|
في أبنية الدولة السلطانية المحدثة: ليبرالية اجتماعية وطغيان سياسي
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2813 - 2009 / 10 / 28 - 19:33
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
تعرض سوريا سمة مطردة ولافتة في السنوات الأخيرة: دولة حد أدنى في المجال الاجتماعي والتعليمي والاقتصادي والديني والقانوني، مع بقائها دولة حد أعلى في المجال الأمني والسياسي. دولة "ليبرالية" اجتماعيا وتسلطية سياسيا. والقضية التي ندافع عنها هنا أن وجهي الدولة هذين مرتبطين جوهريا. فبدافع ما أسميه مبدأ حفظ السلطة، يجد النظام نفسه مسوقا إلى تدخلية محدودة في مجالات اجتماعية ودينية وثقافية، متجنبا احتكاكات وتوترات قد تطرح حكمه للتساؤل أو تعكر صفوه واستقراره. الحكمة العامة الضمنية تقرر: افعلوا ما شئتم، لكن لا تنازعونا الملك، وإلا ندمتم! على هذا النحو سارت أمور البلاد نحو اقتران ضبط سياسي مفرط مع تساهل مفرط وشامل في المجالات الأخرى جميعا. أو مع رثاثة وتدهور كليين في كل مجال آخر. بغرض الفهم، لنتقصّ جذور هذه الحالة. [1 نزع الحكم البعثي بعد عام 1963 باتجاه بناء دولة حد أعلى اجتماعيا وسياسيا في الآن نفسه: إصلاح زراعي ينال من امتيازات "ملاك أراضي غائبين" (مقيمين في المدن عموما) لصالح جمهور ريفي واسع، توسع في "تأميم" ممتلكات سورية وأجنبية، تأميم مدارس خاصة (بعد 1967)، توحيد مناهج التعليم وتعريب التعليم الجامعي، العمل على محاربة الأمية ونشر المدارس وبناء مراكز صحية توفر رعاية صحية مجانية، حملات لمحاربة أوبئة سارية. كل ذلك يندرج ضمن منطق الدولة الوطنية التي توحد وتعقلن وتدمج وتتدخل لبناء أمة مواطنين متساوين. وكل ذلك مشفوع باستعداد قمعي لا جدال فيه، جرى استعراضه منذ بواكير الحكم البعثي. لكن في عزّها، لم تتجاوز الدولة البعثية حدودا معلومة، مجال الأحوال الشخصية بخاصة، وهو مجال لا يمنح الإسلام السني سلطة تعريف الإسلام فقط (دون رضا جماعات مذهبية إسلامية أخرى)، وإنما يرسم حدودا للمواطنة ولسيادة الدولة لا تتعداها، تتمثل في أن ينضبط الناس في هذا المجال بشرائعهم الدينية. على أن سلطات ذلك الزمن عملت على محاربة العشائرية والطائفية والجهوية، وإن يكن سجلها مختلطا في هذا الشأن، ولم تحقق أي نجاح حاسم بسبب ذلك. لقد أخذ على رموز في الحكم البعثي قبل 1970 تمييزا لصالح القرابة أو الجهة أو الطائفة. وربما يكون المثال العروبي أو القومي العربي أسهم في تشتيت الطاقات المحدودة أصلا لدى الكادر البعثي. كانت تلك أيام عز فكرة الوحدة العربية، التي هي البند الأول في الثالوث البعثي: "وحدة، حرية، اشتراكية". من شأن الانجذاب إلى الطوبى القومية أن يضعف التركيز على الواقع السوري، فيسهل من جهة أخرى خرقه من تحته، لمصلحة ما دون سوريا والدولة السورية. وإنما في عهد الرئيس حافظ الأسد، بدءا من عام 1970، تمركز النظام حول مبدأ حفظ السلطة، وقاد ذلك فورا إلى ضرب من الليبرالية الاجتماعية، لقي ترحيبا فوريا بدوره من فاعليات تجارية ودينية (إسلامية سنية