أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - تجمع اليسار الماركسي في سورية - جدل - العددالسادس - تشرين الأول2009















المزيد.....



جدل - العددالسادس - تشرين الأول2009


تجمع اليسار الماركسي في سورية

الحوار المتمدن-العدد: 2806 - 2009 / 10 / 21 - 02:21
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


جدل
مجلة فكرية- ثقافية-سياسية
تصدر عن(تجمع اليسار الماركسي في سوريا)تيم
العددالسادس - تشرين الأول2009
افتتاحية العدد

الاشتراكية الماركسية والمهمات الديمقراطية
مع تغير الأساس الاجتماعي للاقتصاد السياسي وصيرورته علماً للبروليتاريا وتغير موقف البورجوازية من هذا العلم بعد ظهور الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبورجوازية، وميل البورجوازية إلى تصفية الاقتصاد السياسي كعلم والاستعاضة عنه بالتبريرية والاتجاه الذاتي والاقتصاد السطحي والتاريخي ، وانقسام الاقتصاد السياسي إلى ماركسي وبورجوازي. بات من المشروع الحديث عن الطبقة العاملة وبرنامجها الديمقراطي كطبقة قومية حقاً وديمقراطية حقاً. بالتالي بات لزاماً على البروليتاريا رفع المهمات الديمقراطية والقومية إلى مستوى العمل الاشتراكي.
إن تطوير البورجوازية للعلوم الاقتصادية التطبيقية والعلوم المساعدة من مثل القياس الاقتصادي ، والمحاسبة الاجتماعية ، وبحث العمليات، والبرمجة ، والسايبرنية، الخ.. ما هي إلا حاجات مهنية تطبيقية لحسن عمل "العقلانية" التقنية للإمبريالية الرأسمالية. وبالرغم من أهمية هذه العلوم في حقولها الخاصة، إلا أنها تشير إلى تفكك العقلانية البورجوازية إلى جانبيها الاجتماعي والاقتصادي في عصرها الاحتكاري . لقد غدت البورجوازية تحصر اهتمامها بالتقنية المدرة للربح ومتطلباتها فحسب ، دون الاهتمام بالبشر جميعاً وبحاجاتهم المادية والمعنوية وبمستقبل وجودهم.
يؤدي تفكك العقلانية البورجوازية "كعقلانية ما كروية" كلية، واقتصارها على الجانب الاقتصادي المحض والتقني تحديداً إلى إغفال هذه العقلانيات البؤرية لمشكلة الاستغلال والتفاوت في الثروة والفقر . وهي تشير أيضاً إلى البعد بين الرأسمالية الاحتكارية كدولة إمبريالية ورأس مال احتكاري في المركز وكبورجوازية كولونيالية تابعة في أطراف النظام الرأسمالي وبين المهمات التاريخية الديمقراطية كمسألة كانت من قبل ، مع صعود البورجوازية في أوربا في وحدة عضوية مع العمل البورجوازي، .
إن اشتغال "العقلانية التقنية" في سياق رأسمالي احتكاري لا عقلاني تحولها إلى قوة هدامة بدلاً من أن تكون قوة منتجة وبناءة . بهذا المعنى تكون الإمبريالية هي : " عهد الرأسمال المالي والاحتكارات التي تحمل في كل مكان النزعة إلى السيطرة ، لا إلى الحرية ونتائج هذه النزعة هي الرجعية على طول الخط في ظل جميع النظم السياسية .. يشتد بوجه خاص الظلم القومي والميل إلى الإلحاق، أي الاعتداء على الاستقلال الوطني " .. وحيث يضع المتخلفون نصب أعينهم ذلك الهدف الذي كانت ترى فيه الأمم الأوربية فيما مضى الهدف الأسمى ، أي إنشاء دولة قومية موحدة باعتبارها وسيلة للحرية الاقتصادية والثقافية ، تهدد هذه الحركة الطامحة إلى الاستقلال الرأسمال الاحتكاري في أهم ميادين الاستثمار التي تبشر بـ أزهى الآمال ؛ ولا يستطيع الرأسمال الاحتكاري الاحتفاظ بسيطرته إلا بزيادة قواته العسكرية بصورة دائمة . وهذا يعني أن من طبيعة رأس المال الاحتكاري العسكرة والإمبريالية بحيث ، يتضمن قانون رأس المال المالي، كلاً من الإمبريالية والعسكرة. وبهذا المعنى، فإن العسكرة لا تقل عن رأس المال المالي، في كونها ظاهرة تاريخية نموذجية " .
إضافة إلى ما سبق فإن رشوة الطبقة الحاكمة للطبقات الهامشية في البلدان المركزية كي تبقى هادئة " لا بد لها لتغدو أمراً ممكناً ، من الوجهة الاقتصادية، من أرباح فاحشة، احتكارية " . ونحن نتحدث عن الرشوة للطبقات الهامشية في مراكز النظام الرأسمالي لأن طبيعة هذا النظام عالمية منذ ولادته؛ " فالرأسمالية ، كنظام اقتصادي، لم تكن قط، مقصورة على دولة واحدة ، فقد ولدت ، وترعرعت، وازدهرت كجزء من نظام عالمي. وقد ذهب كارل ماركس إلى أن "الوظيفة المحددة للمجتمع البورجوازي ، هي إقامة سوق عالمية، بهيكلها العريض على الأقل، وبخلق إنتاج قاعدته هذه السوق العالمية "... وهكذا فإن أبعاد الدفاع عن "العالم الحر" تصبح عالمية". . "إن مالك السلعة يتحقق جيداً من أن الجنسية ليست سوى خاتم الجنيه. والفكرة السامية التي ينحل فيها العالم، بالنسبة إليه ، هي فكرة السوق – السوق العالمية "
لقد بدأت الآن شعوب أوربا تستشعر أن حصتها من الثروة العالمية قد بدأت بالتآكل بفعل اعتماد السياسات الليبرالية الجديدة اعتباراً من بداية ثمانينات القرن العشرين ، وظهرت المسألة بأوضح ما تكون مع انتهاء الحرب الباردة وتفكك الدولة السوفييتية. إن عصر الرخاء والرفاه في أوربا في أفول ، ومعه عصر سيادة بلدان ما سمي بالعالم الثالث ، ومن هنا سوف نشهد نضالات شعبية واجتماعية أوسع في أوربا ، ونضالات قومية واجتماعية في البلدان الطرفية للنظام الرأسمالي .
إن انفصال الليبرالية البورجوازية عن المهام الديمقراطية قضية نظرية محورية وحاسمة وذلك اعتباراً من كمونة باريس 1871 ، خاصة مع ظهور الاحتكار والإمبريالية والنزعة العسكرية والكولونيالية الاقتصادية والاستعمار في الرأسمالية أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ومع تحول الدولة القومية الأوربية من دولة بورجوازية ديمقراطية معادية للإقطاع والمقدس والأيديولوجية الدينية الظلامية إلى دولة إمبريالية استعمارية عبر تحالفها مع الطبقات البائدة والرجعية في المراكز (ألمانيا وإيطاليا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر) وعبر تحالفها ودعمها للطبقات المحافظة والرجعية في الأطراف الرأسمالية وتشجيعها للعصبويّة الدينية والطائفية والاثنية . فبعد أن كانت البورجوازية توحّد ديمقراطياً باتت تفتت وتمزق وتخلع أطرافها . أي باتت بورجوازية الأطراف ذات السمات الإقطاعية عاجزة عن إنجاز المهمات الديمقراطية التي أنجزتها البورجوازية الصاعدة في أوربا بين القرنيين السادس عشر والتاسع عشر . وقد تأكدت هذه النزعات مع الإمبريالية الراهنة "المعولمة". لهذا نرى أن الوريث الشرعي التاريخي لـ البرنامج الديمقراطي للبورجوازية الصاعدة، الأعوام: 1500-1870 هي البروليتاريا كطبقة عالمية وكبرنامج سياسي واجتماعي- اقتصادي ، وكبرنامج ديمقراطي وقومي. وهي وراثة أولية ومنهجية، يتوجب العمل لنقلها من الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل عبر رفعها إلى مستوى العمل الاشتراكي- الديمقراطي.
لقد غدا العمل الاشتراكي الماركسي والمهمات الديمقراطية في وحدة عضوية في عصر الرأسمالية الاحتكارية . أي أن هذه المهام الديمقراطية هي مهمة الطبقة العاملة وبرنامجها الديمقراطي، أي مهمة الطبقة العاملة وتحالفها الشعبي، خاصة في أطراف النظام الرأسمالي. حيث أن قيادة البورجوازية الليبرالية العائلية ذات الأصول الإقطاعية للمهام الديمقراطية أو قيادة البورجوازية "القومية" لهذه المهام لم تؤد إلى حلها أو دفعها خطوات جدية إلى الأمام . وأعطت هذه القيادة الحرب ضد الصهيونية والإمبريالية صفة التراخي وعدم الحزم ، وأدت هذه المواجهة إلى اصطفا فات اجتماعية داخلية أكثر تفجراً واضطراباً . كما أدت إلى الاستبداد السياسي وإلى العصبويّة السياسية وإلى الإفقار الاقتصادي.
- راجع أوسكار لانغه: الاقتصاد السياسي القضايا العامة" تعريب وتقديم: د. محمد سلمان حسن ط1 1967 ط4 1982
2- راجع لينين: الإمبريالية ، ترجمة دار التقدم من دون تاريخ
3 - راجع بوخارين: الإمبريالية والاقتصاد العالمي" ترجمة رجاء أحمد ، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي ط1 1990
4 - لينين : الإمبريالية – مرجع سابق
5 - ماجدوف: الإمبريالية من عصر الاستعمار حتى اليوم" مؤسسة البحاث العربية 1981 ، ايضاً راجع رسالة ماركس إلى انجلز 8 تشرين الأول /أكتوبر 1858 .
6- ماركس "إسهام في نقد الاقتصاد السياسي " ترجمة أنطون حمصي وزارة الثقافة دمشق 1970 ص 177 . يقتبس ماركس هنا من مونتاناري في كتابه حول النقد 1683 الكلام التالي حول السوق العالمية : "تبلغ العلاقات بين كل الشعوب من الانتشار على كل الكرة الأرضية ما يمكننا،تقريباً، من أن نقول معه أن العالم أجمع قد أصبح مدينة واحدة يقوم فيها معرض دائم لكل السلع ويستطيع كل إنسان فيها أن يتمون بكل ما تنتجه الأرض والحيوانات والعمل الإنساني وأن يستمتع به بواسطة المال ، ودون أن يغادر مدينته . إنه لاختراع عجيب " [ هامش 1 من ص 199 ]. انتهى كلام منتا ناري
مراجع الافتتاحية
1- أوسكار لانغه: الاقتصاد السياسي القضايا العامة
2- لينين : الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية –وصف مبسط-
3- بوخارين : الإمبريالية والاقتصاد العالمي
4- ماجدوف: الإمبريالية من عصر الاستعمار إلى اليوم
5- ماركس: إسهام في نقد الاقتصاد السياسي
6- مراسلات ماركس، انجلز ، ترجمة د. فؤاد أيوب ، منشورات دار دمشق 1976

هيئة التحرير






المقالات





















1- نجيب رومية: "قراءة أولية في الفلسفة الوضعية"
2- د. غريغوار مرشو: " مساءلات حول الحداثة السياسية العربية "
3- نايف سلّوم: " الفلسفة في مواجهة العصر الذري! نقد ميتافيزيقا هايدغر"
4- محمد سيد رصاص:"كوريدور الماركسية-الليبرالية"
5- فراس يونس: " حول مفهوم الحزب الشيوعي "
6- يرفند أبراهميان: "القوى السياسية في الثورة الإيرانية "







قراءة أولية في الفلسفة الوضعية

نجيب روميّة
الفلسفة هي المفهوم العام للطبيعة والإنسان. وهذا المفهوم العام ليس "ترفاً ثقافياً" وليس "إضافة" يسعى إليها الإنسان أو يرفض السعي إليها وفق مشيئته بل هو وظيفة حتمية في عملية وعي الإنسان للعالم المادي. ومعنى ذلك أن كل إنسان لا بد أن تكون له فلسفة ما، سواء أراد ذلك أو لم يرد، وسواء شعر بذلك أو لم يشعر، وسواء كانت فلسفته هذه مادية علمية تطابق الواقع أو مثالية تضيف إلى الواقع إضافات غيبية غريبة. فالوعي ليس سلبياً. والواقع لا ينعكس انعكاساً مباشراً ومن تلقاء نفسه في وعينا، كما ينعكس المؤثر الضوئي على لوحة التصوير. ولكن الوعي فعّال يصوغ لنفسه المعاني العامة الإنسانية في صراع الأفكار. وصراع الأفكار هذا يرتبط بصراع الطبقات في المجتمعات ذات الطبقات المتطاحنة. فالفلسفة ليست علم العلوم كما كان يقال من قبل، ولا هي "التحليل اللغوي المنطقي" كما يقول الوضعيون، ولا هي كذلك "صورة العالم" كما يرى البعض خطأ. ومعنى ذلك أنّ واجب الكفاح ضد دعاة الفلسفات المعادية لمصالح الشعب يحتّم علينا أن نشنّ حرباً لا هوادة فيها ضد دعاة "اللامبالاة الفلسفية" كالوضعيين الذين يتسترون بإنكارهم للفلسفة على أخبث الفلسفات الكامنة في وعيهم. فهؤلاء الذين ينكرون الفلسفة كمفهوم عام للطبيعة والإنسان، يعملون بذلك على أن يتركوا الجماهير المثقفة وغير المثقفة نهب فلسفات الهزيمة؛ ذلك لأن هذا المفهوم العام يتخلل تفكير العالم في معمله، تماماً كما يتخلل تفكير رجل الشارع، وليس هناك قطّ ما يمكن تسميته باللافلسفة.
وهذه الحقيقة واضحة فيما يخص إدراك الظواهر الاجتماعية كظاهرة الفقر والغنى مثلاً: فالمادي الجدلي يدرك بمنهجه العلمي الصحيح أن هذه الظاهرة ترتبط بشبكة هائلة من الظواهر الأخرى وعلى رأسها الإمبريالية الرأسمالية، وأنها نتاج حتمي للأساس الاقتصادي والوضع الطبقي في المجتمع، وأنه بالتالي يمكن ويجب أن تزول بالتحرر وبتغيير المجتمع وزوال علاقات الاستغلال. والغيبي يدرك هذه الظاهرة على أنها "قضاء محتوم" ليس للإنسان أن يعمل على تغييره. والوضعي ينظر إلى الفقر والغنى على أنهما "واقع اجتماعي كائن"- ندرسه من حيث "ما هو كائن" لا من حيث "ما يجب أن يكون" والمتأثر بالدعاية الأمريكية (البراغماتي) يرى أن هذه الظاهرة تتعلق بنشاط الفرد وتحايله ولباقته- فالناجح هو الذي يستطيع أن يصبح غنياً، والفاشل هو الذي يبقى فقيراً وهكذا...فلسفات لا حصر لها تندرج آخر الأمر تحت نوعين لا ثالث لهما: فلسفة ثورية تؤمن بالتغيّر والقدرة على التغيير هي الفلسفة المادية العلمية، وفلسفة رجعية تعرقل التغيّر وتعوق تعبئة الجماهير في اتجاه التغيير، هي الفلسفة المثالية. إلا أنه إذا كان من السهل أن نلمس هذه الحقيقة في مجال إدراك الظواهر الاجتماعية فلا زال الكثيرون، في مجال البحث العلمي الخاص يؤمنون بأسطورة "حياد" العلم وابتعاده عن الفلسفة...
ومع الاكتشافات العلمية الحديثة تنقسم النظريات العلمية بصفة عامة إلى قسمين يتحد كل قسم منها بالفلسفة التي يأخذ بها العالم عن وعي أو عن غير وعي. وهذا التقسيم بالطبع لا يعني وجود نوعين من العلم "مثلاً: علم بروليتاري توجهّه الماركسية وعلم بورجوازي توجهه المثالية. فمعنى انقسام النظريات العلمية وفقاً لانقسام الفلسفة هو ببساطة أن هناك فلسفة علمية توجه العالِم الوجهة العلمية الصحيحة وفلسفة غير علمية توجه العالِم وجهة خاطئة. ومعيار التفرقة بين الوجهتين هو التجارب العلمية نفسها-أي العلم الموضوعي- لا المقولات الفلسفية. وهذا هو الموقف الماركسي الصحيح من المشكلة.
يسمِّي العلماء الوضعيون منهجهم مبدأ التكميل، وبناء عليه لا ينظر إلى الجسيمات مثلاً كموضوعات في الخارج بل كيانات متفرقة تمدّنا بها أجهزة القياس كالميكروسكوب الإلكتروني. ويتكون "تصوّر" الجسيم من تكميل هذه البيانات بعضها البعض, والحال كذلك بالنسبة للطابع الموجي والطابع الجسيمي للضوء، فليس هناك "في الواقع" طابعان للضوء، بل هناك بيانات موجيّة وبيانات جسيمية تكمل بعضها بعضاً في النظرية العلمية!.
إن الفلاسفة الذين يصرفون الناس عن أي محاولة تهدف إلى تغيير المجتمع يبررون بذلك مصالح البورجوازية ومن أمثال هؤلاء الوضعيون وعلى رأسهم أوغست كونت الذي يعتبره الكثيرون "مصلحاً اجتماعياً" بينما هو في الواقع مقتنع تماماً بأن حكم البورجوازية أبدي، كما أن "علم الاجتماع" الذي وضعه يتجاهل القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج؛ الأمر الذي يدمغه بالفشل. ومن هؤلاء كذلك التلفيقيون وعلى رأسهم فكتور كوزان الذي كان الفيلسوف الرسمي للبورجوازية. وكوزان يرى أنّ المذاهب الفلسفية تتكوّن من "عناصر عقلية" كامنة في العقل البشري وأن دور الفيلسوف هو أن يكشف هذه العناصر الكامنة أو يستخرج العناصر التي كشفتها المذاهب الأخرى ليلفّق بعضها إلى بعض في مذهب واحد. ويعني ذلك أنّ الحقيقة لا تكمن في الواقع الخارجي المتحرك المترابط بل تكمن في عقل الفيلسوف وفي كتب أفلاطون وأرسطو وسواهما..ومثلها البرغسونية (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون) التي تصرف الإنسان عن الواقع الملموس وعن التأثير في العالم وعن الكفاح من أجل تغيير المجتمع، فالإنسان يجب أن يتفرغ إلى "دخيلة الأنا" وإلى حياته "الباطنية" وكلّ ما عدا ذلك ليس له أهمية كبيرة. وبهذه الطريقة يستطيع مستثمرو عمل غيرهم أن يناموا ملء جفونهم.
والوضعيّة هي فلسفة مثاليّة مقنّعة تبالغ في التضليل باسم العلم والتجارب العلمية والمعايير العلمية، بل يعلن أصحابها أنهم يهدفون إلى أمرين هما: أولاً إقامة العلوم على أسس متينة، وثانياً دحض كل الاتجاهات الميتافيزيقية!!.
وصاحب وضعيّة القرن التاسع عشر هو أوجست كونت وأكبر داعية لها، في حين كان دافيد هيوم رائداً للمذهب الوضعي الذي يقيم المعرفة على نطاق الخبرة الحسية, وما يجاوز الخبرة تستحيل معرفته أو لا معنى له لتنشأ بعد ذلك ما سمّي بالوضعية المنطقية.
قسم أوغست كونت تاريخ البشرية إلى ثلاث مراحل: المرحلة الدينية والمرحلة الميتافيزيقية ثم المرحلة العلمية أو الوضعية. وفي رأيه أن الإنسان الوضعي يجب ألا يهتم إلا بالعلوم التجريبية ونتائجها المكتسبة فعلاً، أما البحث في الوجود ككل أو في الطبيعة كوحدة، فهو أمر غير علمي، لأن العلم لا يبحث إلا في مجالات متفرقة من الواقع!
وعلى هذا الأساس ينكر نظرية لامارك في التطور لأنها تجعل من الواقع وحدة، ويرى ضرورة تفتيت الواقع باسم العلم وحلول العلوم (المتفرقة) محل الفلسفة. ومعنى ذلك أنّ أيّ حكم على تغّير الطبيعة أو صراع الأضداد فيها كقانون عام يكون تفكيراً ميتافيزيقياً!!.
وأوغست كونت مؤسس علم الاجتماع في فرنسا. وهو يرى أن المجتمع يقوم على أسس ثابتة، منها "الملكية" (الرأسمالية طبعاً), ومنها الدِّينْ. وأنّ الأسرة كأساس ثابت للمجتمع تقوم بتعليم النشء التضامن والطاعة في سبيل المحافظة على المجتمع القائم. وفي رأيه أن الإنسان يتطور ولكن في إطار المجتمع القائم على الملكية الرأسمالية والذي يتكامل كما يتكامل الجنين! ولذلك يتّجه النموّ الروحي بالعمال إلى تقديم الواجبات على الحقوق! وفي هذا تتكشّف لنا الروح "العلمية" المزعومة للوضعية والتي تستهدف أساساً حصر الفكر البشري "فيما هو كائن فعلاً" حتى لا ينتبه إلى قوانين التغيّر والتناقض.
ولا بد أن نشير هنا إلى وضعية القرن العشرين التي يطلق عليها الوضعيّة المنطقية، وهذه الوضعية أكثر تطوراً من سابقتها، كردّ فعل لتطور العلم والفلسفة المادية، وهي تدّعي أيضاً أنّ الفلسفة لا موضوع لها، وكلُّ وظيفتها هي تحليل العبارات والألفاظ التي يستعملها العالِم أو رجل الشارع, فالفيلسوف لا يقرّر حقائق عن العالم أو عن جزء منه، أي أنه لا يستطيع أن يستخرج من العلوم ومن التطبيق الاجتماعي الطويل قانوناً عاماً مثل قانون التغيّر أو اجتماع الأضداد- بينما تسمح الوضعية لنفسها أن تستخرج من العلوم قانوناً زائفاً هو أن كلّ القوانين العلمية قائمة على الترجيح لا على اليقين وأنه "كان يمكن منطقياً أن نجدها على عكس ذلك فنرى المعادن تنكمش بالحرارة وتتمدد بالبرودة" كما يرى زكي نجيب محمود في (خرافة الميتافيزيقا). فالوضعية تستهدف من إنكار الفلسفة (بحجة حصرها في تحليل الألفاظ) إنكار الفلسفة المادية التي تبين بطريقة علمية حتمية قوانين الطبيعة وتغيّر الطبيعة بطريقة جدلية. وادّعاء الوضعية بأن العالم يجب ألاّ يفكر إلا في حدود معمله، أمر غير علمي بالمرة، لأن العالم لا يستطيع أن ينظر إلى تجاربه العلمية إلا من خلال فلسفة ما (سواء كان يشعر بذلك أو لا يشعر) ومن هنا تؤدّي الوضعية في الحقيقة إلى حرمان العالم من المادية الجدلية بالذات لا من الفلسفة ويتضح من مبدأ (عدم التّحدد) لـ هايزنبرج أن العالم يمكن أن يخرج من التجربة العلمية نفسها بأكثر من مبدأ وفقاً لفلسفته التي قد لا يشعر بها.
وتحت شعار التحليل اللغوي والتمسّك بالخبرة المحسوسة تزعم الوضعية أن الإنسان لا يستطيع أن يحكم بوجود العالم أو عدم وجوده مستقلاً عن الإدراك، لماذا؟
"لأن حالة وجود الشيء مع عدم إدراكنا له هي بحكم التسمية لا تقع في خبرته) وبالتالي لا يجوز الكلام فيها". ومع ذلك استطاع العلم أن يحكم مثلاً بأنّ الكرة الأرضية كجزء من العالم كانت توجد قبل ظهور الإنسان بحوالي خمسة آلاف مليون سنة. ويتضح اتجاه الوضعية إلى تفتيت الواقع في نظرتها إلى الظواهر والمجموعات النوعية للأشياء. فالدولة كظاهرة هي بتعبيرهم شيء ميتافيزيقي لا وجود له، لأنني لا أستطيع أن أشير بيدي إلى شيء ما وأقول "هذه هي الدولة"!.
ولا شك أننا إذا نظرنا إلى الدولة على أنها فلان رئيس الوزراء وفلان الوزير وفلان المشرِّع وفلان القاضي وفلان مدير السجون وفلان مدير الإذاعة فإننا لن نستطيع أن نفهم كيف تكون الدولة جهازاً يمثّل مصالح طبقة معينة في الاقتصاد والفكر والتشريع. كذلك يرى الوضعيّون أن الشعب فرض ميتافيزيقي خرافي ولا يوجد في الواقع إلا زيد وعمرو من الناس...وبذلك تنتفي (العلاقات الواقعية) التي تربط بين زيد وعمرو في وحدة واحدة. والوضعيون يطالبون باسم الدقة العلمية ألا نقول مثلاً: إن فرنسا كانت تحتل سوريا. لماذا؟. لأن حقيقة الأمر هي أن فلان وفلان هم الذين كانوا يحتلون البقعة أ والبقعة ب والبقعة ج من الكرة الأرضية: ومن هنا تنتفي العلاقات التي تربط فلان وفلان وفلان في وحدة هي الجيش الفرنسي الذي يرتبط بعلاقات أخرى أيضاً في وحدة هي الدولة الفرنسية التي ترتبط بعلاقات أخرى أيضاً تجعلها ممثّلة لوحدة مترابطة هي الرأسمالية الاحتكارية الفرنسية، وتنتفي في الوقت نفسه العلاقات التي تربط أ، ب، ج بفلان وفلان من الناس السوريين في وحدة واحدة هي أرض سوريا وشعب سوريا..
فما أسعد الطبقات الرجعية المستغِلَّة بهذه الفلسفة التي تغمض أعين زيد وعمرو من الناس عن حقيقة وحدتهم كطبقة مقهورة إزاء عدوّهم كطبقة قاهرة وإزاء أجهزته كدولة!
إن هذا هو السبب في أن أمريكا معقل الوضعية باتجاهيها التجريبي والبراغماتي (كارناب وشليك وسوزان لانجر) وأن هذا هو السبب أيضاً في أن (أصدقاء) أمريكا هم أخلص المدافعين عنها في بلادنا..
-إن الرأسمالية المستمرة في خداع الجماهير والمثقفين بات من المستحيل أن تبرر الشكل الاجتماعي القائم وأن تدافع عنه، فصار كل همها عزلهم عن المادية الجدلية، أي الحيلولة دون توصلهم إلى الحل الاشتراكي العلمي للأزمة الاجتماعية.
- علاقة عدم التحدد: في لحظة معينة يستحيل أن يتحدّد موضع وسرعة الإلكترون في آن واحد إذ كلما ازداد تحدّد موضعه قلِّ تحدد سرعته وكلما ازداد تحدّد سرعته قلّ تحدد موضعه
2 - الاتجاه التجريبي: اتجاه ميتافيزيقي يتخفّى في قناع من المصطلحات المادية.
ويقول أصحاب هذا المذهب أن المعرفة يجب أن تنحصر في التجربة أو الخبرة، وهم يفهمون كلمة التجربة أو الخبرة في أضيق الحدود أي بمعنى التجربة الحسية أو (إدراك الموضوع من ظواهره المحسوسة). فالتجربة عند (راسل) والوضعيين مثلاُ ترفض تماماً القول بمادية العالم. لماذا؟ لأن حقيقة العالم هي ظواهره الحسية لا أكثر. فإذا كانت التجربة الحسية تعطيني إدراكات معيّنة عن المكتب القائم أمامي (مثل لونه وحجمه ووزنه ونوع خشبه)، فإنها لا يمكن أن تخبرني عمّا إذا كان هذا المكتب "مادة أو روحاً، حقيقة أو وهماً، شيئاً موجوداً في الخارج أو فكرة ذاتية". (زكي نجيب محمود في خرافة الميتافيزيقا)
ومن الواضح أن الفيلسوف الذي يتجاهل دور التطبيق الاجتماعي في آلاف السنين ليقول وهو يرتدي مسوح العلم (المحايد): "إنني لا أملك المعيار الذي أحكم به على الوجود بأنه حقيقة أو وهم يشكك بهذا القول نفسه في مادية العالم وواقعيته، وبالتالي في المنهج العلمي الذي يحدد لنا وجود العالم وتاريخه قبل ظهور الإنسان بل وقبل ظهور الخلية الحية بآلاف الملايين من السنين. ولهذا يقول لينين أن اللاأدري (الذي يقول لا أدري) مثالي مقنَّع.
ومثل هذا الفيلسوف يتخذ من الهجوم الزائف على المثالية والميتافيزيقيا وسيلة مضلّلَة للهجوم على المادية سلاح الطبقات الثورية.د
وتتضح لنا حقيقة التجريبية أيضاً إذا نظرنا إليها في علم التربية, فرأي علماء التربية التجريبيون هو أن الطفل يجب أن يتعلم كل شيء من الخبرة فقط. وعلى ذلك يكون دور المعلم هو أن يزوّد الطفل بالوقائع المادية دون أن يفرض عليه!! اتجاهات عقلية مثالية أو مادية لا تدخل في حدود هذه الوقائع!.. ومعنى ذلك أن يتركه في متاهة من الوقائع غير المرتبطة (ولما كان المجتمع بكافة أجهزته-صحافة وسينما وإذاعة- يقوم بإرضاع الطالب منذ نعومة أظفاره فلسفة مثالية فنحن نفهم من ذلك أنّ الغرض الأساسي هو حرمان النشء من تفهّم المادية).
أما الماركسيون فيؤمنون بأن العلم والتطبيق الاجتماعي الطويل قد أخرجا من هذه الوقائع وغيرها فلسفة مادية) هي وحدها التي تستطيع أن تجعل الطالب يتعمّق فهمها من أجل تغييرها أيضاً. فالطالب الذي يدرك بخبرته تشريح حيوان أو نبات ما، سيظل ناقص المعرفة ما لم يفهم أيضاً قوانين التغيّر وقوانين التناقض التي جعلته كذلك. ومن هنا يؤمن الماركسيون بضرورة (التدخل العقلي) للمدرس. ويلاحظ أنه يجب أن نفرق في اللغة العربية بين تجربي Empiriste وتجريبي Expermental . فالعالم الماركسي مثلاً لا بدّ أن يكون تجريبياً أي أن يعتمد على إجراء التجارب، ولكن لا يمكن أن يكون تجربيّاً. ولنتذكر أنّ بعض التجربيين يستغلون هذا الخلط في إخفاء حقيقة اتجاههم.
3 - البراغماتية: مذهب فلسفي يقيس صدق القضية بنتائجها العملية. فليس هناك معرفة أولية في العقل تُسْتَنْبط منها نتائج صحيحة، بغض النظر عن جانبها التطبيقي بل الأمر كله مرهون بنتائج التجربة الفعلية العملية التي تحل للإنسان مشكلاته. ولما كان تقدم العلم يغيّر من صدق القضايا، فالصالح في ظروف سابقة يصبح غير صالح في الظروف الراهنة، كان "الحق"َ أمراً نسبياً يقاس إلى زمن معيّن ومكان معيّن و مرحلة من التقدم العلمي معينة. وأعلام البراغماتية هم (بيرس-جيمس-ديوي).




















