هايل نصر
الحوار المتمدن-العدد: 2819 - 2009 / 11 / 4 - 01:32
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
في القضاء.
محكمة النقض الفرنسية
لا يبني طاغية دولة قانون. ولا يتوقع ذلك منه حصيف. ولا تقوم, طويلا, على ركائز الاستبداد, دولة تحمل "بذور فنائها" بداخلها. ولا تسمو إلى مصاف الدول المتحضرة العصرية تلك التي تقطع مع الفكر الإنساني وتجارب الشعوب, تعصبا أو تميزا أو خوفا, تحت شعار التميز العرقي أو الديني, و تحت وهم الاختيار والاصطفاء من بين الشعوب والأمم. وتلك التي تقتطع حاضرها عن ماضيها, بترا. أو تفهم تاريخها بعكس منطق التاريخ. أو تحنطه كمومياء فرعونية. أو تصوغه كما يحلو لأهواء "مؤرخيها" أو كتبة التاريخ بانتقائية: تقديسا أو تنجيسا. تعظم أبطالها إلى درجة فصلهم عن البشر وإدخالهم الأساطير وعوالمها. تلغي أدوار أجيال بكاملها في صناعة التاريخ, لتجعله وقفا على البطل الأسطورة. وتتقاتل وتتصارع من اجل أن يبقى البطل بطلا وأسطورة. ترمي مفكريها بالكفر والإلحاد والخيانة و الزندقة والتحريف, وترهب من يحاول أن يلج ميادين الفكر الحر. ولا تعيد بأي حال من الأحوال الاعتبار لمن ثبت صواب رأيه بعد رجمه خطأ وظلما بكل أنواع الراجمات, وتستمر في الرجم رغم انتصار الواقع للمرجوم وتسخيف راجميه.
مفاهيم وممارسات الأنظمة الدكتاتورية, الشمولية, المستبدة, للدولة وفي الدولة, لا تستقيم مع ما خلقه الله من تعددية وفوارق بين البشر, في الجنس واللون والتفكير والميول والأهواء .. (إذا ما توجه الخطاب للمؤمنين بأنواعهم), أو مع ما أوجدته الطبيعة من تنوع واختلاف فيها وفي مكوناتها (إذا ما توجه الخطاب لأنصار الطبيعة, من غير المؤمنين بأصنافهم, ومن يشار إليهم بالعلمانيين) , أو ما اكتسبه الإنسان من تجارب وخبرات في صراعه مع الطبيعة ومع الآخر من اجل البقاء, ( إذا ما توجه الخطاب معمما للمؤمنين, وأنصار الطبيعة من غير المؤمنين, بما فيهم العلمانيين المتهمين بالضلال وبعدم الإيمان,), وصولا إلى اقتناعه, عبر التاريخ, عن طيب خاطر أو مرغما, بضرورة بناء مجتمعات والعيش الآمن فيها مع الآخر وبمساندة الآخر. وبناء دول تؤطر هذه المجتمعات, وتحمل تناقضاتها القائمة على التعددية والاختلاف والتباين في المكونات, لتجعل منها عناصر ووسائل غنى وتفاعل يقود إلى خلق علاقات منفتحة حضارية ترتكز على حقوق المواطنية. وتنظيم وسائل العيش المشترك والتفاهم والأمن والسلام. وصولا إلى المشاركة والتعددية المعبر عنها في السياسة بحرية الاعتقاد والتفكير وتشكيل الأحزاب المجسدة لها, والتداول على السلطة والاعتراف للآخر بحق ممارساتها بكافة أنواعها ودرجاتها... وبناء الكل على قواعد صلبة من تنظيم قاد إليه الفكر البشري المتنور: القوانين, والأنظمة, والأعراف التي ترقى, لقبولها الدائم, لدرجة القانون.
الاستبداد والقمع لإلغاء الآخر و التمايز والتعددية الفكرية أو حتى الفيزيائية (الحروب العنصرية, الحروب الدينية. الاقتتال الطائفي والمذهبي. والقبلي, والاقتتال الحزبي السياسي), وادعاء احتكار الحقيقة, وما يترتب عليه من إقامة أنظمة دكتاتورية استبدادية شمولية, ظلامية, يذهب ضد مفاهيم المؤمنين بخلق البشر أجناسا وشعوبا .. وضد مفاهيم "العلمانيين" وأنصار الطبيعة من غير المؤمنين على مذاهبهم المتنوعة .. وضد الإنسان أينما كان.
على أنقاض الشمولية قامت مفاهيم الدولة الديمقراطية, دولة القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان. بناء مثل هذه الدولة فيه كل شقاء ومتاعب بناء الدولة ــ كما فيه كل آمال شعوبها ــ ويحتاج جهود كل مكونات المجتمعات التي تقع ضمن إطارها, دون استثناء أو إقصاء.
