وهم الفسيفساء العراقية :
يخيل للكثيرين من العراقيين وغير العراقيين الذين لم يطلعوا فعلا على التركيبة القومية " الإثنية " للمجتمع العراقي ، وهم يطالعون عشرات المقالات حول هذا الموضوع ، أن هذا المجتمع ذو تركيبة معقدة ومتداخلة من التكوينات والأقليات القومية والدينية والطائفية أين منها التركيبة المجتمعية في الولايات المتحدة أو الاتحاد الروسي والذي ظل اسم هويته " الروسي " على الرغم أنه يضم عددا كبيرا من الأقليات القومية ، وكذلك ظلت فرنسا فرنسية على الرغم من وجود الأقليات الأصلية كالباسكيين والكورسيكين والبيوريتانيين والألزاسيين الجرمان والعرب والبربر القادمين من المغرب العربي والذين يبلغ عديدهم بضعة ملايين حتى ليمكننا القول أن التعدد القومي للأقليات الى جانب القومية الرئيسية التي تمنح البلد هويتها صار ظاهرة عالمية ولم يعد استثناء كما كان قبل عدة عقود .ولنقترب أكثر من العراق ونكرر السؤال السالف : هل كفت تركيا عن أن تكون تركية أو " تركمانية " الهوية بسبب وجود أقليات قومية كردية وعربية ويونانية وألبانية يصل وزنها السكاني الى الثلث وهل كفت هوية إيران عن أن تكون فارسية مع أن الفرس يشكلون أقلية في مقابل الأقليات العربية والكردية والإذرية والأفغانية الهزارية ؟ إن المشكلة الحقيقية اليوم في العراق لا تتعلق بتحديد هوية هذا البلد والمجتمع السامي و العربي والإسلامي فهذا أمر مفروغ منه بل هي في وجود العسف والقمع والاضطهاد القومي الذي يمارسه حكم شوفيني ضد الأقليات وضد القومية الرئيسية العربية بذات القسوة والدموية . ومع ذلك تظل تلك الأقليات التي ينبغي الدفاع عن حقوقها حقيقة لا تنفي هوية العراق بل ينبغي أن تؤدي الى المساواة وسيادة مبدأ المواطنة الحديثة التي تساوي بين جميع أبناء العراق . ومن ناحية أخرى ينبغي هنا التمييز بين حقوق ثقافية ولغوية وسياسية يتساوى بموجبها أبناء الأقليات مع أبناء القومية الرئيسية التي تمثل الأغلبية في المشاركة السياسية عل أساس القاعدة الديموقراطية المعروفة والتي انتصرت في العالم الديموقراطي كله ومنه أخيرا جنوب أفريقيا والقائلة ( صوت انتخابي واحد للمواطن الواحد ) إضافة الى حق المحافظة على الثقافة واللغة الخاصتين بتلك الأقلية وبين حق تقرير المصير وبناء الكيان القومي الخاص بقومية أو أمة أخرى تعيش على أرض وطنها القومي الى جانب القومية الرئيسية . ومثال الحقوق من النوع الأول في العراق يشمل الآشوريين والتركمان ووالصابئة واليزيدين والشبك أما حق تقرير المصير فيشمل الكرد بوصفهم جزء من أمة كبيرة يبلغ عديدها السكاني ثلاثين مليونا نسمة كما تذهب بعض التقديرات .
المساواة السلفية اللفظية :
على الضد من هذه النظرة الديموقراطية الإنسانية التي تقوم على مبادئ المساواة وعدم التمييز وضمان الحقوق وتحديد الواجبات تسود نظرتان مختلفتان أخريان : تزعم الأولى الانتماء والانطلاق من مبادئ دينية إسلامية تقول بمساواة شفهية بين الناس المسلمين دون الحاجة لمنحهم حقوق لتقرير المصير أو أية حقوق حديثة أخرى (لأنهم أخوة في الله ) . ويمكن أخذ نموذج على هذه النظرة من تجربة النظام الإسلامي "السني" في السودان ومحاولاته حل مشكلة الأقليات في الجنوب بالعنف المسلح و النظام الإسلامي "الشيعي " في إيران وتعامله مع الأقلية الكردية المسلمة في الشمال حيث دكَّ مدننا كردية وساواها بالأرض كمدينة سنندج أو تعامله مع الأقلية العربية في الجنوب والتي تحولت الى ملايين من الجياع والشحاذين مع إنهم يعيشون على بحيرة نفط تحت أرضهم . هذه النظرة السلفية التي تزعم المساواة اللفظية ليست أقل سوءا من نظرة القوميين الشوفينيين العرب والذين يعتبرون الجميع عربا رغم أنفهم ! أما النظرة الثانية فهي تلك الخاصة بالقوميين الشوفينيين من أبناء الأقليات نفسها. على سبيل المثال وبالعودة الى الحالة العراقية نرى أن بعض السياسيين والكتاب الساعيين لتمثيل تلك الأقليات قد وصف ، مدفوعا بأسباب حزبية وأدلوجية حينا وطائفية أو شوفينية معادية للعرب والعروبة كانتماء حضاري لا كانتماء عنصري حينا آخر، وصف تركيبة المجتمع العراقي بأنها فسيفسائية وذات خصوصية لا مثيل لها .فماذا تقول أرقام الإحصائيات ولغة المعطيات ؟ سنجيب على هذا السؤال بعد قليل .
