|
شرفة البيت .. كريم عبد في كتابه - الدولة المأزومة والعنف الثقافي
إبراهيم المصري
الحوار المتمدن-العدد: 855 - 2004 / 6 / 5 - 04:16
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
لو لم يُضف كريم عبد "رسالته إلى حسين كامل" إلى كتابه.. لأصبح هذا الكتاب مثل بيتٍ بلا شرفة . ومن الشرفة كما نعلم يمكننا أن نلقي نظرة على الأفق .. وهذا ما فعلته رسالة كريم عبد إلى حسين كامل لأنها كانت الشرفة التي أتاحت إلقاء نظرة على الأفق الإنساني الذي جاء منه كريم وكان هو السبب الأساسي لكتابة هذا الكتاب . كريم عبد وحسين كامل.. كلاهما مواطن عراقي ولكن لا يمكن جمعهما في إطار واحدٍ إلا بالمقارنة .. وهذا ما فعله كريم حين خاطب حسين كامل قائلاً ص (185): (... أنا أريد أن أعود إلى بيتي مع ثلاثة ملايين مواطن عراقي مشردين في أربع جهات الأرض، بعضهم انتحر قهراً لعدم احتماله حياة المنافي، وبعضهم مات غرقاً في عرض البحار بسبب سفن المهربين المستهلكة مثل ضمائرهم، نحن ثلاثة ملايين نريد أن نعود إلى بيوتنا ومقابر أجدادنا، وأنت تريد أن تعود مع ثلاثين ضابطاً لكي تصبح رئيساً جديداً للجمهورية، علماً بأنني قرأت ستة أطنان من الكتب لكي أفهم نمط جمهوريتكم هذه فلم أفلح لحد الآن...) كانت رسالة كريم عبد إلى حسين كامل وزير دفاع صدام حسين وأحد مساعديه قد نشرت يوم الثاني من سبتمبر أيلول عام 1995 في جريدة الحياة، أي عقب هروب حسين كامل وشقيقه صدام كامل من العراق إلى الأردن، وحينها ظهر حسين كامل بوصفه عضو فرقة الشياطين الذي تاب وتحدث أمام كاميرات التلفزيون عن رغبته في تخليص العراق مما شارك هو فيه بيده وأسنانه .. لكن حسين كامل وضمن خديعة متقنة عاد إلى العراق حيث لقي مصرعه في صورة تصفيةٍ دموية طالما طبعت تعامل صدام حسين مع مُعارضيه أو خائنيه أو من يتوجس فيهم رائحة المعارضة . غير أن كريم عبد المهندس والكاتب المواطن العراقي الذي خرج من بلده مضطراً في إبريل نسيان من عام 1979 بقى حيَّاً في منفاه ليكتب ولينتصر على الأقل بالكتابة على ظرف الوجود الصعب الذي فرضه نظام صدام حسين على مواطنيه داخل وخارج العراق . يكتب كريم القصة والرواية والشعر والبحث، وكان من كتبه البحثية هذا الكتاب (الدولة المأزومة والعنف الثقافي ـ عراق ما بعد الحقبة الثورية وأسئلة المستقبل) وهو الكتاب الذي صدر عام 2002 أي قبل سقوط نظام صدام حسين.. وحينما تقرأ الكتاب تشعر وكأن كريم عبد يتوقع بل ويلمس سقوط هذا النظام لمساً. ولما كان الكتاب.. تحليلاً ورؤية استشرافية.. فإن الأداء يتداخل فيه ما بين تحليل الظواهر التي وسمت دولة البعث وبين إعطاء أفق مستقبلي لما يجب أن يكون عليه عراق المستقبل . وإذا حذفت كلمة.. العراق.. وبعض أحداث ماضيه ووضعت اسم أي دولة عربية ثورية فسوف تصل إلى نفس النتيجة التي مفادها: أنَّ نظاماً ثورياً لا وظيفة له إلا.. قيام الثورة.. وبعد ذلك بأقل من ثانية واحدة كان على الثوريين أن يسلموا.. البلد.. إلى من يُحسن إدارتها بعيداً عن الأفق العسكري الضيق والأحزاب رثة الفلسفة والتفكير وبعيداً عن الشعارات التي ترتفع برجل واحد لكي يصبح.. قائداً ضرورة.. وهو ما أدى ويؤدي في النهاية إلى خراب الدولة والمجتمع وزوالهما إلى محض سلطةٍ ضيقة تستأثر بكل شيء وتجد في العشيرة الضيقة أو الولاء الضيق فرصة أن تستمر هذه السلطة آمنة على وجودها الذي يتمثل في شخص واحد هو.. القائد الضرورة.. حتى لو أدى ذلك إلى خراب شامل كان شكله الأكثر فداحة ومأساوية في العراق . وسلطة مثل هذه لا تجد ماء حياتها إلا في تحويل البلد إلى ثكنة عسكرية وإلى إدامة حالة طوارئ ضد أعداء داخليين أو خارجيين، حقيقيين أو متوهمين وفي الغالب متوهمين.. حتى أن بلداً مثل مصر وإن