|
التطور الإجتماعي لمخ الإنسان
محمد زكريا توفيق
الحوار المتمدن-العدد: 2823 - 2009 / 11 / 8 - 11:31
المحور:
الطب , والعلوم
أفضل طريقة للتمييز بين الإنسان وباقي الكائنات، التي يقدر عدد أنواعها بالملايين، هو النظر إلى ما ينتجه كل منها. أول شئ سوف يلاحظه رواد الفضاء من الكواكب الأخرى.، عند زيارتهم لكوكبنا، هو هذا الكم الهائل من الأقمار الصناعية ومحطات الفضاء التي تدور حول الكرة الأرض.
أيضا سوف يلاحظون هذه الصروح الضخمة مثل الأهرامات وسور الصين العظيم وبرج بيزا وبرج إيفل، وتلك القلاع والقصور الفخمة. سوف ينبهرون بأضواء المدن أثناء الليل، والكمية الهائلة من البرامج التليفزيونية والمكالمات التليفونية والرسائل البريدية الإلكترونية عبر أجهزة الكمبيوتر التي تملأ الفضاء.
أصبحت التكنولوجيا صفة من صفات الإنسان الحديث. لكنها ليست الصفة الوحيدة. بالمقارنة بباقي الحيوانات، نحن كائنات إجتماعية جدا جدا. نعيش في دول تنتمي إلى تحالفات إقتصادية وعسكرية. لدينا الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، والإتحاد الأفريقي والجامعة العربية وغيرها من الإتحادات والتحالفات. وأيضا مجلس الأمن والأمم المتحدة.
نحن أيضا كأفراد، فرد في قبيلة أو عائلة، وطالب في مدرسة أو جامعة، وموظف في شركة أو مؤسسة، وعضو في حي أو حزب أو نادي أو نقابة أو حتى جمعية سرية.
هذا الربط الإجتماعي الذي يربطنا جميعا، بالرغم من عدم وضوحه بالنسبة لزوار الكرة الأرضية من الكواكب الأخرى، لا يقل أهمية عن المدن والسدود والطرق السريعة التي نبنيها لأنفسنا.
عندما ننظر إلى الماضي البعيد لكي نفهم كيف تطور أجدادنا، نكون مثل زوار الفضاء لكوكبنا الآن. أي يمكننا ملاحظة ما خلفه أجدادنا من تكنولوجيا. فمثلا، منذ 2.5 مليون سنة، كان أسلافنا يشدفون الصخور لعمل السكاكين لزوم الصيد وقطع اللحوم.
ومنذ 1.5 مليون سنة، كانوا يصنعون الفؤوس لإستخدامها، لا في الصيد وقطع اللوم فقط، ولكن في تصنيع أشياء وأدوات أخرى مثل أخشاب مدببة تصلح للحفر. ومنذ 400 ألف سنة تقريبا، وجد أقدم رمح صنعه الإنسان. وتوالت تباعا الأدوات المصنعة بيد أجداننا الأوائل وازدادت تعقيدا.
ليس هناك حيوان آخر خلال الأربع ملايين سنة الماضية، ترك لنا من الأدوات ما يدل على أستخدامه للتكنولوجيا مثل الإنسان. بالرغم من أننا نستطيع أن نلمس هذه الأدوات التي خلفها لنا الجدود بأيدينا اليوم، إلا أننا لا نستطيع لمس المجتمع أو الفرد الذي قام بشدفها أو الخبرة التي كان يكتسبها.
ليس من السهل فهم التطور الإجتماعي للإنسان بالرغم من أهميته في تكوين الإنسان الحديث. أسلافنا الذين كانوا يشبهون قرود الشمبانزي، كانوا يعيشون في مجتمعات مثل المجتمعات التي يعيش فيها الشمبانزي اليوم. لكن منذ 6 أو 7 مليون سنة، إنفصلوا في شجرة التطور عن القرود وبدأوا يرومون أراضي حشائش السافانا المكشوفة في شرق أفريقيا.
هنا أصبحت حياة الإنسان الأول بعد إنتقاله إلى أحراش السافانا، أكثر تعقيدا من قبل. هذا التعقيد في الحياة الإجتماعية، هو الذي جعلنا على ما نحن عليه. وهو المسؤول عن كبر حجم المخ والذكاء ونعمة اللغة وقدرتنا الفائقة على إستخدام الأدوات.
في نفس الوقت، أدى التنافس للحصول على الأنثي والإنجاب بين أسلافنا، إلى ترك آثار سيكولوجية، سببت لنا الغيرة والتنافس والجرائم والحروب، وشكلت قدرتنا على الحب وكل العواطف الأخري.
