|
مشروع الشرق أوسط الكبير هل من طريق لحل الطلاسم
فرات المحسن
الحوار المتمدن-العدد: 856 - 2004 / 6 / 6 - 10:03
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
((لقد عشنا معا نحن المسلمين والنصارى ثمانية قرون ،ومتنا من أجل بعضنا البعض.وهاأنا أختفي .ومع ذلك لن يكفيكم هذا . ستحاولون أن يختفي كل شيء .ستحاولون محونا بأسرع ما يمكن ،أن تمحوا حياتنا وديننا وعلى الأخص عاداتنا التي تسمونها كافرة ،لغتنا وثقافتنا التي ستعكر صفو الوحدة المصطنعة التي يبحث عنها ملوككم، لن يتغير صاحب الجنة وحسب ،بل سيستأصل الزمن الذي كان لنا في التأريخ ،ستزول القرون الثمانية برفة عين ثم سيصير وقع أسمائنا غريبا وسيلغى كل شيء ،يجب أن ألا يعود إلى مجراه السابق .من أجل ذلك سيكون اقتلاع الدين واللغة والعادات والقوانين حيطة يجب أن تتخذ ….)). حديث من مخطوطة قديمة يرويه أبو عبد الله الصغير أخر ملوك غرناطة والذي وقع بيده صاغرا على وثيقة استسلام المدينة وسلمها لملك الإفرنجة الكاثوليكي في اليوم الثاني من كانون الثاني عام 1492 دون أن يذكر مسئوليته المباشرة ورجاله عما حدث.حينها رددت أمه قولتها الشهيرة حين شاهدته وهو يبكي (أبك كالنساء ملكا لم تصنه كالرجال)
أعلنت الإدارة الأمريكية في ابريل 2004 عن برنامجها حول تشكيل الشرق الأوسط الكبير .البرنامج أو المشروع المقدم حدد توجهات الإدارة الأمريكية للتعامل مع منطقة الشرق الأوسط وفق أسس ورؤية سبق أن أعلن عنها في مناسبات عديدة. وتتركز جلها في ثلاث محاور. الأول دمقرطة المنطقة !! والثاني ربطها بالاقتصاد الدولي وبالذات الشراكة الاقتصادية مع الولايات المتحدة والمحور الثالث يتمثل بتخليصها من مفاهيم العداء المتوارث للسياسة الأمريكية وإشراكها في الجهود المبذولة لمحاربة الإرهاب وهي أهداف تلاقي تشكيك واعتراضات مبررة تأتي على خلفية موقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة من الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الشعوب في الحرية واستقلال القرار الوطني. يتضمن المشروع طيف واسع من المفاهيم المعرفية ومبادرات للشراكة المصممة لتقديم المساعدة للقيام بالإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ،وتقديم العون المادي والمعنوي الدبلوماسي وغير الدبلوماسي للنشاطات المهنية والاجتماعية للذين يرغبون في المشاركة بقيادة المجتمع والدولة ،وخلق المبادرات الإيجابية لإنجاح مهمات منظمات المجتمع المدني وتعزيز البرامج لمعالجة مشاكل حقوق الإنسان عبر المنظمات غير الحكومية.وتدرس وتعالج هذه المبادرة نماذج وتكوينات تعانيها مجتمعات الشرق أوسط في محاولة لإماطة اللثام عن طبيعة ونوع العوائق ومن ثم معالجتها . من الطبيعي أن يحتوي المشروع حلول عن الكيفيات التي يتم عبرها تجاوز تلك المصدات وتفكيك وإحباط الاعتراضات باعتبارها جزء من خلل عام جاء في سياق تراكمات من الأخطاء والخطايا التي اقترفتها السلطات المحلية وأشاعتها ثقافات منغلقة تضليلية سيطرت بالكامل على عقول مجتمعات الشرق الأوسط. تصب مبادرة الشرق الأوسط الكبير على جهد المشاركة في التغيير من خلال التأثير بأسلوب الصدمة وأيضا تغذية المبادرات الداخلية المرنة والمتقدمة التي تشارك فيها النخب السياسية المنتقاة بعناية. ولكن المبادرة تخلوا من توضيح أو بيان أو دراسة التأثير السلبي في فرض الخيارات القسرية من الخارج و التضييق وتهميش التحولات وفق المبادرات الوطنية، مما يجعل المشروع يبدوا ناقصا و هشا تجاه رغبات الطرف الأخر الموجب تفعيل مشاركته والسماح لخياراته بالتفاعل والنجاح.ومن عيوب المشروع أيضا اعتماده أساسا على حلفاء الولايات المتحدة ومؤيدي سياساتها وإهماله اعتراضات الباقين من شرائح المجتمعات الشرقية، وكذلك يمكن النظر الى إشكالية المشروع من خلال علاقة الشراكة القائمة بين حكومات بلدان الشرق الأوسط و الإدارة الأمريكية وأساليب وطرق حكم هؤلاء وعلاقاتهم بشعوبهم، وهذه الإشكالية تجهد الولايات المتحدة الأمريكية وفي أغلب الأحيان التغاضي عنها وفي الأعم تغذيتها بشتى السياسات المجحفة والملتبسة.ففي الوقت الذي تعلن الإدارة الأمريكية أنها تسعى لنشر مفاهيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان والديمقراطية فأنها تقدم العون للكثير من حكومات تلك البلدان من الذين يمثلون النوع الأكثر قدرة على انتهاك تلك الحقوق وخنقها. وتبدوا مشاركتها فاعلة في إسناد ودعم هؤلاء الحكام في مواجهة شعوبهم.تلك الازدواجية جعلت مجتمعات مشرقية كثيرة تتبنى خيار العداء لكل ما يصدر عن الولايات المتحدة حتى في الحالات الإيجابية على ندرتها. وهي محقة في هذا. فمسألة حقوق الإنسان والعدل الدولي والحريات والديمقراطية لا يمكن أن تخضع للانتقائية أو خيار المصالح فقط أن أريد لها أن تنموا بشكل طبيعي ومقنع .