كان حاله أخف حدة من العراق يعيش حالة طوارئ منذ عام 1958.. أي أن إنساناً لا حيلة له مثلي ولد وقد يموت في حالة الطوارئ هذه . وفي حالة كهذه وكما ذهب كريم عبد في كتابة فإن السلطة تراكم الخوف من كل شيء ويصبح البلد مستنداً بكليـِّته على القائد الذي يُفاقم وجوده إعلامياً وأمنياً بوصفه صمَّام الأمان الذي إذا ما ذهب.. لا قدر الله.. يصبح البلد كله في مهب الريح . وكانت الحالة الأشهر هنا هي حالة جمال عبد الناصر الذي وما إنْ مات حتى فاضت دموع الملايين وكأنها أصيبت بيتم لا شفاء منه، وحينما كنت أقرأ الفصل الذي يحلل فيه كريم عبد ظاهرة عبد الناصر كنت أتذكر مشهد تشييع جمال عبد الناصر الرمزي في مركز بدر بمديرية التحرير حيث كنت أعيش صبياً مع أسرتي وهذا المركز الذي كان شبه مدينة صغيرة في منطقة صحراوية فاض بالحزانى الذين رفعوا نعشاً فارغاً مُغطى بالعلم المصري فيما كان البعض يضرب رأسه بالحائط حتى يسيل دمه بالمعنى الحرفي للكلمة . ورغم أن مصر تجاوزت يتمها الناصري إلا أن ظاهرة.. القائد ـ صمَّام الأمان.. لا زالت فاعلة ليس في مصر فقط ولكن في كل بلد عربي تقريباً ويترافق ذلك مع فوضى كاملة من ضجيج إعلامي وشعاراتي يضيِّع حتى أن نلمس القائد في واقعيته التي ربما كانت واقعية مفيدة إذا تم النظر إليها بوصفها إدارة للدولة والمجتمع لا قيادة تاريخية للدولة والمجتمع . ومن بين القادة العرب كان صدام حسين أكثرهم إفراطا وتفريطاً في الدولة والمجتمع، مُركزاً فقط على صورته التي عمل على تأكيدها بكل وسيلة ممكنة ناسياً كما ينسى الكثير من القادة أن أي صورة مهما كانت عظمتها أو عظمة صاحبها الحقيقية أو المتوهمة لا يمكن أن تغطي أفق بلد كالعراق ولا يمكن أن تلخصه وتقيده رغم كل ما حدث من مصائب فادحة . والنتيجة أن القائد الضرورة يذهب عن هذا البلد أو ذاك ويبقى البلد مثخناً بجراحه وبأسئلة المستقبل التي حاول كريم عبد في حالته العراقية أن يجيب عليها، لكنه لم يضع.. مانفستو.. كحالة الثوريين الذين يرفضهم كريم وهو محق في ذلك تماماً كونهم لا يملكون مشروعاً إلا الاستيلاء على السلطة.. وإنما يحلل كريم عبد بتشريح متلطف الظاهرة وينفي خبثها مُبقياً كإنسان ومثقف وحالم على الطيب فيها.. والمثال هنا (الظاهرة الطائفية)... والتي يصفها كريم عبد قائلاً (ص 61) : (... لأنها تدل على حالة ارتدادٍ في الوعي الجمعي، فإن الظاهرة الطائفية لا تعلن سوى انكسار هذا الوعي، انكسار في التصورات والوجدان والمفاهيم، لذلك فإنَّ هذا الانكسار ينطوي على إنذار ضد الطائفية ذاتها، ضد عواقب تكريسها ومضاعفاتها، فعندما يصبح للطائفية تنظيم ما، حزب أو دولة، فإنَّ الأمر يعني بأن الوعي الذي يقف وراء هذه الظاهرة قد وصل إلى حالة العزلة والخوف المزدوج من الذات والآخر معاً...) ما الحل إذن ؟ يجيب كريم قائلا ( ص 63 ) : (... إن الدعوة إلى نقض الثقافة الطائفية لا تعني دعوة الناس للتخلي عن طوائفهم، أو تخلي المظلوم عن حقوقه بذريعة المحافظة على الوحدة الوطنية، لأنَّ هذه الوحدة يجب أن تتأسس على العدالة الاجتماعية، وعليه يصبح المقصود هو نقض أي مشروع لا ينتج سوى توريط الجماعات المختلفة ببعضها البعض، وإدامة الأزمة وتكريس شوائبها ومخلفاتها، والطائفية بهذا المعنى العدمي، هي أولى المخلفات والشوائب ... ) ثمة أمثلة أخرى يتناولها كريم عبد كمنشأ الأحزاب الثورية ومآلها، وثقافة الانقلابات، وسلطة الطوارئ، والثقافة الحزبية، وظاهرة الحزب الديني، والمثقف الأيديولوجي.. وذلك في كتابه المكون من مقدمة وأربعة فصول يندرج تحت كل فصل منها عدة قضايا، يبسطها الكاتب تحليلاً وإجابة على مائة وتسعين صفحة من القطع المتوسط.. ثم يُنهى كتابه برسالته الشرفة.. إلى حسين كامل. وفي هذه