عندما كان دارون يدرس نظريته في التطور، كان يسأل نفسه، كيف وصل الإنسان إلى ما هو عليه من تطور. ولم يكن في عصره تم إكتشاف فأسا عمرها مليون سنة لكي يختبرها بنفسه.
في الواقع قبل عام 1850م، لم يتم إكتشاف أي نوع من العظام المتحجرة للإنسان الأول. وكان دارون يدون ملاحظاته في كراسته، لكنه لم يجرؤ علي نشر أفكاره هذه.
في عام 1857م، عامين قبل نشر كتابه أصل الأنواع، سأله "والاس"، العالم الشاب الذي توصل هو الآخر في نفس الوقت إلى نظرية التطور بمفرد، في خطاب عما إذا كان دارون سوف يقوم بذكر أصل الجنس البشري في كتابه. وكان رد دارون: "أعتقد أن علي تجنب الموضوع برمته. لأنه محاط بالتعصب والمشاكل مع الكنيسة. ومع ذلك، فأنا أقر بأن هذا الموضوع هو أهم سؤال يواجهه علماء التاريخ الطبيعي".
كان صمت دارون عملية إستراتيجية. الإنسان لابد أن يكون قد تطور هو الآخر مثل باقي الحيوانات. لكن دارون لم يرد التطرق لهذا الموضوع في نظريته، خشية أن تُرفض نظريته عند مناقشتها. لكن من كان يقرأ كتابه، سرعان ما يصل إلى نفس السؤال. ما هو مكان الإنسان في هذه النظرية؟
بينما كان العلماء يتساءلون عن موقع الإنسان في نظرية دارون، كان المستكشفون والرحالة يعودون من غابات أفريقيا بقرود وغوريلات كثيرة. وكان "هكسلي"، عالم التاريخ الطبيعي وأكبر المدافعين عن نظرية دارون، هو وغيره من علماء البيولوجيا، يقومون بفحص هذه الحيوانات ليجدوا أنها أقرب من الناحية التشريحية إلى الإنسان منها إلى قرود "الأورانجوتان"، أي القرود برتقالية اللون. وفي عام 1860م، كتب دارون إلى والاس أنه غير رأيه، وقرر كتابة مقالة عن الإنسان.
هذه المقالة أخذت من دارون 11 سنة لكي يكملها. بسبب إنشغاله بالطبعة الثانية من كتاب أصل الأنواع، وكتابه عن نباتات الأوركيد، وكتاب آخر عن تربية وتهجين الحيوانات والنباتات. وكانت تنتابه نوبات مرضية تقعده بالشهور عن الحركة.
كيف تسنى لقوي الإختيار الطبيعي أن تنتج الإنسان بكل ما له من عظمة. وبما له من قدرة على الكلام وقدرة على الفهم والحب والبحث؟ حتى والاس، أصابه اليأس وكان يرى أن مخ الإنسان أكبر وأعقد من اللازم. فالإنسان كان يمكنه أن يعيش بمخ أكثر تقدما من مخ القرود بقليل. خلق الإنسان لابد أن يكون بفعل التدخل الإلهي.
لكن دارون لا يتفق مع والاس في هذا الرأي. ففي عام 1871م، قام دارون أخيرا بنشر نظريته عن تطور الإنسان تحت عنوان "نشأة الإنسان والإختيار الجنسي". في هذا الكتاب، مئات الصفحات تناقش دور الإختيار الجنسي بالنسبة للحيوان والإنسان. وكيف أن هذا الإختيار تسبب في حدوث إختلاف الأجناس بين البشر. لكنه إستطاع وهذا هو الأهم، أن يأتي ببعض الشواهد والأدلة التي تشير بأن الإنسان قد تطور من سلالة تشبه القرود.
في الوقت الذي نشر فيه دارون كتاب نشأة الإنسان، كانت حفريات قليلة بدأت في الظهور. في عام 1856م، عمال المناجم بوادي "نندر" بألمانيا وجدت أثناء الحفر، أجزاء من هيكل عظمي متحجر لإنسان سمي بإنسان "نندرثال". كان يدفن موتاه ويضع معها أثناء الدفن سبعة أنواع من الزهور. أي كان له نوعا ما من الدين.
هذا الإنسان كانت حواجبه كثيفة جدا ومنخفضة تجعل العينين غائرتين. مما أثار السؤال: هل هذا الإنسان يعتبر نوعا مختلفا عن الإنسان الحالي كما يعتقد هسكلي؟ علماء آخرون وجدوا رؤوس حراب مصنوعة من الأحجار والصوان، بجانب عظام ضباع متحجرة في إنجلترا وفرنسا.