التوزيع المزاجي للكعكة :
وقد طالب بعض هؤلاء السادة بناء على هذا الأساس الفسيفسائي الموهوم بحكم تداولي بين التركيبات القومية المكونة للعراق كما ورد حرفيا في بيان يحمل توقيع ( نخبة من المثقفين الآشوريين ) حيث طالبوا حرفيا بأن يكون حق تقرير المصير مكفول لكل " القوميات العراقية " وبتأليف ( مجلس شيوخ من عدد متساو من المندوبين لكل القوميات المكونة للشعب العراقي وهي العرب والأكراد والآشوريين والتركمان والأرمن ونصف هذا العدد من الطائفتين اليزيدية والصابئة المندائية وبصلاحيات مماثلة لصلاحيات البرلمان ) نتساءل عرضا لماذا خصَّ البيان العراقيين من الطائفة اليزيدية أو الصابئة المندائية بنصف عدد التمثيل للأقليات الأخرى ؟ ولماذا يقترح كاتب آخر في مسودته ّ للدستور العراقي الدائم ّ نائبين كرديين للرئيس العربي للعراق ونائب تركماني واحد ولا يقترح نائبا من أية أقلية أخرى ؟ وما الحاجة أصلا لثلاثة نواب للرئيس في دولة ديموقراطية ؟ و هل توجد وظيفة كهذه في فرنسا أو إيطاليا أو ألمانيا أو الهند أو روسيا وحتى في الولايات المتحدة التي تجثم بثقلها على عقول وأقلام بعض كتابنا كنموذج فهل ينتخب نائب الرئيس انتخابا ديموقراطيا أم إنه يعين تعينا كممثل لأقلية قومية أو طائفية ؟ إذا كان السبب في جعل تمثيل العراقيين اليزيديين والشبك نصف غيرهم من الأقليات الأخرى ،وإذا كان عدد نواب الرئيس الكرد ضعف التركمان يعود الى الحجم السكاني فكيف تأتى لأصحاب بيان النخبة الآشورية أو للسيد مقترح مسودة الدستور مساواة الأغلبية العربية التي تفوق 71% بأقلية لا تتجاوز 2% في عضوية مجلس الشيوخ أو في التناوب على الرئاسة ؟ إن التناقض والمزاجية يحكمان هذا المنطق من ألفه الى يائه للأسف . أما رئاسة الدولة العراقية فيجب أن تكون كما ذكرنا قبل قليل و بحسب بيان النخبة من المثقفين الآشورية رئاسة ( تناوبية فيثمل كل مرة في الرئاسة أحد القوميات العراقية ) ! وعمليا ،وبموجب هذا المنطق الذي لا مثيل له شرقا ولا غربا، سيكون الرئيس العراقي عربيا لمدة عدة أعوام ، يليه رئيس كردي فتركماني فآشوري ، ولا ندري هل سيحكمه صابئي كامل أم نصف صابئي بحسب هذا المنطق اللامنطقي !