ومسيحية) في المدن السورية الكبرى. وبينما اقتضت الفكرة الموجهة للعهد، كيفية الحفاظ على السلطة، بناء أجهزة أمنية موثوقة، ومركبا إعلاميا متمحورا حول تمجيد الرئيس، فقد اقتضت كذلك تدخلا محدودا في شؤون الجماعات الدينية والتجارية والأهلية النافذة. بل وضربا من تشجيع ورعاية مؤسسات مستقلة، مثل التعليم الديني في المساجد ومدارس حفظ القرآن (سميت لاحقا "معاهد الأسد لحفظ القرآن الكريم")، فضلا عن لقاءات دورية للرئيس بأرباب الشعائر الدينية والمشايخ أو الأعيان النافذين في جماعاتهم الأهلية (اختلط في تكريم سلطان باشا الأطرش مثلا دوره الوطني التاريخي مع دوره كزعيم غير منازع للدروز، ما من شأنه ضمان ولاء مهم في أوساطهم). مثل ذلك ينطبق على شريحة التجار الدمشقية النافذة، التي هي في الوقت نفسه مكون أساسي لشخصية المدينة؛ أو هي رابطة أهلية جهوية أكثر مما هي طبقة اجتماعية. بالمقابل، لا شيء يضارع هذه المراعاة بخصوص أي فاعليات مدنية مستقلة، ثقافية أو سياسية أو علمية. بالعكس، في الوقت نفسه أظهر النظام جدية وعزما كبيرين في ضرب أي نشاط سياسي مستقل. الجبهة التقدمية والاعتقالات المتكررة وجهان لسياسة واحدة، فحواها أن الاستقلال السياسي ممنوع. منذ وقت مبكر طور النظام خصائص قمعية بارزة، وصفّح نفسه بأجهزة أمنية وقطعات عسكرية متخصصة في حمايته. ومن أجل أمنه استند إلى علاقات الثقة وأهلها. كان رفعت الأسد قائد أبرز تشكيل عسكري لحماية النظام. واشتهرت في أواخر السبعينات مجموعة "العليّين" المكونة من ضباط عسكريين وأمنيين من موثوقي الرئيس. [2 جمع نظام الرئيس حافظ الأسد، إذن، بين قسوة مفرطة حيال النشاط السياسي المستقل وبين تسامح نسبي واسع حيال التعبيرات الاجتماعية "الحميدة" وغير السياسية. ولم يتشدد في هذا الميدان الأخير إلا حين واجهه الإسلاميون بعنف في النصف الثاني من السبعينات. وضعت تلك المؤسسات الاجتماعية الدينية تحت مراقبة مدققة، لكن لم يلغ أي منها، بالعكس جرى التوسع فيها. كان الرجل براغماتيا على المستوى الاجتماعي والإيديولوجي إلى أقصى حد. الشيء الوحيد الذي لا يتسامح فيه هو معارضة نظامه، سيان كان ذلك بالقوة أم بالكلمة. وهذا ما قضى بأن تبقى "ليبراليته" الاجتماعية نفسها غير مستقرة. فلطالما وقعت احتكاكات بين أذرع حكمه الأخطبوطية وهيئات محلية وأهلية، بما فيها "تجار الشام" أحيانا. وكانت محصلتها دوما حسما نهائيا لمسألة من يكون السيد ومن يكون التابع، وتثبيتها في ذهن التابع أنه تحت رحمة سيد فعّال لما يريد. قد يكون أصح، إذن، أن نتكلم حول ضرب من التسامح العملي الذي هو عرف مستقر في تاريخ الدولة السلطانية. لا تتدخل هذه كثيرا في شؤون الرعايا، لكنها لا تقبل بحال إقرار مبدأ عدم التدخل أو مطالبتها به. التسامح هنا تفضل من الحاكم، قابل للسحب في كل وقت. السيادة تتفضل، تتسامح، لكن على كيفها وبمزاجها، وضمن حدود أن لا ينشأ أي لبس بصدد من يكون السيد. قد يناسب أن نتكلم عن ليبرالية عرفية. أو سلطانية. لا علاقة لها بالفردية والتحررية الاجتماعية. بالعكس، تتعامل