|
المندائيون..آراء فقهاء المسلمين فيهم وموقفهم التقي من الله والخير
رشيد الخيُّون
الحوار المتمدن-العدد: 857 - 2004 / 6 / 7 - 04:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هناك نداء موجه من صابئيين مندائيين، يشكون فيه ما يحل بأهلهم وبدينهم وبملتهم، في بعض مناطق العراق اليوم، من ضغوط يمارسها ضدهم رجال دين مسلمون مسيّسون، يجهلون تاريخ هذا الدين، وفقهه، وتعاليمه. يشهد التاريخ بتمرس الصابئة المندائيون على التعامل الحذر مع المحيط والقدرة على الصبر تجاه المضايقات المستمرة، فحاولوا لدهور طويلة التعايش السليم في المجتمع العراقي. مطلبهم الوحيد هو الاحتفاظ بدينهم وممارسة طقوسهم دون تظاهر قد يزعج الآخرين، وهذا ما يأملون أن يوفره لهم العراق الجديد. تضامناً مع النداء، ومع قدماء العراق، أحاول في هذا المقال الكشف عن آراء فقهاء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين في أهل هذا الدين القديم الموحد، ولينظر فيها مَنْ يجهلهم، ويجهل رأي الإسلام فيهم. وهنا لا أحاول أن أبرر لوجود هذا الدين أو ذاك، فأي إنسان من حقه الحياة وممارسة طقوسه وعقيدته طالما ضمنها له دستور متحضر وإنساني. فالله خلق الدنيا متسعة للجميع، وكل فئة تصله وتتعرف عليه وتناجيه بطريقتها، والهيمنة والسيطرة مرفوضة في القرآن الكريم قبل لوائح حقوق الآدميين، وليس هناك أفصح من الآية "لستَ عَليهم بمُصَيطِرٍ". صرح معظم المفسرين الفقهاء بنسخ الإسلام للأديان الأخرى بما فيها الكتابية، حسب الآية: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، بينما حاول فقهاء آخرون تثبيت اعتراف الإسلام بالآخر وهذا ما حصل فعلاً. بدأ التصريح بنسخ أو إلغاء الآخر عملياً في الجزيرة العربية بترحيل يهودها ومسيحيي نجران على يد الخليفة عمر بن الخطاب، لشأن سياسي وزمني، حتى تبقى خالصة للإسلام، وبلا شك أثر هذا الموقف سلباً في العلاقة مع أهل تلك الأديان، لكن هذا لم يطبق خارج الحجاز. بيد أن من الصعوبة بمكان الغاء النص القرآني الذي ضمن للكتابيين وغيرهم الاحتفاظ بدياناتهم وفق شروط، استغلها عدد من الخلفاء بداية من عمر بن عبد العزيز وحتى خلفاء بني العباس وأمراء المغول بعد إسلامهم، ومن أتى بعدهم، ليضيقوا على أهل الذمة في لباسهم ودور عبادتهم وحياتهم الشخصية، ووراء هذه السياسات كان الإخباريون والفقهاء. وبهذا لم يعترف بعض الفقهاء المسلمين للصابئة المندائيين ما اعترف لهم فيه القرآن الكريم، كأهل دين وكتاب في ثلاث سور من سوره هي: البقرة، والمائدة والحج. تتكرر الآية بالصيغة نفسها "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون (هكذا وردت) والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، وصيغة أخرى أُضيف فيها المجوس والمشركين: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد". جاء في أسباب نزول الآية الأولى، وبالتالي يعبر سبب نزولها وتفسيرها عن نزول الآيتين الأخيرتين: أنها "نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، لما قدم سلمان على رسول الله (ص) جعل يخبر عن عبادة