وهكذا،وعوضا عن سلوك الطريق الديموقراطي الذي سلكته شعوب العالم الحرة والقائم على المساواة في الحقوق والواجبات لتحقيق اندماج مجتمعي ومدني كامل يحق فيه للعراقي عربيا كان أو آشوريا أو تركمانيا أن يرشح ويترشح للانتخابات الرئاسية والاشتراعية " البرلمانية " يحاول بعض الأخوة أن يقسموا كعكة السلطة مسبقا وبموجب أفكار هي أقرب الى أحلام اليقظة عديمة الصلة بالواقع والحياة المعاصرة . ويقينا سيهرع البعض لمثال الحل الأمريكي القسري للصراع الإثني في البلقان ويتذكرون مثال البوسنة و الهرسك أو الاتحاد اليوغوسلافي في زمان الرئيس جوزيف بروز تيتو . والواقع فإن المثال الأول يتعلق بتركيبة إثنية متوازنة من حيث الأحجام لأقليات لها امتداداتها القومية الكبيرة في دول مجاورة هي الكروات والصرب الى جانب البوشناق في الإقليم المعني . أما المثال اليوغسلافي فيتعلق باتحاد بين مجموعة أمم وشعوب وليس بأقليات لا تتجاوز نسبتها مجتمعة خمسة بالمائة بالمقارنة مع الأغلبية العربية إذا ما اعتبرنا الكرد جزء من أمة مستقلة كبيرة أخرى . ونستدرك إن الأغلبية العددية لا تنفي المساواة بين المواطنين بغض النظر عن أصلهم القومي أو انتمائهم الطائفي بل تنفي وتستنكر طريقة توزيع الحصص والكوتا وبناء الغيتوهات الإثنية والطائفية المقفلة في البلد الواحد مما يعيق عميلة الاندماج المجتمعي ويدمر الوحدة الوطنية و المجتمعية . وقد يتساءل البعض عن السبب في عدم احتساب نسبة الكرد الى النسب الأخرى والإجابة البسيطة تقول أن قضية الكرد شبه محلولة ومنتهية سواء وافقوا على الحكم الفدرالي الديموقراطي أو الحكم الذاتي الحقيقي لحكم أنفسهم على أرضهم ضمن العراق الواحد الموحد وعبر طريق الاستفتاء الشعبي النزيه ( وليس كأمر واقع ومفروض من طرف واحد بدعم عسكري غربي كما هي الحال اليوم ) مع احتفاظهم بحقهم في التوحيد القومي مع أجزاء كردستان في الدول الأخرى متى ما سمحت الظروف الجيوسياسية بذلك وهذا الحق يشمل العراقيين العرب في تحقيق حلمهم في التوحيد القومي الديموقراطي وليس الانقلابي مع أجزاء أخرى من العالم العربي الذي ينتمون إليه في عصر التكتلات الكبرى والاتحادات القارية .
خرافة الأمة العراقية :
ويهدف بعض آخر من الكتاب والسياسيين المتحزبين الى الشطب على عروبة العراق ويعتبر أن الفكر القومي العروبي كان ( أحد أهم العوامل المسببة للشرخ الاجتماعي والسياسي بين أبناء العراق الحديث . ) دون أن يفرق كاتب هذا الكلام موضوعيا وعلميا بين فكر قومي شوفيني عنصري يعادي الأقوام الأخرى ويؤمن بالتفوق العرقي كما هي الحال في التجربة البعثية وبين فكر قومي متنور وتقدمي يهدف الى استقلال الأمة المعنية وقيام كيانها السياسي المستقل أو إنجاز مهمة توحيدها القومي ويفخر بانتمائه القومي دون أن يزدري أو يعادي القوميات الأخرى .
إن تفريقا كهذا لا يدور أبدا في خلد الداعين الى خرافة ( الأمة العراقية ) المريبة والتي تدعو علنا الى نبذ وإنكار حقيقة أن العراقيين في أغلبيتهم الساحقة جزء من الأمة العربية وأن العراق جزء من العالم العربي وإنه الحيز الجغرافي الذي على أرضه ولدت وشبت وازدهرت واحدة من أعظم حضارة الكون ألا وهي الحضارة العربية الإسلامية "العباسية" الزاهرة والبالغة ذروة مجدها في بغداد الرشيد والاستعاضة عن كل هذه المقولات و المصطلحات التي يراها شوفينية بمصطلح " الأمة العراقية " في محاولة ساذجة لتصفية حساب حزبية مع البعثيين الحاكمين ولكن على حساب عروبة البلد والشعب ناسيا أن العراقيين كانوا عربا في أغلبيتهم الساحقة قبل تأسيس حزب البعث بآلاف السنين وسيظلون هكذا الى الأبد ولن تكون تجربة حكم البعث على أرض العراق إلا هامشا صغيرا على متن تاريخه المديد .
