ربيع الجندي
الحوار المتمدن-العدد: 853 - 2004 / 6 / 3 - 05:02
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
عرض و مقتطفات من كتاب طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد
( عبد الرحمن الكواكبي (1851-1902
في ظل ما يجول في خاطر النخبة من تساؤلات مشروعة حول مدى أهمية استبيان و شرح العلاقة بين الاستبداد من جهة وفساد مجتمعاتنا و مجمل أحوالنا المتمثل في التدهور الراهن لأحوال الأمة و شعوبها من جهة متقابلة , و مع اعتراف الأغلبية الساحقة بالأهمية البالغة للموضوع , إلا أن التسليم بهذه الأهمية عند قسم كبير من النخبة لا تتعدى المجاملة اللفظية أو مماشاة لروح العصر و االاجندة الكونية المتعولمة . لا بل هناك تملل من تواتر طرحه لدرجة ترقيه منزلة شاغل الدنيا أو العنوان الأكثر أهمية . هذا التردد بين الآخذ بجدية الموضوع فعلا و قولا , أم وضعه على الرف- مؤقتا - على خلفية تسارع الأحداث غير المسبوق و اتسامها بالسخونة مقترنة بالمخاطر إقليميا , كتوابع لهزة عالمية تزامنت مع تفكك إمبراطورية و تغيير في النظام العالمي السابق الذي ساد لحوالي نصف قرن .– و الاهتمام بأولويات – التصدي لموجة التكالب و التكبر الغربيين ...و المحافظة على البقية المتبقية من الثوابت ..و الاستعداد للانطلاق نحو قرن جديد تذكرة الولوج إليه إصلاح الجامعة العربية مثلا . رحمة الله على الكواكبي فهو القائل : أن المستبد يتخذ الممجدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين أو حب الوطن أو تحصيل منافع عامة أو الدفاع عن الاستقلال . و الحقيقة في بطلان كل هذه الدواعي الفخيمة التي ما هي إلا تخيل و إيهام يقصد بها رجال الحكومة تهييج الأمة و تضليلها حتى إنه لا يستثنى منها الدفاع عن الاستقلال , لأنه ما الفرق على أمة مأسورة لزيد أن يأسرها عمر ؟ و ما مثلها إلا الدابة التي لا يرحمها راكب مطمئن , مالكا كان أو غاصبا .
للخروج بنتيجة خالية من التشكيك , لا بد من طرح مجموعة الأسئلة المتعلقة :
هل الاستبداد حالة مرافقة لمراحل انحطاطنا... المتصلة طبعا بالفساد.. بالصدفة أم لعله المسبب و المرسخ و الموطد ؟
من جاء بالآخر ؟ هل الاستبداد ولد الفساد أم الفساد (( استدعى )) الاستبداد ؟ أليس الحل للتفشي السرطاني للفساد مزيدا من الاستبداد ( الانتقالي طبعا – مائة عام من العزلة فقط - ) ام الاصطلاح المؤجل الى ما شاء الله ؟؟ ثم من أين سنأتي بحكام غير مستبدين و غير ناشرين.. باستبدادهم / قاصدين النشر ام عن دون قصد هم له ناشرين / للفساد آلم يخرجوا كلهم و كل سابقيهم من رحم هذه الآمة ؟ هل نحن أمة عبيد أم أمة من ولدوا أحرار و استعبدوا لاحقا ؟؟ آي منهما العربة و من هو الحصان ؟ طبعا الاستبداد مؤسسة حية متحركة فهو الحصان و الانحطاط حالة أى حاوية لحالنا فهو العربة المركوبة !!
أو ليس صحيحا ان الفساد كقيمة إنسانية و اجتماعية اقتصادية أول المتعولمين و ليس ظاهرة مربوطة بالاستبداد ام انه هناك فرق شاسع بين فساد طفولي مرافق تحاول الادارات صده و التخفيف من سيطرته بالشفافية و بدينامية إصلاح القوانين المتسرب من خلالها وبين فساد متاسس منبعث من داخل تراتبية دقيقة السكوت عن اخطائها ضرورة امنية ( وطنية ) تسن قوانين استباقية بألية المطبخ السري العائلي المحصور تساعد على جني الارباح الطائلة كل ذلك على خلفية وظلامية/أو انارة خافته/ الاستبداد المجرب اصلا ان لم نقل المتأصل منتهزة فرصة اللحظة الخاطفة لعلمها ان الفساد المترتب سيقلب الطاولة على الاعبين . هل الرفع من شأن الحرية الفردية و مقارعة الاستبداد من أصول تراثنا الديني أو الثقافي الحضاري , أم مجرد بدعة غربية , و تقليد للغرب {{ماذا لو وجدنا انها ليست بدعة ضارة ولا تقع باي حال من الاحوال تحت خانة القشور و الا كيف نفسر تقدم الغرب و هل لنا أن نتصور تقدم الانسانية وانعتاقها من مجاهل الظلمات و التخلف من دون رفع الحجاب عن العقول الذي نتج عنه حركات الاصلاح و ما رافقها من رفع لشأن الانسان و انسانيته و حريته من ثم الحداثة و التطويرات عليها وصولا إلى ما بعد الحداثة }} ... هل نحن بصدد تفكير (ثورجي) جديد لحرق المراحل و سياسة القفزات التي انتجت ما نعاني منه وما نسعى لأصلاحه ( تطويره و تحديثه ) هل نحدث و نطور على أساس بعضه ليس ثابت ولا متين( ام نعتمد على الخطابية الجوفاء كالقول و التغني/ بأساس/ الثوابت الراسخة و خطوط حمراء تحميها العيون الساهرة !!! واتحدى ان يعرفها خريجين اثنين بنفس التعريف رغم تثقيفه القومي الالزامي خمسة عشر سنة ) فهل نجرب المجرب ؟ لكن لماذا الآن تحديدا نثير هذا ( المكبوت الشيطاني ) و حرية الأوطان مسلوبة أو مهددة أو- مؤجرة – فهل نهتم بالواجهة و الخلفية و التذويق , و نبعد عن دائرة الاهتمام , دق المداميك و نصب الأعمدة و ربط العضاضات .
أليس موضوع اسلوب عقد الحكم و طرائق إدارة المجتمع و الدولة { امر السماء في الأرض او على الاقل مستوحى من (( رسالة خالدة )) .. ظل الله على الارض او اسقاط أيديولوجي كنبراس او قبس يفيض نور ( أو قل يخيم لا بل يظلل بتثاقل لا لعيب يلتبسه بالضرورة , انما لانه مفروض باحتكارية بغيضة و من فوق ) قلت ظل الله على الارض أو إسقاط أيديولوجي , على الساحة القطرية الآن و غدا على الساحات ( ولو غزوا أو تأمرا على دبابة متآمرين / احرار / امريكية ) و بطريقة الوكالة الحصرية المؤبدة و المخلفة للنائب او الوريث . ام تعاقد .. عقد اجتماعي محصور زمنيا و برنامجيا } أليس أسلوب الحكم و ثقافة المجتمع المتكونة كنتيجة وتحصيل حاصل .. من أكثر عناصر بناء النهضة أو لنقل بتواضع أكبر.. أهم ركائز تسير الحياة اليومية مع طموح (او اقلها نظرة أمل ضرورية لاستمرارالحياة) الى المستقبل الم يجتهد و يوطد عمر أقتباسا شذرات من نظم ادارة الروم و نفحات من طبائع عمران الفرس طرائق الدواوين عندهم في ذات الخصوص .
اذا كان العكس هو الصحيح و لا يصح الاصلاح قيل .. التهيأتالضرورية فمن يؤهل الامة اولا لعتقها بعد ذلك ؟ طبعا النظام العربي الشبه مرتبك هذا مايعطيه تمديدا لنصف قرن اخر فيصبح :سوبر تاريخي " اليس من الافضل ابقاء الاستقرار التاريخي المريح ( بالاخص لاسرائيل ) مرة ثانية و ثالثة نسأل الم يطبق غاندي العظيم الدمقراطية فورا و بدون تردد رغم تردي حالة الشعب الهندي على جميع الاصعدة جهلا و اقتصادا و ثقافات و رغم الخصوصية الهندية ..اثنيات , اديان , طوائف . اما بريطانيا أعرق الديمقراطيات فعندما طبقت الديموقراطية كانت نسبة الامية 90% أم ان انظمتنا تبحث دائما عن موضوع مقاولة تشتط بها ارداح ازمان كمبرر لوجودها ( الاستقلال الناجز , تحرير فلسطين , ازالة اثار العدوان , العبور - نحو التنمية الشاملة) ,
هل الاستبداد خصوصية إسلامية أو عربية أو قطرية- لا فرق - بالرغم من تلازمه الطويل بتاريخنا ؟ ولكن أليست الحرية و التحديث والإصلاح حديثي العهد حتى عند الغرب وبنات الربع ساعة الأخيرة من يوم الحضارة الانسانية - عصر التنوير ابتدأ بالبزوغ في القرن الخامس عشر –
هل ثقافة الحرية و تداول السلطة و فصل السلطات وصيانة حرية الفكر حكر على الغرب المتقدم ؟ أم نتيجة لاحتكاك الغرب مع فكر ابن رشد و ابن خلدون و خروجه من قمقم الاستبداد الديني و جحر الاستبداد السياسي ؟
هل الخوض في غمار هذا الإشكال ترف فكري و اصطدام مع الموروث الديني و الحضاري و إبحار في المجهول في لحظات حاسمة ؟ فلنوجله
أنبتدئ بإصلاح أنفسنا آم ندع الآخر يتنطع لهذه المهمة متدخلا أو محتلا ؟ أنصلح أنفسنا أم نطلب من حكامنا أن يصلحونا ؟ و هم أنفسهم من يصلحهم أم تراهم معصومين ؟؟
اول كلمات الكتاب المقدس تقول في البدء كان الكلمة و الكلمة كان عند الله...و أول كلام الله للمصطفى أن اقرأ وجميع الفلاسفة حتى الماديين اقروا إن بداية أي تحول او تغير هو الفكرة . و إذا كانت الأولوية لإصلاح الفكر أنبتدئ بإصلاح ديني أولا أم إصلاح سياسي ومن أين نبدأ ؟ وكيف ؟ بنقد هادئ للفكر الديني التكفيري السائد ... و السياسي الإقصائي المخيم لإستيلاد فكر جديد مؤمن بالتعدية / أ ليست أرضنا ارض تمازج الحضارات منذ الأزل كممر و معبر أو محط لقوافل متاجرة أو مهاجرة أو محاربة , و مروجنا تتفتح كل ربيع بآلاف الورود و الأزاهير مختلفة الألوان لا بل أن مشهد الطبيعة يتغير كل يوم في ربيع بلادنا فلماذا تمسكنا بثبات وسبات الشتاء الموحش ./ أم بنزق و عنف انقلابي (ثوري ) لم يجلب لنا ولا لغيرنا الخير في العقود الأخيرة الخالية ؟.