مع مجتمع المحكومين كجماعات أهلية وجهوية، ومع ذلك لا تسمح بنشوء مراتب اجتماعية مستقلة أو امتيازات وراثية قارة. [3 وعلى هذا النحو كانت "الأمة" الضعيفة التشكل أصلا تتفكك بطريقتين. أولا، بتخلي النظام عن أي سياسات دمجية فعالة تصنع من السوريين "شعبا"؛ والثاني، بقمع أي تعبيرات سياسية مستقلة، تنطق باسم مطالب جزئية أو جمعية لهم، وتجسد الحريات السياسية أو تدافع عنها. فلا هو يسهم في تشكيل الأمة، ولا يدعها تتشكل. بالفعل كانت "الدولة ضد الأمة"، وإن يكن برهان غليون، الذي ألف كتابا له هذا العنوان الفرعي ("المحنة العربية") جنح نحو تعريف ثقافي للأمة، يضعف أطروحته، وليس نحو تعريف سياسي ومواطنوي كان من شأنه تعزيزها. بمعنى آخر، بدا الدكتور غليون، وهو ممن كانوا يقللون من شأن التمييز بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني، معترضا بحق على القمع الواسع، لكن أقل اهتماما بتآكل الوظيفة الدامجة للدولة، أو غير متبين للتمايز بين الأمرين. هنا أيضا أعتقد أن انشداد السوريين إلى المثال العروبي أضعف حساسيتهم حيال اختلالات بنيان دولتهم ومجتمعهم. في مطلع ثمانينات القرن الماضي أمكن لجورج طرابيشي أن يؤلف كتابا يتأسف فيه على ترسخ "الدول القطرية" و"تقومنها". حتى على أرضية افتراضاته، نقاش الكاتب مجادل فيه. لكننا نذكر الكتاب الذي ربما يفضل مؤلفه نسيانه للقول إن ما كان يستحق اهتمام قطاع واسع من المثقفين هو الطوبى القومية أكثر من الواقع "القطري" الذي هو "ما قبل"، طور عابر وغير حقيقي يسبق الوحدة العربية، واقعنا الحقيقي. [4 اختلط في الاعتراض الإسلاموي الذي تفجر في أواخر السبعينات عنصر استياء من القمع الفظ المنتشر، مع عنصر شكوى من تهميش مادي ومعنوي وسياسي لبيئاتهم الاجتماعية والاقتصادية المدينية من قبل النخبة العليا الحاكمة. لكن الاعتراض الإسلاموي لم يميز بين قمع كثيرا ما كان متوحشا فعلا منذ تلك الأيام، وبين أي سياسات اجتماعية تدخلية و"تقدمية"، كانت قد جمدت عمليا منذ بواكير عهد "الحركة التصحيحية" (وإن دون الرجوع إلى ما قبل 1963؛ فقد كان هذا مستحيلا، ومن شأنه أن يقوض العهد تماما، ويفكك قاعدته الاجتماعية). وحدهم الإسلاميون كانوا يتطلعون إلى طي صفحة الحكم البعثي تماما، مترصدين زلاته الوفيرة بغرض التخلص منه نهائيا، والعودة إلى ما قبله. وعلى هذا النحو اختلط في الاحتجاج الإسلاموي عنصر ديمقراطي يحتج على القمع وعلى ممارسات تمييزية منتشرة، بعنصر طائفي ورجعي موغل في رجعيته يناهض الاندماج الوطني، ولا يخفي نزوعاته التمييزية المضادة. أتاح مفهوم "الأمة" حجب هذا الاختلاط جزئيا، لكونه يحيل مرة إلى المواطنين ومرة إلى "الأمة الإسلامية". هذا لبس لا يزال الإسلاميون يستفيدون منه. في واقع الأمر، كان الإسلاميون يحتجون على ما كان النظام يتخلى عنه وقتها، أكثر مما على ما يتمسك به، أعني السياسات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية المساواتية والدمجية. في المحصلة، كانوا هم والنظام معا منحازين إلى سياسات تضعف الاندماج