وقريب من هذا الغرار المعادي لعروبة العراق ما نجده في بيان جديد آخر نشر في الصحافة مؤخرا ويحمل عنوان " إعلان شيعة العراق " وهو بيان يثير الكثير من التساؤلات الجادة منها ما يتعلق بمشروعية التمثيل الشيعي التي يقول بها السيدات والسادة الموقعين على البيان " الإعلان " إذ كيف جاز لهم النطق باسم أكثر من خمسة عشر مليون عراقي شيعي ؟ ولماذا هذا الإصرار وفي هذا التوقيت بالذات على إعلاء من شأن عنوان الانتماء الطائفي وليس الوطني العراقي وبهذا الاستسهال ؟ .غير من الإنصاف القول أن نقاط إيدابية ديدة وردت في مضامين هذا الإعلان فهو يعلن وبصراحة رفضه لتقسيم السلطات في عراق الغد على الطريقة الطائفية اللبنانية ويدعو الى نظام نيابي دستوري والى تثبت مبدأ المواطنة ونفتح قوسا هنا لنقول بأن مبدأ المواطنة الذي ورد في هذا البيان الجريء هو بحد ذاته جوهر البرنامج الديموقراطي في كل زمان ومكان والى بناء المجتمع المدني والى إلغاء التمييز الطائفي . ولكن هذه العناوين الفرعية تظل حبيسة الوهم الطائفي السائد كي لا نقول "الوعي الطائفي" .ثم إن هذا البيان المتقدم مضمونيا في بعض مفاصله يصل الى موضوع الهوية العربية الإسلامية للعراق فينكفئ للأسف تماما و يصمت صمتا مطبقا عن موضوع عروبة العراق ويروج لابتكار جديد يسميه " الهوية الثقافية الإسلامية " وكأن العراق لم يكن له وجود قبل الإسلام ! فهل يتعلق الأمر بتغليب الطرح السلفي الديني على الفكر السياسي التنويري أم إن الأمر يتعلق بعودة خجولة الى نظرية " إيران أم العراق وتركيا هي مربيته القديمة " التي أسسها الشيخ الشيعي الفارسي الهوى حسين يزدي في العشرينيات من القرن الماضي ؟ وسنمر على هذه النظرية في ما سيلي من كلام عن موضوع الأرقام والمعطيات .ونكتفي يهذه الملاحظات العابرة حول " إعلان الشيعة " على وعد أن نعود له في مقالة خاصة به قريبا .
كما نسجل قبل المضي بعيدا في مناقشة هذه محاور موضوعنا الحالي أننا مع حالة الاستفاقة الفكرية الراهنة والمعبر عنها بإصدار البيانات وكافة أشكال الحوار الديموقراطي الحضاري الذي بدأ يتصاعد في الساحة العراقية المعارضة ونقيم بكل إيجابية الكثير من الأفكار الإيجابية الواردة في هذا الحوار والمناقشات الواسعة المستفيدة من أجواء الانفتاح و حرية التعبير خارج دائرة قمع النظام وشموليته البائسة ، ونرفض محاولات بعض الأفراد والجهات الاستبدادية بإيقاف ومنع الحوارات والمناقشات والمساجلات الديموقراطية حول جميع الشؤون التي تخصنا كعراقيين ونرفض مطالبة البعض بكتم أنفاس الناس وحرمنهم من الحوار والتفكير والمناقشة تحت مزاعم طالما كررتها الحكومات المستبدة و تحت شعارات " لا صوت يعلو فوق صوت المعركة المفبركة " أو " لنصمت لكي لا يستفيد العدو من خلافاتنا وتفرقنا " وغير ذلك من أكاذيب وتعلات استبدادية الجوهر .
الأرقام والمعطيات :
ضمن هذه الأجواء الواعدة ، نهتبل المناسبة لمناقشة موضوع التركيبة الإثنية العراقية وطرح ما نزعم أنه رؤية ديموقراطية وإنسانية لحل إشكالات هذه القضية بالغة الأهمية في حاضر ومستقبل العراق ونبدأ فنتساءل هل التركيبة القومية العراقية هي فعلا بهذا التعقيد والتداخل الفسيفسائي ؟ و ماذا تقول لغة الواقع والمعطيات الحقيقية والأرقام الإحصائية ؟
بالعودة الى الإحصاء السكاني للعراق الذي أجري في سنة 1947 والذي يسود الاتفاق مبدئي بين الباحثين والمتخصصين بهذا الشأن العراقي على دقته و مرجعيته العلمية نجد أن النسب الفعلية لمكونات المجتمع العراقي كانت في ذلك الإحصاء على الشكل التالي :
- العرب الشيعة والسنة 71,1 بالمائة
- الأكراد السنة والشيعة " الفيلية " 19 بالمائة .