البقايا والعظام المتحجرة لم تكن موجودة أيام دارون، لذلك لم يكن أمامه سوى مقارنة تكوين جسم الإنسان بجسم القرود العليا. عظمة بعظمة، التطابق كامل وتام. أيضا مراحل تكون الجنين في الإنسان، تطابق مراحل تكون الجنين في الغوريلا وقرود الشمبانزي. فقط في المرحلة الأخيرة، نجد فرقا محسوسا بين جنين الإنسان وجنين الغوريلا أو الشمبانزي.
هذا التشابه في تركيبة العظام ومراحل تكوين الجنين، جعل دارون يقول بأن القرود والإنسان قد أتيا من جد مشترك. ثم إنفصلا منذ زمن غابر إلى فرعين. أحدهما الإنسان والفرع الآخر هو القرود الشمبانزي. ومنذ ذلك الوقت، سار كلا منهما في طريق التطور الخاص به.
بما أن الإنسان يشبه إلى حد كبير الغوريلا وقرود الشمبانزي، والغوريلا والشمبانزي كلاهما كان يعيش في أفريقيا، لذلك إعتقد دارون أن أسلافنا كانوا يعيشون في أفريقيا.
في عام 1871م، قد يبدوا لقارئ دارون أنه كان يحاول إصابة هدف في الظلام الدامس. لكن بعد 130 سنة، جاء سيل من الأدلة المادية التي تثبت صحة إفتراضه.
علماء البيولوجيا الآن يعرفون أن هناك تشابه يقترب من حد التطابق الكامل بين جينات الإنسان وقرود أفريقيا. وفي عام 1999م، قامت مجموعة دولية من العلماء برسم شجرة تطور على أساس تكوين جينات الإنسان والحيوانات. وقد أثبتت شجرة التطور الآتي:
الأصل أو الجد المشترك بيننا وبين القرود الشمبانزي يرجع إلى 6 أو 7 مليون سنة مضت. ثم بعد ذلك، إنفصل جد الإنسان عن جد القرود، وذهب جد الإنسان لكي يعيش في مناطق حشائش السفانا المكشوفة بأفريقيا.
يمكن تلخيص شجرة التطور الخاصة بالإنسان والقرود العليا كالآتي: أصل الإنسان والقرود والغوريلا، كان أصلا واحدا ثم إنقسم إلى فرعين، "1" و "2". الفرع "1" أصبح قرود "الأورانجوتان" برتقالية اللون. والفرع "2" إنقسم فرعين، "3" و"4". الفرع "3" أصبح أصل الغوريلا. والفرع "4" إنقسم إلى فرعين، "5" و "6". "5" هو أصل قرود الشمبانزي، و"6" هو الإنسان الحديث.
أول آلة مصنوعة من الحجر للإنسان الأول عمرها 2.5 مليون سنة. وأول فأس لها يد خشبية ظهرت بعد ذلك بمليون سنة. النار بدأ إستخدامها في الطهي وصناعة رؤوس الحراب وأدوات أخرى منذ نصف مليون سنة تقريبا. وأخيرا منذ 50 ألف سنة فقط، ظهر الإنسان الحديث الذي يقوم بالرسم والتلوين على جدران الكهوف، ويستخدم الحلي ويقوم بصناعة أسلحة معقدة ويدفن موتاه.
أقدم عظام متحجرة لإنسان يشبه قرود الشمبانزي إكتشفها فريق من العلماء عام 1992م في أثيوبيا. العظام عبارة عن أسنان وجزء من الجمجمة وبعض عظام الذراع. يرجع عمرها إلى 4.4 مليون سنة.
العظام لكائن يشبه القرد لكن له بعض الخواص التي تشبه أيضا الإنسان. عندما يقفل الفم، تنطبق الأسنان العلوية على الأسنان السفلية مثل الإنسان. العمود الفقري يتصل بأسفل الجمجمة مثل الإنسان، ويختلف عن الشمبانزي والقرود الأخرى.
لكن في نفس الوقت، كائن أثيوبيا هذا، له صفات الشمبانزي أيضا. له أسنان تشبه أسنان الشمبانزي أو الكلب، مغطاه بطبقة رقيقة من المينا. لا تستطيع أكل الكثير من اللحوم أو النباتات الصلبة. تكل فقط الفاكهة اللينة والأوراق الرقيقة مثل شمبانزي هذه الأيام.