وليس هنا مجال ذكر كل ما يتطلبه هذا البناء, حيث لا يمكن إلا لدعي الإحاطة بما هو ضروري لكل ذلك. ولكن يمكن الإشارة إلى بعض الركائز الأساسية التي يحب أن يقوم عليها البناء السليم الصلب ونخص منها هنا ركيزة أساسية :القضاء. مشيرين للقضاء في تجارب الآخرين للمقارنة والاستفادة. وفي هذا الاتجاه, وضمن هذا الهدف, حاولنا الحديث بإمكانياتنا المتواضعة عن القضاء في مقالات عديدة سابقة. وستكون السطور القادمة لمؤسسة قضائية عتيدة ودورها في بناء الدولة, كمثال :
محكمة النقض الفرنسية.
العمر الرسمي لمحكمة النقض هذه زاد على القرنيين و 19 عاما. ولأننا اشرنا إلى التاريخ, ولان لاشيء دون تاريخ, نرى أن لا بد من العودة إليه في لمحة سريعة لاستشفاف أصول وتطور هذه المحكمة, في مقالة أولى. على أن نعود إلى دور وتركيب وعمل هذه المحكمة, وتكوين قضاتها في يومنا هذا في مقالة ثانية. معتمدين على كتابات قضاة شغلوا مراكز أساسية فيها: رؤساء. ومحامون عامون. ومستشارون. وحقوقيون بارزون.
ابتداء من القرن السادس عشر بدأت تظهر كلمة نقض cassation وتتكرر مع تراجع الأعراف وترسخ القانون المكتوب الصادر عن المراسيم الملكية. وقد وضح الحقوقيون الحالات التي كان يمكن فيها الطعن بالنقض. وميزوه عن الاستئناف العادي في موضوع القضايا العائد البت فيها للبرلمانات. ( وهي المحاكم المعادلة لمحاكم الاستئناف حاليا).
فمرسوم Colbert لعام 1667 الذي استمر إلى آخر عهد النظام القديم عين الإجراءات المدنية التي تعتبر خرق المراسيم الملكية سبب في رفع دعوى الطعن بالنقض. وقد ذكر مستشار الدولة Gilbert de Voisins , 6 حالات لرفع دعوى الطعن بالنقض: العيب في المواد الإجرائية. تجاوز السلطة. مخالفة القرارات ordonnances . مخالفة القوانين الأساسية. مخالفة الأعراف. والتعسف أو الظلم. ( J.-F. Weber. La Cour de Cassation. 2006) . رئيس غرفة في محكمة النقض وعضو في المجلس الأعلى للقضاء).
ويعتبر, فيبر, صعود آلية الطعن بالنقض بقوة في ظل النظام القديم على إنها ترجمة قضائية للعلاقات المتوترة غالبا بين الملك ومجلسه من جهة, وبين المحاكم من جهة أخرى. وقد علق المستشار جولي دي فلور على إن إجراءات الطعن كانت بالدرجة الأولى لحفظ المراسيم الملكية قبل أن تكون لمصلحة المتقاضين. وكان الطعن بالنقض استثنائيا يبت فيه مجلس الملك, وبالتحديد مجلس الأطراف Conseil des parties المنشئ عام 1578.
لم تكن الملكية الفرنسية تعرف مبدأ فصل السلطات قبل مجيء منتسكيو في القرن 18 . فالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية, كانت مجتمعة بشخص الملك. وكان القضاء محجوز له. فهو مصدره. و يتبعه مباشرة كل القضاة وكل المحاكم. وبما انه لا يستطيع إقامة العدالة كاملة بنفسه, فقد فوض جزءا منها لهيئات, بينها المحاكم المحلية. Parlements régionaux. وبذلك اُدخل فارق رئيسي بين القضاء المحجوز والقضاء المفوض. القضاء المفوض هو القضاء الذي يمنحه لمحاكمه. و يستطيع دائما سحب أية قضية منه ليبت فيها بنفسه, أو من قبل مجلسه.
وقد بقي مجلس الملك هيئة أساسية في السلطة. فهو هيئة حكومية وإدارية, وكذلك قضائية. و يضم مجلس الدولة الخاص, أو مجلس الأطراف الذي يمارس اختصاصات قضائية. ويملك اختصاص رقابة على القرارات القضائية. ويسهر على احترام القوانين. وكان على آلية الطعن بالنقض أن تساهم في وحدة الإمبراطورية وترسيخ الملكية الفرنسية.