عند هذه الإشكالية الحقيقية تواجهنا الكثير من القناعات عن ازدواجية المعايير لدى الإدارة الأمريكية وخير دليل على ذلك الدعم المطلق الذي تقدمه لأصدقائها في منطقة الخليج وشرق آسيا ولحليفتها إسرائيل بالضد من حقوق وتطلعات الشعب الفلسطيني وقد قامت الولايات المتحدة بجهود كبيرة أدت في نتائجها لجعل الحقوق المغتصبة للشعب الفلسطيني حقوقا متنازع عليها بينهم وبين الإسرائيليين. وتلاقي التعديات اليومية الوحشية للسلطات الإسرائيلية الكثير من الدعم من قبل الإدارة الأمريكية ، وهناك الكثير من الأمثلة العيانية التي تبدوا حقيقية ومقنعة في تأشير ذلك الخلل الأخلاقي السياسي الذي يدفع لطرح التحفظات الكثيرة تجاه المشروع الأمريكي حتى لدى أصدقائها في المنطقة . يفسر مشروع الشرق أوسط الكبير لدى السلطات الحاكمة وأيضا من قبل منظمات سياسية واجتماعية من غير حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، بأنه يمثل عملية قسرية لفرض مفاهيم غربية وغريبة على المجتمعات الشرقية التي بدورها تمتلك خصوصياتها الثقافية وأيضا لديها مفهومها الاجتماعي والسياسي والديني عن نوعية (محلية) للديمقراطية وحقوق الإنسان. وتحاجج السلطات وكذلك المنظمات والجماعات الاجتماعية والسياسية والدينية بأنها لم تعطى الوقت أو الفرصة لتطبيق معاييرها عن تلك الأسئلة الكبيرة. وتتبادل السلطات وخصومها أيضا الاتهامات بتعطيل وتفكيك أسس العمل لإظهار تلك المعايير بخصوصيتها الوطنية.ولكن الملاحظ أن أغلب تلك التنظيمات تتحصن بالضد من مفاهيم الحريات والديمقراطية والمجتمع المدني بحجج واهية تركز على الخصوصية الثقافية والموروث الاجتماعي وتقدم مشاريعها بقصور بائن يحد من تطور المجتمعات وينحوا لخلق بؤر تشيع فكرة الوصاية على المجتمع واليقين بامتلاك الحقيقة المطلقة، التي تغذي بدورها خروقات تعدم بها حرية الرأي والعدالة الاجتماعية والتطلعات الديمقراطية، وأن تلك المؤسسات تتحرك في ظل فقدان قواعد ونصوص متكاملة يحتكم اليها.في ذات الوقت فأن السلطات الحاكمة وعبر مؤسساتها تحاول إدامة أو إشاعة المعايير القاصرة عن تلك المفاهيم الحقوقية، باذلة جهودا وأموال طائلة لكبح جماح المؤسسات والأشخاص الساعين والراغبين لتعميم تلك المعايير في مجتمعاتهم.وتأتي تلك الإجراءات رغبة في وضع القيود ومنع أي تغيير يمكن له خلق أوضاع مغايرة يتاح من خلالها أجراء تعديلات في هياكل السلطة والتشريعات القائمة .وهيمن هذا الأداء على مسيرة الأنظمة الحاكمة التي باتت اليوم تستشعر القلق وتتوجس من المشاريع الأمريكية الخاصة بالشرق الأوسط وبالذات تحت وطأت مشاعر الخوف من المثل العراقي وإسقاط صدام ،بالرغم من تبعيتها المطلقة وخضوعها في الكثير من الأمور لسياسة الإدارة الأمريكية.ولا يقتصر رفض المشاريع الأمريكية على السلطات المحلية والتجمعات والتنظيمات الدينية والطائفية وإنما يتعدى الآمر لتنظيمات قريبة من اللبرالية واليسار الديمقراطي, وتأتي اعتراضات هؤلاء على أسس خصام تأريخي غذته الفرقة والاختلافات الأيدلوجية والقناعة التامة بمسعى الإدارة الأمريكية لتفضيل مصالح الرأسمالية على مصالح شعوب المنطقة. ويدفع هذا الآمر الكثير من دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان في أغلب بلدان الشرق للأحجام عن التعاون مع مساعي الولايات المتحدة لتعميم مفاهيمها في هذا الشأن لأسباب وطنية ومشاعر متصاعدة من الشكوك .ويطرح في هذا المجال الكثير من الأمثلة عن سؤ نية الإدارة الأمريكية وما تبييته مشاريعها من مخاطر للمنطقة تبعد الخيارات الوطنية للشعوب لصالح مصالحها الأمنية والاقتصادية وتحاجج تلك القوى والتنظيمات بالكثير من المساوئ والمصائب التي أصابت الشعوب جراء سياسات الإدارة الأمريكية وحلفائها .وما المثل الليبي غير منطق فج وفاضح لمجمل التبجحات الأمريكية والغربية عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث أحتضن العقيد الليبي وأعتبر شخصا مقبولا وأعيد لحضيرة غير المغضوب عليهم رغم أن سجله كدكتاتور وقاتل وجرائمه ضد شعبه وضد العالم لا يمكن حصرها وقد أعترف بمسؤوليته المباشرة عن بعضها ودفع التعويض المادي لبعض ضحاياه .اما تصريح وزير خارجية بريطانيا عن الموقف من العقيد الليبي وقوله أن صدام كان سيبقى في مكانه لو أتخذ ذات الموقف غير تعبير دقيق عن رغبة الغرب في شكل النموذج المرغوب فيه والمزمع تكريسه في المنطقة. وأيضا يمكن أدراج انقلاب برويز مشرف في الباكستان وقبول لجوء وحماية الكثير من دعاة الإرهاب ومشجعيه من السلفيين في الدول الغربية وتقديم العون للمنظمات الإرهابية في مختلف بقاع العالم فأن ذلك يدخل أيضا ضمن تلك السلسلة الطويلة من السياسات ذات المعايير المزدوجة التخريبية والمضرة . يعكس هذا الالتباس والتقاطع في الفهم والتعبير خللا ومعضلة حقيقية عند كلى الطرفين، الإدارة الأمريكية ومجتمعات الشرق الأوسط. ومن المنطقي القول أن الرغبات وحدها غير كافية لجسر الخلاف وصناعة وقائع تناسب الطرفين قياسا لكثرة المصدات والاستحكامات التي تعيق تنفيذ مشروع الشراكة أو ما يسمى الشرق أوسطية الجديد .