مثل هذه الكائنات مختلطة التركيب، شاهدها العلماء من قبل. فمثلا هناك الحيتان التي كانت تسير، والأسماك التي لها أرجل وأصابع، واللافقاريات التي لها مخ الفقاريات.
الإسم العلمي لكائن أثيوبيا هو "أرديبيثيكوس راميدوس"، أو باختصار "أردي". وهو لمخلوقة أنثي. لا تمثل الحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد. وكما أثبتت الأبحاث التي قام بها فريق علماء جامعة كاليفورنيا وجامعة كنت الأمريكية، ليست الجد المشترك لنا ولقرود الشمبانزي، إنما تقترب جدا من الجد المشترك. الجد المشترك بيننا وبين الشمبانزي، علينا أن نواصل البحث عنه، وقد يرجع إلى 6 أو 7 مليون سنة.
بينما أردي تمثل أقدم الكائنات الشبيهة بالإنسان، إلا أن العلماء قد إكتشفوا من قبل كائنات أخري شبيهة بالإنسان ترجع إلى 3 مليون سنة. كلها في شرق أفريقيا. على ساحل بحيرة توركانا في كينيا، اكتشف "ميف ليكي" كائنا عمره 4.2 مليون سنة شبيه بالإنسان.
أيضا في كل من أثيوبيا وكينيا وتنزانيا، إكتشف العلماء مخلوقات شبيهة بالإنسان أطلقو عليها "أفارينسيس" يتراوح عمرها من 3 إل 3.9 مليون سنة. وأيضا بقايا عظام متحجرة لمخلوقات تشبه الإنسان أكتشفت في نفس المنطقة شرق أفريقيا، ربما تكون أنواعا مختلفة من الإنسان.
هذه الكائنات شبيهة الإنسان كانت تعيش في ظروف صعبة جدا. موجات البرد كانت تغطي سطح الكرة الأرضية. الغابات كانت تتقلص وتضمر وتصغر مساحاتها. الشمبانزي والكائنات شبه الإنسان بدأت تتأقلم على المناخ الجديد بطرق مختلفة.
الشمبانزي لجأ إلى الغابات الكثيفة التي نجت من موجات البرد في وسط وغرب أفريقيا. أما جدنا الإنسان الأول والمعروف علميا ب"هومونيد"، بدأ يتأقلم في أراضي السفانا المفتوحة. ومع إزدياد برودة الأرض، بدأ جسم الإنسان في التغير. أصابع الرجلين بدأت تنكمش وتصغر. الأرجل بدأت يزداد حجمها وتقوي على حمل الجسم. القامة بدأت تستقيم والرأس ترتفع إلى أعلى للنظر إلى مسافات أكبر.
يقول "كيفين هنت" من جامعة إنديانا، أن هذه التغيرات في جسم الإنسان الأول، ترجع إلى تغير نوع الغذاء. من قبل، الإنسان الأول كان عليه التسلق إلى الأشجار في الغابات للبحث عن غذائه، مثل قرود الشمبانزي اليوم.
لكن مع نقص الغابات وتقلصها، بدأ أجدادنا في جمع الفاكهة من الأشجار المنخفضة وهو واقف على رجليه. وهذا أثر في الطريقة التي يسير بها، بعد الإنتقال إلى أحراش السافانا. الإنسان الأول القديم قبل الإنتقال، كان يسير ببطء بإستخدام يديه ورجليه، نظرا لضعف الساقين وعدم قدرتهما على حمل وزن الجسم. وهذا ما يفعله شمبانزي اليوم.
المشي بالساقين مع إنتصاب القامة، يعتبر تغيرا كبيرا بالنسبة لأجدادنا. كان المشي في البداية بطيئا بسبب قصر الساقين. يغطئ مساحات صغيرة ومسافات قصيرة كل يوم. في البداية، ربما كان المشي من شجرة إلى شجرة.
مع مرور الزمن، إنتشر الإنسان الأول في أماكن كثيرة. حتي وصل إلى تشاد شمالا، وجنوب أفريقيا جنوبا. ومنذ 2.5 مليون سنة، بدأ يترك لنا أدواته الحجرية.
الإنسان الأول كان يشكل أدواته عن طريق خبط الأحجار ببعضها بزاوية معينة وشدف حوافها. ليصنع منها أنصالا حادة تستخدم في قطع اللحم وسلخ الجلد.
الإنسان الأول، ليس هو الكائن الوحيد الذي يستطيع عمل وإستخدام الأدوات. القرود الأورانجوتان هي الأخري تأخذ فروع الأشجار الرفيعة، وتنزع قشرتها، ثم تدخلها في أعشاش النحل للحصول علي العسل، أو في أعشاش النمل الأبيض (التيرمايت)، للحصول علي الحشرة نفسها عندما تعلق بالغصن.