الرسالة يمكنك أن تمد لسانك وتتذوق المرارة التي دفعت مواطناً عراقياً للرحيل عن بلده كونه غير قادر على الحياة تحت مظلة حزب البعث التي كانت كثافتها تزداد يوماً بعد يوم من صور القائد الضرورة إلى المقابر الجماعية. يقول كريم في رسالته ( ص 183 ) : (... لقد غادرت بلادي مضطراً، بلاد المطر والأنهار والنخيل والقصائد الجميلة التي لم أجد أجمل منها في كل الدنيا، لقد غادرت وجوه العراقيين التي لا أستطيع أن أشعر بالوداعة والأمان والكبرياء بدونها، تلك الوجوه هي بلادي التي ليس لي بلاد سواها، لكنكم أخرجتمونا بقلوب محطمة ووجوه محطمة ومشاعر محطمة...) وجوه العراقيين النبيلة هذه، هي ما يسعى الكثيرون الآن إلى رشها.. بماء النار.. مرة ثانية. وإن كان نظام صدام حسين قد تولى ذلك باسم العروبة والقومية والبعث إلى آخر هذه الخرافات التي لا تجد تجلياً لها في اقتصاد عربي واجتماع عربي وسياسيات عربية تتوخى مصلحة الإنسان أولا في بلده وثانياً في عالمه العربي.. فإنَّ الكثيرين ـ هؤلاء.. من مفكرين وصحافيين ومناضلين وإرهابيين ورجال دين وأحزاب ومستثمري مصائب الشعوب.. يحاولون بكل طريقة ممكنة ردع العراق عن أن يجد نفسه في مصلحته ومصلحة أبنائه وفي إعادة ترميم ذاكرته ومجتمعه وحياته بعيداً عن أي فكرة شمولية تجد لها قادة من عينة حسن نصر الله الذي سيَّر مظاهرة أكفان لا مظاهرة تحمل الماء إلى شعب يعيش العطش والتعب رغم ثراءه أرضاً وبشراً وأنهاراً . وهذا يُملي الحذر أكثر، ليس دفاعاً عن عراق لأبنائه ومصلحته فقط وإنما للدفاع عن مستقبل يخلو تماماً من القادة والزعماء التاريخيين الذين يسوقون الحياة على جلجلة الأفكار المُطلقة والسيوف.. ودفاعاً عن مستقبل ننظر فيه إلى الأرض بوصفها وطناً لبشر لهم حق الحياة كبشر قبل أن يكونوا وقوداً لأفكار أو مشاريع نضال إلا أن تكون هذه الأفكار والمشاريع تتوخى الإنسان بوصفه قيمة عليا وبوصفه ذاتا لها الكرامة والحق في الحياة بحرية وطمأنينة وسعادة.
ـ الدولة المأزومة والعنف الثقافي ـ عراق ما بعد الحقبة الثورية وأسئلة المستقبل. ـ المؤلف : كريم عبد ـ الناشر : الفرات للنشر والتوزيع ـ الطبعة الأولى 2002.
#إبراهيم_المصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اقتصاد .. الخنزيرة .. وثقافتها
-
البيانولا
-
ومن يأتي .. للفحول .. بحقوقهم
-
سلامٌ عليك
-
مَجَـرَّة الرمَّان
-
ماذا فعل بنا .. هؤلاء .
-
قفا .. نضحك
-
ليحفظنا الله .. من يوم الجمعة
-
جنود السيد .. أحلى جنود !!
-
لماذا أنا .. المصري .. أكتب عن العراق ؟
-
ما هي حكاية .. الأطفال والنساء والشيوخ ؟
-
رسالة خاصة .. إلى صديق عراقي
-
حديقة الأرواح
-
صلاح السعدني .. خيالٌ واسع .. ومعطوب
-
END OF VIDEO CLIP
-
هل أنا .. عميلٌ .. للموساد والسي آي إيه ؟
-
حدث في .. الفلوجة
-
الروض العاطر
-
النبأ الطيب .. من تونس
-
أيتها الفراشة .. يا اسم حبيبتي
المزيد.....
-
الأكثر ازدحاما..ماذا يعرقل حركة الطيران خلال عطلة عيد الشكر
...
-
لن تصدق ما حدث للسائق.. شاهد شجرة عملاقة تسقط على سيارة وتسح
...
-
مسؤول إسرائيلي يكشف عن آخر تطورات محادثات وقف إطلاق النار مع
...
-
-حامل- منذ 15 شهراً، ما هي تفاصيل عمليات احتيال -معجزة- للحم
...
-
خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تصفية مسؤولين في -حماس- شاركا في هجوم
...
-
هل سمحت مصر لشركة مراهنات كبرى بالعمل في البلاد؟
-
فيضانات تضرب جزيرة سومطرة الإندونيسية ورجال الإنقاذ ينتشلون
...
-
ليتوانيا تبحث في فرضية -العمل الإرهابي- بعد تحطم طائرة الشحن
...
-
محللة استخبارات عسكرية أمريكية: نحن على سلم التصعيد نحو حرب
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|