نبيل ياسين
الحوار المتمدن-العدد: 2805 - 2009 / 10 / 20 - 22:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
محاولة للعدالة والتسامح
(الحلقة الاولى من 7 حلقات)
هذه المحاولة جزء من مشروعي الثقافي والفكري للمساهمة بتشريع المستقبل في العراق. تشريعه ليكون بلدا دستوريا يحمي مواطنيه القانون ويمنع الجريمة السياسية التي سادت في العراق طوال اكثر من خمسة عقود.
ان كلمات ومفاهيم مثل(النضال) و(الشرعية الثورية) و(الفكر الانقلابي) و(الثورة) كلمات غير دستورية وغير قانونية. انها مفردات سياسية لامكان لها في القوانين. وكل الجرائم التي ارتكبت ,من خلال اعطاء هذه الكلمات شرعية ملفقة, جرائم يطالها القانون. اما الاعمال المجيدة التي تمت من خلال هذه الكلمات فقد اجهزت عليها الجرائم التي ارتكبت , جنبا الى جنب, مع تلك الامجاد والمنجزات القليلة.
يعاني العراق من ازمة ثقافية. ازمة تتعلق ببنى الثقافة السياسية والقانونية والاجتماعية. الازمة التي تجاهلها المثقف نفسه او عجز عن ادراكها فاخذ يساهم بتعميقها مرحلة بعد اخرى. من هذه الازمة الثقافية تنبثق بقية الازمات. فالتعريف القانوني يخضع لثقافة مشوهة عن القانون الثوري الذي تملكه وحدها السلطة. اما الدولة فتخضع لحكم السلطة وتغيب في اجهزة حزبية (ثورية) تبتلع الدولة.
لقد عملت , طوال اكثر من عقدين, على نظرية التماثل التي يعاني منها العراق والعالم العربي. التماثل بين الدولة والسلطة, حيث تغيب الدولة لصالح السلطة , فتصبح السلطة هي هوية المواطن وليس الدولة. وعبّر حزب البعث عن هذا التماثل بافظع صوره حين قنن فكرة(كل عراقي بعثي وان لم ينتم) فصار العراقي عضوا في الحزب لا مواطنا في الدولة. وحوكم مصيره على هذا الاساس. فلا ينال حقوق المواطنة الا البعثي المنتمي. ومضت الفكرة ابعد حين اصبح البعثي المنتمي مطالبا, ليكون مواطنا في السلطة, الى اعلان ولاء متكرر, وبطرق عبودية شتى, في سياق عبادة الفرد. فصار (القانون الثوري) يختصر المواطنة البعثية في حلقة ضيقة يتطلب الانتماء اليها قدرا كبيرا من انعدام التمسك بالاخلاق والمسؤولية تجاه المواطنين , مقابل انسداد افق الحصول على ادنى حق بدون هذا الولاء المطلق, الذي وصل الى ذروته في اشتداد التمسك بالولاء للقائد والتضحية بالاخرين من اجله.
قاد هذا بدوره الى تماثل أخر بين القانون والسياسة. فصارت السياسة فوق القانون. واصبحت سياسة الحزب الحاكم هي القانون , حيث اوصلت صدام حسين للقول ان القانون ورقة يضع توقيعه عليها , في احتقار منقطع النظير لجوهر القانون الذي ينبع من الاتفاقات الاجتماعية الكبرى في المجتمعات وليس من فرد.
لم يمس القانون اي قرار سياسي حاسم وخطير. فالتصفيات الجماعية, ومنها تلك التي حدثت في تموز 1979 وقتل فيها اكثر من سبعة وثلاثين بعثيا من اعضاء القيادة القطرية للبعث ومجلس قيادة الثورة البعثي, وغيرها من قرارات سياسية اعدمت قادة بعثيين , عسكريين ومدنيين, والقت في السجون, بعثيين آخرين من المثقفين والاطباء والمهندسين والنساء والمدراء العامين , كانت احكاما سياسية لا علاقة للقانون بها. فالضحايا لم يرتكبوا جرائم جنائية وانما كانوا ضحايا مواقف سياسية واعتراضات حدثت بسبب اختلاف في الراي, او بسبب غريزة الشك التي يمارسها كل دكتاتور وحاكم غير شرعي .فالتصفيات الجماعية بسبب الاختلاف في الرأي هي جرائم ابادة جماعية عانى منها العراقيون ,وبضمنهم بعثيون في قيادات ومنظمات حزب البعث , الذي استغل , بكل اجهزته المدنية والعسكرية, وبكل ايديولوجيته وسنوات حكمه, قوته السياسية لتكون متماثلة مع القانون.