الوطني وتقلل من فرص تكون شعب سوري أو "إرادة عامة" سورية موحدة. كان ذاك صراعا على السلطة بأتم معنى للكلمة. [5 من جهتهم، قلما ميز الديمقراطيون السوريون، وقد وعوا أنفسهم كذلك في النصف الثاني من السبعينات، بين وجهي ممارسات النظام. اعترضوا بدورهم على تعسفه المتنامي، ولم يروا ليبراليته الاجتماعية العرفية التي كانت في الواقع تقوض البنية التحتية للديمقراطية بأن تقلل من الاندماج الوطني. بلى، جرى كلام على الطائفية، لكن لم يتضح جيدا الفرق بين كون الطائفية تخريبا للبنية الوطنية السورية، يتسبب كذلك في إحالة الديمقراطية، وبين كونها مثلبا سياسويا على نظام يتوسلها لتأمين حكمه. ياسين الحافظ استثناء مهم في هذا الشأن. أعاد الاعتبار للديمقراطية (على حساب "الديمقراطية الشعبية")، وتكلم على وجوب "تحطيم" الروابط ما دون القومية. لكنه توفي مبكرا نسبيا، قبل اندلاع الدكتاتورية القاتلة في البلاد، وقبل تصاعد التمرد الإسلاموي. وحتى في الثقافة العالمة لم يكد يبرز من يدافع عن سياسة تجمع بين مزيد من الاندماج الوطني ومن الانفتاح السياسي. في تفكير أبرز المثقفين الديمقراطيين، برهان غليون، بنى احتجاج جمهوري على الطغيان السياسي على أرضية مفهوم ثقافوي للأمة، الأمر الذي لا يتيح نقدا متسقا للاستبداد. فكأنك أقمت جان جاك روسو على إدموند بورك. ومقابل غليون تغنى عزيز العظمة بحماس بالدولة التي "تخترق" المجتمع وتعمل على مجانسته ثقافيا. والحال كانت الدولة في سوريا (وفي أي مكان آخر من العالم العربي، بما في ذلك تونس) تمعن في الابتعاد عن المجانسة الثقافية للمجتمع حين كتب العظمة في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته، بينما كانت تتفاقم بصورة مريعة عدوانيتها السياسية التي أمسك مؤلف "العلمانية من منظور مختلف" عن قول شيء عنها، اللهم إلا الترحيب بها حيال الإسلاميين. بلى، كانت الدولة "تخترق" المجتمع، لكن اختراقا جهازيا اعتباطيا وخشنا، ينتسب إلى نظام علاقات السيادة والتبعية (حسم مسألة من هو السيد)، وليس إلى التوحيد والدمج والعقلنة. ليس لهذا الاختراق بُعد فكري، والمجتمع السوري لم يغدُ أكثر تجانسا وتواثقا بمحصلته. بل إن الدولة "التنظيماتية" المزعومة هذه هي التي أخذت تعتمد على مشايخ وعشائر ووجهاء في ضبط قطاعات من سكانها، وتضمن عبر هؤلاء ولاء تابعيهم المفترضين، وإن من دون أن تتخلى عن فرع الأمن المحلي وفرع الحزب المحلي و"المنظمات الشعبية" والإدارة الحكومية. سكت العظمة على شيء ما كان له أن يسكت عليه، وتكلم على شيء كان غير صحيح، فيما لا تتيح مقاربة غليون التي تدين بصورة غير مرنة الاستبدادية العارية للنظام الدفاع عن أو حتى تصور سياسات دامجة، تدخلية حتما، وقد لا تستغني عن إجراءات قمعية، من أجل تأهيل البنية التحتية للديمقراطية. وعلى هذا النحو، لم يبرز في سوريا اتجاه سياسي أو تفكير نظري يجمع بين إدانة حازمة للطغيان الاعتباطي الذي أرهق المجتمع السوري وبعثره وبين الدفاع المتسق عن الحاجة إلى مزيد من العقلنة والدمج الوطني. ولا يزال هذا