- الآشوريون والكلدان والأرمن 3.1 بالمائة
- اليهود 2.6 بالمائة .
- التركمان الشيعة والسنة 2 بالمائة .
- الفرس الشيعة 1.2 بالمائة .
- اليزيديون والشبك والصابئة المندائية 1 بالمائة . ( إحصاء السكان في العراق لسنة 1947 كما وردت مقتبسة في كتاب ، العراق /الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية.. ص 60 /حنا بطاطو )
وهكذا نجد أن مجموع نسب الأقليات الإثنية والطائفية الدينية ، عدا الكرد على اعتبار أنهم جزء من أمة كبيرة مقسمة في أربع دول ويرتبط مصيرهم القومي استراتيجيا بمصير أمتهم الكردية ، لا يتجاوز 9.9 بالمائة وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار هجرة اليهود العراقيين بالتواطؤ بين النظام الملكي والدولة الصهيونية و وأخرجنا نسبتهم البالغة 2.6 و تشتت وعودة أغلب الجالية الإيرانية بعد الاستقلال العراق . نفتح قوسا هنا لنذكر بأن بعض رموز هذه الجالية كالشيخ حسين يزدي وقف ضد استقلال العراق و دعا علنا في بيان نشر في الصحف العراقية و قال فيه (يجب أن ترعاه مربيته القديمة تركيا وأمه فارس . ص186 من كتاب شيعة العراق / نقاش ) إذن فقد تلاشت أو عادت هذه الجالية بعد قيام الجمهورية العراقية ونسبتها تبلغ 1.2 . ونوضح بهدف تلافي سوء الفهم فنقول أن لا علاقة لهؤلاء الناس بالعراقيين الذين هجرهم النظام الشمولي القائم اليوم خلال حرب الثمانية أعوام مع إيران في بداية الثمانينات . وإذا ما أضفنا الى تلك النسب عامل الهجرة الواسعة لأعداد غفيرة من المسيحيين العراقيين بسبب ظروف الحصار الدولي أولا وبسبب القمع الحكومي تلك الهجرة المتواصلة والتي تشرف عليها شبكات ومنظمات أخطبوطية كبيرة وجهات دولية وكنسية معينة فإن نسبة الأقليات القومية ستكون بحدود خمسة بالمائة الى جانب نسبة العرب 71% والكرد في إقليم كردستان 19% . فليتفضل الأخوة دعاة حكم العراق بالتناوب بين ممثلي الأقليات والذين ينكرون هويته العربية الإسلامية ويذكروا لنا مثالا واحدا من بين جميع دول العالم تحكمه أقليات تصل نسبتها مجتمعة الى خمسة بالمائة من السكان بالتناوب مع الأغلبية الساحقة .
مبالغات وتطرف انعزالي :
إن من الطبيعي أن يشكك البعض في تطابق هذه النسب القديمة والتي تعود الى أكثر من نصف قرن مضى مع الواقع الراهن في القرن الواحد والعشرين ولكن كيف يمكن إهمالها طالما يشكك الجميع في إحصائيات السلطة الشمولية التي أجريت بعدها و ينعدم البديل الحقيقي لها . إذن لا خيار سوى الأخذ بإحصائيات 1947 بانتظار انتصار الديموقراطية في العراق وإجراء إحصاء سكاني نزيه ودقيق.