تساؤلات اليوم و الغد أجاب عليها عبد الرحمن الكواكبي منذ مائة و عشرة سنوات دون الخوف من اتهامه بالكفر أو بالعمالة و الخيانة أو بتثبيط همة الأمة وتغريبها موجها اللوم و الاتهام (( إلينا )) قبل أن يوجهها الى أسلافه من المفكرين بالتقصير .
انها دعوة لحكماء الامة لتمحص اسباب التقصير بعد هزيمة الفكر السائد الخامسة (النكبة , النكسة ,كبوة النهضة, كبت الانتفاضة , استدعاء الاستعمار المابعد الحديث بجرائر الاستبداد المخلفة لقابليات الاستعباد ) بالاخص ان الآخر قد تقدم خمسة خطوات بعد تقصيره في تشرين اكتوبر 1973بسبب تداول حكمائه لموضوع التقصير ( بدل تغطية الممجدين و ستر المطبلين المزمرين عين الشمس باصابع يد فرطاء )
مقدمة الكتاب
يقول الشيخ عبد الرحمن الكواكبي في مقدمة الكتاب أن: (كل يذهب مذهبا في سبب الانحطاط و في ما هو الدواء. وحيث أنى قد تمحص عندي أن اصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي و دواءه دفعه بالشورى الدستورية . وقد استقر فكري على ذلك – كما أن لكل نبأ مستقر – بعد بحث ثلاثين عاما... بحثا أظنه كاد يشمل كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم الباحث عند النظرة الأولى انه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله , ولكن لا يلبث أن يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بشيء . أو أن ذلك فرع الأصل , أو هو نتيجة لا وسيلة.
فالقائل مثلا : إن أصل الداء التهاون في الدين , لا يلبث أن يقف حائرا عندما يسأل نفسه لماذا تهاون الناس في الدين ؟ و القائل : إن الداء اختلاف الآراء , يقف مبهوتا عند تعليل سبب الاختلاف فان قال سببه الجهل يشكل عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أشد و أقوى .. و هكذا يجد نفسه في حلقة مفرغة لا مبدأ لها فيرجع إلى القول : هذا ما يريده الله بخلقه , غير مكترث بمنازعة عقله و دينه له بان الله حكيم عادل رحيم ...)
ما هو الاستبداد
و يقول الكواكبي في فصل ما هو الاستبداد معرفا ( لغة هو غرور المرء برأيه و الأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي و الحقوق المشتركة . و في اصطلاح السياسيين هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة و بلا خوف تبعة , وقد قد تطرأ مزيدات على هذا المعنى الاصطلاحي فيستعملون في مقام كلمة ( استبداد ) كلمات : استعباد, و تسلط , وتحكم . و في مقابلتها كلمات : مساواة , و حس مشترك , وسلطة عامة . و يستعملون في مقام صفة ( مستبد ) كلمات جبار طاغية , و حاكم بأمره , وحاكم مطلق . و في مقابلة ( حكومة مستبدة ) كلمات : عادلة , و مسؤولة , و مقيدة , و دستورية . و يستعملون في مقام وصف الرعية ( المستبد عليهم ) كلمات : أسرى , و مستصغرين , و بؤساء . و مستنبتين . و في مقابلتها : أحرار , و أباة . و أحياء , و أعزاء .
و أما تعريف الاستبداد بالوصف لا بالمترادفات و المتقابلات فهو أن الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلا أو حكما التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين .
..... و أشد انواع الاستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق , الوارث للعرش , القائد للجيش , الحائز على سلطة دينية. و لنا أن نقول كلما قلت وصف من هذه الأوصاف خف الاستبداد إلى أن ينتهي بالحكم المنتخب المؤقت المسؤول فعلا .
و أورد الكواكبي شذرات مما : ( .. تكلم به بعض الحكماء لا سيما المتاخرون منهم في وصف الاستبداد و من هذه الجمل : / المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم و يحكم بهواه لا بشريعتهم , و يعلم من نفسه انه الغاصب المعتدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق و التداعي لمطالبته /
// المستبد عدو الحق , عدو الحرية و قاتلها , و الحق أبو البشر و الحرية أمهم , و العوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا , والعلماء هم اخوتهم الراشدون , أن أيقظوهم هبوا و إن دعوهم لبوا و إلا فيتصل نومهم بالموت//
بعد المقدمة و فصل ما هو الاستبداد يدأب الكواكبي في كتابه على عرض العلاقة بين الاستبداد و كل من الدين , العلم , المجد , المال , الأخلاق , التربية و الترقي لينهي كتابه القيم بباب الاستبداد و التخلص منه ونجده يسهب و يشدد تركيزه على أبواب الاستبداد و الدين و الاستبداد و الأخلاق و مجهوده القيم في المبحثين على درجة فائقة من الإدراك العميق و الجرأة النادرة ( حتى بين معاصرينا ) و روح من الألم المتشرب في روحه العاشقة للحرية ليس عاطفيا و إنما عقليا قبل كل شيء و من الغيرة على مستقبل الأمة التي لا يجد لها مكانا تحت الشمس إلا بزوال الاستبداد السياسي وتفرعاته :
الاستبداد و الدين
في مبحث الاستبداد و الدين يشرح العلاقة النفعية المتبادلة غير الشريفة بين الاسنبداد الديني و الاستبداد السياسي مشيرا إلى : تضافر أراء العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني , و البعض يقول إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان أبوهما التغلب و أمهما الرياسة , أو هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة إلى التعاون لتذليل الإنسان , و الفريقان مصيبان في حكمهما بالنظر إلى مغزى أساطير الأولين و القسم التاريخي من التوراة و الرسائل المضافة إلى الإنجيل , و مخطئون في حق الأقسام التعليمية الأخلاقية فيهما , كما هم مخطئون إذا نظروا إلى أن القرآن جاء مؤيدا للاستبداد السياسي , و ليس من العذر شيء أن يقولوا نحن لا ندرك دقائق القرآن نظرا لخفائها علينا في طي بلاغته ووراء العلم بأسباب نزول آياته , و إنما نبني نتيجتنا على مقدمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الآن من استعانة مستبديهم بالدين .
يقول هؤلاء المحررون إن التعاليم الدينية و منها الكتب السماوية تدعوا البشر إلي خشية قوة عظيمة هائلة لا تدرك العقول كنهها قوة تتهدد الإنسان بكل مصيبة - في الحياة فقط - عند البوذية و اليهودية , أو في الحياة و بعد الممات كما عند النصارى و الإسلام , تهديدا ترتعد منه الفرائص فتخور القوى و تذهل العقول فتستسلم للخبل و الخمول , ثم تفتح هذه التعاليم أبوابا للنجاة وراءها نعيم مقيم , و لكن على تلك الأبواب حجاب من البراهمة و الكهنة و القسوس و أمثالهم الذين لا يأذنون للناس بالدخول ما لم يعظموهم مع التذليل و الصغار و يرزقوهم باسم نذر أو قربان أو ثمن غفران . .. و هؤلاء المهيمنون على الأديان كم يرهبون الناس من غضب الله و ينذرونهم بحلول مصائبه و عذابه عليهم ثم يرشدونهم إلي ...
و يقولون إن السياسيين يبنون كذلك استبدادهم على أساس من هذا القبيل , فهم يسترهبون الناس بالتعالي الشخصي و التشامخ الحسي , و يذلونهم بالقهر و القوة و سلب الأموال حتى يجعلوهم خاضعين لهم عاملين لأجلهم يتمتعون بهم كأنهم نوع من الأنعام التي يشربون ألبانها و يأكلون لحومها و يركبون ظهورها و بها يتفاخرون ( كخطاب : إلى شعبنا العظيم ,,,)
و يرون أن هذا التشاكل في بناء و نتائج الاستبداديين الديني و السياسي جعلهما في مثل فرنسا مشتركين في العمل كأنهما يدان متعاونتان , و في روسيا مشتبكين في الوظيفة كاللوح و القلم يسجلان الشقاء على الأمم (طبعا يتكلم عن العصر الذي عايشه – نهاية القرن التاسع عشر ) .
و يقررون أن هذا التشاكل بين القوتين ينجر بعوام البشر و هم السواد الأعظم إلى نقطة يلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحق و بين المستبد المطاع بالقهر , فيختلطان في مضائق أذهانهم من حيث التشابه في استحقاق مزيد التعظيم , و الرفعة عن السؤال و عدم المواخذة على الأفعال بناء عليه لا يرون لأنفسهم حقا في مراقبة المستبد لانتفاء النسبة بين عظمته و دناءتهم , وبعبارة أخرى يجد العوام معبودهم و جبارهم مشتركين في كثير من من الحالات و الأسماء والصفات فلا يفرقوا بين ( المنعم ) و ولي النعمة , وبين ( جل شأنه ) و جليل الشأن , بناء عليه يعظمون الجبابرة تعظيمهم لله , و يزيدون تعظيمهم على التعظيم لله لأنه حليم كريم و لأن عذابه آجل غائب , و أما انتقام الجبار فعاجل حاضر .
و يعللون أن قيام المستبدين من أمثال ( أبناء داود ) و ( قسطنطين ) في نشر الدين بين رعاياهم , و انتصار مثل ( فيليب الثاني ) الإسباني و ( هنري الثامن ) الانكليزي للدين حتى بتشكيل محاكم التفتيش , و قيام الحاكم الفاطمي و السلاطين الأعاجم في الإسلام بالانتصار لغلاة الصوفية و بنائهم لهم التكايا ( كما شاهدنا من خلال رائعة يوسف شاهين – المصير) لم يكن إلا بقصد الاستعانة بمسوخ الدين و ببعض أهله المغفلين على ظلم المساكين .
و يحكمون بأن بين الاستبدادين السياسي و الديني مقارنة لا تنفك متى وجد أحدهما في أمة جر الآخر إليه أو متى زال زال رفيقه , و إن صلح ضعف أحدهما صلح ضعف الثاني , و يبرهنون على أن الدين أقوى تأثيرا من السياسة إن إصلاحا أو إفسادا , و يمثلون بالسكسون أي الإنكليز و الهولنديين و الأمريكان و الألمان الذين قبلوا البروتستنتية , فأثر التحرير الديني في الإصلاح السياسي و الأخلاق أكثر من تأثير الحرية المطلقة السياسية في جمهور اللتين أي الفرنسيين و الطليان و الأسبان و البرتغال. و قد أجمع الكتاب السياسيون المدققون , بالإستاد على التاريخ و الاستقراء , من أن ما من أمة أو عائلة أو شخص تنطع في الدين أي تشدد إلا و اختل نظام دنياه و خسر أولاه و عقباه .
و الحاصل أن كل المدققين السياسيين يرون أن السياسة و الدين يمشيان متكاتفين , و يعتبرون أن إصلاح الدين هو أسهل و أقوى و أقرب طريق للإصلاح السياسي .