الموقع فارغا. وبعد نحو أربعة عقود من المزج بين ليبرالية اجتماعية عرفية وتسلطية سياسية مفرطة يبدو الدفاع عن الدولة القائمة، بوصفها فاعل تجانس وعلمنة، على نحو ما يبدو أن العظمة يرى، مكابرة ورفضا للإقرار بالمأزق العميق للدولة في سوريا، وربما غيرها من البلاد العربية. بالمقابل تبدو الدعوة الديمقراطية التي لا تهتم بمسألة الدمج الوطني سبيلا قد يفضي إلى نظام ملل محدث أو "ديمقراطية توافقية" من الصنف اللبناني. في حالة، جعل النقد الضروري للممارسات الاستبدادية التفكير بسياسات تدخلية اجتماعيا وتعليميا وقانونيا أمرا غير متصور؛ وفي حالة، قاد تقريظ اختراق الدولة للمجتمع ودورها المفترض في المجانسة الثقافية إلى إضفاء قيمة نسبية جدا، بل إيجابية، على أفعال قمعية تعسفية، تكرست في نهج مستقر وأودت بحياة عشرات الألوف من المواطنين المفترضين من دون مقابل من أي نوع. [6 في سوريا اليوم، وربما في بلاد عربية أخرى، تتواطأ الليبرالية الاجتماعية العرفية والتسلطية السياسية على تفكيك البنى الوطنية لدولنا ومجتمعاتنا في آن معا. الاختراق الخشن اليوم أقل خشونة، لكن البنية لا تزال نفسها، قابلة لممارسة الخشونة القصوى من أجل إعادة تثبيت مواقع السيادة والتبعية إن اقتضى الأمر. ولعل مفهوم التسلطية السياسية غير مناسب هنا، لأنه لا يتضمن الصفة الجوهرية لممارسة السلطة، أعني كونها ترسيخا لعلاقة استتباع وتأكيدا لسيادة وتفوق وفرق، حسما لمسألة من يكون السيد. ربما يكون أنسب إذن الكلام على طغيان سلطاني، عرفي بدوره ولا ينضبط بقاعدة مطردة؛ وهو يشكل، مع الليبرالية العرفية، وجهان لنظام سلطاني محدث. معلوم أن ضربا من الليبرالية العرفية كان معروفا أيضا في الدولة السلطانية القديمة في عالم الإسلام. ويتيح لنا المفهوم تبصرا أعمق في بنانا السياسية المعاصرة. فكما هو واضح، الدولة عندنا "ليبرالية" حيث ينبغي أن تكون تدخلية، وطغيانية حيث ينبغي أن تكون ديمقراطية. (عبارة "ينبغي" تحيل إلى مثال الدولة- الأمة الحديثة الذي يفترض أن دولنا بالذات تنتظم وفقا له). "ليبرالية" في الشأن السيادي (مساحات سيادية مستقلة نسبيا للأديان والطوائف والعشائر..)، الذي ينبغي ألا يكون فيه مكان لليبرالية والتعدد والتسامح، وطغيانية في الشأن السياسي، حيث يكون الطغيان خانقا ومدمرا. تطور هذه الدولة الطبيعي يسير نحو المزيد من التبعثر الاجتماعي ومن الاستبداد السياسي في آن. وفي المآل الأقصى يقرن هذا النسق بين تبعثر اجتماعي يساير خطوط التمايز بين الجماعات العضوية، وبين طغيان سلطاني لا حدود له. ومن الواضح تاليا أن النقد أو الاعتراض، على احد وجهي النظام السلطاني المحدث والسكوت على وجهه الآخر غير ذي قيمة تحررية. النضال ضد "الدكتاتورية" باسم الديمقراطية دون سياسة لمواجهة التبعثر الاجتماعي، أو رفض نتائج الليبرالية السلطانية (تسهيل نشوء دور عام مراقب للدين وللروابط الأهلية) من دون رؤية الجذر السلطاني المحدث لهذا الدور ودون قول شيء عن الطغيان السلطاني المحدث أيضا، يبقيان أساسيات البنية السلطانية