من ناحية أخرى فإن هذه الأرقام تفند وتدحض وبكل سطوع وقوة جميع المبالغات والأطروحات الانعزالية الشوفينية المعادية لهوية العراق العربية الإسلامية والتي تريد تحويل العراق الى بلد مفتوح هلامي عديم الشخصية والهوية . و بالمناسبة فقد بلغت تلك الأطروحات درجة لم يسبق لها مثيل من التطرف حيث دعا أحد الكتاب الآشوريين ( يكدان ميسان / القدس العربي 1/6/2002 )الى إنكار أن هناك عرب مسيحيين في العالم العربي وقال بأن هؤلاء سريان وليسوا عربا ، والكاتب هنا يحاول القفز على تاريخية وحقيقية وجود العرب المسيحيين ودولهم العربية كدولة المناذرة في العراق والغساسنة في بلاد الشام وأن قبائل عربية عديدة دانت بالمسيحية كقبائل طي وتغلب وتميم وظلت على دينها حتى نهاية الدولة الأموية بل وحتى فترات متقدمة من العهد العباسي ومن الشخصيات المسيحية العربية التاريخية شيخ قبيلة بني تغلب "شمعلة" الذي رفض أن يغير دينه فعذبه الخليفة الوليد بن عبد الملك عذابا شديدا ( قطع وذرةً من لحم فخذه ثم شويت على النار وأطعمه إياها ولكن الشيخ شمعلة ظل حيا ولم يغير دينه وبقيت آثار الجرح على جسده . عن كتاب " أخبار بطاركة المشرق /للطبراني " اقتبسه محمد الحمد في كتابة " التأثير الآرامي في الفكر العربي ص16) وقد اندمجت بعض بطون وأفخاذ أو أفراد هذه القبائل العربية المسيحية ممن ظلوا على دينهم بمرور الوقت بالأقليات المسيحية ذات الجذور الآشورية والكلدانية السامية كالعرب . وأبعد من هذا التطرف والتهريج غير العلمي هي دعوة الكاتب نفسه في ذات المقال الى إنكار وجود عرب مسلمين في العراق فهؤلاء كما يزعم سريان أجبروا على اتخاذ الإسلام دينا .أي إنه لم يكتف بسَرْيَنَة العرب المسيحيين بل زاد على ذلك بكرمة فَسَرْيَنَ العرب المسلمين أيضا فيا للدقة العلمية والصوابية التاريخية !
الدين والهوية :
وما دمنا في إطار موضوع التركيب القومي والإثني فلا بأس من التعريج ولو لماما على كيفية غير صحيحة يطرح بعض الكتاب بها موضوع الهوية العراقية فيلحون على كونها إسلامية ويغفلون دائما كونها عربية في محاولة لتسويق نظرية الشيخ الفارسي حسين يزدي القديمة والتي وقفت ضد استقلال العراق و القائلة بأن فارس هي أم العراق و تركيا هي مربيته . إنها المرة الأولى على حد علمنا التي يصير فيها الدين هوية لبلاد وشعب إلا ما استثنينا عمارة أودولة الفاتيكان الرمزية . وحتى إذا احتج بعضهم بأن بعض أعلام الدول الأوروبيه تحمل الصليب وهو رمز ديني فإن أغلب الدول في العالم تخلو من الرموز الدينية فلماذا يُقتدي بالقلة ولا يقتدي بالكثرة ؟ وثانيا فحين تسأل اليوم عن هوية بلد كأسبانيا فلن يقال لك أنها كاثوليكية وكفى، بل يقال إنها قوطية أسبانية كاثوليكية أوروبية . وهكذا هو الأمر في كل بقاع الدنيا إلا عندنا في العراق فالمطلوب هو الشطب على هوية البلد والناس العربية الإسلامية أو على عروبته فقط وإبقاء الصبغة الدينية كما يحاول السلفيون الإسلاميون مهما كانوا تنويريين من جهة والعناصر الماسونية المعادية للحضارة العربية الإسلامية من جهة أخرى . إن الدين عنصر من عناصر الهوية الحضارية ولكنه ليس كل الهوية كما تقول العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة . والأصل الأول في الهوية هو الانتماء الحضاري والذي يشمل الثقافة واللغة والأصل العنصري والتقاليد والعادات والعرف والذاكرة الجماعية للأغلبية السكانية في بلد ما . ويأتي دفاع البعض عن مقولة أو شعار ( الإسلام دين الدولة الرسمي ) ليخلط بعض الأوراق ببعضها الآخر فالواقع أن هذه الصيغة الغامضة و الملتبسة جاءت لتمشية بعض الصفقات