أصحابه واجتهادهم، وقال: يا رسول الله كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنك تبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال رسول الله: يا سلمان هم من أهل النار، فأنزل الله: إن الذين آمنوا والذين هادوا … وتلا قوله: ولا هم يحزنون"(الواحدي، أسباب النزول). وروي عن عبدي الله، ابن مسعود وابن عباس، وغيرهما: "نزلت هذه الآية في سلمان الفارسي، وكان من أهل جندي سابور من أشرافهم". وهنا لا يقصد بديانة سلمان المسيحية أو اليهودية، فالكثير منهما دخل الإسلام قبل سلمان، وجاءت فيهما نصوص قرآنية كثيرة، لم تحتج إلى تدخل أحد، سلمان أو غيره، كما لا يقصد فيها المجوسية، وإن كانت منتشرة في بلاد فارس، حيث انحدار سلمان، لان أسباب النـزول خاصة بالآية (62) من سورة البقرة، والمجوس لم يذكروا إلا في سورة الحج (17). لذا الاحتمال الوارد أن سلمان الفارسي واسمه الحقيقي ،حسب الطبري: (مايه بن بوذخشبان بن ده ديره) كان صابئياً مندائياً، فللدين المذكور وجود ببلاد فارس، يوم كان العراق وإيران تحت حكم واحد. يروى عن عائشة كان للرسول مجلس مع سلمان الفارسي "ينفرد به في الليل حتى يكاد يغلبنا على رسول الله"(ابن عبد البر، الاستيعاب). ربما كانت هذه العلاقة سبباً في ورود شيء من اعتقادات المندائيين في الإسلام، فهم أحناف بالمعنى المعروف للحنفية. ومعروف أن تسمية الإسلام ممتدة في أديان أخرى، حتى أن فقهاء مسلمين يعدون الأديان التي سبقت الإسلام مراحل لدين واحد. قال الفقيه السوداني المقتول محمود محمد طه: "بالإسلام جاء جميع الأنبياء من لدن آدم وإلى محمد"(الرسالة الثانية في الإسلام). روى الخطيب البغدادي (ت463هـ) في سياق ترجمة الأصطخري أن القاهر بالله العباسي استشار فيهم الفقيه والمحتسب المذكور: "أفتاه بقتلهم، لأنه تبين له أنهم يخالفون اليهود والنصارى، وأنهم يعبدون الكواكب، فعزم الخليفة على ذلك، حتى جمعوا بينهم مالاً كثيراً له قدر فكف عنهم"(تاريخ بغداد). ذكرت فتوى القتل في مصادر إسلامية ترجمت لحياة الأصطخري منها "سير أعلام النبلاء" لشمس الدين الذهبي (ت748هـ)، وعزف عن ذكرها آخرون مثل شمس الدين ابن خِلّكان (ت681هـ) في "وفيات الأعيان". ومثلما يتوجه المسلمون صوب الكعبة ويتوجه اليهود والمسيحيون صوب المشرق يتوجه الصابئة المندائيون في صلاتهم صوب الشمال، فكوكب القطب الشمالي عندهم هو علامة اتجاه قبلة صلاتهم فقط. كان صاحب فتوى القتل شافعي من أبرز فقهاء عصره، يعرف بفقيه العراق، وتولى حسبة بغداد، فأحرق مكان الملاهي. وبعد حوالي قرنين من الزمان جاء في رسالة رئيس ديوان الجوالي، محمد بن يحيى بن فضلان (ت631هـ) الشافعي أيضاً، الخاصة بأهل الذمة إلى الناصر بالله العباسي (ت622هـ)، فقرة تذكر بفتوى الأصطخري في الصابئة والحث على تطبيقها: "الصابئة قوم من عبدة الكواكب، يسكنون في البلاد الواسطية (بين الكوت والبصرة) لا ذمة لهم، وكان في قديم الزمان لهم ذمة، فاستفتى القاهر بالله أبا سعيد الاصطخري، من أصحاب الشافعي، في حقهم، فأفتاه بإراقة دمائهم، وأن لا تقبل منهم الجزية، فلما سمعوا بذلوا له خمسين ألف دينار، فأمسك عنهم، وهم اليوم لا جزية عليهم، ولا يؤخذ منهم شيئ، وهم في حكم المسلمين والأمر أعلى"(الحوادث الجامعة). السؤال، كيف عبد الصابئة الكواكب وكتابهم يقول: "باسم الحي العظيم، أشرق نور الحي، وتجلى مندادهيي بأنواره، فأضاء جميع الأكوان، حطم ألوهية الكواكب، وأزال أسيادها من مواقعهم"؟