مساءلات حول الحداثة السياسية العربية
د. غريغوار مرشو
تندرج مقاربتنا للحداثة السياسية في الفكر العربي الحديث والمعاصر من خلال اعتبارها إشكالية، نظراً لما أثارته من جدالات وتفسيرات وتأويلات فاقمت في التباسها بدلاً من أن تمزق الأردية الأيديولوجية المحايثة لمختلف مستوياتها ومفاعيلها في الطرف المتلقي لها والمحتك بها تحت راية التثاقف. أقول ذلك لأن السجالات حولها لا تنفك تتناسل وتتعدد القراءات المذهبية، الأحادية البعد، في شأنها للنظر في كيفية صرفها في العالم العربي الإسلامي.
منها من رأت في الحداثة الوافدة منقذاً يخلِّصها من عصور الظلامية(1) ومنها من أقرت بها ولكن نددت بالجانب الاستعماري العسكري والسياسي الذي رافقها. ومنها من تعاملت معها على نحو اختزالي من خلال تفضيل حداثة دولة على دولة أخرى، أو تيار فكري على تيار آخر. ومنها من وجدت فيها، بعد (الاستقلالات الوطنية) وجوداً استعمارياً اقتصادياً. ومنها من توسمت فيها كل ذلك ماعدا استعمارها الثقافي(3). إلا أن بعضها انتظر أطروحات هنتغتون (صدام الحضارات) وأطروحات فوكاياما (نهاية التاريخ)- بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانفراط المنظومة الاشتراكية، ثم أحداث 11 أيلول 2001- حتى خلص إلى أن المعركة مع الآخر الغربي هي حرب حضارية بامتياز، أو صليبية.
بناءً على ما تقدم تتدافع في ذهننا جملة مساءلات تتعلق بكيفيات التعامل مع هذه الحداثة المستجلبة، والمفاهيم التي حكمتها، طريقة تسييد تجسداتها في آلة الدولة التحديثية، وأنماط إدراك رموزها وتوظيف مغازيها وموضوعاتها، وحقول اشتغالها بعد استيطانها، ثم التساؤل عن ماهية المستوى الشرعي لصياغة المعارف حين تم إقحامها في فضاء ثقافي أو اجتماعي تاريخي معين، وتبريرها، فيما بعد، في المتخيل ليصار إلى إكراه الناس الموسومين بـ (التقليديين) على الصمت، وذلك عبر اصطناع صورة (متخيلة) عن ذاتيتهم ليس في واقعهم المعيش بل هيكلة الدولة بما يتناسب مع تكريس ثقافة المنتصر على ثقافة المنكسر المستلب والمرغم على الرضوخ حتى استئصال ممانعته(4).
لاشك قد تكون الحداثة السياسية المستدخلة أفقاً ضرورياً يحطم أغلال الضيق لثقافة محلية ظلت محبوسة في تكرار فصمها عن عالم قد تغير، فتصبح الحداثة الوافدة، آنذاك، وسيلة لإدخال التنوع والنسبية. ولكنها في ظل علاقة غير متكافئة بين ثقافتين مختلفتين، تستحيل، بالنسبة إلى الثقافة الواقعة تحت الضغوط الخارجية(5) والتفكيك والتفتيت، إلى مجرد شعار أجوف.
وهنا لا تكون المثاقفة التحديثية المتمناة سوى عملية تبرير سطحية لصالح سياسة الثقافة المهيمنة، مادامت هذه الأخيرة تُتخذ مصدراً وحيداً للمعنى والقيمة. إلا أن، لتسويغ هذا المنحى استدعت كل الحجج الممكنة من قبل الحداثيين العرب، مفادها: تأخر السكان، جهلهم، فقدانهم الحس المدني، نزعتهم المحافظة الفطرية، تعصبهم العقدي (للدين أو للتقاليد) قبليتهم وجهويتهم. كل هذه المعطيات التوصيفية اعتبرت من هذه النخب (المستنيرة) خصائص ثابتة لكل مجتمع منحط إن لم نقل (شرقي).
لقد كان الهاجس الأساسي إذن لهذه النخب الحداثية هو اللحاق بأسرع السبل بالنظام الغربي لسد ثغرات التأخر المتراكم حيال أوربة التي نُظر إليها على أساس المخبر السحري القادر على علاج المسائل المطروحة عليها. بذلك لم يعد نقل الإشكاليات الغربية هذا إلى الوعي العربي مجرد الترسيمة لمكوِّنات أصول الفكر العربي الحديث المعاصر فحسب، وإنما المحدِّد شبه الكامل لرؤية هذه النخب للعالم. بموجب هذا التوجه سيصبح النموذج الغربي وبشكل دائم مستخدماً كمرجع لتقويم أو تبخيس كل المستويات وأشكال الوعي، الذي على أساسه سيتم الطمس أو الكشف عن وقائع الأشياء(6).
لذلك، لم يعد الحداثويون، الراغبون من دون توقف شرعنة المحاكاة والنظام القائم، يهدفون إلى إنجاز إمكانات فعل، أو تثمير إرث وإنما على العكس إقصاء كل ما يبدو لهم مدللاً على دونية ما. إلا أن تعويض هذه الدونية يعني الانفصال عن الحس المشترك للاصطفاف إلى جانب الدولة الحديثة. إن الصعوبة الكبرى التي اعترضت هؤلاء الناشطين تكمن في التناقض مابين إرادتهم في التطابق مع إلهام مُقبل من الخارج وهمهم في الانطلاق من الحس المشترك والحس السليم.
إن هذا الفُصام على الصعيد الفكري يحمل في طياته بذور تدمير بنى النظام التقليدي. ولقد جاءت القيم الجديدة المُستدخلة عنوة لتزلزل وجود النظام السابق وشروطه ونظم إنتاجه، من دون أن تنتج بالمقابل تغيراً متوائماً على مستوى العلاقات الاجتماعية ودون أن تنجب ميداناً مناسباً للخلق والإبداع المحليين، هذا فضلاً عن غياب العدالة والحرية. وهو السبب الذي جعل حركات المعارضة، للنخب الحداثوية في السلطة، تنخرط مضطرة في أحزاب سرية وبعضها نما خارج الأحزاب والبنى السياسية الثقافية الحديثة لاستنادها، في الغالب، إلى القبلية والطائفية والاثنية، أو اعتمادها على حركات خلاصية أو دينية. كل هذه المؤشرات تشي بقوة عن تذمر جماعي، لكنها صُنفت بالبربرية ضد الحضارة من قبل النخب التي تستأثر بمقاليد السلطة. وهذا سيظل يجري مادام هناك نظام سلطوي من شأنه أن يصادر قبلياً كل شيء غير مُفكر فيه، ومكبوت وغير مُعلن عنه، ويسد ويحظر ويُعيق المعرفة لدى الناس.
كما أن هذا الفصام سيمتد مادام ثمة شبكة معقدة وكثيفة من قنوات النقل الثقافي الحديث، ويُعمم مادامت الحاجة إلى تدجين وترويض العصاة تستشري على شكل تبعية دائمة(6).
إذا كان الخطاب الحداثوي في موضع آخر يردد صدى الخطاب الوافد ولم ولن يكف عن إسقاط إخفاقات الحداثة على السكان بذريعة أنهم بقية من بقايا الثقافة الموسومة بالتقليدية، فهذا يعني أنه لم يحاول وضع هذه الحداثة موضع المساءلة. وكذلك إن التعلق المبالغ فيه بأشكال التماهي التقليدي والمعيش على نحو واقعي ما هو إلا رد فعل يتناسب طرداً مع ما تؤول إليه الأمور من فقدان الذات نسبياً. وهو يُشير بمعنى من المعاني إلى البحث عن الهوية تجاه غياب الأجوبة المتوائمة التي تمكن من التكيف مع التغيرات الاجتماعية التاريخية التي تعيشها المجتمعات في طريق النمو بشكل مأساوي.
وعلى عكس ما يسانده الداعون إلى العقلانية والعلموية، فإن كيفية استدخال هذه الحداثة ذاتها، هي التي تُلغِّم الأسس الأخلاقية والمادية للمجتمع العربي. وليس استمرار البنى التقليدية الموصوفة بالبدائية واللاعقلانية، وهذا يعود بالدقة إلى القرن التاسع عشر حين أرسيت معالم التحديث من قبل السلطة المركزية العثمانية عبوراً بفريق محمد علي باشا حتى اليوم.
ابتداءً من هذا العصر، لم تكف كل هذه النخب، ولن تكف عن نسج الحجج التي تسوغ الفشل المتعاقب للحداثة المتمناة على غرار نموذج الحداثة الغربية. فتارة يعزى الفشل إلى التشبث بالتقاليد الموصوفة باللاعقلانية والمعادية للعلم، وطوراً يعزى إلى الدين بالذات وعلى الأخص إلى الإسلام بذريعة أن هذا الأخير من طبيعته يميل إلى الخلط الدائم مابين الزمني والإلهي أو يعزى إلى عبادة الكلمة وبلاغتها وإلى غياب الروح التاريخية، وبالنهاية إلى الصدمة النفسية الناجمة عن الهجمة الغربية حسب البعض. هذه المسوِّغات شجعت أنصار الثورة الشاملة على الإعلان بأن التحديث ليس ممكناً إلا إذا تخلى العرب عن ماضيهم وعن بحثهم عن هوية وهمية، وقبلوا بمعانقة الحداثة الكونية بصورة نهائية.
إن هذا السجال الدائم والمكرِّس للتنافر مابين العقل واللاعقل، وما بين العقلاني واللاعقلاني لا يعمل، في الواقع، إلا على التسويف من أجل تفادي، لا بل تأخير، المراجعة الضرورية الجذرية لكل هذا الفائض من الأفكار الجاهزة، بحيث صار بقدر ما يستمر التمذهب العقدي لهذه الأفكار بقدر ما تتعمق القطيعة مابين النظرية والممارسة، وما بين الواقع والوعي حتى اختزلت العقلانية نتيجة هذه الكيفية إلى مجرد خطاب عقيم يبرر الأفعال اللاعقلانية للحداثويين. وهذا لأن المعرفة التي يتصرف فيها مجتمع معين ما، ليس بمقدورها أن تكون ثمرة مجرد تفكير مجاني وإنما ثمرة نضال مستمر حيث تتعارض فيه القوى الاجتماعية المتطلعة إلى بناء نوع من الإجماع من أجل أن تسيطر على زمنها على نحو أفضل وتتحمل هي بالذات مسؤولياتها بما يساعدها على تفتح حساسياتها الإنسانية في فضاء حر وعادل.
لعل هذا ما يفسر اليوم ضمن هذه المعطيات التماهي الوطني يجري أكثر مع مكوِّنات المجتمع الأهلي بدلاً من الدولة، لكون هذه الأخيرة برزت بالأحرى، كأداة للقسر والقمع. بحيث صار في كل مكان تُطرح مسالة الهوية، يعود الوعي العربي إلى الماضي لينهل منه الإلهام والسند. لذلك باتت الدولة ليس محجوبة الثقة عنها فحسب، وإنما مرفوضة بلا توقف، لأنها أبعد من أن تكون مرجعاً وسنداً للوحدة، لا بل أفرزت ولا تزال هي ذاتها مسبِّبات لتُفاقم التوتر على مستوى الحياة والوعي وتمزق المجتمع واحتمالات الانفجار.
إن (الدولة الوطنية) التي تُريد لنفسها أن تكون حداثية قوية، لا تتغذى هنا على فلسفة عقلانية منتجة، وإنما على العكس تعيش من تعميم مشاعر الخوف والإحباط إلى حد بات المجتمع الأهلي رهين السلاح الغذائي الذي تُشهره سياسة المركز، والدولة العصرية مشغولة في الأطراف، باستقدام المحاسيب إلى طرفها للاستثراء وتعزيز سلطتها من جهة، ثم تضخيم أجهزتها الأمنية لصالح توسيع وتسليط آلات الرقابة والعقاب على المجتمع من جهة أخرى(7).
إذن، إن الطلاق من جهة مابين المجتمع التقليدي القائم على جماعة المعتقد والدولة المفروضة كأداة غريبة وقامعة من جهة أخرى، هو الذي سبب تفكيك علاقات السلطات والشرعية والسيادة وحال بذلك دون تأسيس لأي إجماع اجتماعي مدني يستطيع أن يحدث صدى، بنوع من الأنواع، مناظراً للدولة الوطنية الغربية، وهي النموذج المقلِّد بلا جدوى.
ففي سياق كهذا من الفصام بين الدولة والمجتمع سوف لا تكف السياسة عن مفاقمته بفعل العنف المعلن أو الناعم. وسوف يكون هذا الأخير من الآن فصاعداً مصدراً وحيداً للسلطة. ثم سوف تتلاقى الدولة والجامع والكنيسة. لكن ستظهر بالمقابل لها فئات جديدة تزعم الهيمنة في "مملكة الحقيقة" تحت رايات إيديولوجية مختلفة، بعضها من اليسار وبعضها الآخر من اليمين، الأول تحت راية (العلمية) والثاني تحت راية (الحاكمية لله)(8).
ضمن هذا السياق تتحول بسهولة الكونية الإنسانية والقومية- الليبرالية أو الاشتراكية- إلى عقائد مصنَّمة لا تخدم إلا بإسدال ستار مكثف على الصراعات من أجل السلطة، أو من أجل مصالح أقل كبراً: المركنتيلية (الاتجارية) الوحشية. والانقلابات التي ستخرج عنها لا تهتم بأي مثال. وهي أقرب ما تكون مصممة على إحياء الذكريات لانعتاق عابر. فسوف تجتهد للتأكيد على أنها السلطة الوحيدة التي تملك المشروعية، وهذه الأخيرة ليست شيئاً آخر إلا العنف. لأن جوهر السلطة في غالب الأحيان هو العداوة (المسماة النجاح) والإخضاع، والتخويف (المسمى الانضباط). بذلك يتحول التقديس إلى سلسلة من الإجراءات، والمعرفة إلى مجموعة من الوصفات، والحكومة إلى نظام من التهديد الدائم والاختلال بالتوازن، الإيديولوجيات الموسومة بالفلسفية أو العلمية إلى مجموعة من المنطوقات المكرورة المرهبة، والأخلاق إلى سور من المحظورات، والعلم إلى مجرد سلعة مُصنَّمة. المسار الذي يجعل ثروات البلاد والبشر أكثر عرضة للاستباحة من القوى الخارجية وأكثر قابليةً من ذي قبل لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ.
فالسؤال اليوم هل السلطات العربية الحاكمة "التحديثية" والنخبة العاملة في ظلها، المستأثرة بمقاليد البلاد والعباد تريد تأبيد مقدور الحديث القائل « كما تكونون يولى عليكم » لا بالقول «كما يُولى علينا» - بالوكالة والاستقواء بالخارج واستضعاف الداخل- يُراد أن نكون؟
الحواشي
(1) كما جاء في أطروحات الليبيراليين العلمانيين في القرن التاسع عشر.
(2) كما ورد في خطاب الإسلاميين الإصلاحيين من نفس الفترة.
(3) كما رشح عند القوميين العرب اليساريين.
(4) راجع مؤلفنا "الفصام في الفكر العربي المعاصر" ، دار الفكر، دمشق 2008 من ص19 إلى 35.
(5) المرجع نفسه، ص35- 49.
(6) المرجع نفسه، الفصل الثاني.
(7) المرجع نفسه، الفصل السابع.
(8) المرجع نفسه.


