و ربما كان أول من سلك هذا المسلك أي أستخدم الدين في الإصلاح السياسي هم حكماء اليونان , حيث تحيلوا على ملوكهم المستبدين في حملهم على قبول الأشتراك في السياسة بإحياء عقيدة الاشتراك في الألوهية , أخذوها عن الآشوريين و مزجوها بأساطير بصورة تخصيص العدالة بإله و الحرب بإله و الأمطار بإله إلى غير ذلك من التوزيع و جعلوا لإله الآلهة حق النظارة عليهم , و حق الترجيح عند وقوع الاختلاف بينهم . ثم بعد تمكن هذه العقيدة في الأذهان لما ألبست من جلال المظاهر و سحر البيان سهل على أولئك الحكماء دفعهم الناس مطالبة حكامهم الجبابرة بالنزول إلي مقام الانفراد , و بأن تكون إرادة الأرض كإرادة السماء فأنصاع ملوكهم مكرهين . و هذه هي الوسيلة العظمى التي مكنت اليونان من إقامة جمهوريات أثينا و إسبارطة .و كذلك فعل الرومان , و هذا الأصل لم يزل المثال القديم لأصول توزيع الإدارات في الحكومات الملكية و الجمهوريات على أنواعها إلى هذا العهد .
ثم يذكر كيف أن : عقيدة التشريك عدا كونها باطلة في ذاتها ... فإنها انتشرت و عمت و جندت جيشا عرمرما يخدم المستبدين كنمرود إبراهيم و فرعون موسى و البرهمي و البادري و الصوفي .. و قد جاءت التوراة لترفع عقيدة التشريك مستبدلة مثلا أسماء الآلهة المتعددة بالملائكة و لكن لم يرض ملوك ال كوهين بالتوحيد فأفسدوه بالاستبداد ثم جاء الإنجيل بسلسبيل الدعة و الحلم فصادف أفئدة محروقة بنار القساوة و الاستبداد و كان أيضا مؤيدا لناموس التوحيد و لكن لم يقوى دعاته الأولون على تفهيم تلك الأقوام المنحطة( المنهكة من الاستبداد ) , الذين بادروا لقبول النصرانية قبل الأمم المترقية . . ثم لما انتشرت النصرانية و دخلها أقوام مختلفون , تلبست ثوبا غير ثوبها , كما هو شأن الأديان التي سبقتها فامتزجت بأزياء و شعائر الإسرائيليين و أشياء من الأساطير و غيرها و أشياء من مظاهر الملوك و نحوها , و هكذا صارت تعظم رجال الكهنوت إلى درجة اعتقاد النيابة عن الله و العصمة عن الخطأ و قوة التشريع, مما رفضه البروتستانت أي الراجعون في الأحكام لأصل الإنجيل ..
ثم جاء الإسلام مهذبا لليهودية و النصرانية مؤسسا على الحكمة و العزم هادما للشرك , و محكما لقواعد الحرية السياسية المتوسطة بين الأرستقراطية و الديموقراطية فأسس التوحيد و نزع كل سلطة دينية أو تغليبية تتحكم بالنفوس , و أوجد مدينة فطرية سامية .
ثم نرى الكواكبي مترحما على ذاك ( الطراز السامي من الرياسة و هو الطراز النبوي المحمدي لم يخلفه فيه حقا غير آبي بكر ثم عمر ثم اخذ بالتناقص , وصارت الأمة تطلبه و تبكيه من عهد عثمان إلي الآن , و سيدوم بكائها إلى يوم الدين إذا لم تنتبه بتعويضه بطراز سياسي شوري , ذلك الطراز الذي اهتدت إليه بعض أمم الغرب التي لربما يصح أن نقول , إنها قد استفادت من الإسلام أكثر مما استفاد منه المسلمون .
و هذا القرآن الكريم مشحون بتعاليم إماتة الاستبداد و إحياء العدل و التساوي حتى في القصص منه ,و من جملتها قول بلقيس ملكة سبأ من عرب تبَع تخاطب أشراف قومه : (يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون * قالوا نحن أولو قوة و أولو بأس شديد , و الأمر إليك فأنظري ماذا تأمرين * قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها و جعلوا أهلها أذلة و كذلك يفعلون ) .
فهذه القصة تعلم كيف ينبغي:
أن يستشير الملوك الملأ أي أشراف الرعية , و أن لا يقطعوا أمرا إلا برأيهم
و تشير إلى لزوم أن تحفظ القوة و البأس في يد الرعية ,
و أن يخص الملوك بالتنفيذ فقط , و أن يكرموا بنسبة الأمر إليهم تكريما ,
و تقبح شأن الملوك المستبدين .
و من هذا الباب ما ورد في قصة موسى عليه السلام مع فرعون في قوله تعالى : ( و قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون ) أي قال الأشراف بعضهم لبعض : ماذا رأيكم ؟ ( قالوا ) خطابا لفرعون و هو قرارهم : (أرجه و أخاه و أرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم ) ثم وصف مذكراتهم بقوله تعالى : ( فتنازعوا أمرهم ) أي رأيهم ( بينهم و أسروا النجوى ) أي أفضت مذكراتهم العلنية إلى النزاع فأجروا مذاكرة سرية طبق ما يجري الآن في المجالس العمومية .
ثم ينكب الكواكبي على إدراج أمثلة في تأيد وتأكيد معاني المشاركة و المشاورة و يتهم علماء الاستبداد بتحريف الكلم عن موضعه ثم يستنتج عدم وجوب طاعة الظالمين و إن قال بوجوبها بعض الفقهاء الممالئين دفعا للفتنة التي تحصد أمثالهم حصدا .
ويستغرب الكواكبي جعل للفظة العدل معنى عرفي و هو الحكم بمقتضى ما قاله الفقهاء حتى أصبحت لا تدل على غير هذا المعنى , مع إن العدل لغة تعني التسوية .
و قد عدد الفقهاء من لا تقبل شهادتهم لسقوط عدالتهم فذكروا حتى من يأكل ماشيا في الأسواق , ولكن شيطان الاستبداد أنساهم أن يفسقوا الأمراء الظالمين فيردوا شهادتهم , و ما عذرهم في تحويل معنى الآية : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر ) إلى أن هذا الفرض هو فرض كفاية لا فرض عين ؟؟ و المراد هنا سيطرة أفراد المسلمين بعضهم على بعض , لا إقامة فئة تسيطر على حكامهم كما اهتدت إلى ذلك الأمم الموفقة للخير , فخصصت منها جماعات باسم مجالس نواب , فتخلصوا من شآمة الاستبداد. أليست هذه السيطرة و هذا الاحتساب بأهم من السيطرة و الاحتساب على الأفراد ؟ و من يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسؤولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا , و أوجبوا الصبر عليهم إذا ظلموا , و عدوا كل معارضة لهم بغيا يبيح دماء المعارضين ؟؟؟
الهم إن المستبدين و شركائهم قد جعلوا دينك غير الدين الذي أنزلت فلا حول ولا قوة إلا بك .
نعم , لولا حلم الله لخسف الأرض بالعرب , حيث أرسل لهم رسولا من أنفسهم أسس لهم أفضل حكومة أسست في الناس , جعل قاعدتها قوله {كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته } أي كل منكم سلطان عام و مسؤول عن الأمة . و هذه الجملة هي أسمى و أبلغ ما قاله مشرع سياسي من الأولين و الآخرين , فجاء من المنافقين من حرف المعنى عن ظاهره و عموميته إلى أن المسلم راعٍ على عائلته و مسؤول عن عائلته فقط . كما حرفوا معنى الآية : {المؤمنون بعضهم أولياء بعض } إلى ولاية الشهادة دون الولاية العامة . و هكذا غيروا مفهوم اللغة , و بدلوا الدين , و طمسوا العقول حتى جعلوا الناس ينسون لذة الاستقلال , و عزة الحرية , بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمة نفسها بنفسها دون سلطان قاهر .
وكأن المسلمين لم يسمعوا بقول الرسول عليه السلام : (( الناس سواسية كأسنان المشط ,
لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى )). و هذا الحديث من أصح الأحاديث لمطابقته للحكمة و مجيئه مفسرا الآية { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فإن الله عز وجل شأنه ساوى بين عباده مؤمنين و كافرين في المكرمة بقوله { وكرمنا بني آدم } ثم جعل الأفضلية في الكرامة للمتقين فقط . و معنى التقوى لغة ليس كثرة العبادة كما صار ذلك حقيقة عرفية غرسها علماء الاستبداد القائلين في تفسير ( عند الله ) أي في الآخرة دون الدنيا بل التقوى لغة هي الاتقاء أي الابتعاد عن رذائل الأعمال احترازاً من عقوبة الله . فقوله إن أكرمكم عند الله أتقاكم كقوله إن أفضل الناس أكثرهم ابتعادا عن الآثام و سوء عواقبها .
و يسهب الكواكبي في شرح و تفصيل ان الإسلامية مؤسسة على أصول الحرية برفعها كل سيطرة و تحكم , بأمرها بالعدل و المساواة و القسط والإخاء .. وقد جعلت أصول حكومتها الشورى "الأرستقراطية " أي شورى أهل الحل و العقد في الأمة بعقولهم لا بسيوفهم . ..و من المعلوم أنه لا يوجد في الإسلامية نفوذ ديني مطلقا في غير مسائل إقامة الشعائر ومنها القواعد العامة التشريعية التي لا تبلغ مائة قاعدة و حكم , .. إلى أن يتأسف على هذا الدين: الحر , الحكيم , السهل , المسح , الذي رفع الإصر و الأغلال , و أباد الميزة و الاستبداد , الدين الذي فقد الأنصار الأبرار و الحكماء الأخيار فسطا عليه المستبدون و المرشحون للاستبداد , و اتخذوه وسيلة لتفريق الكلمة و تقسيم الأمة , و جعلوه آلة لأهوائهم السياسية فضيعوا مزاياه و حيروا أهله بالتفريغ و التوسيع , و التشديد و التشويش , و إدخال ما ليس فبه ...
و بهذا التشديد الذي أدخله على الدين منافسو المجوس ,انفتح على الآمة باب التلوم على النفس , و اعتقاد التقصير المطلق .
الاستبداد و العلم
احتكار المعلومة وتصنيعها, و تجهيل المجتمع , الكره نحو المتعلمين المتنورين ذو الكرامة لأن سلطان العلم قد يفوق سلطانهم , تهميش الشعب ( العوام ) و اعتبارهم رعاع غوغائيين غير ناضجين و تشبيههم بالقطيع المحتاج للقيادة و الحماية - و المستبد في حين انه لا يخاف علوم اللغة خاصة إذا لم يكن ما وراء اللسان حكمة حماس تعقد الألوية , أو سحر بيان يحل عقد الجيوش , و لا العلوم الدينية المختصة ما بين الإنسان و ربه , لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة و لا تزيل غشاوة , و إنما يتلهى بها المتهوسون ...
