جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 2816 - 2009 / 10 / 31 - 14:10
المحور:
الصحافة والاعلام
دائماً ما أتعرض لهذا السؤال المحرج جداً: هل تستفيد يا جهاد من الكتابة ؟
فأقول نعم , وأكون غير صادق 100% ربما أنني أكسب أحيانا سرعة بيع وتسويق ما أكتبه وما أحصل عليه يكفيني فقط تسديداً لنفقات التنقل .
هذا يعني أنني لا أكسبُ من قلمي والذي يكسب من قلمه من المؤكد أن يكون قلمه مبيوعاً.
وكما يقول المثل العامي: إللي بوكل من أكل السلطان لازم يحارب في سيفه.
ولو قيل لمعظم أو ل 90% من الصحفيين العرب والكتاب بأن الصحف ستتوقف عن تسليمهم رواتبهم وإذا أرادوا أن يستمروا في الصحافة والكتابة فيجب أن لا يعتمدوا على الصحافة كمصدر رزق لهم , لوتم فعلا هذا لتوقف معظم أولئك عن الكتابة ولظهر كتاب حقيقيون يستحقون في كل عام جائزة نوبل للسلام .
وقرأتُ مرة عن الخليفة المسلم عبد الملك بن مروان أنه طلب ذات مرة من الشاعر عمر بن أبي ربيعة أن يمدحه في قصيدة فقال له
-أنا لا أستطيع .
فقال له الخليفة:
- لماذا؟
قال:
- لأنني ببساطة يا مولاي لا أمدح إلا النساء ولا أعرف كيف أمدح الرجال والخلفاء والملوك .
وكانه بذلك في لغة اليوم الخليفة يريد من عمر بن أبي ربيعة أن يمدحه بمقال ولكنه رفض.
وهذا أنهما أي الصحافة والكتابة هما صاحبتا الجلالة التي يتقربُ منهما الحُكام والملوك والأباطرة من أجل إرضائهما , ولكن الكُتّابُ العرب يجعلون من موظف بسيط في الحكومة صاحب فخامة وجلالة يتقربون منه من أجل ملأ بطونهم بالنبيذ أو من أجل خمسين دينار على مقال رخيص يمدحون فيه أمين مستودع في إحدى الوزارات الفاسدة .
الصحفي الحقيقي الذي يكتبُ في صحافة صاحبة جلالة لا يمكن أن يقبل بأن يعيش من قلمه على حساب رأيه ومعتقداته وحريته في القول والتعبير , صاحبة الجلالة لا تقبل بأن يكون في قصرها رعاع وخصيان وغلمان يمسحون الجوخ والبلاط وأحذية الموظفين بألسنتهم .
أنا أومن بأن الصحافة والكتابة ليست مهنة للتكسب بل موهبة وعمل تطوعي وليست مهنة ً رخيصة للتكسب من وراءها بل هي صاحبة جلالةٍ لها قدسيتها وطقوسها الخاصة فالذين طالبوا بأن تكون الصحافة مهنة هم أولئك الجنود المرتزقة الذين يكسبون على حساب الدجل والنفاق والنصب والاحتيال والمداهنة للحاكم والتزلف للأنذال من المسئولين الحكوميين وللتقرب من وظائف رخيصة جداً الصحافة ليست مهنة بل هي عمل إبداعي وهي حقاً صاحبة الجلالة حين لا تكون مهنة , الصحافة مهنة غير الشرفاء وصدقوني أنه سؤالٌ محرج كبير بالنسبة لي جداً فأنا غالباً ما أقولُ أنني أستفيد علماً أنني أستفيد فقط ثمن توزيع كتبي فقط لا غير أما معظم دور النشر فهم يقبلون على طباعة ما أكتبه بدون مقابل مني وذلك على نفقتهم الخاصة.
فالذين يسألونني هل تكسب من الكتابة لا يدركون حجم سعادتي وأنا أمسك بالقلم وأرسم كلماتي كما يرسم الفنان في ريشته خطوطه وألوانه .
أنا أحياناً أكتبُ مقالي وأنا ما زلتُ في ثياب العمل قبل خلعها.