والقرود أيضا تضع النقل علي الصخر، وتهشمة بإستخدام حجر صغير يمكن حمله. مثلما يفعل الحداد وهو يطرق الحديد الساخن بالمطرقة والسندان. وتستخدم أوراق الشجر مثل الإسفنج لمص الماء من الأماكن المبلولة، ويستخدمها كمظلة واقية من المطر، ويفرشها كسجادة فوق الأماكن الموحلة للجلوس فوقها. لكن الأدوات التي كان يصنعها الإنسان الأول منذ 2.5 مليون سنة، تفوق قدرات أولاد عمومتنا القرود.
في عام 1990م، حاول "نيكولاس توث" من جامعة إنديانا، تدريب قرد من نوع البونوبو أطلق عليه إسم كانزي، على عمل الأدوات. لمدة شهور، والقرد يقوم بخبط الصخور ببعضها. لكنه في النهاية لم يحقق أي تقدم.
جزء من المشكلة هو أن أصابع الإبهام في هذه القرود، ليس لديها مجال الحركة الموجود بالنسبة لأصابع الإبهام في الإنسان. لذلك لم يستطع التحكم في عملية خبط الأحجار ببعضها لتشكيل الآلات المطلوبة. كما أن حجم المخ لديه، لا يسمح له بإجادة كل الحيل المطلوبة في عملية شدف الأحجار. مثل التحكم في حجم القوة المطلوبة ومكان الطرق...الخ. لكن منذ 2.5 مليون سنة، تغلب أسلافنا على هذه الصعاب وأتقنوا فن صنع الأدوات اللازمة لهم من الحجر.
منذ 2.5 مليون سنة تقريبا، تعرض شرق وجنوب أفريقيا للجدب الشديد. الحشائش كانت تنتشر وتحل محل الغابات الكثيرة. الإنسان الأول، تطور إلى كائن بقامة منتصبة، يمشي على قدمين. مما ساعده على البقاء في بقاع مكشوفة واسعة.
إنتصاب القامة يجعل التعرض لأشعة الشمس الحارقة في المناطق الإستوائية أقل من الحالة التي يسير فيها على أربع. خيال الظل أصغر في حالة إنتصاب القامة. كما أن إنتصاب القامة يجعل الرأس فوق مستوي الحشائش والتنفس والتعرض للهواء البارد أفضل.
الظباء والغزلان والبقر الوحشي تنتشر في مناطق السفانا. بعض آثار عظامها المتحجرة تبين أن عظامها، قد كشطت عنها اللحم بآلات حادة. الإنسان الأول، ربما كان يتبع هذه الحيوانات خلال حشائش السافانا. يأكل لحومها، الميتة والموقوذة والمخنوقة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع. بدون أن يتهمه أحد بالكفر.
عندما صنعت أول أداة حجرية، كان يوجد على الأقل أربعة أنواع من الإنسان. تطورت من الإنسان الأول "هومونيد": النوع الأول يعيش في أفريقيا. وهو أقدم هذه الأنواع والمسؤول عن صناعة الأدوات الحجرية. وهو جدنا المعروف بال"هومو" وتعني الإنسان.
أقدم "هومو" ظهر منذ 2.5 مليون سنة. وهو نفس الوقت الذي ظهرت فيه أول أداة حجرية. ال"هومو" يختلف عن الإَنسان الأول(هومونيد) في شكل صباع الإبهام وحجم المخ. حجم مخ الهومو أكبر ب 50% من حجم مخ الإنسان الأول القديم.
بإستخدام الأدوات الحجرية، إستطاع جدودنا ال"هومو" أن تزيد كمية اللحوم في غذائها. بالرغم من عدم وجود فك وأنياب قوية للإنسان، مثل فك وأنياب الضبع، ومخالب حادة مثل مخالب السبع.
يستمر تطور مخ ال"هومو". في خلال مئات آلاف قليلة من السنين، إزداد حجم مخ ال"هومو" إلى ضعف حجم مخ الشمبانزي. هذا المخ يوجد في جسد لا يزيد عن 6 أقدام.
كل آثار تسلق الأشجار ذهبت إلى غير رجعة. هذا النوع من ال"هومو" يسمى "هومو إيرجاستر". وهو أول مخلوق يطلق عليه كلمة إنسان بمعنى الكلمة. يشبه الإنسان الحديث، يحب التجوال، ما لبث أن غادر أفريقيا كلية.