ترتعد فرائص المستبدين علوم الحياة مثل الحكمة النظرية , الفلسفة العقلية , و حقوق الأمم و طبائع الاجتماع , و السياسة المدنية وخوف المستبد من أصحاب هذه العلوم و هم المعبر عنهم في القرآن الكريم بالصالحين و المصلحين ( آن الأرض يرثها عبادي الصالحين ) و قوله (وما كنا لنهلك القرى و أهلها مصلحون ) , و إن كان علماء الاستبداد يفسرون مادة الصلاح و الإصلاح بكثرة التعبد !!كما حولوا كلمة الفساد و الإفساد : من تخريب نظام الله إلى التشويش على المستبدين. / بلغة اليوم يخاف المستبد المفكرين , دعوات حقوق الانسان ,المجتمع المدني , الدعوات الى الاصلاح و انتقاد الفساد ./
كما يبغض المستبد العلم لنتائجه يبغضه أيضا لذاته لأن للعلم سلطانا أقوى من كل سلطان , فلا بد للمستبد من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علما . و على هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله ( فاز المتملقون ).
ويستنتج ان بين العلم و الاستبداد حربا دائمة , يسعى العلماء في تنوير العقول و يجتهد المستبد في إطفاء نورها , و الطرفان يتجاذبان العوام . العوام الذين إذا جهلوا خافوا , و إذا خافوا استسلموا , ومتى علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا .
و العوام هم قوّة المستبد وقوته . بهم عليهم يصول و يجول , فيتهللون لشوكته ,و يغصب أموالهم , فيحمدونه على إبقائه على حياتهم , و يهينهم فيثنون على رفعته , ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته ( حنكته ) و إذا أسرف في أموالهم , يقولون كريم , و إذا قتل منهم و لم يمثل يقولون رحيم ...
و الحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل ..
إن خوف المستبد من نقمة رعيته أكبر من نقمة خوفهم بأسه .
قال أحد المحررين السياسيين : إني أرى قصر المستبد في كل زمان هو هيكل الخوف عينه : فالملك الجبار هو المعبود ’ و أعوانه هم الكهنة , و مكتبته هي المذبح المقدس ,و الأقلام هي السكاكين , و عبارات التعظيم هي الصلوات و الناس هم الأسرى الذين يقدمون قرابين الخوف .
إن خير ما يستدل به على درجة استبداد الحكومات هو تغاليها في شأن الملوك و فخامة القصور , و عظمة الحفلات و مراسيم التشريفات , و علائم الآبهة , وغير ذلك من التمويهات يلجأ إليها المستبد عوضا عن العلم و العقل , كما يلجأ قليل العز للتكبر , و قليل العلم للتصوف .
و الخلاصة أن الاستبداد و العلم ضدان متغالبان فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها لإطفاء نور العلم , و حصر الرعية في حالك الجهل . و العلماء الحكماء الذين ينبتون في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس , و الغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم و ينكلون بهم , فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره , و هذا سبب أن كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة و السلام و أكثر العلماء الأعلام و الأدباء النبلاء تقلبوا في البلاد و ماتوا غرباء .
المستبدون يخافون من العلم حتى من علم الناس معنى{ لا إله إلا الله } التي بنى عليه الأسلام بل كافة الأديان , و معنا ذلك أنه لا يعبد حقا سوى الصانع الأعظم , و معنى العبادة الخضوع - و منها لفظة العبد – فيكون معنى لا إله إلا الله : ( لا يستحق الخضوع شيء إلا الله ) .
الاستبداد و المجد
و في حين يبدأ مبحثه الاستبداد و المجد بأحد الحكم البالغة للمتأخرين- حسب تعبيره - الاستبداد اصل لكل فساد – و يشرح إن التمجّد خاص بالإدارات الاستبدادية ليصل إلى أن : . . و إن المجد لا ينال إلا بنوع من البذل في سبيل الجماعة و بتعبير الشرقيين في سبيل الله أو في سبيل الدين , و بتعبير الغربيين في سبيل المدنية أو سبيل الإنسانية . و المولى تعالى المستحق التعظيم لذاته ما طالب عبيده بتمجيده إلا و قرن الطلب بذكر نعماته عليهم .
و الخلاصة أن المستبد يتخذ الممجدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين أوحب الوطن أو تحصيل منافع عامة أو الدفاع عن الاستقلال . و الحقيقة في بطلان كل هذه الدواعي الفخيمة التي ما هي إلا تخيل و إيهام يقصد بها رجال الحكومة تهييج الأمة و تضليلها حتى إنه لا يستثنى منها الدفاع عن الاستقلال , لأنه ما الفرق على أمة مأسورة لزيد أن يأسرها عمر ؟ و ما مثلها إلا الدابة التي لا يرحمها راكب مطمئن , مالكا كان أو غاصبا .
المستبد يجرب أحيانا في المناصب و المراتب بعض العقلاء الأزكياء أيضا , اغترارا منه بأنه يقوى على تلين طينهم و تشكيلهم بالشكل الذي يريد فيكونوا له أعوانا خبثاء ينفعونه بدهائهم , ثم هو بعد التجربة إذا خاب و يئس من إفسادهم يتبادر بإبعادهم أو ينكل بهم . و لهذا لا يستقر عند المستبد إلا الجاهل العاجز الذي يعبده دون الله أو الخبيث الخائن الذي يرضيه و يغضب الله .
وينبه الكواكبي إلى أن هذه الفئة من العقلاء الأمناء و- بالجملة – ممن ينشطون لخدمة الأمة فيضرب على أيديهم لمجرد ظهور بارقة إنسانية في أعينهم , فتنادي بالإصلاح فيعيي المستبد هذا الانقلاب لأنهم لا يستغنون عن تجاربهم و خبراتهم و لا يأمنون هذه المغبة . ومن هنا نشأ اعتمادهم في التجربة غالبا على العريقين في خدمة الاستبداد الوارثين من آبائهم و أجدادهم الأخلاق المرضية للمستبدين. و النتيجة وزير المستبد هو وزير المستبد لا وزير الأمة .
الاستبداد و المال
في مبحث الاستبداد و المال يقول بادئ ذي بدء : لو كان الاستبداد رجلا و أراد أن يحتسب و ينتسب لقال ( أنا الشر و آبي الظلم و أمي الإساءة , و أخي الغدر و أختي المسكنة , وعمي الضر و خالي الذل , و ابني الفقر وبنتي البطالة , عشيرتي الجهالة ووطني الخراب , أما ديني و شرفي وحياتي فالمال المال المال! !!) إلى أن تتجلى عبقريته فيقول انه ( ومن طبائع الاستبداد أنه لا يظهر فيه فقر الأمة ظهورا بينا إلا فجأة قريب قضاء الاستبداد نحبه .) و لم يفته : ( إن حفظ المال في عهد المستبد اصعب من كسبه و انه من طبائع الاستبداد ان الأغنياء أعداؤه فكرا و أوتاده عملا فهم ربائط المستبد يذلهم فيئنون و يستدرهم فيحنون )
الاستبداد و الأخلاق
/ تعجبت طويلا عنما بدا لي الارتباط الوثيق بين الاستبداد و الفساد حسب القرآن الكريم فبالرغم من أتني لست ملما بعلومه ولا غائرا في بحر فقهه لفت انتباهي عند استخراجي لمفردة الفساد من المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ورودها – مع مشتقاتها- اربعين مرة مشروطة بمخالفة سنة دفع الناس بعضهم بعض { و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت السموات و الأرض } البقرة251 وهي الآية التي تدعو الى الأطلاق و التحرير و ترفض التقييد و التأطير المحكمين للسلوك البشري حسب رؤية بشرية صرفة أو حتى فهم بشري لنص سماوي . مقرونة مع - اتباع الهوى و عبادة غير الله(أي عبادة الفرد أو المستبد) و العلو و الظلم وبث الخوف و الطمع و الطغيان و سفك الدماء و قطع ما أمر الله به أن يوصل و إهلاك الحرث و النسل و تبديل الدين وعصيان الله و تبخيس أشياء الناس فعث في الأرض و ذبح أبناء الرعية و استحياء نسائهم و إدعاء الإصلاح و الإفساد بعد الإصلاح و كلها من صفات الاستبداد و المستبدين و الفاسدين و المفسدين – لا فرق - إلى أن نصل إلى مساواة الساعين في الأرض فسادا بمحاربين الله و رسوله وتثبيت وجزائهم الا وهو القتل { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا } و التبرؤ من قول المستبدين الذين يرمون تبعات الفساد و إصلاحه على مشيئة الله - إن الله لا يصلح عمل المفسدين يونس 81 فتهديده عز وعلى- فأنظر كيف كانت عاقبة المفسدين الأعراف 83 لقد كنت اجزم/ كما غالبية جيلي – دون أن أجزم – / ان الفساد مرده تغلب خصال الشر أو السوء عند بعض من البشر بغض النظر عن البنية السياسية و الاجتماعية إلى أن قرأت في مقدمة أبن خلدون ما يشير بعلاقة مشروطة :و إذا كان الملك قاهرا ,فاحشا بالعقوبات, منقبا عن عورات الناس , شملهم الخوف و الذل , ولاذوا منه بالكذب والمكر و الخديعة فتخلقوا بها, و فسدت بصائرهم و اخلاقهم , و ان دام أمره عليهم و قهره فسدت "العصبية" , / أي ان الفساد ظاهرة عالمية بقدر ما الاستبداد هو ظاهرة عالمية و هما مترابطين متلازمين - اذا قصدنا الفساد الشامل و ليس حالات الفساد المتفرقة استبداد و ظلم شاملين = فساد شامل/ .. و هذا ما يقوله الكواكبي/:
الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية و الأخلاق الحسنة , فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها فبجعل الإنسان يكفر بنعم مولاه , لأنه لم يملكها حق التملك ليحمده عليها حق الحمد , ويجعله حاقدا على قومه لانهم عون لبلاء الاستبداد عليه, و فاقدا حب وطنه , لانه غير آمن الاستقرار فيه و يود لو انتقل منه , ... أسير الاستبداد لا يملك شيئا ليحرص على حفظه ,لانه لا يملك مالا غير معرض للسلب و لا شرفا غير معرض للإهانة . ضعيف الحب لعائلته , لأنه ليس مطمئنا على دوام علاقته معها , و مختل الثقة في صداقة أحبابه , لأنه يعلم منهم أنهم مثله لا يملكون التكافؤ , و قد يضطرون لإضرار صديقهم بل و قتله و هم باكون .
و هذه الحالة تجعل الأسير لا يزوق في الكون لذة نعيم غير بعض الملذات البهيمية . بناء عليه يكون شديد الحرص على حياته الحيوانية و إن كانت تعيسة , و كيف لا يحرص عليها و هو لا يعرف غيرها . أين هو من الحياة الأدبية ؟ أين هو من الحياة الاجتماعية ؟ أما الأحرار فتكون منزلة حياتهم الحيوانية عندهم بعد مراتب عديدة , و لا يعرف ذلك إلا من كان منهم أو كشف الله عن بصيرته .