ولكن واقع الحال فأن معادل القوة يميل لصالح الطرف الأمريكي ويوقع سلطات ومجتمعات الشرق أوسط في متاهة الخيارات غير المرغوبة التي تضعها في كامل التخبط والعجز وتكشف ظهرها أمام الفيل الأمريكي الذي يبدوا أنه لا يحمل الشفقة حتى لأصدقائه.والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تستطيع السلطات الحاكمة في الشرق الأوسط حسم خياراتها في مواجهة النموذج الأمريكي المراد تعميمه كي تضمن بقائها مع القبول بدورها كتابع أم انها سوف تقبل بدفع تكاليف التغيير الذي يحتاجها النظام العالمي الجديد والمصالح العليا للولايات المتحدة وهي مستحقات فيها الكثير مما لا يحافظ على النماذج السلطوية العتيقة، وكذلك يتطلب أنماط حديثة من العلاقات والتشريعات والمؤسسات لمواكبة التغييرات المتسارعة التي تجتاح العالم .وأيضا :هل لدى المجتمعات الشرقية حصانة تساعدها على امتصاص الصدمة والتحصن ضد القادم من التحديث والعولمة أو بالأحرى يمكن القول ،هل هناك مشاريع تنموية اجتماعية سياسية اقتصادية تبشر بها مؤسسات تلك المجتمعات تبز بها نظيراتها من البرامج والمشاريع الغربية المطروحة. في كلى السؤالين يخضع التوصيف أو المقاربة كمحاولة لسبر غور أو اكتشاف مثل هذه المشاريع لإحباط وخيبة كبيرين. فالمجتمعات والسلطات الحاكمة تعاني من نقص حاد في برامج ومشاريع تتكيف مع متطلبات العصر العلمية والتقنية والإنسانية .وجميع ما يقدمه منظرو السياسات الوطنية لتطوير مجتمعاتهم لا يعدوا غير ضجيج أعلامي لمقاطعة المشاريع الغربية والتخويف منها وتخوين من يتعامل معها. وتحبيذ وتشجيع تنظيرات تستعير لغتها من بطون الماضي وبشعارية تحريضية بائسة تغذي الممانعة والمصدات دون أن تقدم البدائل المعقولة.وهذا ما تمخض عنه اجتماع البرلمانيين العرب والورقة المقدمة لاجتماع وزراء الخارجية لتغيير الأطر القانونية للجامعة العربية لعرضها على الرؤساء والملوك في اجتماعهم الذي أنفرط عقده أولا على خلفية صراعات شخصية وقطرية حقيقية ثم تم عقده في تونس لتتمخض عنه ورقة للإصلاح لم تكن ملزمة، والتي رفض الأمين العام للجامعة العربية وكذلك وزير خارجية مصر الإفصاح عن محتواها الاعتباري والحقيقي.ولا يختلف ذلك الأداء عن ما تظهره الدراسات والمشاريع المقدمة من المؤسسات السياسية والاجتماعية غير الحكومية التي ترى ذاتها مدغمة بمؤسسات الدولة في بعض الأحيان وعلى ذات المستويات من التفكير أو منغلقة في متاهة مقاومة السلطات دون نتائج إيجابية أو حلول ناجعة ولا تستطيع الخروج من مأزق الرفض والتقاطع لكل ما هو غربي أو أمريكي وتعتبر هذا النوع من النضال يتساوق أيضا مع مقاومتها للمؤسسات السلطوية المحلية ويصب في نهاية المطاف في خانة مقاومة المشاريع الاستعمارية الغربية. تولي الإدارة الأمريكية عناية فائقة لتطبيق مشروع (الشرق أوسط الكبير ) معتمدة على قدرة أجهزتها في إزاحة التحديات وتكييف أو أبعاد القوى المعترضة . ويعد المشروع من أهم المنافذ التي تعيل عليها الإدارة الأمريكية في تثبيت وصيانة وبناء هيكلة الربط الواسعة لشبكة المصالح الرأسمالية . ويعتبر المشروع واحدا من اوجه برنامج عام ومتكامل للإدارة الأمريكية حول إدارة وبناء وتوكيد النظام العالمي الجديد أحادي القطب الذي نشأ عقب انهيار الاتحاد السوفيتي .وليس غريبا أن تكون الإنجازات المتحققة مع نهاية القرن العشرين كافية لجعل الإدارة الأمريكية تزهوا فخرا بما حققته وتتأمل المستقبل المجيد القادم لمصالحها في المنطقة. وهذه الانتصارات حفزت الإدارة الأمريكية على تبني خيار الهجوم الكاسح والمستمر لقلع أخر المصدات والعوائق أمام توجهاتها وتبنيها خيار عسكرة العولمة وطريق فرض الحلول بالقوة لكسب الجولات والمعارك .لحد الآن فالإدارة الأمريكية وبقيادة طاقم المحافظون الجدد نجحت في تطبيق سياساتها الساعية للسيطرة الكاملة على العالم وتجاوز الاعتراضات الصادرة عن مخالفيها أو بعض حلفائها . إذا كانت عملية إخراج قوات صدام من الكويت قد لاقت ناجحا باهرا على المستوى العسكري فأنها تعتبر على قدر كبير من الأهمية والنجاح السياسي، فقد استطاعت الولايات المتحدة حشد عدد هائل من الحلفاء والمناصرين في تحالف قوي نسق فعالياته ومناوراته بنجاح بائن ولم يظهر عليه أي نوع من أنواع الخلاف أو التقاطع والوهن خلال الحملة .وبالرغم من ضعف الخصم وهشاشته فقد أعطي للمعركة قيمة إعلامية ضخمة قيض لها أن تمحوا الشيء الكثير من الانطباع السلبي الذي خلفته هزيمة فيتنام بين أوساط الشعب الأمريكي.وساعدت معركة الكويت في تسريع سقوط الخصم اللدود (الاتحاد السوفيتي )وكذلك بناء قواعد عمل جديدة تتحكم في مفاصل العلاقات الدولية .