منذ 1.7 مليون سنة، "هومو إيرجاستر" وصل إلى جمهورية جورجيا بالقرب من بحر قزوين. حيث توجد آثاره في شكل جماجم وأدوات. لكن الإنسان الأول الموجود في أفريقيا، تعرض إلى طفرة تطور أخري منذ 1.5 مليون سنة. لقد إخترع الفأس.
هذا النوع الجديد من الآلات يتطلب مهارة أكبر من تصنيع رؤوس الحراب والسكاكين. لكي تصنع الفأس، عليك أن تشدف الحجر من جانبين متقابلين. لكي تجعل الحرف حادا. ثم تربط أعلى الحجر بيد خشبية طويلة. من قام بتصنيع الفأس أول مرة، كان لديه فكرة في رأسه مسبقة.
إختراع الفأس وآلات أخري جديدة، ساعدت إنسان أفريقيا الأول على تشغيل مخه. خلايا المخ تتطلب طاقة تقدر ب 22 ضعف الطاقة التي تتطلبها خلايا العضلات. الإنسان الأول، يستخدم مخه لصناعة الأدوات التي تساعده على صيد حيوانات أكبر والحصول علي كميات لحوم أكثر.
بعد إختراع الأدوات الجديدة بفترة وجيزة، حدثت موجات هجرة كبيرة للإنسان الأول من أفريقيا . فمنذ مليون سنة تقريبا، الإنسان الأول بدأ يصل إلى أسيا وأوروبا ومعه أدواته. ومنذ 800 ألف سنة مضت، وصل إلى أسبانيا في أوروبا وإلى أندونيسيا في الشرق.
بدون أدوات، لن يستطيع الإنسان الأول أن ينتشر في مساحات كبيرة ومسافات بعيدة من اليابسة. لكن ما هي قوى التطور التي جعلته يأخذ معه أسلحته؟
خلال مراحل تطور الإنسان الأول، كان المخ يزداد حجما وتعقيدا. مما ساعد في تصنيع الأدوات اللازمة للبقاء على قيد الحياة. لكن كيف تضخم مخ الإنسان إلى هذا الحجم بالنسبة لمخ الشمبانزي؟
الإجابة تأتي من الحياة الإجتماعية التي تحياها قرود الشمبانزي بالنسبة لباقي الحيوانات. فالشمبانزي تقضي جل وقتها في جماعات. تقيم تحالفات وتتصارع لتتبوء المكان المناسب في السلم الإجتماعي. تأثير النظام الإجتماعي على الكائنات بالنسبة للتطور، لا يقل عن تأثير قوي الطبيعة.
القرد ذو الشعر الناعم (مثل القطيفة)، يكاد يموت من الخوف عند رؤية ثعبان البايثون الضخم. لكنه لا يستطيع معرفة آثار زحف البايثون الحديثة على الرمال. في نفس الوقت، يستطيعون تذكر الشجار الذي يحدث بين الأفراد، فيقوم أقارب كل فريق بالإنتقام ومضايقة أقارب الفريق الآخر فيما بعد.
قرد شاب كان يمسك بثمرة فاكهة. رآه قرد صغير فأراد أن يأخذ الثمرة منه. لكنه يعلم أنه لا يستطيع أن يأخذها بالقوة. فماذا يفعل؟ أخذ يصرخ بأعلا صوته. فجاءت أمه مسرعة لنجدته. فأشار إلى القرد الشاب وكأنه يتهمه بضربه. فهجمت الآم على القرد الشاب, الذي فر هاربا تاركا الثمرة للقرد الصغير.
وضعت قطع من الشيكولاتة ملفوفة فى ورق مفضض أمام قرد شمبانزى. وكان فى أحدها نحلة حية. وعندما فض الشمبانزى الورقة المفضضة من على النحلة, قامت بلدغه فى يده. فماذا يفعل بباقى الشيكولاتة بعد أن ذاق حلاوتها؟ وجد أنه كان يأخذ الشيكولاته, قبل فض غلافها, ويضعها على أذنه لكى يعرف هل بها شئ يتحرك أم لا؟
علماء المخ والأعصاب كانوا يعتقدون أن المخ عبار عن جهاز عام لمزج وتوظيف المعلومات، يستخدم نفس الأسلوب لحل كل المشاكل الإجتماعية والطبيعية التي تواجه الكائن. لكن الشواهد الآن تثب أن عقولنا لا تعمل بهذه الطريقة لحل كل المشاكل.
المخ عبارة عن شبكة معايير أو موديلات مختلفة تشبة برامج الكمبيوتر، لكنها تختلف في طريقة عملها. هذه الموديلات مكونة من خلايا المخ التي تسمى نيرونات. كل موديل منها مخصص لحل مشكلة معينة.