الفلسفة في مواجهة العصر الذري!
نقد ميتافيزيقا هايدغر
نايف سلّوم

أن تجعلك قراءة مقالة لهايدغر تعلق حاشية فهذا أمر حسن. وفي اعتقادي أن مرد هذا الأمر يعود إلى النبر الذي انتاب الفكر الأوربي كاستجابة لانحطاط الطبقة البورجوازية في أوربا انحطاطاً ذو رجع عالمي . هذا الانحطاط وذاك النبر جعل مفكرين أوربيين ينشغلون بالاستراتيجيات اللغوية للقول الفلسفي بشكل أساسي وهو تقليد بدء مع نيتشه.
المقالة ؛ مقالة هايدغر بعنوان: ما الفلسفة؟
نبدأ بهذا القول لهايدغر: "لنتأمل لحظة ما يعنيه القول بأن عصراً من عصور التاريخ يتميز بكونه "عصراً ذرياً": إن الطاقة الذرية التي اكتشفتها العلوم وأطلقتها من عقالها قد تمثلت ، كأنما هي القوة التي يجب أن تحدد مجرى التاريخ. والحق أن العلوم لا تكون إلا إذا تقدمتها الفلسفة، وقادتها . لكن الفلسفة هي "الفيلوسوفيا" . وهذه الكلمة اليونانية تربط حديثنا بتراث تاريخي"
لنتأمل هذا القول: إنه نقد أولي للتقنوية ، أي لفكرة مفادها : أن "التقنية" هي التي تقرر في آخر الأمر مجرى التاريخ؟! هذا أولاً ، وثانياً قول إيجابي وتقرير من هيدغر مفاده أن الفلسفة هي التي تقود القوة التقنية ، وبالتالي كاستنتاج ساذج : يعنى ذلك أن الفلسفة هي التي تحدد مجرى التاريخ كونها تقوده ، وثالثاً ، قول كهذا القول الذي بات ساذجاً يستفزنا لنقتبس عبارة من ماركس في الأيديولوجية الألمانية ، وكأن هايدغر قد حشر نفسه بين الأشخاص - وبطريقة راجعة- الذين حق عليهم نقد ماركس بقوله: "نقد الفلسفة الألمانية الأحدث في أشخاص ممثليها فيورباخ، وبرونو بوير، وشترنر" وأنا أضيف ومارتن هايدغر! وهو ماركس يرد مباشرة على هايدغر بخصوص فكرة قيادة الفلسفة لمجرى الأحداث التاريخية، بالتالي القادة هم الفلاسفة: يقول ماركس في الأيديولوجية الألمانية في فقرة شطبت من المخطوطة ومثبتة في الهامش ص20 : "ليس هناك فوارق نوعية تفصل المثالية الألمانية عن أيديولوجية جميع الشعوب الأخرى. فهذه الأيديولوجية ترى هي الأخرى أن العالم تسوده الأفكار ، وأن الأفكار والمفاهيم هي المبادئ المقررة ، وأن الأفكار المقررة هي لغز العالم المادي الذي هو في متناول الفلاسفة"
الصحيح في قول هايدغر هو تقريره الصائب بأن الطاقة الذرية التي اكتشفتها العلوم هي قوة إنتاج أو قوة تدمير حسب علاقة الإنتاج التي تعمل هذه القوة في كنفها ، لكن ليست هي ما يقرر مجرى التاريخ . أما قوله الآخر من أن الفلسفة هي التي تقود العلوم ، وبالتالي الفلاسفة هم قادة العالم هو قول "أيديولوجي" أي قول زائف ومضلل. لكن هذا الزيف يؤشر إلى أمر آخر يقود العلوم ويضع قوة الطاقة الذرية في سياق أكبر وأعظم وأكثر تعقيداً ؛ أي يضع القنبلة الذرية في سياق مجتمع مدني بورجوازي ؛ أي في سياق سيطرة الطبقة البورجوازية الإمبريالية كطبقة قائدة وموجهة لاكتشافات العلم وشكل توجهه واستخداماته في صراعها مع خصومها وفي سعيها لتأبيد سيطرتها الطبقية في المجتمع المدني. ولكن ما المجتمع المدني؟
"إن شكل التعامل المعين بالقوى الإنتاجية الموجودة في جميع المراحل التاريخية السابقة، والمعين بدوره لهذه المراحل ، هو المجتمع المدني .. إن المجتمع المدني يشتمل على مجمل علاقات الأفراد المادية ضمن مرحلة معينة لتطور القوى الإنتاجية ."
إن الذي يُعيّن المراحل التاريخية هو المجتمع المدني كعلاقات إنتاج (شكل تعامل ) أو علاقات ملكية محددة تدخل في تناغم أو تصارع مع درجة معينة لتطور القوى الإنتاجية لعصر بعينه. فأشكال وأساليب الإنتاج القائمة في مرحلة معينة والمعينة بشكل الملكية المسيطر هي التي تحدد المراحل التاريخية من إقطاعية، ورأسمالية الخ.. إذاً القوى الإنتاجية ومنها التقنية وفق درجة تطورها تعمل ضمن نظام اجتماعي معين بعلاقات الإنتاج وتحت سيطرة شكل محدد من الملكية الخاصة. هذا النظام وشكل الملكية المسيطر هو الذي يعين شكل استخدام التقنية وأشكال التقنية وتوجيهها المرغوب . إن إلحاح سؤال التقنية على الفلاسفة الأوربيين فترة بين الحربين العالميتين يشير في أحد معانيه إلى أن التقنية ومنها النووية في استخداماتها المدمرة والمرعبة قد وضعت على جدول الأعمال بقاء النظام الرأسمالي وحياته وموته على مستوى علاقته بتطور قوى الإنتاج العالمية.
إن هايدغر الذي استعاض عن مقولة النظام الاجتماعي لعصر تاريخي بمقولة الفلسفة وقيادتها، جعلته هذه الاستعاضة وهذا الاستبدال يربط حديثه عن الفلسفة بـ التراث اليوناني وبأصل كلمة فيلوسوفيا. إنه حنين الغرب لفجر تفلسفه، ونكوس عند هايدغر نحو الماضي علّه يجد تفسيراً لضياع التناغم عند البورجوازي الأوربي؛ ضياع التناغم بين علاقات إنتاج رأسمالية وقوة تقنية ذرية! . فأنت تعرف موت التناغم إذا استطعت معرفة شكل ولادته . إن التشقق الذي حصل في عصر هايدغر بفعل صعود الظاهرة الفاشية في الإمبريالية الرأسمالية بين الحربين العالميتين؛ في أوربا (ألمانيا، إيطاليا) جعل هايدغر يدخل في حوار أو حديث كما تشاؤون مع تفكير اليونان كأصل للتفلسف الغربي عموماً . يقول هايدغر: "كلمة فيلوسوفيا تبدو كما لو كانت مكتوبة على شهادة ميلاد الحقبة المعاصرة من تاريخ العالم (تاريخ أوربا)، وهي تلك التي تسمى بـ "العصر الذري" " ص 55 . هل هذا مديح أم ذم لهذا الأصل بخصوص موضوع السؤال ، وكيفية السؤال ؟ هل يريد هايدغر أن يوجه اللوم لطريقة السؤال اليونانية بخصوص نتيجة هذا الطريق من التفكير وما آل إليه من "العصر الذري"؟ . لسان حاله يقول : الطريقة التي بها نسأل ، والتي تفضي إلى جواب يفسر الموجود ويجعله طاقة مرعبة في يدنا هي طريقة يونانية وهذه الطريقة في التفسير وصلت إلى مأزق تاريخي مميت . وسنبين فساد هذا الاستنتاج لاحقاً .
لكن كيف يقارب هايدغر طريقة السؤال اليونانية؟ إنه يبدأ : إننا نسأل ما هذا؟ فنلقى جواب : إنها شجرة ؛ ما هذا الذي هناك على البعيد؟ الجواب يتضمن أننا أطلقنا اسماً على شيء لم نتعرفه تعرفاً دقيقاً. جاء في سورة البقرة : "وعلّم آدم الأسماء كلها .."[ 2/31] .. إن علم آدم بالأسماء كلها يأتي جواباً على سؤال : ما هذا؟ "تي إستن" باليونانية. لكن إذا تقدمنا في السؤال واقتربنا من الموجود أكثر، نكون في حضرة الـ "تي استن" اليونانية بحيث نسأل : "ما هي الشجرة؟" ؛ إنه ذلك الضرب من التساؤل الذي كشف عنه سقراط وأفلاطون، وأرسطو . إن التقدم نحو الموجود والاقتراب منه في السؤال أكثر بدأ مع سقراط بشكل سلبي وتبلور مع أفلاطون وأرسطو بشكله الإيجابي . هذه المسافة من سؤال "ما هذا الموجود هناك ؟" إلى سؤال " ما هو هذا الموجود هنا ؟" هو الانتقال من الحدس والعرافة بالأشياء إلى معرفة ماهية الأشياء؛ "قال يا آدم أَنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم اقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" [2/33 ]. إن سؤال : ما هذا؟ يشير إلى اهتمامنا بالأشياء من جهة ما هو حسي ؛ مرئي؛ أو فيزيائي . أما سؤال ما هو؟ فيقود إلى طريق معرفة جواهر الأشياء يقول الفارابي في كتاب الحروف: "ذلك أنا إذا قلنا "ما هذا المرئي" فإنا نعتقد في كل شيء نحسه .. إنما نسأل عن القصد الأول عن الشيء الذي ندرك فيه بالبصر هذه الأشياء أو أحدها .. فإن كان هكذا أي محمل على طريق "ما هو" فليس بمحسوس ولا الذي يحسه يخطر بباله في الذي حس به أنه كذلك.. والقدماء يسمون الموضوع الأخير وكلياته المحمولة عليه من طريق ما هو "الجوهر " على الإطلاق.." ويضيف الفارابي" "حرف "ما" الذي يستعمل في السؤال ، فإنه وما قام مقامه في سائر الألسنة إنما وضع أولاً للدلالة على السؤال عن شيء ما مفرد " . وباعتبار الألف ليس حرفاً في العربية لأن الصوت فيه يخرج من دون أن يحدّ أو يقطّع في طريق خروجه و الألف يسري في مخارج الحروف كلها سريان الواحد في مراتب الأعداد كلها ، لهذا فهو قيّوم الحروف ، لأن أعيان الحروف تقوم به . والألف لا يتقيد بمرتبة ويخفي عينَه أعينُ اسمه في جميع المراتب فيكون الاسم هناك للباء والجيم والحاء الخ.. والمعنى للألف " لهذا كانت الميم (م) في العربية هي حرف السؤال. والميم هو النموذج الأول للنبوة خصوصا محمد ... وهو الاسم (حجاب الاسم) الذي به يدعو المؤمنون الله . الميم تحجب العلم عن عامة الجمهور لا عن خاصته ، الميم شأنها شأن صيغة العلم التي تدعو الفكرة للعقل دون أن تتدخل في فهمها . نقول إن الميم هي "حاجز" يجب اجتيازه لأنها تحجب المعنى"
ما يركز عليه هايدغر هو إبلاغنا بوجود مرحلتين في السؤال اليوناني ، الأولى "لم تكن تبحث في الأسئلة التي ذكرناها تواً عن تحديد أدق لما هي الطبيعة، ولما هي الحركة ، ولما هو الجمال " هذه المرحلة هي السؤال "ما هذا؟" سؤال عام وكلي ، سؤال عن أسماء الأشياء للتعرف الحَدْسيّ عليها من دون معرفة أو علم بماهيتها . المرحلة الثانية هي سؤال الماهية ؛ ما هو؟ ما هي الطبيعة؟ ما هي الحركة؟ الخ.. وعلى كل و كما يقول هايدغر: "فقد تحددت الماهية خلال عصور الفلسفة المختلفة تحديداً متبايناً : فلسفة أفلاطون مثلاً إن هي إلا تفسير خاص لما يعنيه الـ "تي" (ما) ، إنه يعني بالضبط الـ "أيديا" [الفكرة، المثال، الصورة] بحيث يكون من الأمور الواضحة بذاتها ، والتي لا جدال فيها أن نعني المثال ونقصده حينما نسأل عن الـ "تي" . ويقدم أرسطو تفسيراً للـ "تي" يختلف عن تفسير أفلاطون .. هو الإنيرجيا [القُدْرة] . ويقدم كانط تفسيراً ثالثاً ، وهيغل تفسيراً رابعاً ، والذي هو موضوع السؤال في كل مرة ، إذا أخذنا الـ "ما" دليلاً ومفتاحاً ، يظل باستمرار في حاجة إلى التحديد من جديد " إذن لدينا سلسلة تاريخية من التفسيرات أو الأجوبة على سؤال "ما" أو "تي" ؛ لدينا طريق يغتني بالمحتوى التاريخي ، هو حركة محتوى المعرفة المتقدمة بالتاريخ والتي هي حركة المعرفة العلمية. والتاريخية سمتها الأصيلة ، وهي المغتنية بهذا التاريخ. أما هايدغر فله مقصد آخر من هذا العرض . يريد أن يوضح به أن هذا الطريق هو تنويعة من التفاسير على سؤال هو يوناني في أصله ، كذلك الذي يجمع هيغل مع كانت وأفلاطون وأرسطو هو أنهم جميعا من أصحاب التفاسير المقدمة تجاه "ما" [تي]؛ بكلام آخر، هم أصحاب الإجابة ؛ لم يكتفوا بالسؤال ما هذا؟، بل توغلوا للإجابة على سؤال الماهية ؛ سؤال : ما هي طبيعة هذا الموجود؟ إن هايدغر يشيد بسؤال ما هذا؟ الذي يعتبره "سؤالاً يونانياً في أصله." ص 56 .
يقول هايدغر :[ السؤال : "ما الفلسفة؟... سؤال تاريخي ؛ بمعنى أنه سؤال مصيري، بل هو السؤال التاريخي لوجودنا الغربي الأوربي"]. إذن هايدغر يستشعر خطراً يهدد أوربا أو وجود الغرب الأوربي ، وأصل هذا الخطر من وجهة نظره ، هو أن إنجاز الغرب العلمي والتقني يأتي تتويجاً للطريق الذي بدأه اليونان اعتباراً من سقراط ! ألا يشبه هذا الوهم وهم الخطيئة الأصلية التي وقع بها آدم وورثتها البشرية ! بكلام آخر ، أليس هذا الطرح لاهوتاً متجدداً متستراً بسؤال الفلسفة!؟
مسألة أخرى: إن التمييز في السؤال اليوناني الأصلي بين "ما هذا؟ " من جهة وبين "ما هو؟" من الجهة الأخرى هو تقسيم للفلسفة اليونانية إلى مرحلتين حاسمتين على هذا المستوى ؛ المرحلة الأولى تشمل الفلاسفة قبل سقراط ؛ وهم "أعظم الفلاسفة" لأنه لم يكن هناك بعد فلسفة بل فلاسفة عظماء ، كان هناك سؤال ما هذا؟ كانت هناك الدهشة العظيمة الغامضة ، كان هناك الحدس بالموجود ، لم يكن التفسير قد ولد بعد ، كان الجواب عن ماهية الوجود في عالم القوة ، كان اللوغوس مندمجاً بالصوت البشري ، وهذا أقرب ما يكون إلى فكرة هيغل العامة Notion ؛ يكتب هايدغر نشوان بهذه اللحظة "الطبيعية": "إن اللغة اليونانية ليست مجرد لغة كاللغات الأوربية المعروفة لنا؛ فاللغة اليونانية واللغة وحدها هي "لوغوس".. إن ما يقال عادة في اللغة اليونانية يكون في نفس الوقت، وبطريقة متميزة ، هو ما سماه القول باسمه . فإذا سمعنا كلمة يونانية فإننا لنتبع نطقها بحضورها المباشر . وهذا الذي يحضر هو الواقع أمامنا .. بالكلمة اليونانية المسموعة نكون في حضرة الموجود نفسه الواقع أمامنا مباشرة، لا في حضرة معناها وحده " ص 58 . و هذه مسيحية متجددة، هذه الكلمة هي المسيح عيسى ، فالموجود حاضر من خلال الصوت والمعنى : عيسى كجسد والمسيح كمعنى (الكلمة صوت ومعنى!). "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب" [3/59] "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه.." [2/37] لقد خطف صوت اللغة اليونانية جسد الأشياء التي يدل عليها ؛ لقد استولى عليها . فالفعل الإنكليزي appropriate: يستولي على ، يأخذ من غير إذن ؛ ينتحل " . إن صوت اللغة اليونانية حسب هايدغر ينتحل جسد الموجودات ، يستولي عليها. ولكن أليس "مصادفة" طريفة أن نرى الياس مرقص يستخدم هذا الفعل الإنكليزي بدلاً من كلمة science كي يتغلب على التقنوية وعلى النزعة الوضعية في الفلسفة الماركسية ، أي ، ألا يذهب بهما هذا الاستبدال إلى الغنوصية المسيحية مباشرة وإلى اللوغوس اليوناني ما قبل سقراط ؛ اللوغوس كحدس فلسفي غامض ومختلط "إن اللفظ اليوناني "غنوسيس" يعني "معرفة" . فمبدؤها أن العِرفان الحق ليس العلم بواسطة المعاني المجردة والاستدلال كالفلسفة ، وإنما هو العِرفان الحدسي التجريبي[الخبرة] الحاصل عن اتحاد العارف بالمعروف. وأما غايتها فهي الوصول إلى عرفان الله .. بكل ما في النفس من قوة حدس وعاطفة وخيال " . إن هايدغر بحديثه الذاهل عن اللغة اليونانية يحولها من لغة اعتباطية تواضعية (اتفاقية) إلى لغة لا هوتية ، تستطيع متى تشاء الاستيلاء على جسد الموجودات، وتستطيع بالتالي في أي لحظة انتحال جسدية الموجودات أو الأشياء . ونريد أن نشكر فوكو هنا لأنه فرق في تسمية كتابه بين الكلمات والأشياء!
يقول هايدغر ممجداً الفيلسوف العظيم ما قبل السقراطي : "الكلمة اليونانية "فيلوسوفيا"" ترجع إلى كلمة "فيلوسوفوس" (محب الكلمة) وهذه الكلمة هي ، في الأصل ، صفة مثل كلمة فيلارجوروس ؛ (محب الفضة) ، وكلمة فيلوتيموس (محب الشرف)" . وأغلب الظن أن هرقليطس هو أول من صاغ الكلمة "فيلوسوفوس" . وهذا يدل على أن كلمة "فيلوسوفيا" عند هرقليطس لم توجد بعد . .. ذلك أن الصفة اليونانية "فيلوسوفوس" تعبر عن شيء مختلف تماماً عن الصفة "فلسفي " . الأنيروفيلوسوفوس (الإنسان الفيلسوف) هو من يحب "السوفون" (الحكمة) والفعل اليوناني "فيلين" يحب ، يعني هنا بالنسبة لهرقليطس ، يتحدث بالطريقة التي يتحدث بها "اللوغوس" ؛ أي يكون مطابقاً للوغوس . وهذه المطابقة تكون في اتفاق مع السوفون والاتفاق هو الهرمونيا (الانسجام ) .. وهذه الهرمونيا هي الخاصية المميزة للحب بمعناه عند هرقليطس " ص 59 وهو ذاته الحب المسيحي في المسيحية المبكرة والمقتبسة عن فيلون الاسكندري المتأثر بالفلاسفة اليونان . الفلسفة بالمعنى المجرد عن شخص الفيلسوف ؛ الفلسفة كفكرة موضوعية لم توجد بعد إلا مع أفلاطون . هايدغر يفتقد في أوربا الغربية بين الحربين هذا الانسجام وهذه الهرمونيا ، مما يولد لديه حنيناً رومانسياً نحو الحب الهيراقليطي أو الحب المسيحي المبكر! لكن ألا يظهر هذا حماقة فلسفية إذا ما قورنت بجهود نيتشه أستاذ هايدغر ومثله الأفلاطوني . يكتب نيتشه: "لكن أين نقع على مثال لشعب مريض استطاعت الفلسفة أن ترد له عافيته المفقودة ؟ وإذا كان للفلسفة يوماً ما دور في الحماية والخلاص ، فإن هذا الدور قد برز بالنسبة لشعوب متعافية ، لقد ضاعفت الفلسفة دائماً من سوء حالة الشعوب المريضة. فإذا ما تفتت شعب ما وتراخت العلاقات التي كانت تشد أفراده بعضهم إلى بعض ، فإن الفلسفة لم تجده نفعاً في إعادة لحمة أفراد هذا الشعب وشدهم إلى مجموع أفراد الأمة. وكلما سعى فرد ما إلى الاكتفاء الذاتي ، كانت الفلسفة جاهزة دائماً لمضاعفة عزلته ولتحطيمه داخل هذه العزلة . إن الفلسفة لخطيرة حين لا تكون مالكة لجميع حقوقها ، وهذه الشرعية لا تمنحها إياها إلا عافية الشعب ، ولكن ليس مطلق شعب " بهذه الكلمات يشير نيتشه إلى مرض الشعب الألماني الذي توج بالفاشية الألمانية ، ويكون نيتشه عبر جنونه 1888 هو سقراط ألمانيا الذي زادت الفلسفة من عزلته وحطمته ؛ نيتشه الذي كان ضحية مرض الشعب الألماني وضحية اكتفائه الذاتي وعزلته الفلسفية ؛ تحسس ألام الشعب الألماني في بواكير ها. ونكون قد استطعنا تلمس سر عودته إلى ما قبل الفلسفة ؛ أي إلى مرحلة الفيلسوف العظيم . يقول : "بعد هذه الملاحظات ، لا عجب أن أتناول الفلاسفة السابقين لأفلاطون ، وكأنهم مجتمع منسجم ، وأن أسعى لأن أكرس لهم مجمل هذا الكتاب . إن أفلاطون يمثل بداية جديدة كلياً .. إن شيئاً جوهرياً ينقص لدى الفلاسفة منذ أفلاطون ... سنكون أكثر عدلاً وموضوعية لو اعتبرنا هؤلاء الأخيرين فلاسفة هجناء والأول النماذج الصافية " . إن مثل هايدغر كمثل نيتشه يبحث عن التناغم والصفاء والبساطة بعد أن مزقت الإمبريالية الرأسمالية المجتمع الألماني، ومجتمعات أوربا الغربية، وهيأت القوى المتعادلة بين البروليتاريا من جهة والبورجوازية الإمبريالية الألمانية من الجهة الثانية لظهور وباء الفاشية (النازية) هذا التمزق المأساوي للكل الألماني والأمة الألمانية بفعل الفاشية هي ما يدفع هايدغر للنكوس إلى هيراقليط باحثاً عن الـ "هن بانتا" . يقول : "السوفون (الحكمة) .. على ضوء تفسير هراقليطس نفسه .. تعني "هن بانتا" "الواحد (هو) الكل" وكل تعني هنا "بانتا أو أونتا" كل الموجودات أي الكل، أي كل ما هو موجود . و "هن" تعني الواحد ، الوحيد الموحد للكل. لكن كل الموجود واحد في الوجود ، فالسوفون يقول [الحكمة تقول] : الموجود كله في الوجود. بعبارة أخرى نقول: إن الوجود هو الموجود . وهنا كلمة "هو " متعدية تعني التقريب "التجميع".. إنه اللوغوس" 59-60 . وحتى نزيل اللبس في كلمة وجود علينا تفحصها بالعربية : "وجد المطلوب: .. وجداً ووجوداً ووجداناً: أدركه .. والوجد: الغنى، .. وأوجده أغناه .. وأوجده بعد ضعف قوّاه...ووجد عن عدم .. فهو موجود ، ولا يقال وجده الله تعالى، وإنما يقال: أوجده الله تعالى " : أغناه ؛ أغنى الموجود ولم يخلقه من العدم ؛ أغناه بأن أناره وكشفه للإدراك والوعي.
هيدغر يحن إلى اللوغوس اليوناني ؛ إلى الكلمة اليونانية فكرة أفلاطون ، وقدرة أرسطو ، يحن إلى الكلمة المسيحية حيث "الواحد (هو) الكل" . أي يحن إلى أحادية الصوت بعد أن مزق العصر الإمبريالي هذه الوحدة هذا التناغم بين الصوت والموجود ، بين الوجود والموجودات . يقول هيدغر: "على أن تفكيرنا المعاصر لم يعثر بعد بوضوح على طريقه الفريد المميز. . نغمات للتفكير متعددة . الشك واليأس من ناحية ، ومن ناحية أخرى اعتناق أعمى لمبادئ غير ممحصة ، يصارع بعضها بعضاً . الخوف والقلق اختلطا بالأمل والثقة ." 71
نهاية القسم الأول
الهوامش
- ما الفلسفة؟ وهي منشورة بين مجموعة مقالات لمارتن هايدغر عام 1974 عن دار الثقافة ، القاهرة ، ترجمة فؤاد كامل ، ومحمود رجب ، راجعها على الأصل الألماني وقدم لها عبد الرحمن بدوي . المقالة موضوع قراءتنا من ترجمة د. محمود رجب
2- ما الفلسفة؟ ص 55
3- كارل ماركس، فريدريك انجلز: "الإيديولوجية الألمانية " ، ترجمة الدكتور فؤاد أيوب ، دار دمشق للطباعة والنشر ، 1976 . ص 20
4- الإيديولوجية الألمانية- مرجع سابق ، ص 45
5 - أبو نصر الفارابي: "كتاب الحروف" حققه وقدم له وعلّق عليه محسن مهدي ؛ أستاذ الدراسات العربية بجامعة هارفارد . الناشر: دار المشرق ، بيروت، توزيع المكتبة الشرقية بيروت. الطبعة الثانية 1990 ص 180-181
6- كتاب الحروف، مرجع سبق ذكره ، ص 165
7 - رسائل الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي ، الجزء الأول ، طبعة أولى 1998 ، دار المدى للثقافة والنشر ، طبعة خاصة 2001 ص 52-53
8- راجع كتاب: "شخصيات قلقة في الإسلام " تأليف وترجمة عبد الرحمن بدوي، الناشر : سينا للنشر الطبعة الثالثة 1995 . ص 67-68
9 - المورد 2007 ، ص 57
10 - الياس مرقص: المذهب الجدلي والمذهب الوضعي، الطبعة الأولى 1991 ، دار p ص 21-22
11- يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية، طبعة رابعة ، 1958 لجنة الترجمة والتأليف والنشر ، القاهرة ص 244
12 - ميشيل فوكو: الكلمات والأشياء، مركز الإنماء القومي 1989-1990
13 - 30 قبل الميلاد إلى 50 بعده: هو أكبر ممثل للفكر اليهودي المثقف باليونانية في ذلك العصر ، وقد كان بين اليهودية والوثنية تفاعل . يوسف كرم، مرجع سبق ذكره : ص 247
14 - فريدريك نيتشه: الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي ، تعريب الدكتور سهيل القش ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى 1981 . ص 43
15- المحيط ص 324
16 - يقول ابن عربي: "الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه " ص 41 الجزء الأول من الفتح المكي. يعلق المحقق بالقول: ""عن عدم" : الأشياء موجدة عن عدم لا من عدم . ففي الحالة الأولى ، إيجادها هو انتقالها من طور الكمون (وهو الوجود بالقوة ، ويسميه ابن عربي الوجود العلمي) إلى طور الظهور (وهو الوجود العيني أو الوجود بالفعل). أما في الحالة الثانية (وهو الإيجاد من عدم ) فهو تصور غير صحيح عقلاً، لأنه يفضي إلى نفي المبدأ الموجد نفسه. " وعدمه" : أي عدم العدم، وهو الوجود الغيبي في حضرة العلم الإلهي ، الذي هو "العين الثابتة" لكل موجود بالفعل. " ص 41 هامش ن. س . يلتبس الوجود بالقوة عند المحقق بالوجود العلمي، حيث للوجود الباطني نوعان: وجود قوة، ووجود علمي.
