(الكنزا ربا اليمين). وكيف عبد الصابئة المندائيون الأصنام والأوثان وكتابهم يقول: "من يقدم الضحايا والقرابين تعقد خطاه في جبل الظلام (جهنم) فلا يرى نور الله، أما من آمن وأتقى فله من النور مرتقى حتى يبلغ بلد النور"؟ وهم قبل أن تحرم على الأصطخري الخمور حرموها بالقول: "وليعلموا أن الخمرة يوضع شاربها في قيود وأقفال، وتثقل عليه السلاسل والأغلال"(كتاب الكنزا ربا)، وأن يشربها قوم منهم فحالهم حال المسلمين، وهناك اختلاف بين فقهاء المسلمين حول إباحة النبيذ من الشراب. كانت فتوى القتل المذكورة، في القرن الرابع الهجري، بعد أن أجاز الفقيه الحنفي وقاضي القضاة أبو يوسف، في القرن الثاني الهجري، التعامل مع الصابئة بأخذ الجزية منهم أسوة بـ "جميع أهل الشرك من المجوس وعبدة الأوثان وعبدة النيران والحجارة (من غير العرب) والسامرة"(كتاب الخراج). وحكم الإمام أبو حنيفة فيهم: "إنهم ليسوا بعبدة أوثان، وإنما يعظمون النجوم كما نعظم الكعبة"(الآلوسي، تفسير روح المعاني). والغريب في الأمر أن هذا التعامل مع الصابئة، وإن كان يحمي دمائهم، إلا أنه لا يتناسب مع حكم القرآن فيهم، أسوة باليهود والنصارى، في الآية (62) من سورة البقرة. إن أجاز الاصطخري والماوردي كشافعيين أخذ الجزية من المجوس، لما ورد عن الرسول بشهادة الصحابي عبد الرحمن بن عوف أنه أخذها من أهل البحرين وكانوا مجوساً، فابن قيم الجوزية(ت751هـ)، وهو حنبلي المذهب، قال: "الصابئة أحسن حالاً من المجوس، فأخذ الجزية من المجوس تنبيه على أخذها من الصابئة بطريق الأَوْلى، فإن المجوس من أخبث الأمم ديناً ومذهباً، ولا يتمسكون بكتاب، ولا ينتمون إلى ملة، ولا يثبت لهم كتاب ولا شبه كتاب"(أحكام أهل الذمة). وهذا اعتراف ضمني من فقيه حنبلي كبير في مذهبه، وتلميذ شيخ الإسلام تقي الدين أحمد المعروف بابن تيمية (ت726هـ)، بكتب أو شبه كتاب للصابئة. من جانب آخر خالفت فتوى الاصطخري وخالف حكم الماوردي وتحريض ابن فضلان ضدهم، والجميع كانوا شافعيين، إمامهم الأول محمد بن إدريس الشافعي (204هـ) حين أفتى: "الصابئون والسامرة مثلهم يؤخذ من جميعهم الجزية، ولا تؤخذ الجزية من أهل الأوثان، ولا ممن عبد ما استحسن من غير أهل الكتاب"(كتاب الأم)، ومَنْ تؤخذ منه الجزية يحرم دمه. بعد عرض فقه القدماء حول الصابئة المندائيين نأتي على آراء الفقهاء المعاصرين حولهم. قال الشيرازي بحذر وتردد: "فيهم غموض وخلاف، وربما قيل عبدة نجوم"(تفسير تقريب القرآن). ويرى الطباطبائي في "الميزان" أن عقيدتهم مزيج من المجوسية واليهودية مع أشياء من الحرانية. ولعل صاحب الميزان أول المحدثين، من فقهاء المسلمين، ميز بين الصابئة الحرانيين والصابئة المندائيين، ويؤكد أسباب نزول الآية (62) من