أنا أكسب لقمة خبزي من كفاحي ومن عرق جبيني وأنا سعيد جداً أنني الكاتب الوحيد الذي لا يكسب من قلمه , هذا يعني أنني مازلتُ حراً أكتب كما أريد وأقرأ كما أريد وحين أريدُ أن أكون ذكياً لا أحد يجبرني على البلادة وحين أرغبُ بأن أكون بليداً لا أحد يغريني بأن أظهر ذكائي الحاد جداً.
لو أن كل كتاب الصحف في الأردن وفي الوطن العربي يعيشون من كسب يدهم لأصبح لدينا كُتّاب عِظام جداً لا يقلون روعةً عن الكتاب الأوروبيين في عصر النهضة (الريسانس) .
وسئلَ ذات مارك توين في بداية عهده بالكتابة :
-ماذا تفعلُ في هذه الأيام؟
-أكتبُ قصصاً وبعض الخواطر الأدبية .
-وهل بعتَ شيئاً؟.
-نعم, بعتُ كل ما أملك بعتُ كُتبي وساعةً كانت بيدي وبعتُ حذائي وملابسي.
لقد باع مارك توين كتبه وملابسه لأنه كاتب حر أراد أن يعيش بعرق جبينه من أجل قلمه ولم يعش من قلمه لملأ بطنه بالنبيذ .
وأنا كما قلتُ أتعرض كثيراً لهذا السؤال المحرج ماذا تعمل؟
فأقول : مُعلم بناء .
وفوراً يقولون لي : ولماذا لا تعمل في الصحف الأردنيه ؟
فأقول : الصحف هي وظيفة وليس لي شاغر , أما أنا فكاتب ومبدع ولستُ موظفاً في الحكومة الأردنية معظم الصحفيين العرب موظفي أجهزة بيروقراطية فاسده يمدحون مراسل (فراش) في أي وزاره , أنا أحياناً أمدح الحكومة والنظام إذا رأيت منهما شيئاً جميلاً وأحياناً أمدح نفسي والنظام , وأحياناً أو غالباً ما أزدري رئيس الحكومة وسلوكيات الموظفين .
أنا حر أعيش من كسب يدي , وقد اضطرتني الظروف مرة للعمل عتالاً في سوق الخضرة المركزي لأكثر من ستة أشهر.
ومنذ طفولتي وأنا أعشق الكتب ومؤلفيها وأقتنيها في منزلي وكنتُ أظن أن أصحابها كتبوها وهم يبتسمون للدنيا وكذلك الحظ كنتُ أظنه مبتسماً دوماً لهم ,ولكنني مرة على مرة اكتشفتُ أنهم كتبوها بدموعهم وانفعالاتهم وأحزانهم ومتأخراً جداً ابتسم لهم الحظ حين بلغوا من العُمر عِتياّ , عرفتُ ذلك حين قرأتُ عن مصطفى أمين أنه من أول مشوار له في الكتابة باع دراجته الهوائية ورهن ساعة يده عند مُرابي يهودي في القاهرة .
وعرفتُ ذلك حين بدأت أكتب أول كتاب لي, كم يتعبُ الكاتب نفسه في سبيل إخراج أول نسخة من كتابه !.
وأنا لم أرهن ساعة يدي ولم أبع شيئاً ولا حتى ملابسي ولكنني بعتُ زهرة شبابي وأفنيتُ عمري وأنا بين الكتب والأوراق, وكنتُ أظن أنني سأخرج بفائدة كبيرة من كتبي .
ويحضرني في هذه اللحظة مقولة ريتشارد كيرك: الكتاب هو فندق يتوقف مدح زبائنه على الفصول وعلى الأيام وعلى الأمزجة وباختصار ليس على نبيذ صاحبه.
وقال الجاحظ: يذهب الحكيم وتبقى كتبه وبذهب العقل ويبقى أثره ..الحيوان ..ج1-ص 42.
ويقول (امرسون) : ليس هنالك حظ في المجد الأدبي ساعة ظهور كتاب أدبي ولا أحد يقرر ذلك بقرار إن الذين يقررون هم جمهور من الناس لا يمكن أن يرتشي أو أن يستعطف أو أن يُرهب هذا الجمهور هو الذي يقرر حق كل كاتب في الشهرة.
إنني على أمل أن ينصفني القوم بعد مضي قرن كاملٍ من الزمان يخرجون عظامي من قبري ليدفنوني من جديد , أو يخرجون كتبي من خزانتي ليكرمونني بوسام لا تبلغ كلفته بمقدار 1000ميغا بايت من الإنتر نت .
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