كوريدور الماركسية- الليبرالية
محمد سيد رصاص
يفصل عقد من السنين بين"البيان الشيوعي" 1848 وكتاب جون ستيوارت ميل: "في الحرية" 1859، المعلنان ولادة الماركسية والليبرالية، بعد مسار حمل مشترك، بدأ من عقلانية ديكارت وتجريبية جون لوك الحسية وصولاً إلى أفكار عصر الأنوار الفرنسي والاقتصاد السياسي لآدم سميث،ليحصل افتراق الجنينين،غير التوأمين،بين محطتي فلسفة هيجل وفلسفة أوغست كونت الوضعية، التي كانت- أي الأخيرة- الحاضنة الفلسفية لأفكار(ميل) الاقتصادية-الاجتماعية- السياسية.
لقد أتى العديد من قادة الحركة الماركسية من مواقع ليبرالية، مثل فرانز مهرنغ، الذي كان مع روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت، من مؤسسي (عصبة سبارتاكوس)عام 1918، التي شكَلت نواة الحزب الشيوعي الألماني، بعد أن كتب (مهرينغ) ألمع سيرة لكارل ماركس، فيما ذهب الكثير من الماركسيين إلى نقطة وسط مع الليبرالية، كما فعل إدوارد برنشتين في عام 1898 لما أسس (التيار الاشتراكي الديمقراطي)، ليظل ماركسياً رغم ذلك وبالرغم من اتهامات روزا لوكسمبورغ ولينين له بـ "التحريفية" . بالمقابل، وجد الكثير من مفكري الليبرالية السياسيين والاقتصاديين، مثل جوزيف شومبيتر وجون كينز، أنفسهم في حالة انجذاب وتأثر واستعارة من الماركسية.
ظل هذا الكوريدور قائماً بين الماركسية والليبرالية، رغم وجودهما على ضفتي المواجهة في الحرب الباردة، حتى أتى ليوشتراوس (1899-1973)، فيلسوف المحافظين الجدد، الذي استطاع ، من خلال جلب تراث فلسفة أفلاطون السياسية في مواجهة مكيافللي، وفلسفة إدموند بيرك الناقدة لأفكار الثورة الفرنسية، أن يفصل بين الليبرالية المعاصرة وبين الفلسفة الوضعية وكل تراث ديكارت وهوبز وجون لوك وعصر الأنوار، مستبدلاً ذلك بمزج أفكار( ميل) الاقتصادية-الاجتماعية-السياسية مع نزعة ناقدة للحداثة الغربية، جلبها من عند نيتشه وهايدغر.
كان تأثير فلسفة شتراوس السياسية،عبر منبره الأكاديمي في جامعة شيكاغو، كبيراً ومتنامياً، وبدأت مفاعيله السياسية بالظهور منذ عام 1964 مع حملة المرشح اليميني الجمهوري باري غولد ووتر الذي كان منافساً قوياً للرئيس جونسون بالانتخابات، حيث كان كاتب خطبه هو(هاري جافا)، أحد تلاميذ شتراوس، ثم ليظهر ذلك بقوة في إدارة ريغان، عبر المنظِر الاقتصادي ميلتون فريدمان الذي أراد هدم كل الليبرالية الكينزية لصالح ليبرالية جديدة اتجهت نحو نزع كل تدخلية الدولة الاقتصادية التي بدأت مع سياسة (نيوديل)عند الرئيس روزفلت بالثلاثينيات، وتتوجت بإصلاحات الرئيسين كينيدي وجونسون الاقتصادية والاجتماعية وفي مجال الحقوق المدنية.
كانت أفكار فريدمان مؤثرة ونافذة عند مارغريت تاتشر والمستشار الألماني هيلموت كول أيضاً. في هذا الإطار، كان عهد كلينتون ميداناً- وفاصلاً قصيراً- للمجابهة بين ليبرالية مستمدة من كينز وبين تلك المستمدة من شتراوس: كان انتصار بوش الابن تكريساً لانتصار الأخيرة في الفكر والسياسة، ويبدو أن فقدان المنافس الدولي الموازي، بعد انزياح السوفييت، قد جعل كل مقيدات الداخل الأميركي، والساحة الدولية، منزاحة عند الواصلين الجدد إلى البيت الأبيض في أوائل الألفية الثالثة، حيث أصبحت (الشتراوسية) مقرِرة للأفكار والسياسات، من خلال تلاميذ شتراوس، مثل بول وولفوفيتز، نائب وزير الدفاع، وأبرام شولسكي رئيس مكتب الخطط الخاصة في البنتاغون، وريتشارد بيرل رئيس مجلس تخطيط سياسات الدفاع في البنتاغون، وكلهم تروتسكيون سابقون، مَثلهم مثل منظر المحافظين الجدد الحالي، ويليام كريستول، حيث قام ليو شتراوس بنقلهم من أحضان ليون تروتسكي ونزعته التغييرية اليسارية الجذرية إلى شيء مشابه باليمين.
يمكن القول، عبر انتصار(الشتراوسية) وهيمنتها على الفكر الليبرالي المعاصر وهو شيء لا يشمل فقط الغرب الأميركي وإنما يمتد إلى نماذج مثل بيرلسكوني وساركوزي، أن ذلك الكوريدور بين الليبرالية والماركسية قد أُغلق وانسدت منافذه، بعد قرن ونصف من التفاعل والتبادل والتأثير والصراع.
الآن في الغرب، يذهب الشيوعي المتحوِل، مثل ماسيمو داليما زعيم حزب اليسار الديمقراطي في ايطاليا، نحو موقع إدوارد برنشتين كموقع وسط بين ماركس وميل‘ فيما يذهب الحزب الغريم، أي حزب إعادة التأسيس الشيوعي، إلى موقع ماركس بدون لينين، فيما نجد عندنا، عربياً، كيف يذهب العديد من التلاميذ السابقين لستالين وسوسلوف وخالد بكداش (و ياسين الحافظ ؟..) وأيضاً بعض الشيوعيين الذين اختلفوا سياسياً وتنظيمياً وليس فكرياً مع السوفيات وبكداش إلى موقع المراهنة على النزعة "التغييرية الديمقراطية" للمشروع الأميركي في مرحلة ما بعد غزو العراق: هل هم في موقع الناقل للنزعة التغييرية من اليسار إلى اليمين ،مثل تروتسكييّ المحافظين الجدد السابقين،أم أنهم يستمرون في وظيفيتهم السابقة، أي البحث عن دور سياسي محلي من خلال الارتباط والمراهنة على قوة دولة عظمى، من دون أي تأسيس معرفي يذكر لاتجاههم السياسي؟!..































حول مفهوم الحزب الشيوعي
فراس يونس
لن أتناول في هذه الورقة مسألة الحزب السياسي كمؤسسة نوعية من جملة المؤسسات التي أنتجتها الحداثة البورجوازية، حيث كانت ترمي الأخيرة إلى تنظيم إراداتها وإرادات قوى المجتمع وعقلنة توجهاتها المتضاربة ومطابقة أهدافها مع تطور مصالحها الاقتصادية وإدماجها في سيرورتها التطورية وحمايتها من أعدائها الداخليين والخارجيين وفق استخدام معقد لآليات الدولة ومؤسساتها الهيمنية والقمعية على حد سواء.
سوف أتناول بالنقاش موضوعة الحزب الشيوعي في وضعيته الأكثر نضجاً وتبلوراً عبر مساهمات الحزب البلشفي الروسي مع القدر الزائد من الاحتياط في تبيان الأسباب والسياقات التاريخية على أهميتها والتي لعبت في كثير من المنعطفات أدواراً حاسمة في توجيه بوصلة الحزب ورسم توجهاته.
لقد كان كراس "ما العمل" الوثيقة التأسيسية لحزب سياسي لعموم روسيا على قاعدة نظرية وسياسية وتنظيمية جديدة للطبقة العاملة، وإذا ما أردنا تبيان الفارق النوعي بين هذا الحزب وسواه من الأحزاب البورجوازية فإن الطبيعة التجاوزية -التي امتلأ بها حزب البلاشفة- هي التي تميزه ؛ تجاوزاً للبنية الاجتماعية والاقتصادية على أساس قراءة اللوحة التاريخية والطبقية للمجتمع الروسي وتحديد القوى المؤهلة لإنجاز مشروع الثورة والتجاوز الموضوعي لتلك البنية في حل المشكلات التاريخية التي تثقل كاهل المجتمع الروسي وعلى رأسها طبقة السلطة السياسية الاستبدادية القيصرية خلاف الأحزاب البورجوازية والبورجوازية الصغيرة التي كانت تروم إلى إدارة الأزمات الاجتماعية في تحسين مواقعها وتوحيد صفوفها وضمان سلامة البناء الاجتماعي والسياسي الإمبراطوري.
يجب الإشارة إلى أن البلاشفة لم يكونوا لوحدهم بطبقتهم الثورية والتجاوزية بل يمكن القول أن ثمة تعددية حزبية سياسية تنشد التعبير عن مصالح البروليتاريا والشعب الروسي مع وجود الاختلافات العميقة في تشخيص المرحلة التاريخية والرهانات السياسية وطبيعة المهام وأولوياتها.
إلا أن ما يميز البلاشفة وحزبهم السياسي هو ابتكارهم للهيكلية التنظيمية السياسية ومدى مواءمتها وصلابة بنيتها في وجه الحملات القمعية القيصرية ومطواعية البنية التنظيمية في انتقالها من الطور السري إلى العلني أو بالعكس. وبطبيعة الحال فإن الحزب البلشفي كان نتاجاً عضوياً للبنية الروسية بكل عطالتها وقسوتها، نتاجاً للشرط الاجتماعي الاقتصادي نصف الإقطاعي ونصف الرأسمالي مع بدايات تبلور الطبقة العاملة
وبطبيعة الحال فإن الحزب البلشفي كان نتاجاً عضوياً للبنية الروسية بكل عطالتها وقسوتها، نتاجاً للشرط الاجتماعي الاقتصادي نصف الإقطاعي ونصف الرأسمالي مع بدايات تبلور الطبقة العاملة في إطارات سياسية في خضم إرهاصات الكفاح الشعبي الروسي وإخفاقاته في القرن التاسع عشر.
كان حزب البلاشفة تتويجاً لمشروع توحيد المجموعات الاشتراكية-الديمقراطية على قاعدة الحوار حول قضايا الثورة والتنظيم..كان الإقرار بوجود التمايزات والحدود شرطاً لا غنى عنه لتحقيق وحدة القوى وهو ما عبر عنه لينين بقوله: "قبل أن نتحد ولكيما نتحد، ينبغي أن نحدد التخوم فيما بيننا بحزم ووضوح".
وفي اعتقادي لا يمكن التقليل من أهمية تلك اللحظة الديمقراطية في التاريخ السياسي للإنتلجنتسيا الروسية ومسعاها الواثق لتوحيد صفوفها وأهدافها، إلا أن المحطات السياسية الساخنة التي مرت بها روسيا قد جعلت الحوار في مراحل لاحقة أسلوباً لتعميق التمايز والانفصال بادئ ذي بدء ثم الميل لإقصاء المعارضين داخل الحزب البلشفي وضربهم ، وهو ما كان راجحاً فيما بعد في تقرير العلاقات السياسية مع الأحزاب الاشتراكية والمجموعات المناهضة للقيصرية.
بطبيعة الحال لم يكن الخلاف على قضايا تنظيمية بل على مسائل سياسية إستراتيجية الطابع وهو ما تبدّى جلياً في تقييم ثورة 1905-1907 والقوى المشاركة فيها وطبيعة تلك الثورة (ما إذا كانت بورجوازية أو اشتراكية) والطبقة القائدة لها..لقد كانت هذه المواقف المتعارضة أساس الشروخ اللاحقة التي اتسمت بها مجمل تيارات الحركة الاشتراكية والشيوعية العالمية لاحقاً.
لا بد من العودة إلى الوراء، إلى كتاب ما العمل؛ يخطئ من يعتقد أن هذا الكتاب هو كتاب في التنظيم. إنه كتاب سياسي بامتياز وعلى قاعة معرفية اتسم بها فكر القادة الاشتراكيين الروس.
إن مفهوم النخبة-الطليعة، ودزينة المحترفين الثوريين كان نواة المفهوم والتصور اللينيني للحزب، وهي المؤهلة وحدها دون غيرها بفعل معارفها ومزاياها الكفاحية للتعبير عن مصالح البروليتاريا الروسية..لقد انبنى مفهوم النخبة على واحدة من أهم أسس التراث المعرفي والسياسي لماركس؛ أقصد: اعتبار البروليتاريا طبقة خلاصية و قائدة لقلب بنية المجتمع وتغييره، وما دام الأمر كذلك فإن البروليتاريا في متون كراس ما العمل طبقة خام تعتمل بها صنوف العفوية والارتجال والأداء التريدنيوني /النقابي/ وما على الطليعة الواعية إلا نقل أفكارها إلى قلعة البروليتاريا المحضة وإنضاج أفقها السياسي وجرها إلى ساحة النضال. صحيح أن البروليتاريا تنتمي إلى مجال الصناعة والتكنولوجيا، لكنها لم تكن معزولة التأثير والتأثر عن المجتمع وتفاعلاته، وأن تكون طبقة المستقبل لا يمنحها صفة الخلاصية وتضخيم الرهانات بشأن كفاحيتها وقيادتها للتحولات الاجتماعية. لقد كانت النظرية والسياسة تشق مجراها ببنية هذا التنظيم وتؤول مع كل نصر تحرزه إلى احتكار وثيق للمعرفة –باعتبارها المالك الحصري للحقيقة العلمية- وللممارسة السياسية "الصائبة" في ظل سرية العمل التنظيمي والسياسي، الذي ولد غياباً قسرياً لآليات النقد والمكاشفة والتجدد بحيث تحول الحزب البلشفي حال إمساكه بناصية السلطة السياسية إلى نواة الدولة الاشتراكية الوليدة، لقد كان هذا الانتصار هزيمة بالمعنى التاريخي في انسياق الحزب للتحول إلى بنية جهازية-احتكارية، وساهم في إقصاء الأحزاب السياسية في مرحلة شيوعية الحرب وإلغاء التكتلات التنظيمية في المؤتمر العاشر للحزب البلشفي توطئة لمرحلة تاريخية اتسمت بحكم النومانكلاتور(رأس البيروقراطية السوفييتية) ا الحزبية –الدولتية وتعميق احتكارها للسياسة والمجتمع والمستقبل جنباً إلى جنب مع تعميق الشروخ الاجتماعية بين القوى الاجتماعية التي قامت بالثورة تحت قصف مدفعي من التزييف الأيديولوجي الذي كان يوحي على الدوام بإلغاء التمايزات الاجتماعية ووحدة المجتمع الداخلية. لقد تبنى البلاشفة ما كان ماركس وإنجلز قد رفضاه دفعة واحدة: النمط السياسي السوسيولوجي الذي أصبح فيما بعد نقطة مشتركة لماركسية الأممية الثانية والثالثة: نمط التوافق التناظري، بين طوبوغرافيا للطبقات الاجتماعية وطوبوغرافيا للأحزاب السياسية ينسب إلى كل طبقة تمثيلاً أو تعبيراً سياسياً من الدائرة السياسية بشكل حزب بل إنهما لم يقبلا علاوة على ذلك ببديل هذا النمط الذي يجعل من الدولة أو من آلة الدولة حزباً وحيداً للبورجوازية ينقسم عند الضرورة إلى تيارات ثانوية*
من الحزب الشيوعي إلى شيوعية الجهاز
لقد انعكست الثقافة الروسية بطابعها اللا ديمقراطي بالإضافة إلى فقدان خيرة كوادر الحزب في فترة الحرب الأهلية على بنية الحزب المعرفية والسياسية. وساهم الحزب مع تقديرنا للتحولات النوعية التي تمت بقيادته على مستوى الاقتصاد وتنظيم المجتمع في تكريس ذلك الطابع اللا ديمقراطي عوضاً عن أن يكون تجاوزياً لذلك الطابع وتعيين موقعه الحقيقي في الحياة الاجتماعية السوفييتية عبر الاحتكام لصندوق الاقتراع وإتاحة التعبير عن قوى المجتمع المتعددة بسياساتها ورموزها بالتعبير عن نفسها وجودياً وسياسياً.
لم تكن الرقابة على المجتمع واحتكار السلطات نتيجتين للديكتاتورية إنهما يؤلفان جوهر تلك النظم التي تكرست على سياسة الحزب الواحد، فالسيطرة والاستعباد يتضمنان بالضرورة إلغاء الشروط التعددية/الجدلية لتحقق النقد، إلغاء المناقشة.
لقد فعلت إيديولوجية الحزب القائد للدولة والمجتمع كل شيء من أجل عدم وعي هذه القضايا. فهي تؤكد أن حقيقة الحزب ذات طبيعة علمية وبالتالي يجب أن لا تخضع للمناقشة، وكانت تؤكد أن الإجماع الشعبي يبلغ درجة لا حاجة معها لتقديم منافسين لمرشحي الحزب. كانت سياسة الأب القائد تؤكد أن حرية الصحافة البورجوازية لن تستخدم إلا لتخريب الاشتراكية، /وهي تخرب بالفعل هذه الاشتراكية/. والمأساة هي أن هذه الذرائع قد ضدّق عليها من قبل مثقفين وعلماء بارزين في العلوم والفنون ولكنهم يعانون المرض الرهيب الذي عانته الإنتلجنتسيا: الدوغمائية والطفالة في السياسة.
لقد أصبحت أخطاء الثورة أساس الثورة وتحولت حالة الطوارئ إلى حصار للدولة. وكما تعلمون فإن كل سيطرة خاصة تتستر بمبدأ عمومي. فقد كانت ملكية الحق الإلهي تجعل الله يتحدث بلسانها، ومن الواضح أن ذلك كان يفترض صمت الله. لقد بين لنا ديستوفسكي في "الأخوة كارامازوف" أن يسوع إذا ما عاد فسوف يقتل ويعذب من جانب كهنته. وهذا ما حدث للطبقات العاملة في بلدان "الديمقراطية الشعبية" فالكلام العمالي هو غير المسموح به والجهاز الحقوقي الذي يدعي الماركسية وينطق بلسان البروليتاريا اضطر إلى إسكات البروليتاريا وقطع لسانها ناهيكم عن إلغاء حق الإضراب والتعبير والخيار السياسي.
لم أبتعد عن صميم الموضوع الذي نتناوله ألا وهو بنية الحزب والحزب الشيوعي بوجه خاص، وعندما أقول الحزب فكما تلاحظون معي أن جميع الأحزاب السياسية في علمنا قد تبنت الحزب البلشفي تنظيماً وهيكلية وآليات عمل سواء الإسلامية منها أو القومية وهو ما يدعو هذه القوى للتأهب في معالجة أدواتها التنظيمية وسياسياتها المبنية على تلك الأدوات ومراجعة تصوراتها حول كل تلك القضايا. إن الاستيلاء على سلطة الدولة وأجهزتها كانت إيذاناً بتحول الحزب إلى جهاز، وسوف يأخذ صفته الستالينية على أثر الطابع الحاسم الذي طبع به هذا الجهاز أثناء وبعد رحيله حيث احتفظ بكل السمات الرئيسية التي تثبتت في العهد الستاليني والتي حرفت عن ماضيها البلشفي ؟لأتبنى قول ستالنيستي وهو مصطلح مصنوع على صورة هيلنستي التي تدل على المجتمعات القديمة المطبوعة بالتأثير الإغريقي بعد مرور الإسكندر وبهذا المعنى فإن الاتحاد السوفييتي كان ستالينيستياً حيث أن بناه التي توضعت من القاعدة حتى القمة قد تكونت في عهد ستالين ومن جانبه والشيء بالشيء يذكر عن الاشتراكيات القومية ذات الحزب الواحد حتى عندما لا يكون هذا الحزب ناجماً مباشرة عن القالب. لقد أصبحت الستالينستية ظاهرة كونية. لقد عملت الماركسية الرسمية على تملك سلطة الدولة من جانب جهاز الحزب. وبالفعل لم يكن يوجد مكان مستقل في النظرية لا للدولة ولا للحزب: فالدولة هي دائماً خادمة الطبقة المسيطرة والحزب هو خادم البروليتاريا، وعندما استلم السلطة فإن الحزب غدا خادم الدولة، هو خادم الخادم.
مقترحات وخاتمة
1-لقد كان الحزب بالمعنى التاريخي تمفصلاً لمقولة الحزب-الوعي مع مقولة الحزب التنظيم، وأنا أرى أن الحزب سيبقى مركزاً لإنتاج الأبحاث والمعارف وتوظيفها في محرق أهدافه.
2-ما يزال الجدال ذو قيمة بأن الفكر الاشتراكي أو التحرري يأتي من خارج الطبقة العاملة وبالتحديد من المفكرين الاشتراكيين خارج دائرتها، بالرغم مما تتيحه شبكة الاتصالات العالمية سيلاً عارماً من المعارف والمراجع..إن الفكر التحرري الإنساني ذو ينابيع مختلفة ومتعددة واصطفائية وبنية استقبال واعية وناضجة للناس لا يمكن التقليل من أهميتها...إن سيل المعارف والمعلومات يجب أن لا يشغل القوى الحية عن ضرورة تفكيك هذه المعارف ونقدها وتقويمها ومطابقتها للمواصفات الصحية التي تؤمن لها النمو والبيئة النشطة، وهذا فعل خارج الطبقة يقوم به المثقفون الاشتراكيون.
3-إن الحزب في التحليل النهائي: وحدة الهدف وما دام الأمر كذلك فلا بد أن تكون آلية الاصطفاء ليست نابعة من اعتبارات أنطولوجية بل عن قناعات واختيارات حرة تماماً. وبطبيعة الحال ليس الهدف فكرة متعالية بل مشروع معرفي-عملي قابل للإثراء والتعديل والنقاش الحر بشأنه لكنه في النهاية تعبير عن (اتحاد إرادات).
لقد اصطدمت البنية الإيديولوجية للحزب بطابعها التجاوزي/الخلاصي مع الشروط السياسية والتاريخية وعطالتها التي لا يمكن أن تفضي إلى شروط بنية زمانية جديدة. صحيح أنه لا يمكن توفر إرادة سياسية بدون إيديولوجية شاملة للجماعة الإنسانية تكون بمثابة الاسمنت في عمل البنائين إلا أن الطابع الخلاصي لإيديولوجية الحزب الثوري قد مالت بموازينها على حساب الطابع السياسي وأضحت السياسة خادمة لتلك الأيديولوجيا، وتحولت السياسة إلى قضايا إجرائية أي إلى سياسة دولة أيديولوجية بمواجهة تحدياتها الخارجية والداخلية.
إن ما أستطيع قوله بثقة هو أنه يجب علينا التخلي عن السلام الأرضي الذي وعد به عالمنا الجسدي وحياتنا القابلة للاختبار. لقد ولد منذ ما يقارب القرنين، وعد جديد بالخلاص وقد أصبح ديانة خلاص أرضي كبيرة أعلن عنها ووعد بها علمنا الحقيقي. الماركسية-اللينينية الذي يتحقق في التاريخ وبواسطته. وقد ولدت تلك الديانة الجديدة أبطالاً وقديسين وشهداء وضروب حماسة وإخلاص وتضحية، ولكنها بتجسدها وتشويهها لطبيعتها أصبحت بصورة شرسة الوسيلة الجديدة للاضطهاد والاستعباد الذي انهال على العالم، ولم تكن الماركسية-الستالينية سوى ضلال الحاجة الحقيقية والأمل الثوريين وخروجهما عن الخط الصحيح. وهذا الضلال والخروج عن الخط لم يكونا ممكنين إلا تحت غطاء الخلاص. والمسألة على وجه الدقة أن لا تصب الحاجة والأمل الثوريين في ديانة خلاص جديدة. يجب التخلي عن أسطورة الخلاص التاريخي، أي عن فكرة مجتمع متصالح مع ذاته متناغم، خال من الصراعات تسود فيه بصورة متواقتة الشراكة الكلية والحرية الكلية ويستطيع أخيراً أن يحل المسائل الإنسانية الأساسية ويجلب بذلك: السعادة.
إن أسطورة الخلاص هذه، أسطورة مستقبل الشيوعية المشرق هو الذي استطاع تبرير كل خطأ والسماح بكل هول. إن أي خطوة نقدية جدية لتجربتنا الكفاحية لا تكون ذات شأن إذا لم نُجر قطيعة أبدية مع فكرة المعركة النهائية، الحل النهائي، المستقبل المشرق.
"لا يوجد حل نهائي لصراع الطبقات، لا يوجد تصالح نهائي للإنسان مع الطبقة ومع ذاته لا يوجد مستقبل مشرق يضع حداً لكل أمراض وجودنا فلسوف تكون هناك دائماً إمكانية تراجع وفشل وخراب وبعث لخمائر عدم المساواة والإخضاع والاستقلال التي سترغمنا دون انقطاع على النضال ضد الأشكال الجديدة من عدم المساواة والإخضاع والاستغلال.
5- لقد كانت مقولة المركزية الديمقراطية في الشرط السياسي الموضوعي الذي انبنت عليه كل آليات التسلط واللا ديمقراطية مما يعني سقوطها بالمعنى العملي والتاريخي. إن نوات الحزب التحرري يجب أن تبنى على قاعدة الوحدة الديمقراطية. نعم الوحدة الديمقراطية: الوحدة كإطار للتعارضات المشروعة في خضم العملية السياسية والتي لا يمكن أن تتحقق فعاليتها إلا في عملية الاختلاف والوصول إلى بنية تنظيمية فعالة-مرنة وأعضاء أحرار، وفاعلين ودمج مسائل النقد والنقد الذاتي في إطار تلك الوحدة الديمقراطية. ومن شأن هذا المفهوم في حال إبرازه وتبنيه أن يرسم الهيكلية التنظيمية التي لا تحددها عوامل الإرادة بل الشرط الاجتماعي وظروف العمل السياسي /سرياً أو علنياً/. إنني أرى أن المركزية والديمقراطية تناسب متطلبات الدولة ومؤسساتها وهو ما يمكن اعتباره أفضل هدية يقدمها الحزب كمفهوم وتجربة للدولة.
لقد كان الاكتشاف الكبير الذي بدأ مع المثقفين البولونيين والمجريين في 1957-1958والتشيكسلوفاكيين عام 1968 وبلغ ذروته في انهيار جدار برلين هو أن الحريات السياسية التي كانوا يتوقون إليها تقابل نداء العمال والفلاحين وحاجاتهم.
والفكرة القائلة أنه ينبغي دفع ثمن القليل من المساواة بحرمان من الحرية هي أسطورة بلهاء، لقد تعلمت تلك الشعوب الصديقة من جديد أن الحرية لا تحرم الناس من الطعام، لكنها تحرم الطاغية من النوم.
-"إن الحرية التي يتمتع بها أنصار الحكومة فقط وأعضاء حزب فقط مهما كان عددهم كبيراً ليست بحرية. إن الحرية هي تلك التي للفرد الذي يفكر بشكل مختلف" روزا لوكسمبورغ
-من دون انتخابات عامة ومن دون التمتع بشكل لا محدود بحرية الصحافة وبحرية الاجتماع ومن دون حصول صراع للأفكار الحرة تمشي الحياة اجتراراً، وتذوي في جميع المؤسسات العامة وتغدو البيروقراطية العنصر الفاعل الوحيد.


