وكان من أهم نتائج تلك الحرب صعود ما سمي بتحالف المحافظين الجدد والمتطرفين في المؤسسات الدينية بشكل واضح وواسع داخل مؤسسات الدولة . وشجعت مجموعة الانتصارات المتحققة في فترة أعوام التسعينات، الإدارة الأمريكية لدفع الأمر بعيدا وإبقاء نفوذها متفردا عبر إجراءات رغم أنها كانت تبدوا للوهلة الأولى تكريسا لتحالف متين بين قوى الغرب الرأسمالي ،ولكنه يشي وبشكل جلي بأن الولايات المتحدة كانت ساعية لجعل مفهوم النظام العالمي الجديد مختزلا بالكامل على فرض سيادتها المطلقة على العالم وجعل الأخريين أتباع ومريدين. على ضوء تلك النجاحات أعدت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون ) وثيقتها السرية عام 1992 والمعنونة ( توجهات التخطيط الدفاعي ) وكانت الوثيقة تحوي مشروعا يعنى عناية خاصة ويؤكد بالمطلق على أهمية سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم .سربت هذه الوثيقة بالرغم من سريتها للصحافة كجزء من حملة جس نبض وفرض الأمر الواقع بعد حين، والذي كرسته الانتصارات المتتالية للعالم الرأسمالي وعد ذلك عند صانعي القرار في الإدارة الأمريكية نصرا ناجزا جاء إثر أعمال وجهود قامت بها الإدارات الأمريكية المتعاقبة دون أن يكون هناك دور حاسم للأخريين فيه .وهذا ما أشارت له تلك الوثيقة المسربة والتي أشرف على أعدادها وزير الدفاع ديك شيني ونائبه وقتئذ بول وولف أويتز .تشير الوثيقة للأهمية القصوى والبالغة للشرق الأوسط ضمن السياسات المستقبلية للإدارة الأمريكية وهي وللمرة الأولى تطرح ذلك الاهتمام البالغ والعناية الفائقة ببلدان شرق أوسطية لم تكن ضمن اهتماماتها القصوى سابقا.وتتطرق الوثيقة بشكل واضح الى (( يجب أن يكون هدفنا الأكبر أن نظل القوة الخارجية المهيمنة في الشرق الأوسط .وأن نحافظ على القوة الأمريكية والغربية للوصول الى النفط ،ونبقي على سيطرتنا الستراتيجية والاستقرار الإقليمي )) ولتحجيم دور الأخرين فأن الوثيقة تتحدث دون مواربة عن حجم نموذجي لامتلاك الولايات المتحدة لسلطة دولية دون منازع (( يجب أن تكون الولايات المتحدة مسؤولة عن مصالح الدول الصناعية المتقدمة بحيث تثنيها عن تحدي قيادتنا أو نشدان قلب النظام السياسي والاقتصادي القائم ))حيث تبقى تلك الدول الحليفة للولايات المتحدة ومؤسساتها بمنأى عن القرار الحاسم وتحت شروط الدول التابعة (( سنحافظ على مسؤوليتنا المتميزة في التعامل منفردين مع كل ما يضر بمصالحنا ومصالح أصدقائنا وحلفائنا.)) مثلت صيغة الوثيقة خلاصة لتفكير صقور الإدارة الأمريكية في عهد حكم الحزب الجمهوري عام 1992 .ورغم الاحتجاجات والانتقادات الكثيرة التي واجهت مشروع الوثيقة فأنها اعتبرت المنهج المتداول داخل الحزب وإداراته وتعكس برنامجه الناجز للحفاظ على وإدامة النصر الذي تحقق قبل وبعد انهيار العالم متعدد الأقطاب .والذي لا يمكن التفريط بنتائجه الكبيرة المتحققة لحساب أطراف من الموجب عليها أن تعترف مقدما بفضل الولايات المتحدة عليها باعتبارها مخَلصاً وقائدا .ومن أجل لجم أي تفكير في العودة لعالم متعدد الأقطاب فأن على هؤلاء الحلفاء التفكير بأن الشراكة تعني الاعتراف بقيادة صاحب النفوذ الأكبر والقادر على لجم المواجهات المحتملة وحل المعضلات على مستوى النزاعات المختلفة في العالم. لحد الآن نجحت الولايات المتحدة في إسقاط الكثير من ذرائع واعتراضات حلفائها المقدمة حول حلولها القسرية في تعاملها مع الأحداث .ورغم ما قدمته بعض دول أوربا (ألمانيا وفرنسا) من مقترحات واعتراضات بدت معها في موضع الند والتحدي للسياسات الأمريكية ،فأن الوقائع ومجريات الأمور دلت على أن هنالك الكثير من الأوراق التي يمكن للإدارة الأمريكية الاعتماد عليها لفرض خياراتها وسحب البساط من تحت أقدام المعترضين ودفعهم في النهاية للعب دور المهرول وراء الحدث والقبول بدور التابع وأن جاء هذا على مضض .ولكي لا تمنح الإدارة الأمريكية خصومها نقطة للإدانة والطعون فأنها تلجأ دائما لتطمين الشراكة وتأكيد التحالف الستراتيجي بتمثيل دور المصغي للحلفاء .وعلى ذات المنوال أزيحت الكثير من العقبات في وجه غزوها واحتلالها للعراق ومن ثم شرعته عبر قرار من مجلس الأمن ويمكن النظر أيضا لقدرتها الفائقة في الحشد الذي تم تشكيله لمحاربة الإرهاب وعملية غزو أفغانستان وتدمير نظام طالبان والقاعدة. عبر جميع الوثائق الصادرة عن الإدارة الأمريكية وكذلك الدراسات التي قدمها الباحثون المقربون لها وأيضا المقالات التي يكتبها محررو الصحف المقربة ،يشير الى أن الشرق الأوسط والعالم الإسلامي صار يشكل تهديدا متزايدا لاستقرار العالم ومصالح الدول الصناعية الكبرى لأسباب تتعلق أكثرها في احتواء ذلك العالم على خزين هائل من منظومات التفكير الطارد وأنماط من مجتمعات تضمر العداء الديني والقومي (غير المبرر!!) للولايات المتحدة وحلفائها. وجل هذه الدراسات والوثائق تهمل الطريقة البرغماتية في تعامل الغرب مع تلك الشعوب والتعديات والقسر والجرائم التي يرتكبها الرأسمال العالمي في مواجهة طموحها وتطلعاتها نحو الحرية وامتلاك مصادرها الاقتصادية والحفاظ على خصوصياتها الوطنية.ليس غريبا أن تثير تلك السياسات إعجابا شديدا لدى صانعيها ولكنها في نهاية المطاف تقوي من عزيمة المضادين والرافضين لنظريات الإملاء وفرض الحلول بعد أن يشعروا بكمية الإقصاء الذي تحتويه تلك المشاريع والبرامج الموجه لهم بالذات، مما يعني بقائهم مهمشين وغير مرغوب فيهم ويعاملون كفئران تجارب.