السياسية أكثر مما جاءت لمعالجة موضوع الهوية علاجا حقيقيا وعلميا . إن مقولة ( الإسلام دين الدولة ) تقوم على خلط لا حظ له من العلمية بين الشخصية الاعتبارية والأخرى الحقيقية " الطبيعية " في لغة الفقه السياسي والقانوني ، إذ يمكننا وصف هذا الشخص أو ذاك بأنه مسلم دينا أو أن دينه الإسلام وهذه القبيلة أو هذا الشعب دينه الإسلام ولكن لا يمكن وصف الدولة وهي شخصية اعتبارية وكيان معنوي ومادي بأن دينها الإسلام . وبلغة أكثر تبسيطا فالدولة لا تصلي ولا تصوم ولا تحج ولا تزكي ، أي إنها لا تمارس أو تدخل الدائرة العبادية الطقوسية للدين فكيف يكون لها دين إذن ؟ وبالمناسبة فقد أدركت القيادة الناصرية ، والتي لا يمكن وصفها بالعلمانية ،خلال فترة الوحدة السورية المصرية تناقض وغموض مقولة ( الإسلام دين الدولة ) فأهملتها ولم تشر إليها في صياغتها لدستور دولة الوحدة التي سميت " الجمهورية العربية المتحدة " . وبالمناسبة أيضا فمعظم دول العالم تخلو دساتيرها من هذه الصيغة التي طرحتها الأنظمة الاستبدادية التي فرضتها القوى الاستعمارية الغربية على بلداننا أو فرضت هي نفسها من خلال الدبابات الانقلابية لإرضاء الطبقة السلفية ذات الامتيازات والأملاك " الوقوف " الموروثة منذ قرون وشراء سكوتها عن ممارسات لا يجمعها جامع بالإسلام أو بغيره من أديان .
لا تناقض بل انسجام :
نعم ، يمكن القول بأن هوية العراق هي العروبة لغلبة العرب السكانية واللغوية فيه ولأصوله السامية وتجلياتها العديدة مع ضمان حقوق الأقليات فيه ، ويمكن القول أن الإسلام يشكل عنصرا آخر من عناصر تلك الهوية . ولكننا لا نقصد الدائرة العقيدية الطقوسية أو الفكرية الطائفية بكلمة الإسلام ، إذ أن هذه الدائرة شخصية وتتعلق بإيمان الفرد وعلاقته مع موضوع إيمانه بل نقصد بالإسلام البناء الحضاري العربي الإسلامي البالغ ذروته في العصر العباسي ومجموعة القيم التي تشكل المنظومة الأخلاقية العامة و جزءا مهما من الذاكرة الجماعية للناس ، إضافة الى تراث جميع الطوائف الدينية حتى غير المسلمة فيه .وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار تراث الطائفة الشيعية والمعبر عنه بتراث آل البيت جزءا من تلك الهوية، مثلما يمكن اعتبار الماضي السومري أو البابلي والحضارات الرافدانية القديمة جميعا وتراث جميع الأقليات جزءا منها أيضا .وهكذا يسود الانسجام و يتلاشى التناقض المفتعل بين عروبة العراق أي صفته القومية والإثنية بلدا وشعبا وبين هويته العربية الإسلامية كمعطى تاريخي تؤيده الأرقام والحقائق لا كرغبة نرجسية لهذا الكاتب أو ذاك السياسي وبين حقوق أبناء الأقليات العراقية سواء كانت أقليات قومية " إثنية " أم دينية طائفية .إن تلك الهوية ينطق بها الواقع الفعلي وتمظهرات الحياة ويدافع عنها أبناء العراق.كما أن تلك الحقوق المشروعة للأقليات ينطق بها البرنامج الديموقراطي ويحميها الدستور والمؤسسات الديموقراطية . أما محاولات تسيس الموضوع وتلغيمه بالمشاعر العنصرية والأحقاد الطائفية فسوف سيزيد من تعقيد الأمور ويطيل من عمر الدكتاتورية البغضية . وقد أثبتت تجارب الشعوب المشابهة لتجارب شعبنا أن اللعب على حبال الأدلجة وسلالم الأحزاب الفاشلة لخدمة مصالح ذاتية ضيقة أو أهداف طائفية لم يخدم أقلية أو أغلبية ولم يشكل ويرسخ هوية لوطن ولم يجلب سعادة لشعب بل لقد جلب حروبا مدمرة تنتج حروبا أخرى . و اسألوا أهل لبنان والبلقان وأفغانستان وجميع الذين ما زالوا يعيشون هدنة بين حرب مضت وأخرى قادمة لا محالة ، طالما لم تنتصر الديموقراطية و يسود شعارها البليغ : صوت انتخابي واحد للمواطن الواحد ..