القوى السياسية في الثورة الإيرانية
يرفند ابراهميان§

إن الثورة الإيرانية الأخيرة هي حركة عفوية لجماهير المدن أكثر منها انتفاضة مخططة يقودها حزب سياسي منظم. فقد ابتدأت في أواخر عام 1977 باحتجاج عدد من أعضاء الإنتلجنتسيا الإيرانية – خاصة المحامين والقضاة والكتاب وأساتذة الجامعات، والناشرين والصحفيين، والطلبة الجامعيين – ضد فقدان الحرية السياسية وانتهاك حقوق الإنسان. وطالب هؤلاء الشاه باحترام قوانين دستور عام 1905-1909. وتصاعدت الأحداث بشكل درامي في أوائل عام 1978، عندما نزل رجال الدين والبورجوازية التجارية الصغيرة – خاصة أصحاب الحوانيت وصغار التجار، والحرفيين التقليديين- إلى الشارع، ونظموا إضرابات شاملة في البازار مطالبين بإلغاء تحكم الحكومة بالأسعار، والنقابات والمعاهد الدينية. كما طالبوا بالعودة الفورية لآية الله الخميني، أحد رجال الدين البارزين المنفي منذ عام 1963 بسبب إدانته العلنية للنظام.
وتصاعدت الثورة أكثر فأكثر في أواخر عام 1978 عندما أضرب الموظفون الحكوميون، وموظفو البنوك، والمدرسون، وموظفو الجمارك، بالإضافة إلى قطاعات هامة جداً من البروليتاريا الصناعية، خاصة عمال النفط والغزل والنسيج والبناء، فأوقفوا بذلك حركة الاقتصاد كلية. وقد احتج هؤلاء المضربون ليس على التضخم اللولبي، والبطالة المتصاعدة، والإلغاء الأخير للإعانات السنوية فحسب، بل على رفض النظام السماح بعودة الخميني. كما رفضوا قانون الأحكام العرفية، وطالبوا بتطبيق القوانين الدستورية والسماح للمستخدمين والأجراء بالمشاركة في تشغيل المصانع والمكاتب الحكومية، ومعاقبة المسؤولين عن المجازر الوحشية التي اقترفت بحق المتظاهرين المسالمين خلال الأشهر السابقة. ومع الوقت انهار نظام الشاه في شهر شباط من عام 1979، في الوقت الذي خسرت وافتقدت الحكومة فيه كل مصادر الدخل قاطبة، وقتل أكثر من 10 آلاف متظاهر، وهزت الإضرابات العامة كل مدينة في البلد. وكانت الاجتماعات الجماهيرية المطالبة بإلغاء المَلَكيّة تستقطب حوالي مليوني متظاهر ومحتج في مدينة طهران بمفردها.
بالرغم من أن القوى الاجتماعية لا القوى السياسية هي التي صنعت الثورة الإيرانية، إلا أن الأشهر الثلاثة التي أعقبت سقوط الشاه قد شهدت الظهور السريع للعديد من التنظيمات السياسية. وبالنتيجة، لم تعد الانقسامات في إيران، مجرد مواجهة بين الشاه والشعب، بل أصبحت ساحة معقدة مؤلفة من الكثير من القوى السياسية المنفصلة والمتنافسة غالباً، لكل منها أيديولوجيته وقاعدته الاجتماعية ورؤيته الخاصة للمستقبل. إن هدف هذه المقالة هو تقييم ومعاينة هذه القوى السياسية، وتتبع أصولها التاريخية، ووصف قواعدها الاجتماعية وتحديد قواها النسبية في مراكز القوة الثلاثة التي ظهرت في إيران منذ الثورة: الوزارة التي تقود بيروقراطية الدولة، اللجان التي تسيطر على الميليشيا الدينية، ومجالس العمال التي أنشئت في المصانع والمكاتب الحكومية في العام الماضي.
خلقية تاريخية (1949-1953)
تعود جذور ثورة 1977-1978 إلى عام 1949 حيث بدأ الشاه، آنذاك، العملية الطويلة الهادفة إلى إنشاء دولة أوتوقراطية تخمد كل أنواع المعارضة بما فيها المعارضة الأرستقراطية والبورجوازية الليبرالية، وتسعى لإعادة تكوين المجتمع على صورته – أو بالأحرى، على صورة والده الدكتاتور الراحل.
وفي الفترة التي أعقبت غزو الحلفاء لإيران عام 1941، وتخلي رضا شاه عن العرش، أظهر الشاه الجديد ليناً سياسياًً. فقد احتفظ بسيطرته على الجيش ولكنه سمح للبرلمان بانتخاب وزراء الحكومة، وللأحزاب السياسية، بمن فيها حزب توده الماركسي، بتنظيم نقابات البازار، والجمعيات الحرفية، والاتحادات النقابية. إلا أنه بحدود أوائل عام 1949، كان الشاه، حسب معلومات وزارة الخارجية الأميركية، يسعى لانتهاز فرصة ما لتحرير نفسه من القيود الدستورية وفرض نفسه، بالتالي، كحاكم إيران غير المنازع (1). وسنحت له الفرصة تلقائياً عام 1949 عندما حاول أحد المهاجمين المنفردين اغتياله آنذاك. وبالرغم من عدم وجود أي دليل يربط بين المهاجم وأي تنظيم سياسي، استغل الشاه الحادثة لقمع المعارضة الداخلية. فقد أعلن الأحكام العرفية، ومنع صدور كل الجرائد التي تنتقد عائلته، وسجن العديد من المعارضين السياسيين، بمن فيهم مُصَدّق، وحرم حزب تودة قانونياً، واعتقل عدداً من مؤسسيه، وحكم بالموت غيابياً على الكثيرين من قادته الذين اختفوا عن الأنظار وبدؤوا العمل السري. وعقد جمعية تأسيسية صوتت بالإجماع لصالح حق الشاه بحل البرلمان عندما يشاء. كما أنشأ مجلساً للشيوخ يحق للإمبراطور تعيين نصف أعضائه. وصوتت هذه الجمعية لصالح عودة أراضي العائلة المالكة التي كان رضا شاه قد استولى عليها وصادرتها الحكومة عام 1941. وشكت المعارضة معتبرة أن الشاه قد حول محاولة الاغتيال إلى انقلاب ملكي.
كان لا بد لانتكاسة عام 1949 أن تولد رد فعل عام. ففي الأشهر التالية تحالفت مجموعة من السياسيين الليبراليين بزعامة مصدق، ومجموعة من القادة الدينيين، آية الله كشاني خاصة، يمثلون غالباً طبقة البازار الوسطى ومجموعة من الأحزاب العلمانية، والقومية، والاشتراكية الديمقراطية، المعبرة بشكل أساسي عن مصالح أفراد الطبقة الوسطى ذوي الرواتب المحددة، تحالف هؤلاء وكونوا الجبهة الوطنية، وطالبوا بانتخابات نزيهة وبصحافة حرة وإنهاء قانون الأحكام العرفية وتأميم الصناعة النفطية التي يملكها الإنجليز. ويعتبر المطلب الأخير أهم هذه المطالب قاطبة. وبحدود عام 1950، كانت الجبهة الوطنية تقيم مهرجانات جماهيرية وتستقطب جماهير واسعة. وجاء الكثير من الأنصار من أفراد الطبقة الوسطى ذوي الرواتب، ومن الطلبة الجامعيين بشكل خاص، والمدرسين، وأساتذة الجامعات، والعمال ذوي الياقات البيض، وقطاعات أخرى من الإنتلجنتسيا الحديثة. وجاء المصدر الآخر من مصادر الدعم الجماهيري من طبقة البازار الوسطى، خاصة أصحاب المشاغل، والحوانيت، وصغار التجار، ورجال الدين، وقطاعات أخرى من البورجوازية الصغيرة التقليدية. وهكذا، جمعت الجبهة الوطنية قوتين مختلفتين: الإنتلجنتسيا العلمانية والبورجوازية الصغيرة الدينية الاتجاه.
قام الشاه، الذي خاف من المظاهرات الجماهيرية، والإضراب العام الشامل في الصناعة النفطية لاحقاً، والذي نظمه حزب توده الذي عاد للظهور مجدداً، بتعيين مصدق في شهر أيار (مايو) من عام 1951، رئيساً للوزراء "وكصمام أمان" في وجه النقمة الجماهيرية. يقول أحد الشيوخ الملكيين: "لقد وصلت التوترات الطبقية إلى درجة تهدد البنية الكلية للمجتمع...إن الحل الوحيد لخلاص إيران إنما يكمن في توحيد كل الطبقات ضد العدو الخارجي" (2). وصرح الشاه نفسه في الإذاعة الوطنية قائلاً: "إن العداوات الطبقية هي إحدى مآسي إيران الكبرى. إن هذه الصراعات تسمم عقولنا وحياتنا السياسية. إن الطريقة الوحيدة للتخفيف منها هي في تطبيق القوانين الحقيقية للإسلام. وإذا ما عشنا كمسلمين حقيقيين فإن الصراع الطبقي سيفسح المجال أمام انسجام طبقي ووحدة قومية". (3). أما مجلة التايمز اللندنية فقد قيمت الموقف بالكلمات التالية: "إن التوتر الداخلي في المجتمع الفارسي – النابعة من غباء وجشع وفقدان القدرة على التقدير لدى الطبقة الحاكمة- قد وصلت إلى درجة لا يمكن مواجهتها إلا بتصعيد الهجوم على كبش المحرقة الخارجي، الذي هو بريطانيا بالتحديد" (4).
ولم يكن مصدق ليلعب دور الأمان فقط. فبعد أن أمم الصناعة النفطية، ركز انتباهه على الشاه، واتهم البلاط بالتدخل بالسياسة. وفي شهر تموز (يوليو) من عام 1952، طالب بالسيطرة المدنية على القوات المسلحة. ولما رفض الشاه الإذعان لذلك توجه مصدق للشعب مباشرة. واستجاب عشرات الألوف من المواطنين بقيادة الجبهة الوطنية وحزب توده للنداء، واندفعوا إلى الشارع ليتخلى بعدها الشاه عن سيطرته على الجيش بعد ثلاثة أيام من سفك الدماء. ولأول مرة في التاريخ الإيراني يستطيع مدنيّ كسر الخطوط المباشرة بين سلالة بهلوي وهيئة الضباط.
وبعد تكلله بالنصر في شهر تموز (يوليو) من عام 1952، تابع مصدق مهاجمة المركب الملكي العسكري بمجمله. فأعاد الأراضي المسروقة إلى الدولة، وحول جزءاً كبيراً من ميزانية البلاط إلى وزارة الصحة، ومنع الشاه من الاتصال بالدبلوماسيين الأجانب، وأجبر، في النهاية، أعضاء العائلة المالكة على الهرب من البلاد. وأعلن مصدق بأن البلد لن يشتري مستقبلاً سوى الأسلحة الدفاعية. لذا، خفض الميزانية العسكرية 15 % ، وخفض القوات المسلحة 50 % ، وحول 15 ألفاً من المشاة إلى الشرطة الملكية الأدنى مرتبة، وطهر الجيش من 130 من كبار الضباط، وأنشأ اللجان النيابية للتحقيق في الفساد بين قادة الجيش، وللتدقيق في مؤهلات كبار الضباط، وليبرهن على أن قوانين الدستور إنما قصدت اعتبار الإمبراطور القائد العام للجيش اسمياً فقط. ولما اقتنع كبار الضباط أنه لا وجود للجيش بدون الشاه، شكلوا لجنة سرية لتخليص الأمة من "الجمهوريتانية"، وأقاموا الاتصالات، لا مع الاستخبارات الأميركية فحسب، بل مع القادة الدينيين المحافظين أيضاً الذين خافوا من أن يكون مصدق يمهد الطريق أمام ثورة اشتراكية.
إلا أن انتصارات مصدق كانت مضللة، إذ أنه حالما أخرج الشاه من الحلبة السياسية وطرد البريطانيين خارج إيران، تخلى عن الهدفين الرئيسيين اللذين وحدا أنصاره، وبذا كشف بغباء عن الفروقات الأيديولوجية بين الأجنحة العلمانية والدينية داخل الجبهة الوطنية. وتمحورت هذه الخلافات والفروقات حول ست مسائل جوهرية: تأميم الشركات الكبيرة (شركات النقل والهاتف خاصة)، وتوسيع حق الانتخاب ليشمل المرأة، ومسودة مشروع قانون الإصلاح الزراعي، وتخفيف المراقبة على بيع المشروبات الكحولية، وتعيين مثقفين معادين للدين كوزراء للعدل والتربية، وإقامة تحالف، ولو ضمني، مع حزب توده. وهكذا انسحب الحزب الديني بقيادة كشاني، من الجبهة الوطنية متهماً مصدق "بخيانة الإسلام" (5) وفرض "ديكتاتورية اشتراكية" (6) على إيران، مما أضعف بالضرورة دعم البورجوازية الصغيرة لـ مصدق. وقد بدا ذلك واضحاً في شهر تموز (يوليو) من عام 1953، في الاحتفال بالذكرى السنوية لانتفاضة عام 1952، عندما ضم مهرجان الجبهة الوطنية 10 آلاف عنصر فقط، بينما جذبت مظاهرة حزب توده بمفرده أكثر من 100 ألف عنصر (7). هذان الاجتماعان، أقنعا وكالة الاستخبارات الأميركية بأنه يجب إسقاط مصدق لمنع حزب توده من الاستيلاء على السلطة تدريجياً.
وبتشجيع من انشقاق الجبهة الوطنية، وبتمويل من وكالة الاستخبارات الأميركية، بدأ ضباط الجيش بالهجوم. وفي الوقت الذي احتلت فيه القوات مكاتب الحكومة وهاجمت 37 دبابة مقر رئيس الوزراء، قامت مجموعة من قطاع الطرق، تمولها الاستخبارات الأميركية وتنتسب إلى القادة الدينيين الرجعيين، بحشد الجماهير في منطقة "حي الضوء الأحمر"* وسارت عبر شوارع طهران هادفة تقديم دعم إعلامي ملموس للانقلاب العسكري. وبالطبع استعملت الجرائد الأجنبية صور هذا الجمهور لخلق الانطباع بأن الشاه قد عاد "بثورة شعبية" ضد رئيس وزراء "يساري وغير شعبي".
القمع (1953-1977)
عاد الشاه إلى إيران منتصراً، وتابع خطاه لبناء الديكتاتورية التي خطط دائماً لها. وبدعم من الولايات المتحدة وإسرائيل، بنى جهاز شرطة سرية، سماه السافاك. وبمساعدة من العائدات النفطية المتزايدة بسرعة، استطاع أن يبني لنفسه إحدى أكبر المؤسسات العسكرية في العالم. وارتفع عدد القوات المسلحة من 120 ألفاً عام 1953، إلى أكثر من 400 ألف عام 1976، لتصبح خامس آلية عسكرية عالمية من حيث الكبر، كما زادت الميزانية العسكرية السنوية من 60 مليون دولار إلى أكثر من بليوني دولار عام 1976، متكيفة مع الأسعار الثابتة.
وارتفعت قيمة الأسلحة المشتراة من الخارج والتي لم تدخل في أرقام الميزانية، من مجرد 10 مليون دولار بين عامي 1941 و 1953 إلى 700 مليون دولار بين عامي 1953 و1966، ومن 2 بليون دولار بين عامي 1965 و 1972 إلى حوالي 17 بليون دولار بين عامي 1972 و1976. وبحدود عام 1976، لم تصبح إيران الزبون الأول لصناع الأسلحة الأميركيين والبريطانيين فحسب، وبل المشتري لأحدث أنواع الأسلحة التي تنتجها التكنولوجيا الغربية.
لم يكن اهتمام الشاه بالمؤسسة العسكرية من زاوية الميزانية فحسب، فقد أبدى اهتماماً شخصياً بمصالح الضباط، خاصة تدريبهم ومعاشاتهم وسفرهم للخارج وترقياتهم وفوائدهم الإضافية ومنازلهم وتعاونياتهم، وأوسمتهم. وقد حصل بعض كبار الضباط على الكثير من الميداليات بحيث أصبحوا يشبهون شجرة ميلاد بالغة التزيين. لقد بجل ومجد ضباط الجيش واعتبرهم بمثابة النخبة الحقيقية للبلد والمخلص الحقيقي للأمة عام 1953. كما أنه وسع دائرة اهتمامه لتنال المراتب الأدنى أيضاً. وبحدود عام 1977، كان باستطاعة النفر العسكري أن يكسب حوالي 600 دولار شهرياً، بينما لم يكن بمقدور عامل غير ماهر أن يكسب أكثر من 340 دولاراً. وهكذا حكم الشاه أولاً وأساساً كقائد عام للقوات المسلحة، وكرئيس للدولة بالدرجة الثانية. وعبر بكلماته الخاصة أنه، بسبب "إخلاصه" للمؤسسة العسكرية، لا يعتبر نفسه لويس الرابع عشر، أي الدولة، بل الجيش، في تقليد رضا شاه (8).
وهكذا، مسلحاً بالمؤسسة العسكرية والبوليس السري، استطاع الشاه أن يفكك المعارضة. وبعد انقلاب عام 1953 مباشرة، حرم الشاه الجبهة الوطنية واعتقل معظم قادتها، بمن فيهم مصدق، وأعدم وزير خارجيته لأنه دعا إلى إقامة جمهورية. وبعد أن قضى ثلاث سنوات في السجن، وضع مصدق قيد الإقامة الجبرية حيث توفي عام 1967.
إلا أن حزب توده، في النهاية، تحمل الوطأة العظمى من القمع. فاعتقل أكثر من 5000 عضو من الحزب، وأعدم أربعون عضواً ومات أربعة عشر غيرهم تحت التعذيب، وحكم على أكثر من مائتي عضو بالسجن المؤبد. وبحدود أواخر الخمسينات فقد كل من حزب توده والجبهة الوطنية تنظيماتهما القاعدية، وبخاصة فروع الريف، والاتحادات النقابية، والجمعيات المهنية، وبقيا يعملان ضمن خلايا سرية مبعثرة وضمن فروع قليلة في أوروبا، يصدران الجرائد، ويشكلان المؤتمرات داخل اتحاد طلبة إيران. لقد خلق تحطيم هذه التنظيمات الجماهيرية فراغاً هائلاً ملأه رجال الدين بين عامي 1977-1979.
وزاد في إضعاف كل من حزب توده والجبهة الوطنية الانشقاقات التي حصلت في أوائل الستينات. فبانفجار النزاع السوفيتي الصيني عام 1963، انشق ثلاثة من قادة حزب توده وأسسوا تنظيماً آخر يسمى منظمة الماركسيين-اللينينيين. وفي الوقت ذاته أسس بعض الشبان في الحزب التنظيم الثوري لحزب توده. وتحالف التنظيم الأول مع ألبانيا بعد وفاة ماوتسي تونغ بينما استمر التنظيم الثاني في دعم الصين.
إلا أن أهم انشقاق حصل في الجبهة الوطنية. ففي عام 1961، شعرت مجموعة من التكنوقراطيين ذوي الاتجاه الديني بانزعاج من نقد زملائهم العلمانيين للدين ورفض رجال الدين القبول بالإصلاح الاجتماعي. فقرروا ترك الجبهة الوطنية وأنشؤوا تنظيماً سمي حركة تحرير إيران بقيادة المهندس مهدي بازرجان، أحد المساندين المخلصين لمصدق. وكان هذا التنظيم الجديد يأمل بأن يجمع بين الشيعية الإيرانية والاشتراكية الأوروبية وبأن يخلق أيديولوجية تجذب أصحاب الاتجاه الديني والإنتلجنتسيا القومية المنحى.
وباختصار، كان هدف هؤلاء إنشاء دين علماني يقبله رجال الدين، ذوي المراتب الدنيا خاصة، والطبقة الوسطى ذات الثقافة العصرية، والإنتلجنتسيا الساخطة منها بشكل خاص.
توصل هؤلاء إلى هدفهم هذا في منتصف الستينات بظهور مثقف ديناميكي شاب يدعى علي شريعتي. انتمى شريعتي إلى عائلة دينية، وشارك في الحملة الهادفة إلى تأميم شركة النفط، وانضم إلى حركة تحرير إيران بعد إنشائها مباشرة واطلع بشكل واسع على النظريات الثورية المعاصرة وهو يدرس علم الاجتماع في جامعة السوربون الفرنسية. وتأثر بـ فرانز فانون خاصة. وعندما عاد إلى إيران، افتتح مدرسة دينية وألقى مواعظ غاية في التأثير حول إعادة تفسير التشيع كي يصبح أيديولوجية ثورية غير مساومة للتحرر القومي من الإمبريالية، وللتغيير الاجتماعي الجذري ضد الطبقة الحاكمة، وللانتفاضة العنيفة ضد الملكية. وبالرغم من استعارات شريعتي الواسعة من الماركسية، إلا أنه اختلف عن اليسار الإيراني بأمور جوهرية أربعة: أولاً، اعتبر شريعتي التشيع بمثابة جوهر الثقافة الإيرانية. ثانياً، اعتبر الماركسية التهديد الأيديولوجي الأول لنظرته الخاصة للعالم. واعتبر ثالثاًً، أن التاريخ لا تصنعه الطبقات بل "الأبطال العظام" كالرسول، والإمام علي والقائد المستقبلي للثورة الإيرانية. رابعاً، لم يدع إلى الديمقراطية الاجتماعية ولا إلى دكتاتورية البروليتاريا، بل إلى ديكتاتورية الإنتلجنتسيا الدينية الاتجاه (9).
"لا يمكن للديمقراطية أن تكون مثمرة في مجتمع بحاجة إلى تغيير ثوري سريع. إن مبدأ الديمقراطية مناقض ومغاير لمبدأ التغير والتقدم الثوريين...إن القيادة السياسية المعتمدة على أيديولوجيا جديدة مناقضة لفكر ولتقليد ذاك المجتمع، لا يمكن أن تختار وتدعم من قبل ذلك المجتمع. إن القيادة الثورية لا تتوافق والديمقراطية".
سجن علي شريعتي وعذب بوحشية، ثم أطلق سراحه عام 1976 بطلب من الحكومة الجزائرية وغادر إلى أوروبا حيث توفي بنوبة قلبية عام 1977. وبالرغم من أنه مات على أعتاب الأزمة الإيرانية الحالية، إلا أنه يعتبر أحد المنظرين الأيديولوجيين للثورة، فقد وجدت أفكاره أرضاً خصبة بين الفئات الدنيا الساخطة جداً من الطبقة الوسطى، خاصة بين المتخرجين الجامعيين الشبان وبين المراتب الدنيا من رجال الدين.
من عام 1953 حتى عام 1963، ركز جهاز القمع التابع للدولة اهتمامه على الإنتلجنتسيا الجذرية والطبقة العاملة المدينية. وبعد عام 1963 وسع هذا الجهاز عمله ليشمل البورجوازية الصغيرة، خاصة رجال الدين ونقابات البازار. حصل هذا التوسع القمعي لأن الشاه، بإعلانه ما يسمى بثورته البيضاء هدد بمصادرة المكيات الخاصة، بما فيها الأوقاف الدينية. كما هدد بمنح النسوة حق الانتخاب.