سورة البقرة في ديانة سلمان الفارسي السابقة. ولا يأتي الطباطبائي، رغم بحثه المطول فيهم، بجديد على ما ورد في كتب الأقدمين. ويعد محمد حسين فضل الله، عن مؤرخين وكتاب مهتمين، أن الصابئة فرقتان: المنديا أو نصارى يوحنا المعمدان وصابئة حران الوثنيين، ويذهب مستفيداً من بحوث أخرى إلى أن "الصابئة الذين ذكرهم القرآن إلى جانب اليهود والنصارى من أهل الكتاب يعدون من المنديا، ولا شك في أن اسم الصابئة مشتق من الأصل العبري (ص ب أ) أي غطس، ثم سقط الغين، وهو يدل بلا ريب على المعمدانيين"(من وحي القرآن). ولعل آية الله فضل الله ينفرد من بين علماء الدين والمفسرين بتحفظه على قبول نسخ الآيات التي ورد فيها اسم الصابئة بالآية: "ومَنْ يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، إذ قال: "نتحفظ على هذا الجواب، لأن مدلول هذه الآية لا يتنافى مع مدلول تلك، حتى نفرض نسخ الثانية للأولى، لأن الظاهر إرادة الإسلام بمعناه المصطلح، كما يلوح ذلك من صدرها، وهو الالتقاء على قاعدة الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح". وهذا ما تقره الأديان المشار إليها في الآية. يقترب الشيخ محمد جواد مغنية من الصواب عندما قال في الصابئين:"قوم يقرون بالله وبالمعاد وببعض الأنبياء، ولكنهم يهتدون بتأثير النجوم في الخير والشر، والصحة والمرض، ومنهم طائفة في العراق الآن"(التفسير الكاشف). وعلى خلاف مَنْ اشتق تسمية الصابئة من صبأ العبرانية أي غطس وتوضأ، وجد مغنية أن التسمية مشتقة من"صبأت النجوم أي طلعت"، ويعدهم بأقدم الأديان في التاريخ. يبدو لي أن مغنية اطلع على سلسلة المقالات التي حبرها الأب أنستاس الكرملي في مجلة "المشرق" في العام 1900 –1901، وذهب فيها إلى اشتقاق تسميتهم من الضوء. بداية من صاحب أكبر موسوعة فقهية "جواهر الكلام" النجفي، من أعلام القرن التاسع عشر، وانتهاء بالسيد السيستاني، المرجع الشيعي الحالي بالنجف، لم نجد رأياً محرضاً في التعامل ضد أهل هذا الدين، بل أن آية الله العظمى أبا القاسم الخوئي اعتبرهم من أهل الكتاب، وقدم مرشد الدولة الإيرانية آية الله علي خامنئي بحثاً مفصلاً فيهم عدهم من أهل الكتاب ومن الأديان الموحدة. كان أكثر احتكاك المندائيين بالمذهب الشيعي بجنوب العراق مقارنة بالأديان والمذاهب الأخرى، وكانوا سبباً في حياة المنطقة الاقتصادية، فهم لفترة طويلة ظلوا منتجي وسائل الإنتاج، من أدوات الصيد والزراعة والنقل. فلابد أن يحدث احتكاك وتعالجه فتاوى الفقهاء. ونزيد الذين يجهلون هذه الصلة علماً أن إعادة إعمار أو إصلاح قبب العتبات المقدسة المذهبة يتم عادة على الصابئة المندائيين، فهو أهل حرفة الصياغة الأصليين. قال آية الله أبو القاسم الخوئي "الصابئي كان من أهل الكتاب كما هو الظاهر"(كتاب الصابئة) جاء ذلك في أمر رجل صابئي مندائي أشهر إسلامه معتنقاً المذهب الجعفري، وطالبته زوجته الصابئية المندائية بالنفقة في محكمة من محاكم بغداد الشرعية. وطرح آية الله علي الخامنئي جملة أمور بشأنهم، فلهم بإيران طائفة كبيرة كانت جزء من سكان العراق قبل قطع الأهواز