|
ما هي الرقابة؟ وماذا تراقب؟
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2817 - 2009 / 11 / 1 - 16:17
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
أن لا يتبين المرء منطقا متسقا للرقابة على الثقافة والإعلام في سورية، وربما غيرها من البلدان العربية، أمر لا ينفصل عن وظيفة الرقابة ومفهومها نفسه. فلا تكون الرقابة رقابة إلا إذا كانت اعتباطية، يمتنع التنبؤ بما قد تمنع أو تحجب، ويستحيل ضبط أفعالها المانعة بقاعدة مستقرة. المطالبة بقاعدة أو بقانون للرقابة يدل على سوء فهم. التقنين الوحيد المتسق للرقابة هو التقييد التام أو الرقابة الكلية. أما فكرة رقابة قانونية فمتهافتة ذاتيا، تماما مثل قانون استثنائي. وأما حرية الثقافة والإعلام فلا تحتاج إلى قانون. بيد أن جانبا من اعتباطية الرقابة الثقافية يتصل بمفهوم الثقافة ذاته، بما هذه خرق للقواعد وانفلات من أي قانون خارجي واختلاف وإبداع. المنتجات الثقافية لا تنتج بالجملة، ولا تقاس بمسطرة ثابتة، وليس لها مواصفات مستقرة، الأمر الذي يزيد من صعوبة تقنينها ويسهم في إبراز الطابع الاعتباطي للرقابة عليها. وهو ما ينطبق أيضا على ميدان المعلومات بقدر ما يمكن تعريفها باختلافها وتعذر إنتاجها بالجملة أيضا، في مجتمعاتنا على الأقل. على أن اعتباط الرقابة لا يقتصر على المعنى القانوني للتعبير، أي غياب القاعدة الناظمة، بل يتعداه إلى المعنى الإيديولوجي، أي تعذر انضباط الممارسات الرقابية بتوجه منسجم أو "رسالة" يمكن التعرف عليها. ولطالما كانت هذه السمة الأخيرة مصدر إحباط لمقربين من السلطات الرقيبة، يحصل أن تطالهم رقابتها، فيردون بمحاولة صنع قضية مشتركة لهم معها، أو بتبصيرها بمصالحها الحقيقية التي يبدو أنها لا تراها جيدا (بينما يرونها هم!)، أو التي تقوضها بعض أجهزتها وإداراتها الطائشة. ليس للرقابة رسالة غير الرقابة، أي السلطة التي تراقب، أي التي تمنع، أي التي تسجن، أي التي تقتل. هل ينبغي القول أيضا إن السلطة الرقيبة معادية للثقافة؟ لا تشجعها ولا ترعاها إلا بقدر ما تستسلم هذه لها وتشتغل جارية في بلاطها؟ وتبدو الرقابة اعتباطية بمعنى ثالث. إن ثمارها العملية، في عصر الانترنت والفضائيات بخاصة، محدودة. ويحصل أن تحظى مواد مكتوبة بمتابعة جمهور أوسع من القراء أن تعرضت للمنع. غير أن هذا التقدير متهافت بقدر سابقيه. ففيما عدا أن اقتصاديات الإعلام والثقافة في بلداننا تتكفل فعلا بتقييد عدد من يستفيدون من ثورة الاتصالات ومفاعيلها الكاسرة للرقابة، وفيما عدا أن السلطة الرقيبة تعرف جيدا جدا أن ما تمنعه يقرأ بفضول أكبر في بعض الأوساط، فإن الرسالة التي تكمن وراء الرقابة لا ترتد إلى المنع بقدر ما تتعلق بتأكيد أين تكمن السلطة الحقيقية وبيد من القرار الحاسم ومن يمنع ويسمح ومن يحل ويربط. وهي رسالة تقول أيضا إن أي شيء، أي نشاط، يمكن أن يطاله المنع والتقييد. وأن ممارسي أي نشاط يمكن أن يطالهم مستوى أعمق من الرقابة والتقييد، أعني المنع من العمل والمنع من السفر والسجن وما شابه. على هذا المستوى نعثر على اتساق الرقابة وبراءتها من الاعتباط. إنها ممارسة قامعة، يتحتم أن تكون ظاهرة ومتجددة كي يبقى جدار الفصل بين من يَمنع ومن يُمنع، من يقرّر ومن يقرّر لهم قائما، صلبا، عاليا، لا يعبر. ولما كانت السلطة، كل سلطة، لا تفرط بأداة تعززها، فإنها لن تمانع بتوفر جدار حماية إيديولوجي يضاف إلى الجدار المنعي أو القمعي. لا بأس بإيديولوجيين يصنعون قضية مشتركة وضد أعداء مشتركين، أو يتوهمون لأنفسهم دورا في تنويرها بصدد مصالحها الحقيقية، أو