بالرغم من أن البرنامج أو المشروع يستخدمهم كأدوات منفذة ويوجب مشاركتهم الفعلية فيه . مهما بدت ذرائع الإدارة الأمريكية مقنعة في توجهاتها نحو شرق أوسطية سياسية اقتصادية حديثة فأن النماذج الناتجة عن سؤ التقدير والتوقيت الخاطئ وازدواجية المعايير تنموا مسببة الكثير من العوائق في وجه مشروع (المستقبل) الذي تعيل الإدارة الأمريكية على أن يكون حربا مدنية وبأسلحة معرفية واقتصادية تخرج المنطقة من تخلفها وتزج بها في شبكة العولمة والنظام الرأسمالي الجديد.وفي هذا المنحى فأن الملمح المهم الذي يغفله المشروع، هو الخلط غير المبرر أو التغاضي المتعمد عن الاختلافات الجوهرية والكبيرة بين ما تعنيه (مقاومة العولمة ومقاومة أثارها) في المجتمعات الغربية وقريناتها المجتمعات الشرقية . في الوقت الذي تناضل قطاعات وشرائح واسعة من الشعوب الأوربية ضد أثار العولمة التي طالت بتعدياتها الحريات الشخصية والنقابية وأجور وظروف العمل التي اكتسبتها الشغيلة عبر نضال تأريخي طويل. ويتم أيضا مقاومة أثارها للحفاظ على فرص العمل والضمان الاجتماعي والصحي وتوفير الدعم المالي الحكومي للضرورات المعيشية واستمرار المحافظة على أنفاق عالي لتأمين بيئة طبيعية نظيفة وصحية ، ومنع الطرد الكيفي من الوظائف والوقوف بوجه السياسات التدميرية التي تقوم بها البنوك المرتبطة بالمصالح الدولية للشركات عابرة القارات وغيرها من الأهداف التي تريد تلك النضالات المطلبية الحفاظ عليها في ذات الوقت الذي تسعى للاستفادة من العولمة باعتبارها عملية موضوعية لا مناص منها تشمل كافة مناحي الحياة وتفرعاتها العلمية والسياسية والثقافية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وليس هنالك من بين هؤلاء من يدعي بمقاومة العولمة برفضها كليا.إما في الشرق فالمسألة تأخذ بعدا أخر. فمع المستوى المتدني في المعيشة وشيوع الاستغلال وتفشي البطالة والجهل والصراعات العرقية والطائفية وتخلف وسائل الإنتاج وسؤ الخدمات والتوزيع غير العادل للثروات والثقافة الدينية وموروث العادات والتقاليد وتشابك وتداخل مفاهيم الدولة بالقبيلة والطائفة والأسرة وغيرها من المتعلقات القرطوسية .كل ذلك يدفع بشرائح كبيرة في المجتمعات الشرقية نحو رفض العولمة جملة وتفصيلا والتحصن بواقع متخلف يرفض التحديث والاندماج بالعالم الجديد ويصر على محاربتها بالعنف . وخير دليل على ذلك نمو وانتشار الحركات السلفية من مثل حركة طالبان ومجموعة القاعدة والوهابية وأبو سياف وأمراء المسلمين في الجزائر ومصر وغيرها من الحركات السلفية التي تريد إرجاع المجتمع الى عصور السلف الديني الذي عاش في عهد النبي محمد والصحابة وترفع شعار (الدين هو الحل) و (الحاكمية لله ) وفق مواصفات وضعها (السلف ) ترفض حياة العصر الحديث وأدواته العملية العلمية والمعرفية . وهي نظرية مبسطة تحاول تكييف حياة البشر في الشرق المعدم والمتخلف مع نمط الوضع القائم في ظل انعدام الموارد وشيوع الفقر وتخلف التعليم والثقافة .ومن هذا ينشأ الاختلاف في النظرة الى العولمة والمعرفة والثقافة بعمومها بين العالم الغربي والعالم الشرق أوسطي. في تطرقه لمبادرة الشرق أوسط الكبير يؤشر السيد شرودر المستشار الألماني واجهة مهمة من تلك التي من الموجب الأخذ بها لتحديث منطقة الشرق الأوسط وهي ((ضرورة وضع عمليات التحديث والدمقرطة وإرساء الاستقرار في الشرقين الأدنى والأوسط ،موضع التطبيق بالتعاون مع الشركاء أنفسهم في المنطقة) .و دعى الى عدم تجاهل حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني خلال تطبق عمليات التحديث معلنا ((أن من غير المسموح أن يمنع أو يعيق هذا النزاع تحقيق آفاق أخرى من مثل المجال الاقتصادي.)) . لو أبعدنا مؤقتا مُسَلمة ضرورة حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني وهو ما يشكل عصب التشويش والقلق على مستقبل المنطقة وعمليات التغيير الموجه أليها ،فأن التعبير الوارد عن التعاون مع الشركاء يثير الكثير من التساؤل عن المقصود ( بالشركاء). ولكن في مجمل حديث السيد شرودر وقبله وزير خارجيته ومن ثم السيد جاك شيراك رئيس الجمهورية الفرنسية وغيرهم من أقطاب السياسة في الغرب، تم التأكيد على أن الأنظمة الحاكمة الشرق أوسطية هي المعنية (بشركاء) محتملين في عمليات التحديث والدمقرطة المنوي طرحها كمشروع مستقبلي للسلطات والمجتمعات هناك . ولكن نظرة إحاطة للمشهد السياسي تؤشر وبشكل ناجز الى كون الأنظمة الحاكمة ذاتها تشكل العقبة الكأداء في وجه الدمقرطة والتحديث وأن مشاركتها وفق النمط المفترض والمعلن يعد لوحده أن حدث معجزة في المنطقة.وأن أريد فعلا تحقيق تلك المعجزات الديمقراطية فالأولى البدء بتأشير بشاعات تلك الأنظمة الاستبدادية والحث على تغيير سلوكها اليومي ونماذج مؤسساتها السلطوية وكذلك قطع الدعم المعنوي المقدم لها من الإدارة الأمريكية والعالم الغربي، ليتم بعد ذلك البحث الجدي عن المشاركة العامة في التغيير ومن ثمة القناعة بحقيقة وصواب مشاريع الإصلاحات الغربية.