ومن دون أن يشير على الإطلاق إلى هذين الأمرين رفع آية الله الخميني، أحد السلطات القيادية الشيعية الستة، راية الثورة عام 1963 بإعلانه أن الشاه قد باع البلد للإمبريالية الغربية ومنح المستشارين العسكريين الأميركيين الحصانة القانونية. ولما أغلقت أسواق البازار أبوابها في طول البلد وعرضها دعماً للخميني، هاجمت القوات المسلحة المتظاهرين المسالمين وقتلت الآلاف منهم في طهران وحدها. لقد أعلن الشاه الحرب على البورجوازية الصغيرة، الطبقة التي ساعدته على البقاء عام 1953. وفي السنوات التي تلت، نفت الحكومة آية الله الخميني خارج إيران، وأمرت دورياً، بهجمات وحشية على طلاب المعهد الديني في قمُّ ووسعت مراقبة السافاك على البازارات، وقوضت الاستقلال التقليدي للنقابات الحرفية والتجارية، وشجعت الشركات الواسعة، كالمخازن الكبرى، على حساب أصحاب الحوانيت الصغيرة، مولت البنوك الحديثة التي أعطت قروضاً مالية لأصحاب المشاريع الأغنياء، وليس لرجال الأعمال الصغار، وفرضت مراقبة الأسعار على أسواق البازار. و الأنكى من ذلك كله أنها جعلت صغار التجار وأصحاب الحوانيت الخاضعين لضغوط شديدة الغنمة السوداء وحملتهم مسؤولية التضخم المتفشي والذي ضرب إيران من عام 1973 حتى عام 1977.
أقنع القمع البربري في الستينات مترافقاً مع الانتفاضات المسلحة الناجحة في كوبا والجزائر وفيتنام، بعض أفراد الإنتلجنتسيا الجذريين بأن الطريق الوحيد لتحطيم الدولة البوليسية هو بتبني أسلوب حرب العصابات. من أهم المجموعات المسلحة التي ظهرت في إيران نذكر "فدائيي خلق" وتنظيم "مجاهدي خلق". تألف التنظيم الأول عام 1971 من مجموعة من الشبان المنشقين عن حزب توده وعن الجبهة الوطنية، والذين اعتبروا أن هزائم عامي 1953 و 1963 قد أظهرت أنه لا يمكن للنضال السياسي أن يهزم الدولة البورجوازية الكمبرادورية من دون الكفاح المسلح. ولما كان هذا التنظيم ماركسياً نضالياً، فقد بشر بالصراع الطبقي ضد الإمبريالية وضد "الدولة الفاشية" للشاه. ومنذ بداية حملته المسلحة، فقد تنظيم فدائيي خلق، إضافة إلى فدائيين ماركسيين آخرين أكثر من 150 رجلاً إما رمياً بالرصاص، أو تحت التعذيب أو خلال الاشتباكات المسلحة مع رجال الشرطة. أما التنظيم الفدائي الآخر، "المجاهدين"، فقد تألف عام 1972 من منشقين عن حركة تحرير إيران. وهم أيضاً، اعتبروا بأن مجازر 1963 قد استلزمت قيام الكفاح المسلح. ولما كانوا مسلمين أوفياء، يحلل المجاهدون السياسة لا من المنظور الطبقي بل من منظور النضال القومي-الديني ضد كل أشكال النفوذ الأجنبي، بما في ذلك النفوذ الماركسي. إلا أنه في عام 1975، انشق المجاهدون بعنف إلى جناحين متنافسين. بقي الجناح الأول وفياً للإسلام، خاصة لتفسير شريعتي للتشيع، أما الجناح الآخر، الذي انتهى في النهاية، فقد رفض الإسلام وتبنى المفهوم الماوي للماركسية. لقد قتل النظام أكثر من 200 عضو ينتمون إلى جناحي "المجاهدين". وفي الحقيقة، ولأسباب يجهلها المراقبون الأجانب، كان لإيران بين عام 1971 و1977 أحد أسوأ السجلات حول عدد الإعدامات السرية، وعدد الوفيات تحت التعذيب والقتل في الشوارع. وانتمى أكثر من 90 بالمائة من الضحايا إلى الإنتلجنتسيا الإيرانية، من المدرسين، والمهندسين وموظفي المكاتب، وبالطبع، من طلبة الجامعات والمدارس الثانوية.
عودة ظهور المعارضة (1977-1979)
هزت الانتفاضات الجماهيرية (1977-1979) الدكتاتورية وسمحت، بالتالي، للتنظيمات المعارضة بالعودة مجدداً للنضال العلني. وبالرغم من أن الانتفاضات هذه كانت التعبير العفوي الكاسح للجماهير الساخطة، وبالرغم من أن آية الله الخميني، الرمز القيادي للثورة، قد تحدث قصداً بتعابير غامضة عن "العدالة الاجتماعية" في محاولة لعدم إبعاد أي من القوى الاجتماعية المختلفة الناشطة في الثورة، وبالرغم من أن الموقف يبقى غاية في الميوعة ولا يمكن التنبؤ به فإنه بإمكاننا أن نحدد ست نزعات متمايزة:
1-الرجعيات الدينية: جاءت هذه بشكل ساحق من المجموعة الدينية الدنيا التي نظمت مظاهرات البازار عام 1978، وتسيطر على كثير من اللجان التي ظهرت في كل أنحاء البلاد. ولدى هذه اللجان المسلحة بالميليشيات المحلية، التي يتألف معظم أفراها من شبان البازار والعمال العاطلين عن العمل، القدرة على تحديد أسعار المواد الغذائية، وتفتيش المنازل، واعتقال مسؤولي العهد البائد، وفرض العقوبات الجسدية على كل من ينتهك القوانين والنظم القرآنية، وإعدام كل من ينتهك القوانين الجنسية بالإضافة إلى إعدام أفراد المراتب العليا من سلالة بهلوي. ولدى هذه الرجعيات الدينية قناعة بأن معظم شرور المجتمع المعاصر، خاصة تعاطي المسكرات وانفراط العلاقات العائلية، والبطالة، وفقدان الانضباط عند الشباب، إنما تعود لفشل الحكومة في تطبيق القوانين القرآنية. لذا، تأمل هذه الرجعيات باستبدال المحاكم العلمانية "المتساهلة" بمحاكمها الإسلامية "الحقيقية"، وبإعداد دستور جديد يعتمد على المفاهيم والتقاليد الإسلامية "الحق". وتعارض هذه الرجعيات التعددية الديمقراطية، والمساواة بين الجنسين. وتعتبر حق الاستئناف القضائي مفهوماً غربياً "منحطاً". كما أنها لا تثق برجال التكنوقراط ذوي الثقافة المعاصرة وتعتبر هؤلاء "واسعي العلم" ذوي تأثير غربي.
بالرغم من أن الخميني حرص في منفاه في باريس على عدم استبعاد أي من المجموعات الأخرى من خلال عدم ربط نفسه بهذه الرجعيات الدينية تماماً، إلا أنه تقرب منها أكثر فأكثر منذ سقوط الشاه. فقد عين معظم هذه العناصر الرجعية في المجلس الثوري وفي اللجنة الثورية الإسلامية في طهران والتي تراقب اللجان المحلية. كما أنه شجب علناً المجموعات الأخرى التي حاولت تنظيم العمال والمستخدمين العاطلين عن العمل واتهمها بأنها من "عملاء الشاه". أضف إلى ذلك مساندته المطلقة للجان المحلية الساعية إلى فرض القوانين القرآنية. هذا علاوة عن أنه، في الاستفتاء على إلغاء الملكية، أنكر حق الناخبين في الاختيار بين الجمهورية الإسلامية والجمهورية الديمقراطية الإسلامية على أساس أن الديمقراطية تعبير غربي.
2- المحافظون الدينيون: بالرغم من المشاركة الكلية لهذه المجموعة في الثورة السياسية ضد الشاه، إلا أنه لم يكن لديها أية رغبة في قيام ثورة جذرية ضد البنى الاجتماعية أو المؤسسات القائمة. ويعتبر آية الله شريعتمداري الناطق الرسمي لهذه المجموعة، وهو الوجه القيادي في مدينة قم قبل رجوع الخميني، وما زال البعض يعتبره المنظر القيادي في إيران، خاصة مواطنوه في مقاطعة أذربيجان. وبالرغم من أن شريعتمداري يشجع فرض بعض القوانين القرآنية، إلا أنه يعارض قيام ثيوقراطية، ويعتبر أنه يجب أن يكون لكل المجموعات بما فيها اليسار، الحق في المشاركة بديمقراطية بأن للجمهور الحق في الاختيار بين جمهورية إسلامية أو جمهورية إسلامية ديمقراطية. وهدد بترك قم والذهاب إلى أذربيجان إذا ما استمرت الرجعيات الدينية بانتهاك حقوق الإنسان. ويجد شريعتمداري معظم أنصاره بين صفوف الفئات الدينية العليا. وبما أنه قد تم استبعادهم من اللجان الهامة، ألف أنصار شريعتمداري حزب الشعب الجمهوري الإسلامي.
3-المصلحون الدينيون: ينتظم هؤلاء في حركة تحرير إيران، ويطالبون بالتحولات الاجتماعية التدريجية وتحطيم نظام بهلوي. وتسيطر هذه المجموعة على ست وزارات بزعامة مهدي بازرجان، وتتمتع بتأييد ملحوظ بين التكنوقراطيين ذوي الثقافة الغربية. وبعكس الرجعيات الدينية تسعى هذه المجموعة إلى لجم اللجان. وتميل نحو دستور على النسق الغربي، ووضع الجهاز القضائي بيد القضاة والمحامين ذوي الثقافة المعاصرة وإعادة بناء آلية الدولة، وخاصة الجيش ذي المعنويات المنهارة. وتتمتع حركة تحرير إيران، بالإضافة إلى الوزراء الستة، بدعم آية الله طالقاني العنصر القيادي الديني في طهران. كان طالقاني معارضاً عنيداً للشاه منذ أوائل الخمسينات. وقضى عدة سنوات في السجن حيث عذب، وقاد المظاهرات الجماهيرية في طهران عام 1978. وبالرغم من كونه زعيماً دينياً، يجد طالقاني أنصاره لا بين رجال الدين وتجار البازار، بل بين الموظفين المدنيين والمثقفين وطلبة الجامعات. ومنذ شهر شباط اختلف غالباً مع الخميني مصرحاً بأن اللجان تنتهك "حقوق الإنسان" بما فيها حق النسوة في عدم ارتداء الشادور الطويل، ومحذراً بأن هناك خطراً حقيقياً من أن يتم استبدال الشاه باستبداد جديد (10). ويعتبر طالقاني طائراً يغرد خارج سربه بين رجال الدين، إذ أنه تحدث، منذ أوائل الخمسينات، عن الحاجة إلى الجمع بين الشيعية والاشتراكية.
4- الراديكاليون الدينيون: يقودهم فدائيو "المجاهدين"، ويطالبون بثورة اجتماعية راديكالية. إن هذه المجموعة المعادية للرأسمالية والإمبريالية، والتقليدية، ورجال الدين أحياناً، تطمح إلى خلق أمة مستقلة جديدة يمكن أن تستعير تكنولوجيا من الغرب، وتبقى، بالمقابل مخلصة لروح التشيع الثورية الأولى. وحصل المجاهدون على كثير من الدعم من طلبة الجامعات، خاصة من أبناء العائلات المتدينة الناطقة بالفارسية. وفي حومة الثورة، ساند المجاهدون بقوة آية الله الخميني حتى أنهم نادوا به إمامهم الخاص. إلا أنه منذ شباط (فبراير) غالباً ما وجدوا أنفسهم في نزاع مع اللجان وبالتالي فإن دعمهم للخميني قد فتر جداً. هذا بالإضافة إلى أنهم انتقدوا بازرجان في الأسابيع الأولى التي تلت الثورة، لأنه لم يحل الجيش بأكمله ويخلق جيشاً شعبياً جديداً. إلا أنهم قرروا في شهر نيسان (إبريل) مساندة بازرجان في جهوده الرامية إلى الحد من سلطة اللجان.
5-المصلحون العلمانيون: يشجع هؤلاء، بقيادة الجبهة الوطنية، قيام دستور ديمقراطي حديث، ويخافون جداً من قيام ثيوقراطية دوغمائية. كما وأن ذكرياتهم عن تجارب عام 1952-1953، تجعلهم لا يثقون بمعظم رجال الدين. (11) وبالرغم من أن غالبية أنصار الجبهة الوطنية يتألفون من المصلحين الليبراليين، إلا أن بعضهم يدافع عن الاشتراكية وحتى عن الماركسية. وبعد ثورة شباط (فبراير) حصلت الجبهة الوطنية على وزيرين. إلا أن فشل الحكومة في السيطرة على اللجان فجر خلافاً مع الجبهة الوطنية. فقد اشتكى متين دفتري حفيد مصدق، المحامي البارز عن حقوق الإنسان، من أن قيادة الجبهة الوطنية قد ربطت نفسها أكثر من اللازم بحاشية الخميني. وهكذا، ترك دفتري الجبهة وأسس الجبهة الوطنية الديمقراطية، وصمم برنامجه لجمع كل المجموعات المعادية للرجعيات، بدءاً من المحافظين الدينيين يميناً إلى العلمانيين الراديكاليين يساراً. ويدعو برنامجه إلى تكوين المجالس المنتخبة من قبل العمال والموظفين والنقابات والطلاب، وإلى المحاكمات العلنية للمتهمين باقتراف الجرائم ضد الشعب، وإلى انتخاب جمعية تأسيسية مهمتها الإعداد عبر الحوار العلني، للدستور الجديد، وإلى المساواة بين الرجال والنساء، وإنهاء الرقابة، ومنح الحكم الذاتي لكل الأقليات اللغوية الإيرانية.
وتتلقى هاتان الجبهتان الوطنيتان الكثير من الدعم من بين صفوف المهنيين وأصحاب الرواتب من الطبقة المتوسطة، ومن المنظمات الحديثة التكوين كجمعية الكتاب وجمعية المحامين وجمعية المهندسين وجمعية أساتذة الجامعات واتحاد المعلمين واتحاد موظفي الدولة.
6- الراديكاليون العلمانيون: يتألفون من "فدائيي الشعب"، وحزب توده، وحزب توده الثوري، والتنظيم الماركسي-اللينيني، بالإضافة إلى مجموعات أصغر. ويتمتع اليسار على العموم بقليل من الدعم الجماهيري. وهو منحصر في صفوف طلبة الجامعة وجمعيات ذوي الياقات البيض، وفي بعض الاتحادات النقابية، خاصة بين عمال النفط، وعمال مطابع الصحف وعمال المطابع الحديثة الموجودة في طهران. وبالرغم من مساندة اليسار الكلية للثورة ضد الشاه، يدرك كثير من الماركسيين بأن إقامة دولة دينية دوغمائية ستهدد وجودهم الذاتي. وفي الحقيقة، واجه اليسار خلال المهرجانات الجماهيرية في طهران (والتي ضمت من مليون إلى مليوني شخص)، الصعوبات في الحصول على إذن من المنظمين الدينيين لحمل راياتهم وأعلامهم وشعاراتهم الخاصة. وبحدود شهر كانون الثاني (يناير) سار أكثر من ثلاثين ألف عامل غاضب في شوارع طهران وهم يحملون صور الخميني، ولكنهم طالبوا "بالمساواة" و"الديمقراطية" و"حكومة العمال". كما أصدر الفدائيون تصريحاً حذروا فيه من أنه لا يحق لمجموعة واحدة احتكار ثورة الشعب (12). وفي شهري آذار ونيسان (مارس وإبريل) استقطب اليسار بعض الأنصار من المقاطعات، وبخاصة من الأكراد والتركمان والأذربيجانيين، كونه ناصر قضية الاستقلال الثقافي للأقليات اللغوية.
من بين هذه المجموعات الست، حققت المجموعات الدينية النجاح الأكبر في حشد الجماهير-خاصة بين سكان البازار وفقراء مدن التنك- وحتى بين البروليتاريا الصناعية. ويمكن تفسير ذلك بعوامل عدة. أولها، أن النظام في الوقت الذي حطم فيه كل المنظمات الجماهيرية للمعارضة العلمانية، سمح بالعمل لنقابات البازار ولرجال الدين والمعاهد الدينية والجوامع المحلية. وفي الحقيقة، فإن الازدهار النفطي السريع في أوائل السبعينات قد جلب ازدهاراً إلى المعاهد الدينية وزاد بالتالي صفوف وأعداد المراتب الدنيا من رجال الدين. ويدعي أحد المصادر بأن هناك 150 ألف رجل دين و80 ألف جامع في إيران (13). لذا، ليس من المستغرب تحول المعارضة الجماهيرية للنظام نحو الجوامع.
ثانيها: اجتاحت إيران في السنوات الحالية حركة انبعاث دينية خاصة بين الصفوف الدنيا من الطبقة الوسطى وسكان أحزمة البؤس ومدن التنك الفقيرة. فالنسبة لأفراد الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، خاصة متخرجي الجامعات الجدد، يقدم الدين - تفسير شريعتي للتشييع على الأخص- التحدي الديناميكي للنظام من جهة وللشرائح العليا من الطبقة الوسطى ذات التوجه الغربي، من جهة أخرى. أما بالنسبة لفقراء مدن التنك، وكلهم من المهاجرين الجدد، فالدين تعويض ثمين للإحساس بالجماعة الذي افتقدوه منذ أن تركوا قراهم. وكالميثودية* في إنجلترا في القرن التاسع عشر، يعطى التشيع فقراء المدن في إيران المعاصرة شعوراً بالتماسك الاجتماعي.
وفي وضع كهذا، من السهل لرجل واحد، بغض النظر عما إذا كان جون ويزلي أو آية الله الخميني، الظهور كمخلص لعامة الناس.
ثالثها: في السنوات العشر الأخيرة، أصاب اليسار الكثير من الأذى نتيجة الدعم العلني الذي قدمه كل من الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية للشاه. وبالطبع، يمكن إزالة هذا الأذى بسهولة إذا ما حاولت إحدى الحكومتين معارضة العسكريين الملكيين.
وأخيراً شجعت المراتب الدنيا من رجال الدين وأنصار شريعتي العمال على الإضراب في سبيل المطالبة بزيادة الأجور لدفع الدولة نحو الإفلاس، وذلك أثناء هجومهم على الشاه. ولكن لا شك في أن شغفهم وحسهم "بالعدالة الاجتماعية" سيبهتان حالما يعززون من قبضتهم على الدولة. وليس مستغرباً أنه كان لدى قادة الثورة القليل ليضمنوه تصريحاتهم الكثيرة عن دور الاتحادات العمالية الحرة في جمهوريتهم الإسلامية المستقبلية.
وتوضح الأحداث الحالية في الصناعة النفطية القوة الحالية – والضعف المستقبلي المحتمل- للجماعات الدينية بين الطبقة العاملة العصرية. فعندما بدأت الموجة الأولى من الإضرابات في الصناعة النفطية، سعى المناضلون اليساريون، من حزب توده خاصة، إلى القيام باختراقات هامة في لجان الإضراب. إلا أنه عندما بدأت الموجة الثانية، تدخل مهدي بازرجان ورجال الدين وساعدوا أنصارهم للحصول على الأكثرية داخل لجان الإضراب. تتلقى هذه اللجان في مدينة عبدان وحقول النفط التعليمات هاتفياً ومباشرة من المدارس الدينية في مدينة قم. ومن المحتمل أن تفقد الرجعيات الدينية قبضتها على الحركة العمالية. وسيتمكن اليسار، ساعتئذ من أن يدخل بسهولة أكبر الحلبة التي تشمل أكثر من مليونين ونصف أجير يشكلون أكبر طبقة مدينية منفردة في إيران المعاصرة.
20 نيسان (ابريل) 1979

* نشر هذا البحث في أحد التقارير الصادرة عن نشرة MERIP 1979
§ - يرفند أبراهميان: Ervand Abrahamian ، إيراني ، حصل على درجة دكتوراه في التاريخ من جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأميركية، عن رسالة حول حزب "توده " [حزب الشعب الإيراني] عام 1968 . وضعه إلمامه بالبنية الاجتماعية في إيران في مقدمة المتخصصين في تاريخ إيران المعاصر. وهو يعمل أستاذاً قي نيويورك في جامعة City University , New York - Baruch














هوامش
1- State Department to the USA , Embassy in Iran, February 1, 1949, Forein Relations of United States (Washington, D.C, 1978 ) 1949, Vol. VI , p. 476.
2- R. Shafaq, Parlimentary Proceedings ( Muzakerat-I Majlis), 1st Senate ,April 13 ,1951 .
3-The Shah , "Message to the Nation," Tehran Mosavar, May 10 , 1951 .
4- The Times, March 22, 1951.
5- Italia, at, October 12,1952 .
6-H. Makki, Parlimentary Proceeding , 17th Majlis, February 1, 1953 .
7- New York Times, July 23, 1953 .
8- E. Bayne, Persian Kingship in Transition (New York, 1968 ) pp.186- 87
9- A. Shar,ati, Ummat va Immat ( Tehran , 1968) Cited by G.Bayat Philipp, " Shi,ism in contemporary Iranian Politics: The Case of Ali Shari,ati in Iran: Towards Modernity ( Edited by E. Kedourie and S. Haim ) (London 1979)
10- Talekani, "Proclamation", Italia, at , February 19 , 1979.
11- Document, "An Open Letter" Iranshahr, December 1 , 1978 .
12-Iranshahr, January 20 ,1979.
13- Iran Times, December 15 , 1978.