الاستبداد يسلب الراحة الفكرية فيضني الأجسام فوق ضناها بالشقاء فتمرض العقول و يختل الشعور على درجات متفاوتة في الناس . و العوام قد يصل مرضهم العقلي إلى درجة قريبة من عدم التمييز بين الخير و الشر , في كل ما ليس من ضروريات حياتهم الحيوانية . و يصل تسفل إدراكهم إلى أن مجرد أثار الأبهة و العظمة التي يرونها على المستبد و أعوانه تبهر أبصارهم , فيرون و يفكرون بأن الدواء في الداء, فينصاعون بين يدي الاستبداد انصياع الغنم بين أيدي الذئاب حيث هي تجري على قدميها إلى مقر حتفها .
ربما يستريب المطلع اللبيب الذي لم يتعب فكره في درس طبيعة الاستبداد, من إن الاستبداد المشؤوم يقوم على قلب الحقائق , يرى انه كم مكن بعض القياصرة و الملوك الأولين من التلاعب بالأديان تأيدا لاستبدادهم فأتبعهم الناس .
و يرى أن الناس وضعوا الحكومات لأجل خدمتهم , و الاستيداد قلب الموضوع , فجعل الرعية خادمة للرعاة فقبلوا و قنعوا ... و يرى أنه قد قبل الناس من الاستبداد ما ساقهم اليه من اعتقاد أن طالب الحق فاجر , وتارك حقه مطيع , و المشتكي المتظلم مفسد , و النبيه المدقق ملحد , و الخامل المسكين صالح امين . وقد اتبع الناس الاستبداد في تسمية النصح فضولا , و الغيرة عداوة و الشهامة عتوا , و الحمية حماقة , و الرحمة مرضا , كما جاروه على اعتبار أن النفاق سياسة , و التحيل كياسة , والدناءة لطف , و النذالة دماثة ( نفس المقارنات و التشبيهات تقريبا التي طرحها فوكوياما في مقاله نهاية التاريخ و الرجل الاخير ولكن قبله بمئة عام بالتمام والكمال ) . و هنا يتفوق الكواكبي على المفكر و الأديب التشيكي و رئيس البلاد بعد انعتاقها من النظام الشمولي فنسيسلاف هافيل , و الذي لوحق و سجن مرات لانتقاده و فضحه مساوئ الاستبداد . و المفكر و الكاتب البلغاري جيليو جيليف المعارض سابقا للنظام الشمولي و من داخل صفوف الحزب الحاكم يومها و صاحب مؤلف ( الفاشية) الذي خطه بطلب من الحزب الحاكم و سلط الضوء من خلاله و شرح مستفيضا و قيم علائق و طرق إدارة الحزب النازي في ألمانيا النازية لكل من الإعلام , الجيش العقائدي , الشباب , الثقافة , التربية و التعليم , الفنون و الأدب, الإدارات الحكومية وقد سماها سياسة اجتياح الوزارات و المؤسسات , الاقتصاد( و تدميره /تدهور المارك 30000مرة اثناء الحكم الهتلري) , و قد تم وقف توزيع الكتاب وجمعه بعد أن فهم انه أي المؤلف وكأنه يشرح الوضع القائم في بلده الشمولي بذاته و زج به لسنوات طوال في سجون بلاده ليخرج ويترأس بلاده بعد عودة التعددية السياسية و الانتخابات البرلمانية و الرئاسية .
يضيف صاحبنا موضحا : و قد يظن بعض الناس أن للاستبداد حسنات مفقودة في الإدارة الحرة , فيقولون مثلا : الاستبداد يلين الطباع و يلطفها , و الحق أن ذلك يحصل فيه عن فقد الشهامة لا عن فقد الشراسة ...و يقولون هو يربي النفوس على الاعتدال و الوقوف عند الحدود , و الحق أن ليس هناك غير الانكماش و التقهقر , و يقولون الاستبداد يقلل الفسق و الفجور , و الحق أنه عن فقر و عجز لا عن عفة و دين ’ و يقولون يقلل التعديات و الجرائم , والحق أنه يمنع ظهورها و يخفيها فيقل تعديدها لا عدادها .
الأخلاق أثمار بذرها الوراثة , و تربتها التربية ,و سقياها العلم ,و القائمون عليها هم رجال الحكومة , عليه تفعل السياسة في اخلاق البشر ما تفعله العناية في انماء البشر. إذا بليت ببستاني جدير بان يسمى حطابا لا يعنيه إلا عاجل الاكتساب أفسدها و خربها .
أقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس , أنه يرغم حتى الأخيار منهم على الفة الرياء و النفاق و لبئس السيئان , و انه يعين الاشرار على اجراء غي نفوسهم آمنين من كل تبعة ولو أدبية , فلا اعتراض و لا انتقاد و لا افتضاح , لان اكثر اعمال الأشرار تبقى مستورة يلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من تبعة شهادة على ذي شر و عقبى ذكر الفاجر بما فيه . و لهاذا شاعت بين الاسراء قواعد كثيرة باطلة كقولهم : اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب . و قد تعالى وعا ظهم في سد أفواههم حتى جعلوا لهم أمثال هذه الأقوال من الحكم النبوية , كما هجوا لهم الهجو و الغيبة بلا قيد , فهم يقرؤون L( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ) ويغفلون بقية الأية وهيL (الا من ظلم ).
أقوى ضابط للأخلاق النهي عن المنكر بالنصيحة و التوبيخ , أي بحرص الافراد على حراسة نظام الاجتماع و هذه الوظيفة غير مقدور عليها في عهد الاستبداد لغير ذوي المنعة الغيورين و قليل ما هم , وقليلا ما يفعلون , و قليلا ما يفيد نهيهم . و الموظفون في عهد الاستبداد للوعظ و الإرشاد يكونون مطلقا ولا أقول غالبا , من المنافقين الذين نالوا الوظيفة بالتملق .
أما النهي عن المنكرات في الإدارة الحرة , فيمكن لكل غيور على نظام قومه أن يقوم به بأمان و بإخلاص , و أن يوجه سهام قوارصه إلى الضعفاء و الأقوياء و سواء ,فلا يخص بها الفقير المجروح الفؤاد , بل يستهدف أيضا ذوي الشوكة والعناد . و أن يخوض في كل واد حتى في مواضيع تخفيف الظلم و مؤاخذة الحكام , وهذا هو النصح الإنكاري الذي يعدي و يجدي و الذي أطلق عليه النبي عليه السلام اسم ( الدين ) تعظيما لشأنه فقال (( الدين نصيحة )).
ولما كان ضبط أخلاق الطبقات العليا من الناس أهم الأمور , أطلقت الأمم الحرة حرية الخطابة و التأليف و المطبوعات مستثنية القذف فقط , ورأت أن تحمل مضرة الفوضى في ذلك خير من التحديد ( هل من متعظ بعد 100 عام من هذا المقال ) , لأنه لا مانع للحكام أن يجعلوا الشعرة من التقييد سلسلة من حديد , يخنقون بها عدوتهم الطبيعية أي الحرية . وقد حمى القرآن قاعدة الإطلاق بقوله الكريم : ( ولا يضار كاتب و لا شهيد ) .
أما النهي عن المنكرات في الإدارة الحرة , فيمكن لكل غيور على نظام قومه أن يقوم به بأمان و بإخلاص , و أن يوجه سهام قوارصه إلى الضعفاء و الأقوياء و سواء ,فلا يخص بها الفقير المجروح الفؤاد , بل يستهدف أيضا ذوي الشوكة والعناد . و أن يخوض في كل واد حتى في مواضيع تخفيف الظلم و مؤاخذة الحكام , وهذا هو النصح الإنكاري الذي يعدي و يجدي و الذي اطلق عليه النبي عليه السلام اسم ( الدين ) تعظيما لشأنه فقال (( الدين نصيحة )).
ولما كان ضبط أخلاق الطبقات العليا من الناس أهم الأمور , أطلقت الأمم الحرة حرية الخطابة و التأليف و المطبوعات مستثنية القذف فقط , ورأت أن تحمل مضرة الفوضى في ذلك خير من التحديد ( هل من متعظ بعد 110 عام من هذا المقال ) , لأنه لا مانع للحكام أن يجعلوا الشعرة من التقييد سلسلة من حديد , يخنقون بها عدوتهم الطبيعية أي الحرية . وقد حمى القرآن قاعدة الاطلاق بقوله الكريم : ( ولا يضار كاتب و لا شهيد ) .
بعد ذلك يقسم الكواكبي الخصال البشرية إلى ثلاث :
الأول : الخصال الحسنة الطبيعية و الخصال القبيحة الطبيعية – الصدق , الأمانة , الهمة . الذود , الرحمة . يقابلها – الرياء , الاعتداء , الجبن , القسوة .
الثاني : الخصال الكمالية التي جاءت بها الشرائع الإلهامية كتحسين الإثار و العفو و تقبيح الزنا و الطمع و هنا فيه ما لا تدرك العقول حكمته , فيتمثله المنتسبون للدين احتراما أو خوفا .
الثالث : الخصال الاعتيادية , و هو ما يكتسبه الانسان بالوراثة أو بالتربية أو بالألفة , فيستحسن او يستقبح .
أن التدقيق يفيد أن الأقسام الثلاثة تشتبك و تشترك و يؤثر بعضها في بعض , فيصير مجموعها تحت تأثير الألفة المديدة , بحيث كل خصلة منها تترسخ او تتزلزل, حسبما يصادفها من استمرار الالفة او انقطاعها , فالقاتل مثلا لا يستنكر شنيعته في المرة الثانية كما استقبحها من نفسه في الاولى , و هكذا يخف الجرم في وهمه , حتى يصل الى درجة التلذذ بالقتل كأنه حق طبيعي له , كما هي حالة الجبارين و غالب السياسيين الذين لا ترتج في أفئدتهم عاطفة رحمة عند قتلهم أفرادا أو أمما لغايتهم السياسية , إهراقا بالسيف أو إزهاقا بالقلم , ولا فرق بين القتل بقطع الاوداج و بين الإماتة بإيراث الشقاء غير التسريع و الإبطاء .
أسير الاستبداد العريق فيه يرث شر الخصال , و يتربى على أشرها , و لابد أن يصحبه بعضها مدى العمر . يكفيه تلبسه بالرياء اضطرارا حتى يألفه و يصير ملكة فيه , فيعيش سيئ الظن في حق ذاته مترددا في أعماله , لواما نفسه على إهمال شؤونه , شاعرا بفتور همته و نقص مروءته , و يبقى طوال العمر يجهل مورد هذا الخلل , فيتهم الخالق , و الخالق لم ينقصه شيئا . ويتهم دينه و تارة تربيته و تارة زمانه و تارة قومه , و الحقيقة بعيدة عن كل ذلك و ما الحقيقة غير أنه خلق حرا فأسر.