التماثلان, الاول والثاني, قادا الى تماثل بين الثقافة والايديولوجيا, خضعت بموجبه الثقافة الى ان تكون بوقا ايديولوجيا واعلاميا. لقد انتقد ماركس وانجلز ثقافة (جماعة المانيا الفتاة) في القرن التاسع عشر, ووصفاها بانها بوق للجماعة. وقد طور حزب البعث, وصدام , هذا البوق ليكون صورا ينفخ فيه ليصل الى كل بيت وكل غرفة عبر مختلف الوسائل والخطط التي تولى تنفيذها مكتب الثقافة والاعلام القومي.
ثقافة الحرب المخجلة التي لم يتورع مئات من الادباء والفنانين العراقيين عن انتاجها والدفاع عن عناصرها التمييزية والمعادية للانسان العراقي بالذات, والتي كانت تساهم بدفعه الى الموت مجانا وعبثا, لم تجد احدا منهم ليدينها ويعتبرها غلطة في سياق مرحلة اضطروا اليها او خدعوا بها .فالتماثل بين الايدولوجيا والثقافة يعطيهم العنصر الابرز في الايديولوجيا وهو الوهم. وبهذا الوهم يصرون على شرعية تلك الثقافة التي لم تجر محاكمتها حتى الان , لا من المثقفين البعثيين, ولا من معارضيهم.
لقد تحولت الثقافة الى سلعة حكومية وحزبية في سياق حالة العرض والطلب بين البعث وحربه وقائده ومنتجي الادب الرخيص الذي يكافأ باثمان ذهبية. واذا قمنا بتدقيق حسابي للمصروفات التي انفقت على هذه الثقافة الرخيصة والعدوانية من ورق واحبار ومطابع ورواتب واصدار وتصحيح ومكافئات وتسويق وعروض صحفية وجوائز طوال اكثر من عقدين من الزمن, الى جانب ما انفق على وسائل الاعلام العراقية والعربية والعالمية , وما الحق بها من انتاج ثقافي ورشاوى ومنح و(مكرمات), فسنخرج بمليارات الدولارات التي اهدرت واستبيحت بهذه الصورة البشعة . كما اهدرت مليارات غيرها عبثا وباطلا وتضييعا لثروة العراقيين التي يستمر, مع الاسف , تضييعها بسبب ترسخ الازمة الثقافية التي قادت الى هذه النتائج , ومنها ثقافة استباحة المال العام بشتى الطرق , واستغلاله سياسيا وترويجيا. ومن هذه الطرق اعتبار الدولة ملكا متسباحا لمن يقدر على الوصول الى املاكها , سواء عن طريق حزب حاكم, او عن طريق مصادرة حقوق االاخرين, كما حصل في السبعينات والثمانينات حين استولى ناس على املاك المهجرين بحجة التبعية الايرانية.
ان الارهاب الفكري سرعان ماينفتح على ارهاب جسدي يصعد العنف الى استخدام السلاح واعتبار التعذيب والابادة عنصرين ملازمين للعمل السياسي والايديولوجي.
من الخطر التام , ان تغيب قيم ومعايير مجتمع ما , وتتحول الى استباحات تحل محل القانون, سواء عن طريق القوة , او طريق الخدعة, او طريق استغلال الفرص في ظل غياب الرادع , سواء كان رادعا وطنيا او انسانيا او دينيا او اخلاقيا. لقد غاب الحس العام تماما. غاب في مرحلة البعث الى حد اننا نحصد غياب الحس العام منذ سقوط البعث حتى اليوم, لان ثقافة انعدام الحس العام قد شاعت وتكرست فوق القوانين, وفوق الاخلاق, وفوق الضمائر, وفوق الزهد , وفوق الدين, وفوق القومية, وفوق الانظمة الداخلية للاحزاب التي هي بمثابة دستور اخلاقي لعملها وهوية سياسية لاخلاقها وسلوكها.