حوار مع مفكر عربي
























حوار صحافي مع المفكر الكبير سمير أمين
النص الكامل لمقابلة صحفية للمفكر الماركسي العربي سمير أمين، والتي أجريت بتاريخ 22 أبريل/2009،
حاوره علاء الدين محمود،
أنا ماركسي ، اشتراكي ، شيوعي ، أممي
سمير أمين في الخرطوم الخبر في حد ذاته حدث كبير فالرجل مفكر يكاد يكون موسوعياً وليس فقط مختصاً في الاقتصاد وهو أيضاً المفكر الماركسي وهو ماركسي على طريقته ماركسياً نقدياً «الصحافة» حالفها الحظ في أن تجري مع سمير أمين هذا الحوار
*هل مازلت ماركسياً؟
- قطعاً، قطعاً، أنا ماركسي وبالتالي اشتراكي يعني شيوعي وبالتالي أممي ، وأنا كتبت مقالاً مطولاً حول هذا الموضوع سوف ابعثه إليك، ولكن ما معنى كوني ماركسياً؟ أنا انطلق من التمييز بين ماركس وبين الماركسيات التاريخية، والماركسيات التاريخية هي محاولات متتالية لفهم فكرة ماركس، هي ذات الطابع التاريخي يعني محاولات من فئات معينة من قوى سياسية معينة في ظروف موضوعية معينة، مرحلية في مرحلة معينة، وفي مناطق من المعمورة معينة أنا أرى أن كون الفرد ماركسياً معناه بالنسبة لي الانطلاق من ماركس وليس التوقف عند ماركس، يعني أنا لا اعتبر أن ماركس كتب مؤلفات تُمثل نهاية الحقيقة المطلقة أو عقيدة دينية جديدة، ماركس بدأ بالنقد، فكر ماركس هو فكر ناقد بالأساس ناقد لكل شئ ، ناقد للحقيقة، للواقع الحقيقي وناقد للتصورات المختلفة عن هذا الواقع الحقيقي، يعني ماركس ناقد للماركسية لأن الحقيقة الواقعية هي النظام الرأسمالي، وناقد للأيدلوجيات يعني تصورات عما هي الرأسمالية عما هو الواقع، فكر ناقد، وهذا أساس جوهري، وربما تعريف الماركسية هو تعريفها على أنها فكر ناقد، فكر نقد، أولاً نقد الواقع، والواقع هو كون أن المجتمع قائم على أساس نمط الإنتاج الرأسمالي وأنا هنا في هذا المجال لا أميز بين ماركس عالم الاقتصاد وماركس الفيلسوف وماركس الرجل السياسي...الخ كما يفعل الكثيرون الآن للأسف .
مَن يطالبون باستعادة ماركس الفيلسوف من ماركس الأيديولوجي؟


- نعم، أنا اعتقد أن ماركس شخص واحد هو ناقد واقع النظام الرأسمالي وناقد التصورات السياسية والأيديولوجية والفلسفية لهذا الواقع، وفيما يتعلق بنقد الواقع أي نقد الرأسمالية هنالك كتاب «رأس المال» ولابد من الأخذ في الاعتبار العنوان التحتي لـ «رأس المال» وهو «نقد الاقتصاد السياسي» ما معنى ذلك؟ نجد أن الكثير من الماركسيين للأسف الشديد فهموا هذا العنوان التحتي أن ماركس وضع علم الاقتصاد الصحيح في مواجهة علم الاقتصاد السابق له والذي هو جزئياً صحيح وجزئياً خطأ وهذا لم يكن غرض كارل ماركس على الإطلاق عندما كتب «رأس المال هو كتب «رأس المال» من أجل كشف التصور الخاطئ عن الواقع الحقيقي وهو الرأسمالية عند الاقتصاديين معتبراً بذلك الاقتصاد السياسي هو الأيديولوجية للرأسمالية، تصور للرأسمالية عن ما هي الرأسمالية وهو تصور خاطئ، تصور غلط، تصور عن الواقع لإعطاء شرعية لهذا الواقع يعني موقف ماركس من الرأسمالية هو موقف ناقد وليس مجرد كشف، كثير من الكتيبات الماركسية خاصة السوفيتية وخاصة تلك الكتيبات لترويج الماركسية اختصرت تحليل الرأسمالية لدى ماركس إلى تحليل كشف عمليات الإنتاج، نمط الإنتاج الرأسمالي، وكشف سر فائض القيمة، واستغلال العمل من قبل رأس المال وبيان عملية استغلال العمل وفقط!، أبداً، إن الغرض من ماركس هو أكثر من ذلك بكثير ولا يكتفي بكشف عمليات حقيقية للتراكم الرأسمالي ومنطق التراكم الرأسمالي، والعملية التي تنتج فائض القيمة والاستغلال من خلال بيع قوة العمل.. الخ وسيطرة وتحكم رأس المال على المنظومة الإنتاجية، لا، ماركس لاً يختزل في ذلك بل يسعى في الوقت نفسه إلى إثبات أن هذه العملية تختفي وراء خطاب أيديولوجي هدفه إضفاء الشرعية لهذا النظام، بمعنى الاستلاب، وماركس هنا انطلق من فويرباخ، من نقد الدين، ونقد الدين عند فويرباخ ليس هو الخالق الذي خلق المخلوق بل المخلوق هو الذي خلق الخالق، يعني أن البشر يخلقون تصوراً ثم يُصنع لهذا التصور خالق له. هذا هو الاستلاب، فعملية الاستلاب عند ماركس هي عملية الاستلاب الاقتصادي، أو الاقتصادوي وبيان هذا الاستلاب واضح تمام الوضوح في خطاب اقتصاد الأسواق. ما هي الأسواق؟ الأسواق هي ناتج عمليات بشرية هي المجتمعات التي أبدعت وخلقت الأسواق، فالأسواق لم تنزل من السماء، لكن الاستلاب الاقتصادي ينسب إلى آليات السوق نتائج مستقلة عن ممارسات البشر، هذه هي عملية الاستلاب وهذا هو الرئيس عند كارل ماركس ولذلك أنا أقول أن ماركس هو ناقد للواقع ولكنه ليس ناقداً للواقع فقط بل أيضاً ناقد لتصور الواقع في أيديولوجية الرأسمالية .

* لكن رغم ذلك هناك من يحكم على سمير أمين بأنه خارج الدائرة الماركسية. ربما استناداً على ما أعلنته أنت من نهاية النمط اللينيني الذي يقوم على الثورة باسم الاشتراكية التي تحل جميع المشاكل، ودكتاتورية البروليتاريا، وسيطرة الدولة على كل وسائل الإنتاج؟
- شوف، لينين حضر ما وصفته في ندوة أمس «اتحاد المصارف» بالموجة الأولى، الأزمة الهيكلية الطويلة الأولى للرأسمالية الناضجة أنا قلت إن هذه الأزمة الطويلة بدأت في عام 1873م يعني في أيام لينين الذي كان مازال شاباً صغيراً في تلك الفترة ورأس المال واجه هذه الأزمة الأولى بمزيد من التركيز والموجة الأولى للاحتكارات التي وصفها هوبسن هيلفردينغ ولينين و كيف واجه رأس المال هذه الأزمة الأولى وربط هذا التحول في هيكل تنظيم الرأسمالية إلى وجود الاستعمار وهو وجود موزع على دول وعلى مراكز استعمارية ليست فقط في منافسة اقتصادية بل أيضاً سياسية وعسكرية مما أدى إلى الحرب العالمية الأولى، اعتقد أن تقدير لينين كان صحيحاً وسليماً في كون أن هذه الأزمة لابد أن تؤدي إلى حروب وثورات وهي بالفعل أدت إلى حروب مثل الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية وأدت بالفعل إلى ثورات، الثورة الروسية، الثورة الصينية وأدت إلى شبه ثورات أو نصف ثورات وهي حركات التحرر الوطني في القارة الآسيوية والأفريقية فمن هذا الجانب لينين كان على صواب في رأيي لكنه كان متفائلا لأنه تصور أن هذه الموجة أو هذه الأزمة الأولى ستكون نهائية أو الأزمة النهائية للرأسمالية وان الثورة التي بدأت في الحلقة الضيقة «روسيا» لتنتشر فوراً دون أن يحدد تاريخ معين ولكنها بحسب لينين ستنتشر خلال سنوات أو عقود بالكثير وتفتح المجال لمرحلة أرقى في تطور الإنسانية وهي الاشتراكية. هنا التطور اثبت أن لينين كان متفائلاً وان ما حدث هو أن الرأسمالية استطاعت أن تخرج من هذه الأزمة منتصرة، ولكن هل معنى ذلك أن التصور الاشتراكي كان مجرد يتوبيا يعني تصوراً خيالياً مستحيل التنفيذ؟ لا أبداً، التفاؤل كان في أن هذه الموجة لم تكن إلا الموجة الأولى الآن نستطيع أن ندرك أسباب هذا الخطأ عند لينين وهي متمثلة في أن الثورة بدأت في الحلقة الضيقة وهي روسيا التي كانت نصف تخوم لم تكن تخوما بالمعنى الواضح للكلمة كانت نصف تخوم ثم انتشرت إلى مناطق تخومية أخرى وأكثر تخومية مثل الصين ثم انتشرت بشكل نصف ثوري إلى تخوم أخرى، آسيا وأفريقيا ولم تنتشر هذه الثورات باسم الاشتراكية في المراكز نفسها وهنا يبرز سؤال ما هو السبب في ذلك؟ هو الاستقطاب المترتب على عملية التراكم الرأسمالي وحتى ماركس إلى حد كبير لم يدرك هذا التابع الاستقطابي لعملية التراكم بدليل انه اعتبر أن التراكم البدائي للمرحلة الأولى وأن الرأسمالية بعد ذلك تجاوزت هذه المرحلة وبالتالي إن نمط الإنتاج الرأسمالي سينتشر على صعيد عالمي وفي كتابات ماركس عن ذلك هذه المسألة واضحة تمام الوضوح عندما يقول ماركس أن الهند بعد عقود ستكون القوة الرأسمالية الكبرى وستصبح بريطانيا العظمى صغيرة أمام الهند الكبيرة الرأسمالية، يعني تصور انتشار الرأسمالية فورا بسرعة ونوع من تجنيس الظروف الموضوعية يعني ماركس هو نفسه لم يدرك تماما الطابع الاستقطابي لعملية التراكم الرأسمالي وأيضاً لينين الذي تصور أن الثورة يمكن أن تبدأ من الحلقة الضعيفة «روسيا» ولكن سوف تنتشر فورا وكان ينتظر ثورة في ألمانيا وفي المراكز الأوربية وهذا لم يحدث ونحن الآن أمام نفس التحدي يعني الموجة الثانية القادمة نحن في نفس الموقع يعني هذا النظام الرأسمالي القائم على الاستقطاب غير مقبول في الأطراف، في التخوم لأنه عاجز عن أن يقدم حلولا إنسانية مقبولة سواء أكانت بالنسبة للبلاد البازغة كما يقال حاليا الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا أو البلاد المهمشة كما يقال أيضاً مثل بلداننا، الرأسمالية التي اسميها الرأسمالية القائمة بالفعل وليست الرأسمالية كنمط إنتاج على أعلى مستوى من التجريد بل الرأسمالية الملموسة التي هي استقطابية بطبيعة عملية التراكم هذه لن تحل هذه المشاكل وبالتالي هنالك مجال لموجة ثانية من الثورات انطلاقا من الأطراف، من التخوم يعني انطلاقا مرة أخرى من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ولكن عندما ننظر إلى مجموع سكان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية نصل إلى 80% من البشرية بالتالي نحن لسنا أقلية وهذا هو التحدي الحقيقي
* عندما تتحدث عن هذه المواجهة الجماعية لا تأتي على ذكر دور الحزب أو الأحزاب الشيوعية؟
ـ الأحزاب الشيوعية تكونت في خلال الموجة الأولى يعني موجة القرن العشرين وفي إطار النظرة اللينينية لهذه الموجة على أنها ليست الموجة الأولى ولكنها الموجة الأخيرة أيضاً وبالتالي وضعت لنفسها احتمال وإمكانية ثورة اشتراكية في المراكز وفي الأطراف .
* إذن ترى فيها أحزاباً لينينية؟
ـ نعم أحزاب لينينية
والآن هذا واحد من أسباب ضعفها؟
ـ نعم، وهذا واحد من أسباب أن هذه الأحزاب ليست لها وجود الآن، انتهت، وهذه الصفحة طويت ونحن الآن ندخل في موجة ثانية موجة جديدة ونواجه استعمارا ويظل الاستعمار هو المتحكم على الصعيد العالمي ونواجه هذا الاستعمار لكننا نواجه استعماراً مختلفاً عن الاستعمار في الموجة الأولى فهو في الموجة الأولى كان بصياغة الجمع لم يكن هنالك الاستعمار بصيغة الجمع بل كان هنالك الاستعمار البريطاني ، البلجيكي، الأمريكي، الياباني، الألماني، كانت قوى استعمارية كبرى داخلة في منافسة فيما بينها وفي حروب ولكن ما نواجهه حاليا ما اسميه بالاستعمار الجماعي للثلاثية المتكونة من الولايات المتحدة وأوربا واليابان لظروف جديدة، هل من الممكن انطلاقاً من خطوات ثورية مثل ما حدث في أمريكا اللاتينية وفي السودان خلال مد ا لحركة الشيوعية ؟ هذه لم تكن ثورة بل خطوات ثورية، ونحن سنواجه مداً آخر من الخطوات الثورية فهل من الممكن أن تكسب هذه الخطوات الثورية نوعا من القدرة على أن تبقى وتواجه التحدي وتهيئ الظروف الموضوعية لمزيد من التقدم يعني من خطوة ثورية إلى خطوة أخرى؟ وهذه عملية طويلة لذلك أنا انظر إلى مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية ليس على أنها ثورة ثم بعد الثورة بناء الاشتراكية في فترة تاريخية قصيرة بعد سنوات أو عقود ليس أكثر من ذلك بل على أنها سلسلة من الخطوات الثورية من الانجازات الثورية المتتالية ولكن هل من الممكن أن هذه الخطوات الثورية التي سوف تبدأ في أماكن من التخوم في آسيا وأمريكا اللاتينية وأتمنى أفريقيا والعرب أيضا، هل ممكن أن تخلق ظروفا تؤثر في المجتمع الرأسمالي في المراكز وتخلق ظروفا أيضا لخطوات ثورية هناك؟ أنا من ناحيتي متفائل لأنني اعتقد أن هذا النظام ليستمر لا بد أن ينفرد الشمال في التحكم على الموارد الطبيعية للكوكب كله لاستهلاكه الخاص ويمنع توصل شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ولكن عندما نبدأ نحن استخدام هذه الموارد لتقدمنا سنخلق ظروفا تفرض على شعوب المراكز أن تفكر هي الأخرى في نمط حياة وليس فقط نمط إنتاج.
*إذن لم تلقِ ، برأيك، الماركسية في الوحل كما ذهب إلى ذلك احد منتقديك ولكنك وكما أعلنت أنت ماركسي مختلف لا تقف عند ماركس، بل تنطلق منه؟
ـ نعم، فالماركسية لها تاريخ، وطالما أن الرأسمالية موجودة، اعتقد أن نقد الرأسمالية لا بد أن يكون موجودا واعتقد أن الماركسية بما أنها الوسيلة الفاعلة لنقد الرأسمالية فلا بد أن تكون موجودة وهي فعلا موجودة .
*احد الذين يتابعون كتاباتك ويعلقون عليها يقول أن سمير أمين لا يخفي حماسته للشيوعية رغم أن أمين يرى أن هذه الشيوعية أصبحت سبّة، أو سيئة، إلا أن سمير أمين يدافع عنها بصلابة ويدافع أيضا عن مواقف بعض الأحزاب الشيوعية العربية ولكنك كذلك وصفت هذه الأحزاب بالضعف وهذا يقود أيضا إلى سؤال ما العمل؟ خاصة وان كثيرا من الناس لا يتصور أحزابا شيوعية إلا على الطريقة اللينينية؟
ـ صفحة هذه الأحزاب طويت نحن الآن أمام تحدٍ جديد، تصور جديد، يعني أشكال التنظيم ـ والحزب الشيوعي من بين أشكال التنظيم ـ وأشكال النضال سواء كان النضال السلمي، الإضراب، المظاهرات، الانتخابات في بعض الظروف، أو وسائل النضال المسلح مثل الثورة، وحرب العصابات.. الخ.. هذه الوسائل كانت متماشية مع الظروف الموضوعية للقرن العشرين، يعني أنا لا أقول على الإطلاق أن هذه الأحزاب كانت خاطئة أو لم تدرك ما الظروف لكن كانت متماشية مع ظروفها ولكن الظروف الآن تطورت ووصلنا إلى واقع جديد ولذلك نحن لنا كشعوب وليس كمثقفين، لهذه الشعوب أن تبدع وسائل جديدة أنا لا املك وصفة للشكل السليم لذلك لا أقول أن الشيوعية هي وصفة موجودة سواء كانت على النمط السوفيتي أو النمط الصيني أو نمط آخر ولكن أقول أن الشيوعية هي هدف إنساني، يعني مجتمع إنساني وهو المجتمع الأرقى لتجاوز التناقضات بين الطبقات وتجاوز استغلال العمل وتجاوز أيضا التناقضات بين الشعوب بين القوميات في إطار أممي وهذا لا يمكن إلا أن يكون الناتج النهائي للصراع، للنضال بالتالي هو ليس وصفة .
* الأحزاب الشيوعية أو بعض الأحزاب الشيوعية رغم أنها تستقطب أفضل الكوادر الموجودة في المجتمع وأفضل المثقفين والمبدعين إلا أنها تكبلهم تماما بقيود ثقيلة وبالتالي يجدون المضايقات داخل أحزابهم التي تشح فيها الديمقراطية مما يجعلها طاردة لهذه الكوادر؟
ـ نعم، أنا معك في هذا الحكم، للأسف بالفعل إن أفضل الكوادر التي أنتجتها المجتمعات العربية في العقود الأخيرة جذبها الحزب الشيوعي لذلك أنا أدافع عن هذه الأحزاب لأنها مثلت بالفعل طليعة المجتمعات العربية لكن أيضا كبلت هذه الكوادر وحدث ذلك تحديدا لان هذه الأحزاب الشيوعية وحتى ترضي النظم الشعبوية امتنعت عن تنظيم الجماهير الشعبية لان تنظيم الجماهير الشعبية ودفع الصراع الطبقي لم يكن مقبولا من قبل نظم الحكم
*في كتابك «الفيروس الليبرالي» اعتقد انك تأثرت كثيرا بالبيان الشيوعي خاصة في عباراتك «آفة ضربت العالم حوالي نهاية القرن العشرين لم تسبب موت جميع الناس لكن الكل أصيب إنه الفيروس الليبرالي» قطعة أدبية بالفعل ولكن هل ما زال شبح ماركس قادرا على مواجهة هذا الفيروس أم ترى أن الفيروس طور من مناعته؟
ـ يرد ضاحكا: شكرا، أنا صحيح تأثرت بالبيان الشيوعي وأنا شايف بالتأكيد أن هذا الشبح موجود طالما أن الرأسمالية موجودة، رأسمالية تنتج مثل هذه النتائج، بمعنى تدهور ظروف المعيشة للأغلبية الكبرى وهي الطبقات الشعبية إذن طالما هذه الرأسمالية موجودة فان شبح الشيوعية سيظل موجودا .
* إذن كيف تنظر إلى صيحة جاك دريد المنادية بإقامة أممية جديدة في وجه تحالف مقدس يهدف إلى دفن ماركس وإلى الأبد؟
ـ أنا بالفعل كتبت كتاب «من اجل أممية خامسة» واعتبر أن شعوب العالم في حاجة إلى ذلك لان الاستعمار يستفيد من تفتت القوى الشعبية، وغياب إستراتيجية مشتركة للقوى الشعبية عبر الحدود بينما يملك رأس المال إستراتيجية عالمية «العولمة الرأسمالية» فلا بد للطبقات الشعبية أيضا أن يكون لها إستراتيجية مشتركة وهذا هو الهدف الرئيسي لأممية خامسة .
*أيضا هنالك من يرى أن ما ارتكز عليه ماركس في إعطاء الطبقة العاملة موقفا استثنائيا في الصراع ضد البرجوازية لم يعد ممكنا الآن حيث يسود الواقع الحالي مجموعات اجتماعية غير عمالية وهذا يعني أن الفاعل المحدد للمواجهة لا يحدد مسبقا بل يخلق في الفعل والماركسية.. طبعا هذه ليست محاكمة ولكن للإفادة في مواجهة تحديات العصر الراهن؟
ـ نعم، طبعا رأس المال يستغل العمل لكن استغلال العمل يتم بأشكال مختلفة وبأشكال عديدة وليس عبر نمط واحد لاستغلال العمل، طبعا استغلال العمل في الشكل المباشر الخاص بالطبقة العاملة في أماكن العمل الصناعي هو نموذج له لكنه ليس الشكل الوحيد لذلك لا بد من أن ننظر إلى ما اسميها الطبقات الشعبية بالمعنى الواسع للكلمة يعني هذه الطبقات هي فئات مختلفة وجميع هذه الفئات خاضعة لاستغلال رأس المال ولكن بأشكال مختلفة لذلك المشكلة هي إقامة تحالف؛ هذا التحالف الذي اسميه الالتقاء مع الاعتراف واحترام التنوع .
* تحت راية محددة؟
ـ نعم
* يعني أنت تتحدث عن قدم أزمة الاقتصاد الرأسمالي ولكن من خلال الأزمة الأخيرة بنى العد يدون فرضيات متباينة هنالك من يراها أزمة عادية مصاحبة للنظام الرأسمالي ومنهم من ذهب مباشرة إلى أن شبح ماركس يعود من جديد. وربما هم هنا استندوا إلى التحليلات التي قدمها ماركس والتي تؤكد على ازدياد الحاجة إلى عالم مختلف جديد تتبدل فيه العلاقات الاجتماعية وتتطور القوى البشرية بالتالي الحديث عن موت ماركس يصبح حديثا أيديولوجيا وسياسيا ؟
ـ ما أشرت إليه من أن الرأسمالية تصحح نفسها غير صحيحة هذه الفكرة، الرأسمالية لا تصحح أخطاءها إلا إذا كانت الطبقات الشعبية تفرض ذلك عليها بالتالي نحن رأينا في اجتماع مجموعة العشرين في لندن كيف أن الإستراتيجية الوحيدة للرأسمالية كقوى قائدة هو العودة إلى النظام كما كان وليس تصحيحه وبالتالي أنا أقول حتى لو نجحت هذه الإستراتيجية فإنها تنجح في الأجل القصير بمعنى أن تعود إلى شكل النظام قبل التدهور الذي حدث في سبتمبر 2008 م إلا أن ذلك لن يكون حلا للازمة بل إن الأزمة ستستمر و تتفاقم .
*نعود إلى لينين استكمالا لحديثك عنه ترى إلى أي مدى قطع لينين مع ماركس خاصة وان هنالك من يظن أن لينين قدم خدمة كبيرة للرأسمالية عبر إفلاس الماركسية اللينينية؟
ـ لا، لا، هذا حكم سريع جدا، لينين شخصية كبرى ولينين أدرك خلال الأزمة الرأسمالية الكبرى التي تحدثت عنها كان هو الوحيد الذي أدرك أن هذا النظام لا يمكن أن يستقر وسيؤدي بالضرورة إلى حرب وأدى فعلا إلى الحرب العالمية الأولى ورأى فيها فرصة لانتفاضة الشعوب وتحقيق الثورات الاشتراكية، لينين أدرك أيضا أن روسيا كانت تمثل الحلقة الضعيفة في السلسلة ونجح في ذلك بمعنى انه أنجز أشياء كبيرة جدا ولكن المشكلة أن لينين تصور أن الثورة تبدأ من هذه الحلقة الضعيفة «روسيا» ثم تنتشر إلى المراكز المتقدمة في أوربا على الأقل وهذا لم يحدث، ثم أن التطور اللاحق لا يرجع إلى لينين فلينين توفى في عام 1924 والثورة الروسية كانت لا تزال شابة واحتمال قيام ثورات في أماكن أخرى كان لا يزال موجودا .
* استكمالا للحديث عن كونك لا زلت ماركسيا هل ترى إمكانية لتجديد الفكر الماركسي؟
ـ ليس هنالك فقط إمكانية للتجديد بل أنا أرى أن الفكر الماركسي بدأ يجدد نفسه