أجمع الاخلاقيون على أن المتلبس بشائبة من أصول القبائح الخلقية لا يمكنه أن يقطع بسلامة غيره منها ( إذا ساءت فعال المرء ساءت ظنونه ) .
اذا علمنا أن من طبيعة الاستبداد ألفة الناس بعض الأخلاق الرديئة , و إن منها ما يضعف الثقة بالنفس , علمنا سبب قلة أهل العمل و أهل العزائم في الأسراء , و علمنا أيضا حكمة فقد الأسراء ثقتهم بعضهم ببعض .فينتج أن الأسراء محرومون طبعا من ثمرة الاشتراك في اعمال الحياة , /موسسات المجتمع المدني الحقيقية المنشودة لاعادة تأهيل المجتمع, اذا كان بحاجة لتاهيل فهل خضع شعب الهند – مليار نسمة المؤلف من 235 عرق و خمسة اديان رئيسية تعد اقلها تعدادا - اكثر من مائتي مليون نسمة و 32 طائفة /
و هنا استوقف المطالع و استلفته إلى التأمل في ثمرات الاشتراك التي يحرمحا الاسراء فأذكره بأن الاشتراك هو اعظم سر في الكائنات , به قيام كل شيء ما عدا الله وحده به قيام الأجرام السماوية , به قيام كل حياة , , به قيام كل المواليد, به قيام الأجناس و الأنواع , به قيام الأمم و القبائل , به قيام العائلات , به تعاون الأعضاء ,به تضاعف القوة , فيه سر استمرار الأعمال التي لا تفي بها أعمار البشر . نعم , الاشتراك هو السر كل السر في نجاح الامم المتمدنة , به اكملوا ناموس حياتهم القومية به ضبطوا نظام حكوماتهم به نالوا كل ما يغبطهم عليه أسراء الاستبداد .
ان سر الاشتراك ليس بخفي , وقد طالما كتب فيه الكتاب حتى ملته الأسماع , و مع ذلك لم يندفع للقيام به في الشرق إلا اليابان و البوير فما السبب ؟ فأجبه بان الكتاب كتبوا و أكثروا و أحسنوا فيما فصلوا و صوروا , و لكن قاتل الله الاستبداد و شؤمه , جعل الكتاب يحصرون أقوالهم في الدعوة إلى الاشتراك و ما معناه من التعاون و الاتحاد و التحابب و الاتفاق , / سبحان الله نفس الدعوات في يومنا هذا مضافا إليها : الوحدة , الاتحاد, التلاحم , التضامن , التآزر , الاصطفاف – وحدة الصف – و الدفاع المشترك , التنسيق المشترك , السوق المشتركة و لم يفلح منها الا التنسيق الأمني – لعله لانه برعاية بيبسي كولا – / جعلهم الاستبداد يكتبوا و يكثروا في كل ذلك / و منعهم من التعرض لذكر أسباب التفرق و الانحلال كليا , أو اضطرهم إلى الاقتصار على بيان الأسباب الأخيرة فقط . فمن قائل مثلا : الشرق مريض و سببه الجهل , و من قائل بلاء وسببه الأمية ,و هذا اعمق ما يخطه قلم الكاتب الشرقي كأنه وصل الى السبب المانع الطبيعي أو الاختياري . والحقيقة أن هناك سلسلة أسباب أخري حلقتها الأولى الاستبداد.
و كاتب آخر يقول : الشرق مريض و سببه فقد التمسك بالدين , ثم يقف , مع انه لو تتبع الأسباب لبلغ إلى الحكم بان التهاون في الدين أولا و أخرا ناشئ من الاستبداد . و آخر يقول أن السبب فساد الأخلاق , و غيره يرى أنه فساد التربية , و سواه ظن أنه الكسل , والحقيقة أن المرجع الأول في الكل هو الاستبداد, الذي يمنع حتى اولئك عن التصريح باسمه المهيب .
قد اتفق الحكماء الذين أكرمهم الله تعالى بوظيفة الأخذ بيد الأمم في بحثهم عن المهلكات و المنجيات . على أن فساد الأخلاق من أصعب الأمور و أحوجها إلى الحكمة البالغة و العزم القوي , و ذكروا أن فساد الأخلاق يعم المستبد و أعوانه وعماله , ثم يدخل بالعدوى إلى كل البيوت , لا سيما بيوت الطبقات العليا التي تتمثل بها السفلى .
وقد سلك الأنبياء عليهم السلام , في إنقاذ الأمم من الفساد مسلك الابتداء أولا بفك العقول من تعظيم غير الله و الإذعان لسواه . و ذلك بتقوية حسن الإيمان المفطور عليه وجدان كل إنسان . ثم جهدوا في تنوير العقول بمبادئ الحكمة , و تعريف الإنسان كيف يملك إرادته , أي حريته في أفكاره . و اختياره في أعماله , و بذلك هدموا حصون الاستبداد و سدوا منبع الفساد .
ثم بعد إطلاق زمام العقول , صاروا ينظرون إلى الإنسان بأنه مكلف بقانون الإنسانية و مطالب بحسن الأخلاق , و هكذا سلك الحكماء السياسيون القدماء باتباعهم نفس السبيل و هذا الترتيب ’ أي بالابتداء من نقطة دينية فطرية تودي إلى تحرر الضمائر , ثم باتباع طريق التربية والتهذيب بدون فتور ولا انقطاع .
أما المتأخرون من قادة العقول في الغرب , فمنهم فئة سلكوا طريقة الخروج بأممهم من حظيرة الدين و آدابه النفسية , إلى فضاء الإطلاق و تربية الطبيعة , زاعمين أن الفطرة في الإنسان أهدى به سبيلا و حاجته إلى النظام تغنيه عن الأديان , التي هي كالمخدرات سموم تعطل الحس بالهموم . وقد ساعدهم على سلوك هذا المسلك , انهم وجدوا أممهم قد تفشا فيها نور العلم , ذلك العلم الذي كان منحصرا في خدمة الدين عند المصريين و الآشوريين , و محتكرا في أبناء الأشراف عند الغرناطيين و الرومان , و مخصصا في أعداد من الشبان المنتخبين عند الهنديين و اليونان , حتى جاء العرب يعد الإسلام و أطلقوا حرية العلم و أباحوا تناوله لكل متعلم , فأنتقل إلى أوروبا حرا رغم رجال الدين , فتنورت .....فنشأ من ذلك حركة قوية في الأفكار . أغتنم زعماء الحرية في الغرب قوة هذه الحركة و أضافوا قوى أدبية شتى , كاستبدالهم ثقالة وقار الدين بزهو عروس الحرية , حتى أنهم لم يبالوا بتمثيل الحرية بحسناء , و كاستبدالهم رابطة الاشتراك في الطاعة للمستبدين برابطة الاشتراك في الشؤون العمومية , ذلك الاشتراك الذي يتولد منه حب الوطن . ثم إن هؤلاء الزعماء استباحوا القساوة أيضا , فأخذوا من مهجورات دينهم قاعدة ( الغاية تبرر الواسطة ) منها صرف المال المسروق في سبيل الخير .. وغيرها مما لا يستبيحها الحكيم الشرقي لما بين الغرب و أبناء الشرق من التباين في الغرائز و الأخلاق .
الغربي : مادي الحياة , قوي النفس , شديد المعاملة ,حريص على الاستئثار , حريص على الانتقام , كأنه لم يبقى عنده شيء من المبادئ العالية و العواطف الشريفة التي نقلتها له مسيحية الشرق . فالجرماني مثلا : جاف الطبع يرى ان العضو الضعيف من البشر يستحق الموت , و يرى كل الفضيلة في القوة , و كل القوة في المال , فهو يحب العلم ولكن لأجل المال , و يحب المجد و لكن لأجل المال ( يا للهول يقول ذلك قبل بزوغ النازية باربعة عقود) و هذا اللاتيني مطبوع على العجب و الطيش , يرى العقل في الإطلاق , و الحياة في خلع الحياء و الشرف في الترف و الكياسة في الكسب , و العز في الغلبة , و اللذة في المائدة و الفراش .
أما أهل الشرق فهم أدبيون , و يغلب عليهم ضعف القلب و سلطان الحب , و الإصغاء للوجدان , و الميل للرحمة و لو في غير موقعها , و للطف ولو مع الخصم . و يرون العز في الفتوة و المروءة , و الغنى في القناعة و الفضيلة , و الراحة في الأنس و السكينة , و اللذة في الكرم و التحبب , و هم يغضبون ولكن للدين فقط , ويغارون ولكن على العرض فقط .
ليس للشرقي أن يسير مع الغربي في طريق واحدة , فلا تطاوعه طباعه على استباحة ما يستحسنه الغربي , و ان تكلف تقليده في أمر فلا يحسن تقليده , و إن أحسنه فلا يثبت , و إن ثبت فلا يعرف استثماره , حتى لو سقطت الثمرة على كفه تمنى لو قفزت إلى فمه ! فالشرقي مثلا يهتم في شأن ظالمه إلى أن يزول عنه ظلمه , ثم لا يفكر فيمن يخلفه و لا يراقبه فيقع في الظلم ثانية , فيعيد الكرة ويعود الظلم الى ما لا نهاية . و كأولئك الباطنة في الإسلام : فتكوا بمئات الأمراء على غير طائل , و كأنهم لم يسمعوا بالحكمة النبوية : (( لا يلدغ المرء من حجر مرتين )) و لا بالحكمة القرآنية (إن الله يحب المتقين ) . أما الغربي إذا أخذ على يد الظالم فلا يتركها حتى يشلها , بل حتى يقطعها و يكوي مقطعها .
و هكذا بين الشرقيين و الغربيين فروق كثيرة , قد يفضَل في الافراديات الشرقي على الغربي , و في الجماعيات يفضل الغربي على الشرقي مطلقا . مثال ذلك :
الغربيون يستحلفون أميرهم على الصداقة في خدمته لهم و التزام القانون .
و السلطان الشرقي يستحلف الرعية على الانقياد و الطاعة !
الغربيون يمنون على ملوكهم بما يرتزقون من فضلاتهم
و الأمراء الشرقيون يتكرمون على من شاؤو بإجراء أموالهم صدقات !
الغربيون قضائهم و قدرهم من الله
الشرقييون قضائهم و قدرهم ما يصدر من بين شفتي المستعبِدين !
الشرقي سريع التصديق الغربي لا ينفي و لا يثبت حتى يرى و يلمس .
الشرقي أكثر ما يغار على الفروج كأن شرفه كله مستودع فيها ,
الغربي أكثر ما يغار على حريته و استقلاله!
الشرقي حريص على الدين و الرياء فيه , و الغربي حريص على القوة و العز و المزيد فيها !
و الخلاصة أن الشرقي ابن الماضي و الخيال , و الغربي ابن المستقبل و الجد !!