ان الارهاب الفكري سرعان ماينفتح على ارهاب جسدي يصعّد العنف الى استخدام السلاح ضد الفرد والجماعات معا.ان ممارسة الارهاب الفكري يؤطر المواقف باطر ايديولوجية تاخذ آبعد مديات التطرف لتصل الى تبرير الابادة والتصفية الجسدية باعتبارها الحل المشروع للقضاء على الخلاف والخصوم والتمايز. هكذ تتكرس ايديولوجيا العنف باعتبارها القانون الوحيد لقيادة التغيير والتحول من مستوى عال الى مستوى واطئ للفكر والثقافة بحيث تغدو ثقافة المستويات السفلى من التفكير هي ثقافة المجتمع باستخدام العنف لتحوله من مجتمع يتكل الى مجتمع صامت. ومن مجتمع مفتوح الى مجتمع مغلق , ومن مجتمع يحصل على الفرص بشكل تنافس طبيعي الى مجتمع يقفز على الفرص بمساعدة العنف والسلطة والسلاح.
يؤكد مفكرو الدولة ، ومنهم توماس بين في مؤلفه (Common Sense) على ان اصل وتطور الحكم هو فرض الفضيلة الاخلاقية لتحكم , وفي نهاية الامر تحقيق الحرية والامن. غير ان ما شهده العراق والعالم العربي هو دفع الفضيلة الاخلاقية بعيدا عن الحكم لتحل محلها شهوة ذكرية لقمع الاخرين لمصادرة الحرية ونسف امن المجتمع. ان ضمان حقوق المواطن هو السيادة الكاملة للدولة لدى كثير من المفكرين , خاصة اؤلئك الذين تناولوا العقد الاجتماعي وسلطة المواطن . والدولة تفقد السيادة حين تخرق حقوق مواطنيها , ولذلك كانت السيادة العراقية منتهكة باستمرار في ظل حكم البعث, حتى وصل هذا الانتهاك الى تمكين الاحتلال ان يكون واقعا . لقد احتل العراق خلال واحد وعشرين يوما فقط . وهي فترة قياسية تدل على غياب السيادة العراقية داخليا.
فولتير هو الاخر يؤكد على الحس العام باعتباره مبدأ الاخلاق في السياسة لكن البعثيين .اضاعوا المعيار الرئيسي, فضاع كل شئ. اضاعوا الحس العام ,واضاعوا القانون, واضاعوا قيم العائلة وقيم حسن الجوار وحولوا المجتمع الى جاسوس, يتجسس بعضه على البعض الاخر خوفا وطمعا وهروبا من المسؤولية.
ان وضع معيار للجميع هو الحل الامثل لعودة البعثيين الى حياة المجتمع. فبدون هذا المعيار سيظل البعثيون يعتقدون ان جميع الجرائم التي ارتكب كانت عملا ثوريا تم وفق قانون الشرعية الانقلابية , او الشرعية الثورية . لافرق.
دانت امريكا وانجلترا وفرنسا لافكار مونتسكيو. ليس في فصل السلطات فحسب, وانما في اعتبار السياسة اخلاقا ومسؤولية امام المجتمع. فهل كان البعثيون يجسدون اخلاق المسؤولية تجاه شعبهم , ام يجسدون اخلاقهم الخاصة التي اكتسبوها من شتى المصادر الاجتماعية والنظرية؟
لقد ساهم مئات المثقفين العراقيين في تكريس غياب القانون وسيادته عبر دعمهم اللامحدود لماكنة القمع, وتمجيدهم للجرائم التي ارتكبت باسم(الثورة) و(الشرعية الثورية) و(النضال) و(القائد الضرورة) و(شعارات الحزب) وغيرها من الفاظ وكلمات. وانقسم هؤلاء الى فريقين. خرج الاول الى الخارج بعد ان ساهم بالحرب ضد العراقيين في العراق وخارجه , عبر تبنيه واعادة انتاجه للتهم السياسية للنظام التي تقول( ان العراقيين في الخارج يقتاتون على فتات مؤائد الاجنبي) نازعين عن العراقيين وطنيتهم وجذورهم , وداعمين لاجراءات النظام بانتهاك حقوقهم وحقوق من تبقى من عوائلهم في العراق, وملغين لآلامهم وعذاباتهم في المنافي الواسعة. وهذا الفريق يعيش الان في الخارج مدعيا انه ضحية لغياب الحريات اليوم .اما الفريق الأخر فقد اندمج مع الفرص الهائلة التي وفرتها حرية الصحافة والتعددية السياسية والاعلامية بعد ان كانوا موظفين في اعلام الحزب الوحيد. وبدل ان يعمل في صحيفة واحدة صار يعمل في صحيفتين وراديو وقناة تلفزيونية ومع هذا يندب حل وزارة الاعلام التي كان يرجف تحت رقابتها وقدرتها على الكيد والايقاع به.