أذن فأن مشروع الشرق أوسط الكبير للديمقراطية والتحديث أن أريد له السير في الطريق الذي ( لا ) تملي تعابيره (رغبة) المصالح الرأسمالية، سيواجه طريقين لا ثالث لهما، وهما خياران صعبان ومكلفان للغرب بشكل عام. الأول يتمثل بإزاحة تلك الأنظمة الحاكمة أو في الأقل إجبارها على تنفيذ برامج التحديث والتخلي عن الأساليب القسرية القمعية للسلطة، والثاني يمثل خيار إثارة المشاكل الداخلية عبر تصعيد التناحر أو الخصومة بين السلطات ومناهضيها من التنظيمات والتجمعات والشرائح الاجتماعية وحشد الحلفاء وتصعيد الضغط لتشتيت وشل قوى السلطة وقدراتها على الحركة.إما الرغبة الأمريكية فهي تختلف بالكثير في رؤيتها للآمر رغم مقاربة بعض تصوراتها ونواياها من تلك الخطط والمشاريع.ولحد الآن فان جميع تلك الخيارات تبدوا مطروحة بحدة للنقاش والرغبة في التطبيق داخل أجنحة السياسيين الأمريكيين ولكن أوجه الاعتراضات تجعل القوى الراغبة بالتنفيذ تتوخى الحذر من انفلات الأمور نحو أجواء لا يمكن السيطرة عليها أو تسبب الحرج والتشويش عند صناع القرار في الإدارة الأمريكية وربما يعتبر درس احتلال أفغانستان والعراق المثال النموذجي للتخبط السياسي والتوقعات غير المرتقبة. لذا فأن رغبة البعض داخل الإدارة الأمريكية لمثل هذه السيناريوهات يلاقي بعض الاعتراض والممانعة خوفا من التداعيات .ولحد الآن يفضل اعتماد الحكام الموجودين كمنفذين للمشروع وأن يكونوا عصب التغيير من خلال صفقة تراضي تدفعهم للاندماج والتعامل مع المشروع ويتم بعدها التغاضي عن مساوئ علاقتهم بشعوبهم. وهذا ما يجعل المشاكل تدور في ذات الدائرة المفرغة ولن تكون نتائجها غير وبال يفاقم التردي الحاصل في جميع مفاصل العلاقة بين الشرق والغرب وأيضا داخل المجتمعات الشرقية. يحاول خبراء البنتاغون والمخططون الأستراتيجيون في الإدارة الأمريكية تقسيم منطقة الشرق الأوسط الى دوائر وكيانات تتوزع حسب قربها وعلاقاتها مع الإدارة الأمريكية. ففي الوقت الذي تصنف أغلب الأنظمة هناك كونها توابع يمكن الاطمئنان لخدماتها، فأن هنالك أيضا حكومات راديكالية تثير لأمريكا الكثير من المعوقات وبالذات ما يتعلق بعلاقتها الستراتيجية مع إسرائيل ،لذا تضطر الإدارة الأمريكية لوضع استراتيجيات محددة للتعامل مع التراتيبية المتفاوتة في تلك العلاقة .وتمثل اليوم التغييرات التي حدثت في بلدان مثل الأردن والمغرب وقطر والبحرين نموذجا مشجعا لشكل العلاقة التي تسعى الإدارة الأمريكية لتعميمه على باقي أصدقائها في المنطقة.حيث تدفع هؤلاء الحلفاء قدما لأتباع النوع التفضيلي للإصلاحات (حسب الرؤية الأمريكية ) الذي هو شديد النفع للسلطة الحاكمة ويساعدها على امتصاص التداعيات الداخلية السلبية عبر إطلاق بعض العمليات والمبادرات ذات القدر المحدد من حريات التعبير والسماح بالانتقاد.في ذات الوقت فأن تلك الإصلاحات تقدم الخدمات الجمة للنظام الاقتصادي الدولي وتحفظ التوازنات داخل الإقليم وتنمي العلاقة مع إسرائيل وتعمل على رفع الحواجز المعيقة لاندماجها في الشرق الأوسط والترويج لدورها المستقبلي فيه وهو جوهر موضوعة التغييرات المرجوة في المنطقة.وهذه الأنظمة تشعر باطمئنان كبير ،بأن مبادرة الشرق الأوسط الكبير سوف تضمن لها دورا ما مميزا ولن تكون عرضة للهزات حسب التغييرات التي تسعى الولايات المتحدة أجرائها في هياكل حكومات المنطقة .وهناك قناعة تامة لدى هؤلاء بأنهم قادرون على السيطرة على الأوضاع والتداعيات داخل بلدانهم من خلال لعبة توازنات تدعمها الإدارة الأمريكية نفسها . ولكن ضمان أداء حكام طيعين يخضع دائما للتدقيق والبحث فهنالك الكثير من الحكومات التي تبدوا سياساتها بوجهها العام خاضعة وتابعة بشكل لا يقبل الجدل لتوجهات الإدارة الأمريكية وسياساتها حول دمقرطة إدارات الشرق الأوسط. ولكنها في ذات الوقت تنحو في هيكلتها الإدارية وأدائها لمصالح شخصية سلطوية وينخر مؤسساتها الفساد الإداري والبيروقراطية وتشيع في مجتمعاتها الانغلاق الديني والاجتماعي والجمود السياسي . وتلك الحكومات بسياستها الغير متوازنة ورغم الخدمات الجمة التي تقدمها للنظام الرأسمالي فأنها باتت تمثل حقبة زمنية عتيقة ترى سياسة الولايات المتحدة ضرورة التخلص عنها لصالح نماذج أكثر عصرنه وأكثر قدرة على محاكاة المستجدات العالمية واكثر شجاعة على القبول بالانفتاح والتسامح الديني والعقائدي والاجتماعي وفي ذات الوقت يكون أداؤها غير متقاطع مع أجندة السياسة الأمريكية. المشكلة تتخذ نماذج مختلفة ومتفاوتة من أشكال التعامل مع مشروع الشرق أوسط الكبير .فالإدارة الأمريكية ستكون بمواجهة إشكاليات نوعية ثقيلة لا يمكن السيطرة عليها من الخارج دون تشخيصها بدقة ووضع آليات للسيطرة عليها داخليا وهذا يتطلب أولا فك الارتباط بين مهمات التغيير الديمقراطي والتحديث وبين تنفيذ مصالح الحركة الصهيونية وتلبية استراتيجيات إسرائيل في المنطقة .