أخيرا و بتحليل هادئ و متزن يفصل حكمة المقال في هذا الفصل فيفصل في دروب و رجالات تحرير الأفكار و تهذيب الأخلاق فيصف رجال الثورة الفرنسية و مفكريها بأرق الكلام :
الحكماء المتأخرون الغربيون ساعدتهم ظروف المكان و الزمان , و خصوصية الأحوال , لاختصار الطريق فسلكوه , و استباحوا ما استباحوا, حتى انهم استباحوا في التمهيد السياسي تشجيع أعوان المستبد على تشديد وطأة الظلم و الإعتساف بقصد تعميم الحقد عليه .
وقد سبق هؤلاء الغلاة فئة اتبعت أثر النبيين , و لم تحفل بطول الطريق و تعبه فنجحت و رسخت , و أعني بتلك الفئة أولئك الحكماء الذين لم يأتوا بدين جديد , و لا تمسكوا بمعاداة كل دين كمؤسسي جمهورية الفرنسيين , بل رتقوا فتوق الدهر في دينهم بما نفحوا و هذبوا و سهلوا و قربوا , حتى جددوا , وجعلوه صالحا لتجديد خليق أخلاق الأمة . / لم نقرأ- قبل أو بعد 11 سبتمبر - اجمل من هذا الوصف الذي يصلح لان يكون دعوة للإصلاح و التجديد الديني و الدنيوي أولم يقل أيضا في باب الاستبداد و الدين بأن الحاصل أن كل المدققين السياسيين يرون أن السياسة و الدين يمشيان متكاتفين , و يعتبرون أن إصلاح الدين هو أسهل و أقوى و أقرب طريق للإصلاح السياسي. أي إن الكواكبي و من قرن و عقد - قيل 11 سبتمبر ب 11 عقد من الزمان فطن الى ضرورة الإصلاح العقائدي و السياسي ليس بإيعاز من الخارج و لا رضوخا لضغوطات أمريكية صهيونية..!!! ) رافعا لواء إنسانية الفرد الإنسان و حقوقه و مشخصا المسلم و فطرته و نوازعه التحررية و دارسا العربي و الإباء المرجو له و الذي يستحقه والخصوصية السورية التي عايشها و وعى التركيب الفسيفسائي المنسجم الرائع و الباقة البرية المتداخلة والفواحة أبدا عطر حضارة مزيج رائع دائما, داعيا و مبشرا وبهدوء و تؤدة لخلع رداء الاستبداد البغيض بعد الترويج الدؤوب لمحاسن الحرية الفردية كحامية لحرية الوطن و الدين و بعث الجوانب الأنسانية الحميدة المخبأة بأمر (الحاكم بأمره) /
الاستبداد و التربية
في فصل الاستبداد و التربية يقول مستهلا : خلق الله في الإنسان استعدادا للصلاح و استعدادا للفساد , فأبواه يصلحانه و أبواه يفسدانه . أي إن التربية تربو باستعداده جسما و نفسا و عقلا ان خيرا فخير وان شرا فشر . و قد سبق أن الاستبداد المشؤوم يؤثر على الأجسام فيورثها السقام , و يسطو على النفوس فيفسد الأخلاق , و يضغط على العقول فيمنع نمائها بالعلم . بناء عليه تكون التربية و الاستبداد عاملين متعاكسين في النتائج , فكل ما تبنيه التربية مع ضعفها يهدمه الاستبداد بقوته , وهل يتم بناء وراءه هادم .
..والاستبداد ريح صرصر فيه إعصار يجعل الإنسان كل ساعة في شأن , و هو مفسد للدين في أهم قسميه أي الأخلاق , و أما العبادات فلا يمسها لأنها تلائمه في الأكثر .
الأسير المعذب المنتسب الى دين يسلي نفسه بالسعادة الأخروية , فيعدها بجنان ذات أفنان و نعيم مقيم أعده له الرحمن ,و يبعد عن نفسه أن الدنيا عنوان الآخرة و أنه ربما خاسر الصفقتين . و لبسطاء الإسلام مسليات أظنها خاصة بهم يعطفون مصائبهم عليها وهي على نحو : الدنيا سجن المؤمن , المؤمن مصاب , إذا أحب الله عبدا ابتلاه ,هذا شأن آخر الزمان . و يتناسون حديث ((إن الله يكره العبد البطال )) , ((إذا قامت الساعة و في يد أحدكم فسيل فليغرسه )) , ويتغافلون عن ذلك النص القاطع المؤجل قيام الساعة إلى ما بعد استكمال الأرض زخرفتها وزينتها .
الاستبداد يضطر الناس الى استباحة الكذب و التحيل و النفاق و التذلل. و إماتة النفس و نبذ الجد و ترك العمل .
العرض , زمن الاستبداد , كسائر الحقوق غير مصون , بل معرض لهتك الفساق من المستبدين و الأشرار من أعوانهم .
إن أخوف ما يخافه الأسير هو أن تظهر نعمة الله في الجسم أو المال , فتصيبه عين الجواسيس ( وهذا أصل عقيدة إصابة العين )! .أن يظهر له شأن في علم أو جاه أو نعمة مهمة , فيسعى به حاسدوه إلى المستبد( و هذا أصل الحسد الذي يتعوذ منه ) !!
و من غريب الأحوال أن الأسراء يبغضون المستبد و لا يقوون على استعمالهم معه البأس الطبيعي الموجود في الإنسان إذا غضب , فيصرفون بأسهم في وجهة أخرى ظلما : فيعادون فئة مستضعفة , أو الغرباء , أو يظلمون نساءهم و نحو ذلك . ( أو كل ذلك )
و قد اتضح ان التربية غير مقصودة ولا مقدورة في ظل الاستبداد الا ما قد يكون بالتخويف من القوة القاهرة . و قد أجمع علماء الاجتماع و الاخلاق و التربية على أن الاقناع خير من الترغيب فضلا عن الترهيب, وأن التعليم مع الحرية بين المتعلم و المتلقي, أفضل من التعليم مع الوقار .
ومن يتأمل جيدا في قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } ملاحظا أن معنى القصاص لغة التساوي مطلقا لا مقصورا على المعاقبة بالمثل في الجنايات فقط , و من يدقق النظر في القرآن الكريم و سائر الكتب السماوية , و يتبع مسالك الرسل العظام عليهم الصلاة و السلام , يرى أن الاعتناء في طريق الهداية فيها منصرف إلى الإقناع , ثم إلى الإطماع عاجلا أو أجلا , ثم إلى الترهيب الآجل غالبا مع ترك أبواب تدلي إلى النجاة .
أخيرا ينهي الفصل بنتيجة : إذا كان لا مطمع في التربية العامة على الأصول الحميدة بمانع طبيعة الاستبداد , فلا يكون لعقلاء المبتلين به إلا أن يسعوا أولا وراء إزالة المانع الضاغط على العقول , ثم بعد ذلك يعتنوا بالتربية حيث يمكنهم حينئذ أن ينالوها على توالي البطون و الله الموفق .
الاستبداد و الترقي
الحركة سنة عاملة في الخليقة دائبة بين شخوص و هبوط . فالترقي هو الحركة الحيوية أي حركة الشخوص , ويقابله الهبوط و هو الحركة إلى الموت أو الاستحالة أو الانقلاب.
هكذا يستهل الكواكبي الفصل ويضيف , فإذا رأينا في أمة آثار حركة الترقي هي الغالبة على أفرادها , حكمنا لها بالحياة . بل يؤكد على لسان بعض السياسيين : وبعض السياسيين يبني على هذه القاعدة أنه يكفي الأمة رقيا أن يجتهد كل فرد منها بترقية نفسه بدون أن يفتكر في ترقي مجموع الأمة .
و يحذر : و قد يبلغ الاستبداد بالأمة أن يحول ميلها الطبيعي من طلب الترقي الى طلب التسفل . ..نعم : أسراء الاستبداد أحق بوصف مساكين من عجزة الفقراء.
و ينصح ناقلا إجماع الحكماء : قد أجمع الحكماء على أن أهم ما يجب عمله على الآخذين بيد الأمم , الذين فيهم نسمة مروءة و شرارة حمية , الذين يعرفون ما هي وظيفتهم بأزاء الإنسانية الملتمسين لاخوتهم العافية أن يسعوا الى رفع الضغط عن العقول لينطلق سبيلها في النمو فتمزق غيوم الأوهام التي تمطر المخاوف , شأن الطبيب في أعتنائه أولا بقوة جسم المريض , و أن يكون الإرشاد متناسبا مع الغفلة خفة و قوة : كالساهي ينبهه الصوت الخفيف , و النائم يحتاج الى صوت أقوى و الغافل يلزمه صياح و زجر. / العلاج بالتدرج ام بالصدمة / فالأشخاص من هذا النوع الأخير , يقتضي لإيقاظهم الآن بعد أن ناموا أجيالا طويلة , أن يسقيهم النطاسي البارع مرا من الزواجر و القوارص علهم يفيقون , و إلا فهم لا يفيقون , حتى يأتي القضاء من السماء فتبرق السيوف و ترتعد المدافع و تمطر الالبنادق فحينئذ يصحون و لكن صحوة الموت . /هرمجدون الاستبداد - هل هو استشراف لملحمة الاستعمار التقليدي ثم الحديث منه و ما الذي هو ما بعد الحداثة منه. ثم هل يجب أن نصنف هذا الكلام بأنه مما يصب في طاحونة الأعداء المتربصين المروجين لفك اللحمة الوطني/
الاستبداد و التخلص منه
بعد إشادته بالتاريخ الطبيعي و علوم استقرائه يشير أنكل الأمم مرت في تقلبات سياسية على سبيل التجريب و بحسب تغلب أحزاب الاجتهاد أو رجال الاستبداد .
ثم يطرح عدد من المباحث يمكن تلخيصها كالتالي :
1- ما هي الأمة أي الشعب :فيقر برفض كون الامة جمعية عبيد لمالك غالب وظيفتهم الطاعة و الانقياد ولو كرها و إنما جامعة سياسية اختيارية , لكل فرد حق إشهار رأيه وفقا ل : ((كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته )) .
2- ما هي الحكومة: سلطة امتلاك فرد لجمع يتصرف برقابهم , أم وكالة تقام بإرادة الأمة لأجل إدارة شؤونها المشتركة
3- ما هي الحقوق العمومية : هل هي حقوق آحاد الملوك و لكنها تضاف للشعوب مجازا أم حقوق جموع الأمم تضاف للملوك مجازا .
4- التساوي في الحقوق محفوظة للجميع على التساوي .
5- الحقوق الشخصية هل الحكومة تملك السيطرة على الأعمال و الأفكار , أم أفراد الأمة أحرار في الفكر مطلقا ما لم يخالف القانون الاجتماعي , لأنهم أدرى بمنافعهم الشخصية , و الحكومة لا تتدخل إلا في الشؤون العمومية ؟
6- نوعية الحكومة : هل الاصلح الملكية المطلقة أم الملكية المقيدة و ما هي القيود ؟ أم أم الرئاسية الانتخابية الدائمة مع الحياة أم المؤقتة إلى أجل ؟ وهل تنال الحاكمية بالوراثة , أو العهد , أو الغلبة ؟
7- ما هي وظيفة الحكومة وظيفة الحكومة مقيدة بقانون موافق لرغائب الأمة و إن خالف الأصح . و إذا اختلفت الحكومة مع الأمة في اعتبار الصالح و المضر على الحكومة أن تعتزل الوظيفة .