لايمكن للمصطلحات والشعارات الايديولوجية التي تظهر في سياق الحرب الايدولوجية المستعرة ان تعاين الواقع وتحل ازماته. على العكس من ذلك , تقوم هذه المصطلحات بتغييب الحقائق والوقائع والاحداث وتغطيها بهالة المصطلحات الرنانة , وهو ما يعرف بعمليات غسل الدماغ التي يتعرض لها المجتمع بهيمنة الايديولجيا على الواقع.
ان الثقافة، وليست الايديولوجيا ، هي التي تسهم في بناء حضارة المجتمعات وتشكل لها هوياتها وعناصرها المادية وقيمها الروحية. وهذا ما دل عليه تاريخ الحضارات ،منذ حضارات بلاد الرافدين حتى الحضارة الغربية المعاصرة.
لم ينتبه المثقف الى تماثل اخر غير متكافئ, هو سيطرة الريف والبادية على المدينة. العراق بلد مدني بامتياز منذ دويلات المدن قبل خمسة آلاف عام. كانت المدينة مسرح التحولات العاصفة في تاريخ العراق . ونشأت الميثولوجيا باعتبارها نتاجا لفكر وفلسفة وخيال المدينة العراقية. ظل هذا الواقع يقود العراق الاف السنين, حتى في فترات احتلاله المتكررة . كانت المدينة تقود التحولات والاخلاق والتقاليد والاعراف والقوانين والعقائد والعلاقات في العراق. وكان سبب سقوط الامويين هو سعيهم الدائم لسيطرة التقاليد القيسية البدوية على المدينة , حيث استغل العباسيون الصراع المدني- البدوي, بين القيسيسة واليمانية وحولوا عناصر الدولة الاموية البدوية الى عناصر مدينية في خراسان ومدن اخرى قبل ظهور بغداد عاصمة مدنية للعالم القديم.
لقد شهدت بغداد , العاصمة السياسية والثقافية والاجتماعية للعراق, في عهد السيطرة البعثية, هيمنة الريف والبادية على المدينة, حيث خسرت المدينة افكارها وفلسفتها وتقاليدها وثقافتها وقيمها الوطنية والثقافية لصالح هيمنة البادية الخالية من الانتاج الفكري والسياسي والاجتماعي , في سابقة خطيرة لتدمير القيم الحضارية المتوارثة في العراق. اصبحت المدينة العراقية ضحية الزحف البدوي وبذلك خضعت الطبقة العراقية الوسطى لقيم غريبة ولسطوة عناصر البادية الاعرابية التي وجدت الفرصة سانحة , بدعم وتعضيد من السلطة, للانتقام من تاريخ المدينة العراقية وقيمها وثقافتها وانتاجها الفكري.
ساهم البعثي في تكريس هذه الهيمنة وتقليد قيمها المعادية للمدينة. لبس صدام في النصف الاول من السبعينات العباءة فوق البدلة الغربية فقلده البعثيون بقداسة ووله حتى وصل الامر الى ان يقلد صدام شيوخ الخليج ،الذين لم يكونوا نماذج سياسية وتاريخية تقتدى، بلبس الغترة والعقال والدشداشة والعباءة بحيث تحول العراق الى بادية مقفرة . لم ينتبه بعثي واحد الى ان البعث يمعن في الرجوع الى الخلف بدل السير الى الامام. وما نشهده اليوم من تناقض بين العراق الجديد والمجتمع القديم هو نتاج المرحلة البعثية التي اندمج فيها البعثيون المثقفون والتكنوقراط في خدمة البادية والقرية.
اثر هذا الانتاج ،المعمر ثلاثين عاما، على المزيج الواضح اليوم بين طقس الريف وطقس المدينة، بحيث نرى السياسي منغمسا بهرس طعام الطقس الديني بدون ادنى وجل من التناقض بين مهمة رجل الدولة ومهمة الرجل العادي الذي يقوم بهرس طعام الطقس. كان المعبد السومري ثم المعبد البابلي يقوم بمهمات متخصصة لايخلط فيها الكاهن مهمته مع خدم المعبد،ولايخلط فيها الملك-الاله بين مهمة الزواج المقدس ومهمة خادم الطقس.
غدا الحلقة الثانية (البعثيون والماضي: مراجعة الوهم)
* المراجع في نهاية الحلقات
#نبيل_ياسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