عندما نضع أربع نقط على ورقة بيضاء، فإننا لا نري النقط الأربعة فقط. إنما نري أيضا المربع الذي تشكله هذه النقط. من أين جاء المربع الذي لا وجود له على الورقة؟
في المركز البصري للمخ، يوجد موديل أو برنامج، وظيفته هي وصل النقط ببعضها وإكمال المربع. الصور تصل من العين إلى المخ فتمتزج مع الموديلات المختلفة لتكون صورة ذات أبعاد ثلاثة لهذا العالم الذي نعيش فيه.
لا نحتاج للذهاب إلى المدرسة لكي ننمي هذه الموديلات البصرية. فهي تبدأ في التكوين ونحن في بطون أمهاتنا. وتنضج إلى أوجها بنعمة البصر. الكثير من البيولوجيين، يعتقدون أن هذه الموديلات جاءت عن طريق التطور، للمساعدة على التأقلم في البيئة المحيطة. مثلها مثل خرطوم الفيل ومنقار الطائر. كلاهما جاء لملاءمة الحيوان للوسط المحيط به ومساعدته على البقاء.
الموديلات البصرية جاءتنا عن طريق التطور عندما كان أجدادنا يكافحون للحصول على فاكهتم المفضلة بين الأشجار المختلفة، والتمييز بين الناضج والنئ منها. وبدلا من بناء صورة للعالم من حولنا 60 مرة في الثانية من الصفر،يقوم المخ بإستخدامل المودلات لإستخراج المعلومات المفيدة فقط.
كما أننا نرى بالإستعانة بمودلات الإبصار هذه، فإننا أيضا نستخدم موديلات أخري لفهم عالمنا الإجتماعي الذي نعيش فيه. سيمون كوهين، سيكولوجي بجامعة كامبريدج، تابع الموديلات الإجتماعية في أفراد معاقين لهم قدرات ذهنية مختلفة.
مجموعة منهم مصابة بما يعرف بظاهرة "وليامز". لهم قدرة ذهنية(أي كيو)، تتراوح بين 50 و70. يجدون صعوبة كبيرة في التفريق بين اليمين واليسار. لا يستطيعون إجراء عمليات الجمع الحسابية البسيطة. وليس لديهم شعور تجاه الآخرين. لكنهم في نفس الوقت، موهوبين موسيقيا وقدرتهم على القراءة والإطلاع رهيبة.
لدراسة الناس المصابة بظاهرة "وليامز"، إبتكر كوهين إختبارا خاصا. قام بتجميع صور وجوه لها تعبيرات مختلفة. وقام بقطع أجزاءها التي تحتوي على العيون وإستبعاد الباقي. ثم قام بعرض صور العيون علي المصابين بظاهرة "وليامز". وسألهم عن شعور الناس أصحاب هذه العيون.
جاءت إجابة المصابين بظاهرة "وليامز" مطابقة لإجابات الناس العاديين. تلف المخ عند هؤلاء لم يمنعهم من النظر إلى العيون ومعرفة أعماق النفس لأصحاب الصور.
كرر كوهين تجربته على المصابين بمرض نفسي إسمه "أوتيزم"، مرض الأوتيزم لا يسبب ضعف القدرة العقلية على طول الخط، فبعضهم في قمة الذكاء. لكن المصاب بهذا المرض، يجد صعوبة بالغة في التكيف مع قوانين المجتمع وفهم إحساس وطريقة تفكير الآخرين.
عندما ينظر المصاب بمرض الأوتيزم إلى صورة العيون، يفشل فشلا ذريعا في معرفة شعور أصحاب الصور. هناك شئ داخل المخ يمنعهم من وضع أنفسهم في مكان الآخرين. إذا حدث للموديلات الإجتماعية في المخ أي تدمير، كما هو الحال عند مرضى الأوتيزم، قد تنجو صيغ أخرى للذكاء. بينما الناس المصابة بظاهرة وليامز، لم تتأثر الموديلات الإجتماعية لديها، بالرغم من إصابة المخ أصلا بالتشوه.
تطور الموديلات الإجتماعية أو الذكاء الإجتماعي هو أهم عنصر في ظهور الإنسان الحديث، وسبب كبر المخ في الحيوانات. روبرت دونبار، سيكولوجي من جامعة ليفربول، قام بمقارنة حجم المخ في الحيوانات، وخصوصا منطقة الذكاء "نيوكورتكس"، التي تقع في القشرة الخارجية للمخ.