عنها، لهذا نظر مرشد الدولة الإيرانية في أمرهم عن قرب، باحثاً في كتبهم المترجمة إلى الفارسية والعربية، وربما كان أول فقيه يبتعد عن النصوص الشرعية، وليطلع على كتبهم ويتابع ممارستهم الدينية عن كثب، فقال: "نتيجة البحث في النقطة الأولى: إن الأقوى والأظهر بحسب الأدلة أن الصابئيين يعدّون من أهل الكتاب"(الصابئة حكمهم الشرعي). ولأنه نظر في واقع هذا الدين، لا فيما كُتب وقيل، نفى خامنئي أن يكون الصابئة ديانة متفرعة من الأديان الأخرى بل نظر إليها كديانة مستقلة. قال: "هل الصابئة يعدّون من شعب بعض الأديان الثلاثة: اليهود والنصارى والمجوس، أو إنهم نحلة أخرى غير هؤلاء؟ والجواب على ذلك: قد علم من بعض ما ذكرنا في توضيح النقطة الأولى، فلا دليل على ما قيل، وقد مضى ما نقلناه من كلمات بعض الفقهاء، من أنهم شعبة من اليهود أو أنهم مجوسيون وأمثال ذلك مما نقله في الجواهر عن غير واحد من الفقهاء كالشافعي، وابن حنبل، والسدي، ومالك وغيرهم، بل لعل مقتضى ما ذكرنا الجزم بخلافه". قدم الخامنئي في كلمته التالية نقداً غير مباشر للفقهاء الذين لم ينظروا في أمر هذا الدين وهو حيٌّ بينهم، قال: "الحق الذي ينبغي الاعتراف به هو أننا لا نعرف من المعارف والأحكام الدينية لهذه النحلة التاريخية، والتي أصبح المنتمون إليها موجودين بين أيدينا وفي عقر بلادنا، شيئاً كثيراً تسكن النفس بملاحظته إلى معرفة أصحابها، والباحث في هذا الموضوع يجد في حقل البحث الموضوعي فيه فراغاً كبيراً لم يسدّ مع الأسف". وبعد الاطلاع على ما نشر من "درفش"(كلمة فارسية تعني العَلَم وإحدى صحف الصابئة، قابلت فيما بعد محررها المندائي الحلالي سالم جحيلي من صابئة الأهواز) قال الخامنئي: "فمن جملة عقائدهم التي يدّعونها ويصرون عليها التوحيد". ويستشهد آية الله الخامنئي من بوثة (آية) التوحيد النص المندائي التالي: "إلهي منك كل شيء، يا عظيم يا سبحان، يا حكيم يا عظيم، يا الله المتعال الكريم، علا قدرتك على كل شيء، يا من ليس له شبيه، ولا نظير ، يا راحم المؤمنين، يا منجي المؤمنين، يا عزيز يا حكيم، يا من ليس له شريك في قدرته، اسبح بأسمك". كل ما أفصح به آية الله علي الخامنئي في أمر الصابئة كان صحيحاً، لكنه ربما لم يسمع منهم تأويل علاقتهم بالماء الحي وتعريفهم لعالم النور، وأي دين يخلو مما لدى الصابئة من العلاقة بالماء والضياء؟ فهم إذ يجعلون للماء منـزلة في طقوسهم، كوسيلة للعبادة، لا يسلمون على الأنهار وإنما يذكرون الحي القديم وهم وسط النهر. وقد لا ينفصل اهتمام آية الله خامنئي بالصابئة المندائيين عن مهامه كمرشد لدولة يقطنها المسلم والمسيحي واليهودي والمندائي والزرادشتي والبهائي، وهو بذلك تفوق على سلفه آية الخميني في معاملة أهل الكتاب والأديان الأخرى، فالزرادشتيون بإيران يظهرون في المجالس الرسمية بثيابهم البيضاء الناصعة، مع أنهم على دين منسوخ بالإسلام. كان هذا التجاهل والجهل قديماً بأمر الصابئة، والسكوت عما شاع بنجاستهم بين العامة في جنوب العراق، وعانى المندائيون ما عانوا، رغم ذكرهم في القرآن، والصداقة الروحية، التي كان يضرب