وأيضا لا يمكن اختزال التغيير بتعبير مكافحة الإرهاب أو تطمين مصالح الغرب الرأسمالية أن أريد له أن يمتلك المصداقية ويعمم كخيار يرجح كفة التحديث والعصرنة ومبادئ حقوق الإنسان والعدل الاجتماعي والسياسي .ومن الموجب للمشروع المقدم من خارج المنطقة وبالذات من الغرب السعي للضغط على الحكومات العربية لتنفيذ برامج إصلاحية تصب في خدمة الطبقات المحرومة وحقوق الإنسان والحريات العامة السياسية والاجتماعية والتنمية الاقتصادية .وان يؤخذ بالحسبان في الوقت ذاته الشروط الاقتصادية والثقافية لشعوب المنطقة والعوامل الدينية والرمزية والعلاقة بين شرائح المجتمع ووسائل الإنتاج ونماذج الاستهلاك والانقسامات اللغوية والثقافية والدينية. وكل هذا يتطلب تغيير جذري في سياسة الولايات المتحدة وضرب من المعجزة الأيدلوجية التي لا يمكن تخيلها. أن النظر لواقع الحياة في الشرق الأوسط يقود الى نكران وجود تراتيبيات ومقاييس عامة ثابتة أو محددة في ذلك الحيز الجغرافي والزمني ولذا من الموجب لأي مشروع كان أن يأخذ في حساباته وبدقة متناهية مختلف أشكال التمايز والتراتب وآليات ترابطها وتنافرها في مجتمعات بأغلبية أمية تصر على توكيد خصوصياتها وتتمتع بقدر كبير من القدرات غير المتجانسة والميالة لتصعيد نوازع الفرقة والعداء والعنف مع الغير والخصوم وتخوض صراعات مختلفة قومية وطائفية في ظل انعدام المعايير وغياب النماذج التوافقية والمشتركة ومؤسسات المجتمع المدني وسلطة القانون الضامن والكافل للحقوق والواجبات.فهل يا ترى أن مشروع الإدارة الأمريكية حول الشرق الأوسط يعالج مثل تلك الأسئلة الكبيرة ويطمئن نفوس مثيريها .الشكوك كبيرة وكثيرة حول هذا الأمر ولا زالت الولايات المتحدة بعيدة كل البعد عن مقاربة تلك الإشكاليات أو معالجتها بشكل منطقي سليم أو حتى القدرة على التفكير بأنها سبب مباشر ورئيسي في تلك الفجوة الواسعة الحاصلة بين رغبات الإدارة الأمريكية ورغبات شعوب العالم. قدمت عبر حقب زمنية طويلة دراسات ومقترحات وبرامج لمشاريع كثيرة من قبل مؤسسات حكومية في الشرق العربي حاولت تشخيص حالة التردي في الأوضاع الاقتصادية والسياسية ولكن أغلبها أستند في رؤيته على هاجس الصراع المستديم مع عدو خارجي متربص يريد القضاء على ملكات خاصة تتمتع بها شعوب المنطقة وسلطاتها. وكانت جميع تلك المشاريع تستهلك نفسها في الهم السياسي الخارجي تاركة موضوعة معالجة العلاقة بين الحاكم ومؤسساته من جهة والشعب المحكوم مع انعدام التحديث الاجتماعي والسياسي والتغاضي عنه لأمد غير معلوم. ولم تكن المحاولات لخلق تلك المشاريع والمبادرات غير عملية تحصن هش فوقي لا علاقة له بإرادة الشعوب وخياراتها ولذا فقد بقيت حبر على ورق أو اختفت بعد انفضاض الاجتماع والتوقيع على الوثيقة مباشرة ( الدفاع العربي المشترك، جبهة الصمود والتصدي ،مجموعة الستة ،الاتحاد المغاربي ، البرلمان العربي ، الجامعة العربية ،مجلس التعاون الخليجي ...) وغيرها من التحالفات والعهود والعقود غير المنفذة وغير الملزمة .ومن ذلك فقد نأت السلطات الحاكمة بنفسها بعيدا عن معالجة مشاكل الحريات العامة وحقوق الإنسان ومستحقات الشراكة والديمقراطية وكانت أغلب برامجها الداخلية لتصحيح الهياكل الاقتصادية والاجتماعية تفصح عن سياسات تجريبية تخبطية أفضت لمجتمعات استهلاكية تعدم فيها الضمانات الاقتصادية والاجتماعية وسرعان ما أدت تلك السياسات لتفشي البطالة والفقر بشكل واسع وخطر، وتصاعدت معها مظاهر الإحباط وفقدان الأمل والثقة بالمستقبل لدى قطاعات واسعة من الجماهير، ولم يقتصر الآمر على هذا وإنما أفرزت تلك الأوضاع تنظيمات سلفية ورجعية بمختلف الاتجاهات والمشارب والألوان.وساعدت السلطات ببرامجها الفاسدة والتخبطية على تفشي حالات سرقة المال العام والرشوة وكذلك هجرة واسعة للعقول والخبرات والأيدي العاملة وقصور في فهم معنى الوطن والمواطنة وتشظيهما لجهويات طائفية ،قومية وعشائرية . بينما تنظر الدول الأوربية باهتمام بالغ لمشروع الشرق أوسط الكبير وتدعمه بعد أن عرضته الخارجية الأمريكية وسوف تقدمه بشكله الرسمي الى قمة الدول الصناعية الثمانية في وقت قريب . فأنها تحرص أيضا أن يكون ذلك المشروع التزاما أمريكيا على المدى البعيد وليس مشروعا مجتزأ وعابرا ربما يجلب الكثير من الإساءات ويصعد الإرهاب في العالم. وفي تطلعها هذا تشعر مدى الحاجة لأحداث تغييرات فعلية وناجزه في مجتمعات الشرق أوسط ضمانا لمصالحها الواسعة في تلك المنطقة .ولكن في الجانب الأخر من اللوحة فأن الحكومات العربية تطرح تحفظاتها ومخاوفها على أسس أخرى تأخذ في المقدمة الإبقاء على الأطر القائمة وتمرير التغييرات المنوي أجرائها عبر مؤسسات السلطة وهذا وحده يضمن بقاء سيطرة الفعاليات السلطوية على حراك الشارع ولذا فقد سارعت الحكومات العربية لحصر مبادرة الإصلاح والتجديد ورميها بعيدا نحو واجهات تلجم التساؤلات المثارة في الشارع العربي عن ضرورة أجراء الإصلاحات الداخلية .