8- حقوق الحاكمية هل للحكومة أن تخصص بنفسها لنفسها ما تشاء من مراتب العظمة , و رواتب المال ,و تحابي من تريد بما تشاء من حقوق الأمة و أموالها ؟؟؟ أم يكون التصرف في ذلك كله إعطاءً و تحديدا و منعا منوطا بالأمة
9- طاعة الأمة للحكومة لا طاعة عمياء بلا فهم و لا إقناع لتأتي الطاعة بإخلاص و أمانة .
10- توزيع التكليفات الأمة تقرر النفقات اللازمة و تعين موارد المال , و ترتب طرائق جبايته و حفظه .
11- إعداد المنعة هل يكون إعداد القوة بالتجنيد و التسليح استعدادا للدفاع مفوضا لإرادة الحكومة إهمالا , أو إقلالا , أو إكثارا , أو استعمالا على قهر الأمة , أم يلزم أن يكون ذلك برأي الأمة و تحت أمرها , بحيث تكون القوة منفذة رغبة الأمة لا رغبة الحكومة .
12- المراقبة على الحكومة
13- حفظ الأمن العام الحكومة مكلفة بحراسة الأشخاص حتى من بعض طوارئ الطبيعة بالحيلولة لا بالمجازاة و التعويض
14- حفظ السلطة في القانون هل يكون للحكومة ايقاع عمل إكراهي على الأفراد برأيها أي بدون الوسائط القانونية , أم السلطة منحصرة في القانون , إلا في ظروف مخصوصة و مؤقتة ؟
15- تأمين العدالة القضائية العدل ليس ما تراه الحكومة , إنما ما يراه القضاة المصون وجدانهم من كل مؤثر غير الشرع و الحق , و من كل ضغط حتى ضغط الرأي العام .
16- حفظ الدين و الآداب
17- تعين الأعمال بقوانين
18- كيف توضع القوانين يضع القوانين جمع منتخب من قبل الكافة ليكونوا عارفين حتما بحاجات قومهم و ما يلائم طباعهم و صوالحهم .
19- ما هو القانون و قوته نصوص خالية من الإيهام و التعقيد و حكمها شامل كل الطبقات , و لها سلطان قاهر مصون من كل التأثيرات .
20- توزيع الأعمال و الوظائف هل يكون الحظ في ذلك مخصوصا بأقارب الحاكم و عشيرته و مقربيه ؟
21- التفريق بين السلطات السياسية و الدينية و التعليم {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه }
22- الترقي في العلوم و المعارف هل يترك للحكومة صلاحية الضغط على العقول كي يقوى نفوذ الأمة عليها ؟ جعل التعليم الابتدائي عموميا بالتشويق أم بالإجبار , وجعل التعليم و التعلم حرا مطلقا
23- التوسع في الزراعة و الصنائع تلزيم الحكومة تسهيل مضاهات الأمم السائرة
24- السعي في العمران هل نترك ذلك لإهمال الحكومة المميت , أو لانهماكها فيه إسرافا و تبذيرا ؟ أم تحمل على اتباع الاعتدال المتناسب مع الثروة العمومية.
25- السعي في رفع الاستبداد هل ينظر من الحكومة ذاتها , أم نوال الحرية و رفع الاستبداد رفعا لا يدع مجالا لعودته من وظائف عقلاء الأمة ؟؟
يقول الكواكبي أن الخمسة و العشرين مبحثا تحتاج لتدقيق عميق و تفصيل طويل و انه ذكرها للتذكرة لدى ذوي الألباب و تنشيطا للنجباء و يقتصر على : بعض الكلام فيما يتعلق بمبحث رفع الاستبداد فقط , فأقول :
1- الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية .
2- الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين و التدرج .
3- يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد .
هذه قواعد رفع الاستبداد وهي قواعد تبعد آمال الأسراء , و تسر المستبدين , لأن ظاهرها يؤمنهم على استبدادهم . و لهذا أذكر المستبدين بما أتزرهم به الفياري المشهور : ((لا يفرحن المستبد بعظيم قوته و مزيد احتياطه فكم من جبار عنيد جندله مظلوم صغير ))
مبنى قاعدة كون الأمة التي لا يشعر أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية هو :
أن الأمة إذا ضربت عليها الذلة و المسكنة و توالت على ذلك القرون و البطون ,تصير تلك الأمة سافلة الطباع حسبما سبق تفصيله في الأبحاث السالفة ,حتى انها تصير كالبهائم , أو دون البهائم لا تسأل عن الحرية ,ولا تلتمس العدالة , و لا تعرف للاستقلال قيمة , أو للنظام مزية , و لا ترى لها في الحياة وظيفة غير التابعية للغالب عليها ,أحسن أو أساء على حد سواء ,و قد تنقم على المستبد نارا و لكن طلبا للانتقام من شخصه لا طلبا للخلاص من الاستبداد . فلا تستفيد شيئا إنما تستبدل مرضا بمرض كمغص بصداع .
و قد تقاوم المستبد بسوق مستبد آخر تتوسم فيه أنه أقوى شوكة من المستبد الأول . فإذا نجحت لا يغسل هذا السائق يديه إلا بماء الاستبداد فلا نستفيد أيضا شيئا , إنما تستبدل مرضا مزمنا بمرض حاد ,و ربما تنال الحرية عفوا فكذلك لا تستفيد منها شيئا كونها لا تعرف طعمها فلا تهتم بحفظها , فلا تلبث الحرية أن تنقلب فوضى , و هي إلى استبداد مشوش أشد وطأة كالمريض إذا انتكس . و لهذا قرر الحكماء أن الحرية التي تنفع هي التي تحصل عليها بعد استعداد لقبولها , و أما التي تحصل عليها بعد ثورة حمقاء فقلما تفيد شيئا ,لأن الثورة تكتفي بقطع ثورة الاستبداد و لا تقتلع جذورها , فلا تلبث أن تنمو و تعود أقوى مما كانت عليه أولا .
فإذا وجد في الأمة الميتة من تدفعه شهامته للأخذ بيدها و النهوض بها فعليه أولا : أن يبث فيها الحياة و هي العلم , أي علمها بأن حالتها سيئة و إنما بالإمكان تبديلها بخير منها , فإذا هي علمت يبتدئ فيها الشعور بآلام الاستبداد . ثم يترقى هذا الشعور بطبعه من الآحاد إلى العشرات , إلى إلى ....حتى يشمل أكثر الأمة و ينتهي بالتحمس و يبلغ بلسان حالها منزلة قول الحكيم المعري :
إذا لم تقم بالعدل فينا حكومة فنحن على تغيرها قدراء
و مبنى قاعدة أن الاستبداد لا يقاوم بالشدة , إنما يقاوم بالحكمة و التدرج هو : أن الوسيلة الوحيدة الفعالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقي الأمة في الإدراك و الإحساس , و هذا لا يأتي إلا بالتعليم و التحميس . و هذا لا يأتي إلا في زمن طويل , لأن العوام مهما ترقوا في الإدراك لا يسمحوا باستبدال القشعريرة بالعافية الا بعد التروي المديد , و ربما كانوا معذورين لأنهم لم ألفوا أن لا يتوقعوا من الرؤساء و الدعاة إلا الغش و الخداع غالبا.
و لهذا كثيرا ما يحب الأسراء المستبد الأعظم إذا كان يقهر معهم بالسوية الرؤساء و الأشراف , و كثيرا ما ينتقم الأسراء من الأعوان فقط ولا يمسون المستبد بسوء , لأنهم يرون ظالمهم هم الأعوان مباشرة دون المستبد .
ثم إن الاستبداد محفوف بأنواع القوات التي فيها قوة الإرهاب بالعظمة و قوة الجند, لا سيما إذا كان الجند غريب الجنس , و قوة المال , و قوة رجال الدين ,وقوة أهل الثروات , و قوة الألفة على القسوة , و قوة الأنصار الأجانب ’ هذه القوات تجعل الاستبداد كالسيف لا يقابل بعصا الفكر الذي هو في أول نشأته يكون أشب بغوغاء , و من طبع الفكر العام أنه إذا فار في سنة يغور في سنة , و إذا فار في يوم يغور في يوم ,بناء عليه يلزم لمقاومة تلك القوات الهائلة مقابلتها بما يفعله الثبات و العناد المصحوبان بالعزم و الإقدام .
الاستبداد لا ينبغي أن يقاوم بالعنف , كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصدا , نعم , الاستبداد قد يبلغ من الشدة درجة تنفجر عندها الناس انفجارا طبيعيا , فإذا كان في الأمة عقلاء يتباعدون عنها ابتداء , حتى إذا سكنت ثورتها نوعا و قضت وظيفتها في حصد المنافقين , حينئذ يستعملون الحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة , و خير ما تؤسس يكون بإقامة حكومة لا عهد رجالها بالاستبداد و لا علاقة لهم بالفتنة .
العوام لا يثور غضبهم على المستبد غالبا إلا عقب أحوال مخصوصة مهيجة فورية . منها :
1_ عقب مشهد دموي م}لم يوقعه المستبد على مظلوم يريد الانتقام لناموسه .
2 _ عقب حرب يخرج منها المستبد مغلوبا . ولا يتمكن من إلصاق عار الغلب بخيانة أحد القواد.
3 _ عقب تظاهر المستبد بإهانة الدين
4 – عقب تضيق شديد عام مقاضاة لمال كثير لا يتيسر إعطائه حتى على أواسط الناس .
5 _ في حالة مجاعة أو مصيبة عامة .
6 _ عقب ظهور موالاة شديدة من المستبد لمن تعتبره الأمة عدوا لشرفها .
ثم يسرد الكواكبي طرائق شتى يسلكها مثيري الخواطر على الاستبداد بالسر و البطء : يستقرون تحت ستار الدين , فيستنبتون غابة الثورة في بذرة أو بذرات يسقونها بدموعهم في الخلوات . وكم يلهون المستبد بسوقه إلى الاشتغال بالفسوق و الشهوات , و كم يغرونه برضاء الأمة عنه , و يجسرونه على مزيد من التشديد , و كم يحملونه على إساءة التدبير , و يكتمون الرشد , و كم يشوشون فكره بإرباكه مع جيرانه و أقرانه .لأجل غاية واحدة ,هي أبعاده عن الانتباه إلى سد الطريق التي فيها يسلكون . أما أعوانه , فلا وسيلة لإغفالهم عن إيقاظه غير تحريك أطماعهم المالية مع تركهم ينهبون ما شاءوا .
#ربيع_الجندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