تتقوم بالضبط في كيف يدخل الوعي العلمي المطابق لملحة هؤلاء، كيف يهزم الوعي الزائف فيهم، من أجل أن يعوا مصالحهم الشمولية، هذا أولاً، وثانياً كيف يمثّل لولب الحركة الجماهيرية، كيف يكون عمودها الفقري، هيئة أركانها، وكيف يطور أشكال تنظيمها، أما الحركة الجماهيرية فإنها قادرة في لحظة على أن تسقط كل البنى الفوقية، إن جبروتها أقوى من جبروت أية سلطة حاكمة, وهذا ما توضحه الانتفاضات التي حدثت في الوطن العربي، لقد أظهرت في لحظات هزال الأنظمة، وضعف الطبقة المستغلة الحاكمة، وعجزها عن الاستمرار في السيطرة. 4/ لقد حدثت الانتفاضات، فأظهرت عمق الأزمة التي تعيشها الجماهير، كما أظهرت القوّة التي تكونها حينما تفلت من «محاذيرها» ومن خوفها، فتخوض معمعان النضال الثوري. لكن كل هذه الانتفاضات لم تنتصر، سواء لأنها لم تؤد إلى سقوط الأنظمة، أو لأنها أسقطت فئة مستغِلة ونصرت فئة مستغِلة أخرى (مثال السودان)(*)، دون أن تحقق التغيير الذي يلغي أسباب شقائها. هذه النتيجة هي التي من الضروري أن نتوقف عندها، أن نناقشها وأن نحدد أسبابها من أجل أن نستطيع مَدّ الحركة الجماهيرية بالأسس التي تجعلها تنتصر، ولكن لا يتحقق ذلك إلا بتوفر عاملين هما: أولاً: أن يحسم الثوريون قضية ارتباطهم الطبقي، أن لا يبقوا معلقين في الهواء، وأن يقطعوا المراهنة على فئات مستغِلة، ومستغلة ـ حاكمة. أن يعلنوا ارتباطهم العضوي بالعمال والفلاحين الفقراء. ثانياً: أن تجري دراسة الحركة الجماهيرية، كما هي في الواقع، لا كما تصورها الكتب، أو تخترعها «عبقريات» «المثقفين». إن الواقع هو الذي يطرح إشكالاته. وهو الذي يحدد مسيرة التاريخ. طريق الانتفاضة: إذن الانتفاضة ضرورة، لأن الظروف الواقعية تجلعها كذلك. إن تفاقم حالة الإفقار نتيجة السياسة الطبقية التي تمارس في ظل سيادة نظام التبعية، وبالتالي لا مناص من حدوث الانتفاضة، ولهذا من الضروري فهم تطور النشاط الجماهيري، وتلمّس الآفاق التي يمكن أن يصل إليها. وإذا كان تعمّق التبعية، وتكريس سيطرة البرجوازية التابعة، يفرضان الانتفاضات، فلابد من ملاحظة أن لا أفقي واضحاً لها، فهي انتفاضات عفوية، تعبّر عن شعور بالرفض في لحظة معينة. وإذا كانت استفادت فئات من الطبقة المستغلة، من هذه النقمة العامة، من أجل إجراء تحويل شكلي يهدم فئة مستغِلة، بالضد من فئة مستغِلة أخرى، فإن الخروج من هذه الدوامة، وإزالة الاضطهاد الذي تعيشه الجماهير، يفرض إدخال عوامل جديدة. إن السمات التي تسم هذه الانتفاضات، كما أوضحنا سابقاً، هي أنها تنفجر في لحظة محددة عفوياً، دون تنظيم ودون هدف جذري، ثم أنها تعتمد وعي الجماهير، الذي يتأثر بالأيديولوجيا السائدة في الماضي، والايديولوجيا السائدة في الحاضر، مما يجعلنا نقول إنها تمتلك وعياً زائفاً لا يعبّر عن مطامحها الحقيقية. وبالتالي لا يسمح لها تأسيس دور عملي جذري، يفضي إلى تحقيق أهدافها. وهنا تكون العوامل الجديدة، هامة لغاية، لأن من المفترض أن تسهم في تأسيس حالة الانتقال النوعي، من الوعي الزائف إلى الوعي المطابق، ومن العفوية إلى التنظيم. ونحن نتكلم هنا على الحزب السياسي القادر على تحقيق هذه النقلة النوعية ـ الحزب القادر على تنظيم الطبقة العاملة، والفلاحين الفقراء، وعلى تشكيل أوسع جبهة طبقية، من أجل تعميق الحركة الجماهيرية، وتحويل الانتفاضات إلى انفجار ينهي الاستغلال، ويعيد بناء المجتمع من جديد، كيف، هذا ما يحتاج إلى إجابة.
#سلامة_كيلة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دراسة الآليات التي تسمح بتحقيق المقاومة والمواجهة
-
آفاق الصراع و دور الماركسية بعد حرب الخليج
-
التبشير بالخصخصة
-
الطبقة العاملة واليسار في عصر العولمة
-
اليسار السوري في واقعه الراهن
-
مناقشة لفكر ملتبس المادية والمثالية في الماركسية
-
المفكر والباحث الفلسطيني سلامة كيلة :المجتمعات المعاصرة تميل
...
-
حول مشكلات السلطة والديمقراطية في الأمم التابعة ملاحظات في ص
...
-
الاشتراكية أو البربرية
-
العراق حدود-الوجود- الأمريكي والاستراتيجية البديلة -1
-
نقاش حول العولمة في موضوعات المؤتمر السادس للحزب الشيوعي الس
...
-
رحيل الأسد: إطلالة على التغيير المحتمل
-
العـولمة آليات إعادة إنتاج النمط الرأسمالي العالمي
-
الخيار الفلسطيني من الدولة المستقلة إلى الدولة ثنائية القومي
...
-
في النقاش الماركسي الراهـن ضرورة الخروج من فوضي الأفكار
-
الماركسية والثورة الديمقراطية ثورة أم ...........إصلاح؟!
-
الماركسية والعقل الأحادي
-
ملاحظات على ورقة المهام السياسية المقدمة إلى الإجتماع الثالث
...
-
نقد التجربة التنظيمية الراهنة
-
ملاحظات عن ماركس والعولمة
المزيد.....
-
اليساري ياماندو أورسي يفوز برئاسة الأوروغواي
-
اليساري ياماندو أورسي يفوز برئاسة الأورغواي خلال الجولة الثا
...
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي يثمن قرار الجنائية الدولية ويدع
...
-
صدامات بين الشرطة والمتظاهرين في عاصمة جورجيا
-
بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
-
الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
-
الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان
...
-
مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|