حتى يتحفظون على الرقابة بالمعنى الإجرائي للتعبير (كممارسات منع أو حجب) ما داموا يلزمون حدودهم بخصوص أساسيات نظام الرقابة ومن له السلطة ومن عليه الخضوع. رغم وعيهم الذاتي المحتمل كخصوم للرقابة، هؤلاء الإيديولوجيون جزء من نظام المنع والرقابة، وإن اعترضوا على إجراءاته. والواقع أن ثورة الاتصالات هي صاحبة الفضل في إضعاف الرقابة الإجرائية على المواد المكتوبة و"المرقمة". لكن لعلها من جهة أخرى عززت من النظام الرقابي. فقد أتاحت مستوى أعلى من مراقبة الأنشطة المستقلة وشبه المستقلة، بما في ذلك منعها أو تعطيلها أو إيذاء القائمين عليها، وهي أيضا تتيح إنتاج معلومات وثقافة أشد فسادا وتخريبا وانفصالا عن الحقيقة الواقعة. في جوهرها، ولكونها سلطة متمركزة حول ذاتها وتعظيم ذاتها ودوام ذاتها، الرقابة ليست استثناء من الإباحة والحرية بل من الحظر التام. تدرك السلطات الرقيبة أن حظرا مطلقا أمر شاق وغير عملي ولا لزوم له. تفتح نوافذ إباحة مراقبة ومسيطر عليها، تمثل بديلا عن الحظر التام ووكيلا له. ليس لأن أشياء تمر الرقابة غير تامة. لأن أشياء تمر الرقابة تامة. المهم من يحدد ما يمر وما لا يمر. المهم هو السلطة الرقيبة، المشرفة، الضابطة، الموجهة، وليس الموضوع المراقب. لذلك فإن الاحتجاج على الرقابة لأنها حظرت هذه المادة أو تلك، وليس لأنها تحظر، هو أيضا احتجاج متهافت، إن لم يكن تواطؤا معها. الرقابة لا تنصلح. والرقابة الصالحة هي الرقابة غير الموجودة. أما الرقابة السيئة فهي الرقابة. سيكون انفعالا مهدورا أن نقول إن الطابع العام للاحتجاج على الرقابة، سوريا وعربيا، هو الاحتجاج على إجراءاتها وليس على ماهيتها، وعلى حيثية المواد المراقَبة وليس على السلطة الرقيبة. لا بأس أن يراقبوا "هم". لا مشكلة كبيرة في منعهم أو حظر منابرهم وإسكاتهم أو ربما حتى اعتقالهم. المهم ألا يطالنا "نحن" المنع. لكن هذا يقوض أية حمايات ممكنة ضد مراقبتنا وقمعنا واعتقالنا. إنه فقط مساهمة في سن الساطور التي إذ تقطع رؤوسهم اليانعة، لن تكف عن الاحتياج إلى مصدر لرؤوس تقطع، ولن تتأخر عن التمييز داخلنا بين من هم منا حقا وفعلا وبين من هم منهم. الساطور يحتاج رؤوسا. هذه غريزته ومبدؤه. ومن لا يريد أن يجز رأسه عليه أن يعترض على الساطور، أن يحتج على اليد التي تمسك الساطور (كيلا نقول أن يقاوم هذه اليد)، لا أن يضع يده على رقبته وحده.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في أبنية الدولة السلطانية المحدثة: ليبرالية اجتماعية وطغيان
...
-
من الطاعة المفروضة إلى التطوع الذاتي
-
في الوقائع نصف الغريبة لاختفاء الشعب
-
في شأن إيران والغرب و..العرب!
-
-الدولة السلطانية المحدثة-: سيادتان وسياسة واحدة
-
تركيا كنموذج عملي يُتعلّم منه
-
ما وراء الزيدي وحذاءه: اعتلال الروح العربية
-
المحركات المحتملة للعلاقات الأميركية السورية في النصف الأول
...
-
سورية ولبنان وفشل بناء الأمة
-
من الاقتصادوية إلى الثقافوية إلى السياسوية إلى آخره
-
ثلاث أسئلة بخصوص كتاب عبدالله العروي -السنة والإصلاح-، وثلاث
...
-
في تأسيس المحاصّة الطائفية معرفياً
-
ربيع الأقوياء العائد... مخيف حقا!
-
عن التماهي مع الشاعر في حضرة غيابه
-
سياسة التعقيد ك-جدار فصل- للفلسطينيين عن قضيتهم
-
في نقد السياسة.. أو من تأليف القلوب إلى انشراح الصدور
-
الحداثة كخير عام، كوني وضروري
-
في شأن الذاكرة والسلطة والرقابة
-
فيما خص أزمة الثقافة النقدية..
-
منظومتا استثناء، لا واحدة، في سورية
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|