سليمة. وعليه ربما تكون السياسة الصحيحة هي تلك التي تجمع بين ليبرالية سياسية وبين تدخلية اجتماعية، تحرير الحياة السياسية والدفاع عن دولة تدخلية اجتماعيا وثقافيا وقانونيا، تنضبط بقيم المواطنة. ومن دولة حد أدنى اجتماعيا وحد أقصى سياسيا نحتاج إلى زحزحة باتجاه دولة فاعلة اجتماعيا وتحررية سياسيا. هذا ربما يخرجنا من إشكالية الديمقراطية التي وجهت فكر غليون وإشكالية العلمانية التي انضبط بها فكر العظمة، إلى إشكالية بناء الأمة والدولة الوطنية. [7 هل هذا ممكن؟ ألم نخسر هذه الفرصة نهائيا، ونحن اليوم في عصر العولمة، ومناخات فكر وحساسية وتكنولوجيات ما بعد الحداثة؟ لا شك أن إشكالية البناء الوطني غدت أكثر تعقيدا. لكن "قوانين" العولمة وما بعد الحداثة ليست جبرية، ولا هي واقع ناجز محقق، لا يترك مجالا لفاعلية سياسية واجتماعية مستقلة. لقد اقتضت الأزمة الاقتصادية العالمية إنعاشا لدور الدولة في كل مكان، وتخليا عن الصيغ المتطرفة والإيديولوجية لنزعة مناهضة الدولة، "الليبرالية الجديدة" بصورة خاصة. والمشكلة لدينا تتمثل في تصلب البنية السلطانية ذاتها وفي تصلب البنية الإقليمية التي تندرج فيها بلداننا، ما سميناه في سياقات أخرى النظام الشرق أوسطي. وهو نظام سلطاني وعرفي بدوره، بالمناسبة. فهل هناك إمكانية لتشكل تحالف اجتماعي يواجه السلطانية المحدثة، ويقوم على أرضية تحرير الحياة السياسية والدفاع عن دولة تدخلية اجتماعيا؟ تمس الحاجة إلى بلورة مثال تحرري جديد، في مواجهة الليبرالية العرفية والطغيان السلطاني معا. والأرجح أيضا أن إشكالية البناء الوطني ذاتها تحتاج إلى نظر جديد. المهم على كل حال أن تقوم الثقافة والتفكير النقدي بدورهما.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من الطاعة المفروضة إلى التطوع الذاتي
-
في الوقائع نصف الغريبة لاختفاء الشعب
-
في شأن إيران والغرب و..العرب!
-
-الدولة السلطانية المحدثة-: سيادتان وسياسة واحدة
-
تركيا كنموذج عملي يُتعلّم منه
-
ما وراء الزيدي وحذاءه: اعتلال الروح العربية
-
المحركات المحتملة للعلاقات الأميركية السورية في النصف الأول
...
-
سورية ولبنان وفشل بناء الأمة
-
من الاقتصادوية إلى الثقافوية إلى السياسوية إلى آخره
-
ثلاث أسئلة بخصوص كتاب عبدالله العروي -السنة والإصلاح-، وثلاث
...
-
في تأسيس المحاصّة الطائفية معرفياً
-
ربيع الأقوياء العائد... مخيف حقا!
-
عن التماهي مع الشاعر في حضرة غيابه
-
سياسة التعقيد ك-جدار فصل- للفلسطينيين عن قضيتهم
-
في نقد السياسة.. أو من تأليف القلوب إلى انشراح الصدور
-
الحداثة كخير عام، كوني وضروري
-
في شأن الذاكرة والسلطة والرقابة
-
فيما خص أزمة الثقافة النقدية..
-
منظومتا استثناء، لا واحدة، في سورية
-
تعقيب على نقاش منتدى -هلوسات- حول مشروع قانون الأحوال الشخصي
...
المزيد.....
-
كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
-
محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
-
لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|