فقد سعت الحكومات العربية لبلورة مشروع إدخال الإصلاحات على هياكل الجامعة العربية وأهملت مستحقات شعوبها الداخلية وقدمت ممانعات مسبقة عن أي محاولات للتدخل في هذا الشأن . وأظهرت عملية الأعداد للقمة العربية ثم تأجيلها ومن ثم ما تمخض عن انعقادها لاحقا على أن مساعي ورهانات الحكومات العربية لازالت تنأى بعيدا عن معالجة استحقاقات الداخل .ففي عملية تمويهية وفبركة مخادعة صور أمر انعقاد القمة العربية والأوراق المطروحة لإصلاح الجامعة العربية على أنه نهاية المطاف أو المدخل للإصلاح العام الذي يشمل القبول بالمبادرات الخارجية وأيضا يحدث التغييرات المرجوة في (المجتمعات العربية) متناسين أن الجامعة العربية ومنذ تأسيسها ولحد الآن لم تستطع أن تقدم أية خدمات فعلية لأعضائها وشعوبهم وأن قرارات القمة كانت دائما حبرا على ورق وأن جميع توصياتها كانت تأتي وفق شروط عمليات التسوية والتراضي وتبويس اللحى وهي الشكليات التي ميزت جميع الفترات الزمنية منذ تأسيسها ولحد الآن. فالجامعة العربية بهذا المعنى ظلت المكان الملائم للقادة العرب لتبادل التحايا واللوم ثم الاتفاق على تبادل المعلومة لمواجهة التداعيات المحتملة وصياغة الكيفيات المطمئنة لصد القوى المثيرة للتساؤل أو حسب التوصيف الحكومي المثيرة للشغب !! وليس هناك مجال للنظر في أو تبادل المعرفة عن مشاكل مستعصية تعم الشارع العربي ومؤسساته. أن تنوع وضخامة المشاكل التي تزخر بها المجتمعات الشرقية تجعل مؤسسات الدولة والمجتمع رخوة وهشة تجاه المطروح من المشاريع القادمة من الخارج والمتغييرات المحدثة في عالم اليوم في المستويات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والثقافية التي طالت بسرعتها ومدياتها مختلف أرجاء المعمورة.فلا يمكن مواجهة المشروع الأمريكي دون أحداث تحصينات داخلية تشمل تغييرات وإصلاحات اجتماعية اقتصادية سياسية دينية وثقافية . وهذا الأمر يتطلب الكثير من الإجراءات الحقيقية والواقعية يشارك فيها الجميع سلطات ومؤسسات حكومية ومؤسسات مجتمع مدني ويشمل بدأً رفع أحكام الطوارئ والمحاكم والقوانين الاستثنائية المتخذة كأسلوب حكم في أكثر بلدان الشرق الأوسط وهذا بدوره يجب أن يترافق مع أساليب ناجعة لإحصاء وحل مشاكل التنمية البشرية وخلق فرص حقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تخفف معدلات الفقر والأمراض والوفيات واستغلال أمثل للموارد المالية المتاحة والحفاظ على بيئة حياتية طبيعية والعمل على تطوير التعليم ومعالجة تخلف المناهج التربوية والتخلف العلمي وتردي المشهد الثقافي والاجتماعي والديني ومعالجة مشكلة البطالة المستشرية والفساد الإداري وتغيير التشريعات المتعلقة بالحريات والديمقراطية وحقوق المرأة والطفل وقوانين الرعاية الاجتماعية وتوزيع الثروة . يقودنا هذا المشهد الطافح بالمشاكل الى تكثيف الأسئلة عن ماهية التغيير المنشود في عالم الشرق الأسطوري .ربما الحسنة الوحيدة التي تسجل لمشروع الشرق الأوسط الكبير اليوم ،أنه أثار أسئلة حساسة وأظهر في ذات الوقت الأهمية القصوى والحاجة الفعلية للإجابة عليها اليوم وليس تأجيلها الى يوم مجهول الموعد. ـ ما الذي تفعله الدول الفقيرة للخروج من مأزقها المستديم مع عدم توفر الموارد الاقتصادية ..؟ ـ ما نوعية الحوار وأسسه والذي نريد اعتماده للحوار مع الأخر ( الخارج ).؟ ـ ما حقيقة علاقتنا بالديمقراطية وحقوق الإنسان ؟ ـ ما هي تأثيرات ومسؤولية الدين في تشكيل منظومة أفكار الشرقيين السلبية والطاردة ؟ ـ ما هي مسؤولية النخب السياسية والثقافية عن التداعيات الحاصلة اليوم ..؟ ـ ما نوع العلاقة التي نريد أن نقيمها مع الحضارة والتحديث والعولمة ..؟ ـ هل الأنظمة الحاكمة ومؤسساتها قادرة على أحداث التغييرات الديمقراطية …؟ ـ ما نوع المرجعيات المعرفية التي نريد أن تكون هادية لبرامج حياتنا اليومية ..؟ وهناك الكثير..الكثير مما يمكن أن يكون جزأ من متاهات يجب استجلائها في خضم مشروع يعتبر حاوية واسعة لألغاز، لا تنتهي بمشروع على ورق أو نوايا حسنة مفرطة الطيبة ومحفوفة بالأمل أو نوايا سيئة تنوي الشر المطلق للبشر والمنطقة.
#فرات_المحسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أما كان للحكمة مكان
-
سفالة وطنية
-
ضبط الحواسم!!!
-
الشرقية …الشرقية
-
عام بعثي أخر مضى
-
ألغاز الموت المجاني
-
تقية المكاشفة. السيد فاروق سلوم نموذجا
-
لنتذكر دائما عار المقابر الجماعية
-
من أصدر القرار 137 ومن سمح بتمريره
-
عن موت المؤسسة العسكرية العراقية
-
بانتظار أن يغرد الفأر مثل البلبل
-
صديقي الذي ودعته دون أن أدري
-
فأر من هذا الزمان
-
لن تعود الخطوات الى الوراء
-
لعنة المومياء الرامبوسفيلدية
-
رمضانكم أسود أيها البعثيون
-
العلم والنشيد الوطني العراقي
-
مأزق العراق الحاضر
-
لا مكان للنازية في شوارعنا
-
الوثيقة التاريخية بشروطها الثلاثة
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
المزيد.....
|