بمرسوم 27 نوفمبر 1790الغت الثورة الفرنسية مجلس الأطراف: " يلغى مجلس الأطراف ويوقف عن ممارسة مهامه لحظة قيام محكمة النقض". ومنه يمكن القول, حسب جورج بيكا المحامي العام في محكمة النقض, أن محكمة النقض انبثقت من مجلس الأطراف, وان المرسوم المذكور يعتبر شهادة ميلاد محكمة النقض الحالية.
فقضاء مجلس الملك لم يعد مقبولا عند الثوار بأي شكل من الأشكال, لأنه يمثل قضاء غير مستقل ويحمل ذكريات أليمة. ورغم إعادتهم بناء النظام القضائي كاملا فان آلية الطعن بالنقض لم تلق الرفض من احد, باعتبار إنها تؤمن تطبيقا موحدا للقانون في كل البلاد. (فيبر).
بمرسوم قنصلي بتاريخ 4 أوت /آب 1802 احكم نابليون قبضته على المؤسسة القضائية. وبني هيكلتها التدرجية, ووضع في قمتها محكمة النقض برئاسة القاضي الأعلى "وزير العدل". وأعطي لها حق رقابة المحاكم وسلطة تأديبية عليها. مستأثرا بتسمية الرئيس الأول للمحكمة, ورؤسائها الآخرون معينون مدى الحياة. مع إمكانية اختيار هؤلاء من خارج المحكمة.
ضمت المحكمة حينها كبار مشاهير الحقوقيين, وبشكل خاص أولئك الذين ساهموا في صياغة القانون المدني. وبقيت الثياب الخاصة بالقضاة في الجلسات كما كانت عليه في النظام القديم.
بموجب مرسوم 18 ماي 1804 اخذت المحكمة المذكورة اسم (Cour . ( في النظام القضائي الفرنسي كلمة تريبينال tribunal تعني محاكم الدرجة الأولى. في حين أن كلمة (كور cour) تعني المحاكم الأعلى درجة, كمحكمة الاستئناف, ومحكمة النقض, والتي تبت في القضايا الخطيرة, كمحكمة الجنايات .. ونظرا لان المعمول به في البلدان العربية هو تسمية المحاكم مهما كانت درجتها, محكمة, فإننا سوف لا نخالف ما جرى عليه العمل عند الحديث عن المؤسسات القضائية الفرنسية).
كان نابليون يعتبر محكمة النقض المؤسسة التي تُؤمٌن استقرار الدولة. ومنح مرسوم 19 مارس آذار 1810 قضاة المحكمة لقب" مستشارون Conseiller " ووكلاء النائب العام الإمبراطوري لقب "محامون عامون" ألقاب مازال معمولا بها إلى يومنا هذا.
كان النقاش, منذ النشأة, يدور على اشده بين رجال الثورة فيما يتعلق بتعريف النقض, وكانوا حذرين من ظهور سلطة قضائية على غرار محكمة باريس في ظل النظام القديم. ومن بين الأطروحات محل الجدل الشديد كانت أطروحة إعطاء السلطة التشريعية وحدها تفسير القانون.
وكان للوزن الكبير للحقوقيين في الجمعية التأسيسية مثل ميرلان Merlin و ترونشه Tronchet (اللذان ساهما لاحقا في صياغة القانون المدني), الفضل في إقرار إنشاء محكمة النقض وتعريفها وموقعها . فتم على سبيل المثال رفض عرض روبسبيير بجعل المحكمة في حضن السلطة التشريعية. ورفض جعل تعيين قضاتها بيد السلطة التنفيذية. في تفكير أعضاء الجمعية التأسيسية عام 1790 أن يكون إلى جانب القانون محكمة تضمن تنفيذه, وإلا لا معنى لإقامة مثل هذه المحكمة.
الهم الأساسي لدى الجمعية التأسيسية في ذلك الوقت هو تجنب تمكين محكمة النقض من الاعتداء على سلطات السلطة التشريعية والتدخل في أعمالها, كما كان يجري في ظل العهد القديم قبل الثورة. زيادة على حذر السلطة السياسة من القضاة. وهذا ما يرى فيه بيكا أصل التحديد والتضييق على السلطة القضائية في المؤسسات الفرنسية إلى اليوم. ومنذ قانون 18 مارس 1800 اقر لمحكمة النقض استقلالها في مقابل السلطة التشريعية .
طوال القرن 19 حسنت محكمة الطعن طرق عملها وعززت سلطتها بفضل التفسير الجاد والدقيق لكل النصوص المتحدرة بشكل خاص من المجموعات القانونية النابليونية les codes .
في القرن 20 وحتى الحرب العالمية الثانية أمنت المحكمة استمرارية التطور الذي حصل في القرون الماضية رغم تنوع طبيعة المنازعات , وقاد بعضها الى إنشاء غرف كالغرفة الاجتماعية عام 1938.