قرود الليمور طويلة الذنب، لها "نيوكورتكس" صغير الحجم بالنسبة لجم جسمها. بينما قرود البابون والشمبانزي، ال"نيوكورتكس" لديها كبير الحجم نسبيا. لقد إكتشف دونبار شئ مدهش، وهو أن حجم ال"نيوكورتكس" له علاقة بحجم المجموعة التي يعيش داخلها الحيوان.
عندما يعيش الحيوان في مجموعة كبيرة، هذا يضع جهودا كبيرة على موديلاتها وذكائها الإجتماعي. عليها أن تطور نماذج وموديلات ذكاءها الإجتماعي لحفظ معلومات عن التحالفات والأقارب والأعداء.
التغير الجيني أيضا، ينتج "نيوكورتكس" أكبر وأضخم في أنواع الحيوانات هذه. هذا يعطي ميزة لهذه الحيوانات، تساعدها على البقاء في مجتمعات كبيرة. لذلك تجد الغش والخداع من صفات الحيوانات التي تعيش في مجتمعات كبيرة مزدحمة.
هذا ينطبق أيضا على الإنسان. الغش والخداع والنصب والحيل، تجدها من شيم سكان المدن الأكثر تعدادا وإزدحاما. لكن الزحمة والتكدس السكاني، قد تكون له فائدة في الأمد البعيد. فقد تجعلنا أكثر ذكاء وأكثر قدرة على التنافس، وتجعل حجم المخ أكبر. لكن هذا يتطلب ملايين السنين.
لو فصلنا سكان المدن عن سكان الريف لعدة ملايين من السنين، فإننا قد نجد في النهاية، أن سكان المدن قد تحولت إلى جنس آخر غير سكان الريف. هذا لا يحدث الآن لأن العزل غير كامل. العزل هو الذي يخلق أنواعا جديدة.
وإلى اللقاء في المقال القادم إن شاء الله لإستكماء البحث عن أصل الإنسان وتطور مخه والمستقبل الذي ينتظرنا جميعا.
#محمد_زكريا_توفيق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفلسفة الهيلينية
-
أرسطوطاليس المعلم الأول
-
عصيان مدني
-
أفلاطون
-
السفسطائيون وسقراط
-
العلم يثبت كل يوم صحة نظرية دارون
-
قصة بداية الفلسفة الغربية
-
هل هناك أمل فى تحرير المرأة المسلمة
-
قاسم أمين وتحرير المرأة
-
الشمس
-
كوكب المريخ - إله الحرب
-
كوكب الزهرة - إلهة الحب والجمال
-
فكر سلفى يعقب على فكر التنوير
-
من روابينا القمر
-
رسالة مفتوحة إلى الشيخ البدرى
-
كيف نقيم ثورة يوليو 1952م فى عهد الرئيس عبد الناصر؟
-
الدكتور سيد القمنى وحرية الرأى
-
سبب نشوء الجنس فى نظرية التطور (2)
-
سبب نشوء الجنس فى نظرية التطور (1)
-
ساعات داخل الذرات تبين صحة نظرية التطور لدارون
المزيد.....
-
الأعراض الأولى لسرطان القصبة الهوائية والوقاية منه
-
أطعمة ومشروبات تجنبها عند تناول المضادات الحيوية
-
الضغوط تتزايد على عمالقة التكنولوجيا.. ماذا يعني قانون الأسو
...
-
الحكومة الأميركية تطلب من القضاء إجبار غوغل على بيع -كروم-
-
” سجل الآن من هنا “.. التسجيل في مسابقة الشبه الطبي في الجزا
...
-
مخدر الاغتصاب GHB .. مراحل تأثيره السلبى على الجسم وكيف يحدث
...
-
وكالة الفضاء الأوروبية تمول شركات صناعات الفضاء الخاصة بملاي
...
-
نوع من الفطر قد يبطئ نمو الورم السرطاني ويطيل العمر
-
للمرة الأولى.. اصطفاف مجرتين بشكل مثالي يساعد على رؤية الكون
...
-
أوبئة عادت لتهدد العالم فى 2024.. فيديوجراف
المزيد.....
-
هل سيتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في يوم ما؟
/ جواد بشارة
-
المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
-
-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط
...
/ هيثم الفقى
-
بعض الحقائق العلمية الحديثة
/ جواد بشارة
-
هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟
/ مصعب قاسم عزاوي
-
المادة البيضاء والمرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت
...
/ عاهد جمعة الخطيب
-
المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين
/ عاهد جمعة الخطيب
-
دور المايكروبات في المناعة الذاتية
/ عاهد جمعة الخطيب
المزيد.....
|