فيها المثل، بين جامع "نهج البلاغة" ونقيب الطالبيين وتلميذ الشيخ المفيد والمرجع الشيعي المشهور الشريف محمد حسين الرضي (ت406هـ) وبين الصابئي أبي إسحاق إبراهيم بن هلال (ت384هـ)، التي أخبارهما ملأت صفحات التاريخ وأخبار الأدب، ورسائلهما الوجدانية استغرقت كتاباً صدر بعنوان "رسائل الصابئ والشريف الرضي". كانت أشهر قصائد الشريف الرضي في رثاء إبراهيم الصابئ، التي استغرقت ثمانين بيتاً، ومطلعها المشهور: أعلمت منْ حملوا على الأعوادِ أرأيت كيف خبا ضياء النادي ومن أبياتها ذات الوجد العميق: ما مات مَنْ جعل الزمان لسانه يتلو مناقبَ عُوداً وبوادي فأذهب كما ذهب الربيع وإثره باقٍ بكل خمائلٍ ونجادِ فأين عاطفة الشريف الرضي، ووجدانه تجاه مَنْ ظل محتفظاً بدينه الصابئي من فقهاء العصر، وثقة الخلفاء والأمراء بالطبيب الصابئ، فأفتوا خارج كتب الفقه بنجاسة الصابئة المندائيين، وهم أهل دين، الماء عندهم بعد الله وقبل النور؟ هذا وليس لدي معطيات تسمح ببحث العلاقة بين الرجلين، الرضي والصابئ، خارج إطارها الصداقي الإنساني إلى إطار فكري، فهناك إشارات وتلميحات في شعر الرضي قد تفيد في وجود منحى عرفاني (أغنوصي) لديه، والصابئة بالأساس هم عرفانيون، لكن ذلك هم آخر لا مجال للدخول فيه الآن. غير أن ذكرى العلاقة بين الشريف الرضي والشيخ الصابئي ظلت حية حتى عصرنا الحالي. أخبرني السيد محمد بحر العلوم عن آصرة الصداقة بين والده السيد علي بحر العلوم والشيخ الصابئي أبي بشير عنيسي بالعمارة فكان علي بحر العلوم يذهب إلى هناك لوجود أراضٍ موقفة له، وكانت تربطه بعنيسي صداقة وطيدة، فبعض الأصدقاء سأله:"كيف تكون لك صداقة وطيدة بشيخ صابئي؟ فرد عليه: بيني وبين أبي بشير صداقة تبقى مدى الأيام والأحقابِ أني لأرجو الودَ يبقى بيننا كودادِ سيدنا الرضي والصابي بعد بيان آراء الفقهاء والعلماء المسلمين في شأن الدين المندائي، والعلائق بين شيوخ وسادة مسلمين وشيوخ صابئة قديماً وحديثاً نود المرور على رسالة استلمتها عبر البريد موقعة باسم الشيخ ميثم العقيلي عن المؤسسة الإعلامية للسيد الشهيد الصدر بالبصرة، بعد التاسع من نيسان 2003، جاء فيها أن الصابئة يمارسون أعمال الدجل والشعوذة والزنا والتفريق بين المرء وأهله. قبل اتهام ديانة كاملة بمثل هذه الممارسات علينا التذكر جيداً ما يُتهم فيه الخصوم المذاهب الإسلامية الأخرى، وأخص بالذكر مذهبنا الشيعي. فمَنْ ينسى تشويهات جريدة "الثورة" بقلم صحافي النظام السابق عبد الجبار محسن، ربيع 1991 ضد الشيعة في جنوب العراق، وأهل الأهوار عامة، كان المقال تحت عنوان "التعصب الشيعي، فساد أخلاق أهل الأهوار"، وجاء في المتن: "من المعروف أن الكثير من الذين أعدموا بقرارات من محمكة الثورة جراء الزنا بالمحارم هم من بين هذا الصنف من الناس". ومَنْ ينسى ما نشرته جريدة عدي صدام حسين "بابل" من تشويهات وافتراءآت ضد الشيعة؟ لقد وردت في صفحة حوارات موضوع يبرئ هند بنت عتبة وزوجة أبي سفيان من دم الحمزة عم النبي، وموضوع آخر يشوه عقيدة الشعية في المهدي المنتظر، وفي طقوس عاشورا. وكان آخر هذه التشويهات ضد الشيعة ما جاء على لسان صحيفة "العرب" الصادرة بلندن، وهي من بقية تمويل النظام الزائل، حاولت تحسين صورة صدام حسين وعهده المظلم بأنه رفع راية الإسلام عالياً وبناء المساجد وقضى على الدعارة وأماكن الفسق.كتبت الصحيفة بالحرف الواحد: "أشتهرت العراق بتعدد أماكن اللهو فيها منذ الستينيات، وخاصة في المدن الجنوبية بحكم انفتاح الشيعة فيها، وقد حصل في مجلس صدام حسين حديث عما يحصل في هذه الأماكن من جرائم خلقية حتى أصبحت مرتعاً للفساد والإفساد"(شهادة التاريخ: عقد من حياة صدام حسين في ميزان الإسلام، جريدة العرب العالمية، العدد 6813، التاريخ:18 كانون الأول 2003). فهل علم كاتب المقال ببواطن إفساد نظام صدام حسين وبواطن المذهب الشيعي، ومعاملاته! فلماذا يقع صاحب الرسالة في التوهم نفسه ويرى في المندائيين جماعة مفسدة دون أن يقرأ كتابهم وتشددهم ضد الشعوذة والزنا، ووداعتهم ومعاشرتهم الطيبة لأبناء المذهب الشيعي ومواطنيهم من العراقيين عامة، ولو حصل أن مندائياً واحداً أو مجموعة أفسدت فهل يعني هذا أن الدين المندائي راضي بما يفعلون، وهل أن أتباع الأديان والمذاهب الأخرى كافة يلتزمون تعاليم أديانهم ومذاهبهم؟ لكشف الحقيقة نأتي بتعاليم المندائيين ضد الشعوذة والزنا، وكل ما يضر المجتمع ويغضب الله. ورد في الكتاب المندائي المقدس "الكنز ربا" ما يفيد النهي عن الشعوذة والتنجيم: "لا تستشيروا العرافين والمنجمين والساحرين والكاذبين، في أموركم مخافة أن يرمي بكم أسوة بهؤلاء إلى الظلمات"، والظلمات تعني جهنم أو الجحيم. وجاء في النهي عن الربا: "لا تغالوا بفرض الفائدة والربا الفاحش خشية أن يقع عليكم الحكم بالنفي إلى الظلمات الدامسة". وفي النهي عن الزنا وإشاعته جاء في "الكنز ربا": "لا تعشقوا نساء الآخرين ولا تقترفوا الزنا، لا تغنوا غناء السكير ولا ترقصوا رقص الغجر، أحذروا أن يستحوذ على قلوبكم الشيطان المملوء بأحابيل السحر والخذاع والغواية، ذلك أنه يستطيع أن يقلب نوايا الصالحين المحمودة إلى عكسها ويجعل قلوب المؤمنين تتعثر وتتحول". هناك تعاليم أخرى تحرص على مساعدة الفقير وابن السبيل وأعطى حق الأحير والإلتزام بوحدانية الله، ومنها "لا تسبحوا للشمس والقمر الذين ينيران العالم"،"لا تعبدوا الشمس التي اسمها شامش"، ويؤكد الدين المندائي على حب الخير والعمل به "لا تفعلوا شيئاً ضد الغير ما ليس تحبونه لأنفسكم". هذا شيء يسير من تعاليم المندائية، فهم أحق بالانصاف لا بلاجحاف.
#رشيد_الخيُّون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
-
40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة
...
-
“فرحة أطفالنا مضمونة” ثبت الآن أحدث تردد لقناة الأطفال طيور
...
-
المقاومة الإسلامية تواصل ضرب تجمعات العدو ومستوطناته
-
القائد العام لحرس الثورة الاسلامية: قطعا سننتقم من -إسرائيل-
...
-
مقتل 42 شخصا في أحد أعنف الاعتداءات الطائفية في باكستان
-
ماما جابت بيبي..استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي وتابعو
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|