ونعتقد أن الجدل الذي عرفته الجمعية التأسيسية للثورة حول محكمة النقض, ومنه تعريفها, لم ينته بعد, على الأقل فيما يتعلق بدرجة هذه المحكمة. فتسميتها من قبل البعض بالمحكمة العليا, وهي لا تملك في الواقع إلا سلطة ضيقة ومحددة, لا يلقى إجماعا في قبوله. وكونها تملك سلطة فرضها تفسيرها للقانون لا يعني أنها المحكمة العليا cour suprême, وهذا ما تذهب إليه, على سبيل المثال, ملاحظات ايف شارتييه Yves Chartier المستشار في محكمة النقض والبروفسور المبرز في كليات الحقوق في كتابه "محكمة النقض la Cour de cassation, Dalloz 1999" ,حين يقدم المحكمة على أنها في النظام القضائي العادي الفرنسي في قمة التنظيم الهرمي. أما وصفها بأنها المحكمة العليا فهو غير دقيق, لان النظام القضائي الفرنسي يقوم على الثنائية, حيث يقوم على رأس النظام القضائي الإداري مجلس الدولة الذي له مكانة محكمة النقض في القضاء العادي judiciaire, كما يوجد المجلس الدستوري الذي له مكانة خاصة.
لتكون المحكمة جديرة بلقب المحكمة العليا, كما يرى شارتييه, عليها ان تملك, وبدرجة عليا, السلطات نفسها التي تملكها المحاكم الأخرى. في حين أن محكمة النقض الفرنسية بطبيعة دورها هي محكمة من طبيعة خاصة Spécifique . وهذه الخصوصية تحمل مضامين متنوعة. فهي غير قادرة, على سبيل المثال, اختيار النظر, وكما تريد, في الطعون التي تعتبرها اكثر اهمية من غيرها, وكما تراه مناسبا. فهي ملزمة بالنطق بالحكم في كل الطعون المرفوعة أمامها. وعلوها يعود إلى دورها كحام للقانون, بشكل خاص .
كما عبر بالو بوبريه Pallot – Beaupré الرئيس الأول لمحكمة النقض, عن مهمتها بقوله: الذي صنع عظمة مؤسستنا, إننا لا نحاكم المترافعين, وإنما فقط ودون استثناء, القرارات المتخذة بمواجهتهم, بهدف توحيد تطبيق القانون على مستوى الإقليم الفرنسي.
وحول تطور محكمة النقض يرى غي كانيفيه Guy Caniviet , الرئيس الأول لمحكمة النقض, بأنه في حين أن مهام محكمة النقض منذ نشأتها عام 1790 بقيت من حيث المبدأ على ما كانت عليه, فان هذه المحكمة تطورت بشكل كبير. وقد صاغت طرق عملها وأتقنتها, واستطاعت التكيف مع الحقائق القانونية والاقتصادية والاجتماعية. وتحولت هيكليتها. كان عليها أن تبت في مئات من الطعون سنويا. لتواجهها حاليا مئات الآلاف منها. (في القرن 19 عرفت الطعون بالنقض نوعا من الاستقرار في عددها بين 1500 و 2000 في العام. لتصل في القرن 20 من 5000 عام 1900 إلى 17000 عام 1980. والى ما يزيد على 30000 عام 2000 . وليقفز عدد القضايا المكدسة التي تنتظر النظر فيها من 17069 إلى 40000 قضية. فيبر. المصدر المذكور أعلاه). وأصبح على المحكمة الذهاب في اتجاهات التخصص المتعدد لمعالجة المنازعات التجارية, والبناء, والتأمينات, والميادين الاجتماعية.. ومجاراة للتطور التكنولوجي عملت على إدخال كل ما هو ملائم في الإجراءات الإعلامية والاتصالات. وطورت بإتقان مراجعها العادية, وبنوك المعلومات .
آفاق محكمة النقض أصبحت اليوم مفتوحة, كما يراها كانيفييه, بعد أن كانت في الأصل مركزة بشكل أساسي على القانون الداخلي, فقد توسعت مصادرها لتدخل فيها الاتفاقات الدولية, وبشكل خاص الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان, والحريات الأساسية, وقانون الاتحاد الأوروبي. كما أن أحكامها أصبحت من مصادر القانون. و تعدلت ممارساتها بشكل كامل للوصول للضمانات الأكيدة للدعوى المنصفة équitable . حتى أنه يمكن القول بإنها أصبحت اليوم دعامة أساسية في دولة القانون. (مقدمة لكتاب فيبر المشار إليه أعلاه).
يتبع.
#هايل_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