*كيف إذن تقيم الدعوة التي تطالب بالعودة إلى ماركس من اجل «ماركسية نقدية» بعد سقوط ما كان يمارس باسمه سلطويا و كأيديولوجيا ؟
ـ أنا أقف في صف هذه الدعوة تماما
*هنالك من يرى أن سمير أمين ينزلق نحو المثالية عندما يقول بالانتقال الطويل من الرأسمالية العالمية إلى الاشتراكية العالمية وغالبا ما يطرح القضايا من فوق بدءا من العلاقات السياسية التي يقررها أصحابها وليس الواقع ولهذا تراه كثيرا ليبراليا؟

ـ أنا على العكس من ذلك أنا انظر إلى هذا الموقف «الانتقال» كانتقال طويل من الرأسمالية العالمية إلى الاشتراكية العالمية ليس على انه موقف مثالي بل على العكس من ذلك موقف واقعي تماما لأنه يأخذ في الاعتبار التناقضات الحقيقية التي يتسم بها النظام الرأسمالي .
*انتقدت الديمقراطية على النمط الأمريكي وناديت بصراع من أجل ديمقراطية مرتبطة بالمصالح الحيوية للطبقات الاجتماعية ما هو تصورك لذلك؟
ـ شوف أنا تحليلي ليس فقط لنمط الديمقراطية الأمريكي ولكن لنمط الديمقراطية البرجوازية بشكل عام سواء في الولايات المتحدة أو أوربا وتحليلي لهذا النمط أنه ديمقراطية سياسية تفصل بين استخدام الديمقراطية كأداة لإدارة الشؤون السياسية بشكل منفصل عن إدارة الشؤون الاجتماعية والاقتصادية المتروكة للسوق. نحن نحتاج إلى نمط من الديمقراطية يجمع ولا يفرق .
المصدر:
سمير أمين
[email protected]
الحوار المتمدن - العدد: 2635 - 2009 / 5 / 3





















قراءة في كتاب




الأيديولوجية الألمانية
كارل ماركس ، فريدريك انجلز
ترجمة الدكتور فؤاد أيوب
دار دمشق للطباعة والنشر 1976
نقل هذا الكتاب إلى العربية بالاستناد إلى الترجمة الإنكليزية الصادرة عن دار اللغات الأجنبية في موسكو عام 1964 وإلى الترجمة الفرنسية الصادرة عن دار المنشورات الاجتماعية في باريس 1968 .
وقد اعتمدت القراءة أيضاً على النص الإنكليزي
"The German Ideology"
Moscow 1964 . Progress Publishers





هوامش "الأيديولوجية الألمانية"
القسم الثاني
سعد الذَّابح
حسب شترنر: "لقد كان نظام هيغل الاستبداد والأوتوقراطية الاسميين للفكر؛ سيادة الروح المطلق وجبروته ". هذا يعني من الجهة الأخرى سيادة الوهم القائل أن الأفكار تحكم التاريخ!؟
العائلة في عصور مختلفة؛ "إن التاريخ يسبغ على العائلة طابع العائلة البورجوازية حيث الملل والمال يشكلان الرابطة الوحيدة ، وهو الطابع الذي يتضمن أيضاً الانحلال البورجوازي للعائلة . الأمر الذي لا يمنع العائلة نفسها من الاستمرار في الوجود دائماً"
إن البورجوازي يعيش نمطاً من الوجود يبعث على القرف ، يقابله في التشدق الرسمي والمراءاة العمومية ، المفهوم، المقدس"
عناصر جسد الأسرة: الطاعة، الولاء للأسرة، الإخلاص في الزواج.
علاقة الإنسان بالطبيعة المعينة (أي علاقته) بالصناعة والعلم الطبيعي،[ترجمة أيوب (ت. أ ) 190]
يقول ماركس: "إن الاستنتاج المنطقي الذي صودف من قبل مراراً وتكراراً ، لنظرة شترنر إلى التاريخ هو كما يلي: "يجب أن تلعب المفاهيم الدور الحاسم في كل مكان ، يجب أن تنظم المفاهيم الحياة ، يجب أن تسود المفاهيم. ذلك هو العالم الديني الذي أعطاه هيغل التعبير المنهجي"" ت. أ. 194. يقابله العالم الفعلي عالم علاقات الإنتاج والملكية الخاصة.
العالم الفعلي والعالم الوهمي ؛ عندما يحاكم فكر هيغل على أنه مستبد (استبداد الفكر المطلق) فإن لهذا القول تكملة ترجعنا إلى فكرة : أن المفاهيم تحكم العالم، فإذا ما أخطأت هذه الفكرة فقد يظفر الاستبداد والتوتاليتارية .
إن القديس ماكس وهو يطلق صيحات صادرة عن جوع قاتل يصرخ في خادمه: "خطوة أخرى وينتصر عالم المقدس" ت. أ. 194
في ص 194 قول عن "طبيعة الشيء ومفهوم العلاقة" وفي ص 195 قول عن "باب تصنيف الأشياء من قبل العلماء الطبيعيين"
أكثر من مرة يأخذ القديس ماكس "قطعان من الخرفان المغولية على أنها جماعة من الأشباح"
يقول رابليه: "إن أول أسلحة الجندي محرر العالم فتحة بنطاله" ت. أ. 195
ترد عبارة عن الدون كيشوت فارس المانشا بالأسبانية ؛ Caballero Manehego
إن مآثره العظمى بكاملها لا تتجاوز إذاً مجرد الإدراك الذي يترك حتى نهاية العصور كل شيء قائماً كما كان من قبل ، ويقتصر على تعديل تصوره، لا تصوره عن الأشياء ، بل عن العبارات الفلسفية عن الأشياء" ت.أ. 195
لاحظ أيها القارئ: الإدراك يترك الأشياء كما كانت من قبل ، ويقتصر المدرك على تعديل تصوره عن العبارة فحسب!
"إن ما كان "المرء" من قبل (أنظر اقتصاد العهد القديم) قد أصبح "الأنا" – الوحدة السالبة للواقعية والمثالية ، لعالم الأشياء وعالم الروح.. والتي يسميها شيلينغ بـ "اللامبالاة" .. إنها لتصبح عند هيغل الوحدة السالبة التي يتم فيها احتواء وتجاوز اللحظتين جميعاً. [وحدة أضداد] ".
يعلق ماركس بالقول: القديس ماكس مخلص لهذه الفلسفة التأملية. إنه يريد (أي القديس) أن تكون هذه الوحدة منظورة بالنسبة إليه (مرئية) في شكل "كائن جسدي" ، في "فرد كامل " الأمر الذي ساعده فيورباخ فيه بواسطة مؤلفه (فلسفة المستقبل)" ت. أ 196
تجسيد هذه الوحدة السلبية أو تشخيصها شائع في الفكر الديني عبر المجازات المرسلة عند العرب. والمجاز المرسل هو تشخيص صفة أو ملكة من ملكات الفرد أو تشخيص فكرة مجردة في الرأس، الخ.. مع أن المجاز المرسل(التشبيه غير المقيد) غير مستنفذ في ذلك.
يوجد هنا نقد من ماركس لفيورباخ في سياق نقد شترنر : الشَّبح؛ تحويل الإنكار إلى جسد أو فرد أو شخص . قارن هذا مع تحويل إبليس كإنكار إلى شخص، أيضاً ما يقال عن تشخيص جبريل(الوحي) ، وأنه شوهد يركب بغلة ، أو وجد لقدمه أثر في مقام الأربعين في أعالي جبل قاسيون حيث قتل قابيل أخاه هابيل! أو سماع أصوات أجنحته كما قال الصوفي الإيراني السهروردي المقتول في رؤيا ليلية وقعت له: رسالة "أوزبر جبرائيل أو أصوات أجنحة جبرئيل" رسالة فلسفية صوفية للسهروردي نشرها وترجمها مع مقدمة وتعليقات هنري كوربان وباول كروس في المجلة الآسيوية 1935
لاحظ هنا : الاستشباح والفلسفة التأملية.
إن "أنا" شترنر هي النتيجة الأخيرة لكل التاريخ السابق ، ليست هي إذاً "فرداً جسدياً" corporeal individual ، بل مقولة فلسفية منشأة على الطريقة الهيغلية مدعومة بالإبدالات" ت. أ 196 وكلمة corporeal : تعني في المورد: مادي/جسدي/ رَغْبيّ.
"وكما أن المسيحي يمتلك عالم الأشياء بفعل هذا الهراء الوهمي الذي "يحشو رأسه به" كذلك تمتلك الأنا العالم المسيحي ، عالم الأفكار ، بفعل سلسلة من الأفكار الوهمية عنه" ت. أ 196 .
هيغل يطرح مهمة جديدة على الفلسفة وهي ليست تجاوز العقبة الحسية (طريقة المباشرة الحسية) وجعل الفرد نفسه مادة تصوره وتفكيره فحسب ، بل تجاوز الأفكار الثابتة ، المحدودة ، الجامدة ، إلى تجاوز التفلسف الشكلي ، الصوري القديم" يكتب ماركس: "إن هيغل الذي انحل العالم الحديث بالنسبة إليه في عالم الأفكار المجردة أيضاً، يعرِّف مهمة الفيلسوف الحديث بصورة متعارضة مع مهمة الفيلسوف القديم، كما يلي: بدلاً من أن يتحرر ، مثل القدماء من "الوعي الطبيعي" ، ويطهر الفرد من طريقة المباشرة والحسية ليجعل منه "مادة متطورة ومفكرة"؛ (روحاً)، فإنه من واجبه أن "يتجاوز الأفكار الثابتة ، المحددة، الجامدة" . ويضيف أن ذلك هو دور الجدل "
"إن شترنر دون هيغل ، حيث يتوصل إلى النتيجة ذاتها دون جدل على الإطلاق " ت. أ 197
نقارن هنا ترجمة الفقرة السابقة الذكر مع النص الإنكليزي ، الطبعة 1964 ص 206 :
"Hegel , for whom the modern world was also resolved into the world of abstract ideas, defines the task of the modern philosopher, in contrast to that of the Ancients , freeing himself from "natural consciousness" and purging the individual of the immediate, sensuous method and making him into conceived and thinking substances" (into spirit), the modern philosopher should abolish, firm, definite, fixed, thoughts". This, he adds , is accomplished by "dialectics" .
Sterner is that the former achieves the same thing without the help of
Dilectics"

الليبرالية السياسية
نقد الليبرالية وتاريخ البورجوازية الألمانية منذ الثورة الفرنسية . يقول ماركس: "إن حالة ألمانيا في نهاية القرن الماضي (القرن الثامن عشر) تنعكس بصورة تامة في كتاب كنط نقد العقل العملي" ت. أ 197
في الصفحات 197، 198 ت. أ يتحدث ماركس عن تاريخ البورجوازية الألمانية وعلاقة ذلك بتجريدات عمانويل كانط
في ص 209 من الطبعة الإنكليزية وردت العبارة: petty grade > great illusion وترجمة ذلك: أن التجارة الحقيرة (الصغيرة) تقود إلى أوهام عظمى ، أو إلى اختلاطات عظمى .
لقد كان الأمراء الألمان يتوهمون بالروح البورجوازية الصغيرة عينها، إنهم يقاتلون في سبيل مبدأ الشرعية وضد الثورة في حين لم يكونوا سوى المرتزقة المأجورين للبورجوازية الإنكليزية. وفي جو هذه الأوهام العمومية الشاملة These universal illusions .
كان من طبيعة الأمور أن المراتب(الفئات) [المتمتعة بامتياز ما يتعلق بالذهن] التي تحتكر امتياز الوهم : الأيديولوجيين ، ومعلمي المدارس ، والطلبة وأعضاء عصبة الفضيلة ، كانت تتحدث بكلمات فخمة وتعطي تعبيراً طناناً ملائماً للمزاج العمومي القائم على الوهم [التخيلات] واللامبالاة.
وهذا نص العبارة بالإنكليزية:
"in atmosphere of these universal illusions it was quite in the order of things that the castes privileged cherish illusions – ideologists, school-masters, students, members of tog end bund- should talk big , and give a suitable high flown expression to the universal mood of fantasy and indifference ". p 209-210
إن ثورة تموز 1830 في فرنسا قد فرضت على الألمان من الخارج البنى السياسية المقابلة لبورجوازية متطورة . ولما كانت العلاقات الاقتصادية الألمانية لم تبلغ في حال من الأحوال مستوى التطور الذي تقابله تلك البنى السياسية ، فإن البورجوازية لم تتبناها إلا في شكل أفكار مجردة ، مبادئ صالحة في ذاتها ولذاتها، رغبات نقية وعبارات جوفاء ، تحديدات ذاتية كانطية للإرادة وللناس كما يجب أن يكونوا. وبالتالي فقد كان موقفها من هذه البنى أكثر أخلاقية ولا مبالاة حتى درجة كبيرة من موقف الأمم الأخرى ، أي أنها أظهرت ضيقاً في التفكير فريداً حتى درجة عالية، ولم تؤد جميع جهود البورجوازيين الألمان إلى أدنى نتيجة على الإطلاق." ت. أ 200
وردت عبارة بعدها على الشكل التالي: "انعكاس أيديولوجيي لليبرالية الفعلية".. الأسلوب البورجوازي في الشكل المتعالي الذي أعطاه إياه هيغل ومعلمو المدارس ينتهي بكل تأكيد إلى الاستنتاجات التي تخص مجال المقدس" ت. أ 200
بعدها ترد العبارة : "طريقة شترنر في تملك الأفكار الرائجة".. لم يفت صاحبنا معلم المدرسة أن يسجل ما تم مؤخراً من خلط بين الليبراليين والبورجوازية " ت. أ 201 . لاحظ هنا التفريق بين الليبراليين والبورجوازيين ؛ الليبراليون أيديولوجيون للبورجوازية كطبقة ومنتجو ن لأوهام وجودها.. "بحيث يميز في الصيغ الليبرالية التعبير المثالي عن مصالح البورجوازية الفعلية . ففي رأي شترنر [ومنظري الليبرالية عندنا نحن العرب] أن هدف البورجوازي الأخير هو أن يصبح ليبرالياً كاملاً ، مواطناً في الدولة البورجوازية " [يا له من طموح !!]
من جهة أخرى: يتوجب التمييز بين التعبيرات المثالية في الصيغ الليبرالية من جهة وبين المصالح الفعلية للبورجوازية من الجهة الأخرى.
من الوهم الاعتقاد أن هدف البورجوازي هو أن يصبح ليبرالياً مثالياً وكاملاً. وحسب تصور مسبق لليبرالي الكلاسيكي ، أي من الوهم الاعتقاد أن هدف البورجوازي أن يصبح مواطناً في الدولة .. فليس المواطن حقيقةُ البورجوازي وغايته، بل حقيقة المواطن هي البورجوازي .
ليس من الذكاء التفتيش عن سر المجتمع في المواطن، بل في البورجوازي والبورجوازية كسيطرة سياسية وسلوك اقتصادي " راجع ت. أ 201
"المواطنية" هي سيطرة البورجوازية مهما كان شكل هذه البورجوازية . والطرح الأيديولوجي- البورجوازي الصغير – يحول هذه السيطرة البورجوازية إلى فكرة ولا شيء سوى الفكرة ..ويعطي الدولة دور "الرجل الحقيقي" الذي يمنح في "حقوق الإنسان" لكل بورجوازي فرد حقوق "الإنسان"
* عن علاقة أيديولوجية طبقة بهذه الطبقة / علاقة شترنر بالبورجوازية ومصالحها الفعلية.
هذا التصور للمزاحمة على أنها "حقوق الإنسان" تصادف كثيراً في القرن الثامن عشر عند الناطقين باسم البورجوازية أمثال: جون هايدن، بيتي، .. الخ هامش ت. أ 201
"فصل البورجوازي ، بوصفه ليبرالياً عن نفسه بوصفه بورجوازياً تجريبياً . يعني بالنسبة لشترنر انفصام البورجوازي إلى مقدس(ليبرالي) وإلى دنيوي (بورجوازي) ؛ انقسامه إلى عام وخاص" ؛ وبهذه الطريقة يتم تحويل علاقة البورجوازي بالدولة إلى علاقة مقدسة إلى ماهية .
وردت ملاحظة في الهامش : الأساس الفعلي والمضمون الفعلي لسيطرة البورجوازية ت. أ 202
يكتب ماركس في ص 212 من الطبعة الإنكليزية: "we wish to give here a few examples of how Saint Max embellishes this property of his with historical arabesques "
نرغب هنا أن نعطي بضع أمثلة كيف أن القديس ماكس يزيّن هذه المِلكية خاصّته بفن النقوش العربية التاريخي.
الفيزيوقراطيون : اقتصاديون فرنسيون من القرن الثالث عشر ؛ كيسيني، وميرسيه دي لاريفير، وتورغو، وقد كان ماركس يقدر أعمالهم تقديراً عالياً، ففي رأيه أنهم وضعوا أسس تحليل الإنتاج(أسلوب الإنتاج) الرأسمالي. راجع الهوامش ت. أ 681
ترد عبارة في ت. أ 203 تقول: ليست المسألة " مسألة النظرية الصحيحة للتمثيل القومي ، بل مسألة قضايا جوهرية ، عملية حتى درجة رفيعة".. إن القضية التي حسمتها الجمعية التأسيسية من وجهة نظرية هي أيضاً التمييز بين الهيئة التمثيلية لطبقة class سائدة والهيئة التمثيلية لمرتبة (طائفة أو طبقة مغلقة) caste سائدة ، وأن هذه السيادة السياسية للطبقة البورجوازية كانت مشروطة بأوضاع كل فرد لأنها كانت مشروطة بعلاقات الإنتاج السائدة في ذلك الحين .إن النظام التمثيلي نتاج نوعي جداً للمجتمع البورجوازي الحديث وهو لاصق بهذا المجتمع قدر التصاق الفرد المنعزل للأزمان الحديثة به" ت. أ 204
يعتبر القديس ماكس أن المحاكم هي "أفراد" .. كذلك يرى فيما بعد في المليك المطلق وعبارته كذلك "أن تلك هي رغبتنا" حكم "الفرد" المناهض للمليك الدستوري ؛ "حكم الشَّبح" . ويرى من جديد في الارستقراطي وعضو النقابة الحرفية "الفرد" [يراه] بصورة متعارضة مع المواطن" ت. أ 204 .. علاقة المُلك بالمليك والمحاكم بالحكام.
.. لم تكن الثورة موجهة ضد الواقع [هكذا على التجريد]، بل ضد هذا الواقع [واقع بعينه] . قارن مع هذا القول: القول عن الشكّ المجرَّد ، والشكّ المعيَّن /المُنْتِج!؛
البورجوازي التاريخي المعين الفعلي ..
إذا استطاعت البورجوازية الكبيرة أخذ السلطة السياسية بيدها فعلت وإذا لم تستطع مواجهة خصم اشتراكي مهدد لسلطتها عهدت بالسلطة السياسية إلى البورجوازية الصغيرة الفاشية أو إلى دكتاتور أو مليك.
يتحدث ماركس في ت. ا 205 عن صراع البورجوازية الفرنسية والإنكليزية من أجل أخذ السلطة السياسية كاملة بيدها من الإقطاع والكنيسة .
يحاول شترنر أن يصدق أحد المنظرين الضيقي التفكير من الوريقات الإحدى والعشرين عندما يقول أن: "الليبرالية هي معرفة عقلانية مطبقة على ظروفنا القائمة... وأن الليبراليين مقاتلون في سبيل العقل"ت. أ 205
إبراهيم ضد الرجاء اعتقد بالرجاء، وإيمانه وفق استقامة وصلاح (الرسالة إلى أهل رومية).. والبورجوازي ضد السلطة السياسية والرغبة فيها اعتقد بضرورة أخذها بيديه.
ننقل العبارة الإنكليزية:
Abram "against hope believed in hope" ...and his Faith "was imputed to him for righteousness"(Epistle to the Roman, 4,18 and 22)
صعاليك: Ragamuffins (راغاموفين) : غلام رث الثياب، صعلوك
ماكس شترنر يوحّد بين البروليتاريا والإملاق .. فيما الإملاق هو حالة البروليتاريا المملقة وحدها – المستوى الأحطّ الذي يهوي إليه البروليتاري الذي أصبح عاجزاً عن مقاومة ضغط البورجوازية وأن البروليتاري الذي فقد طاقته بأكملها هو وحده المملق" ت. أ 206
الإملاق: pauperism ؛ إملاق؛ فقر شديد
يمكن لشخص أن يكون مملقاً دون أن يكون بروليتارياً .
بفضل الثورة أصبحت البورجوازية مهيمنة . وهَيْمَن : قال آمين كأمَّن ، وهيمن على كذا : صار رقيباً عليه وحافظاً . والمهيمن: المؤمِّن؛ من آمَن غيره من الخوف، .. وهو الأمين أو المؤتَمن أو الشاهد..
Transformation : تحول ، تحويل (استحالة؛ إزالة)، عبور في علم الوراثة

" while the bourgeois "in course of time" undergoes "at times" a series of "various transformations" and "manifold refractions"p. 217
بينما البورجوازية "في فترة من الزمن" تجتاز "في الزمن" سلسلة من "التحولات متعددة الأشكال" و"انحرافات متنوعة".
"Owing to the revolution the bourgeois became omnipotent"
بدواعي الثورة أصبحت البورجوازية كلية القدرة .
في الترجمة العربية (ت. أ 207) وردت العبارة على النحو التالي: ".. بفضل الثورة أصبحت البورجوازية مهيمنة"
المعنى المزدوج للكلمة الألمانية "Bürger" [Burgher]؛ [ساكن المدينة] التي يفسرها كما يحلو له بمعنى "مواطن" أو بمعنى بورجوازي.
"..the assistance of word German word "Bürger" {"Burgher"} which he can interpret as will as "citoyen" or as "bourgeois" .." p.217
Burgher : مواطن ، وبخاصة في مدينة متمتعة بحكم محلي ذاتي . مورد ص 136
Citoyen: مواطن، بالفرنسية
"إن صاحبنا البورجوازي الطيب (الصغير) يحول من جديد "العمال" المبعثرين في أرجاء العالم المتحضر إلى رابطة متماسكة من الأفراد ليس عليها إلا أن تتخذ قراراً كيما تتخلص من جميع المصاعب " ت. أ 209 .. العمال من دون وعي سياسي مستقل عن الوعي البورجوازي ومن دون تنظيم في حزب مستقل عن أحزاب البورجوازية هم بالفعل مجرد أفراد مبعثرين !
من المؤكد أن القديس ماكس يجهل أن خمسين محاولة على الأقل جرت في إنكلترا منذ عام 1830 ، وثمة محاولة أخرى تجري في الوقت الحاضر ، في سبيل جمع العمال جميعاً، في إنكلترا وحدها في رابطة واحدة وأن أسباباً تجريبية حتى درجة كبيرة قد عطلت نجاح جميع هذه المشروعات" ت. أ 209 [اتحاد العمال في روابط سياسية ليس بديهياً ولا ميكانيكياً]
One: "المرء" . المرء غير الشخصي: شبح
..تبين من البورجوازية " طبيعة العلاقة القائمة بين المالكين والدولة الحديثة" ت. أ 208
Opposition: تقابل القضايا (في الفلسفة الصورية)، تقابل ، تضاد ، تعارض .. لاحظ "التعارض بين البورجوازية والبروليتاريا "
"وكما فعل أعلاه بخصوص المال ، فإن صاحبنا البورجوازي (الصغير) الطيّب يحوّل transforms من جديد "العمال" [الشغيلة: workers] المبعثرين في أرجاء العالم المتحضر إلى رابطة متماسكة من الأفراد ليس عليها إلا أن تتخذ قراراً كيما تتخلص من جميع المصاعب . ومن المؤكد أن القديس ماكس يجهل أن خمسين محاولة على الأقل جرت في انكلترا منذ عام 1830 فقط ، وان ثمة محاولة أخرى تجري في الوقت الحاضر ، في سبيل جمع العمال جميعاً في انكلترا وحدها في رابطة واحدة ، وأن أسباباً تجريبية حتى درجة كبيرة قد عطلت نجاح جميع هذه المشروعات " ت. أ 209
ماركس يتحدث هنا ضد النزعة الميكانيكية : وحدة العمال (الشغيلة ) ليست بديهية وليست معطاة مباشرة ، بل موسّطة بأسباب تجريبية حتى درجة كبيرة.
إذا توفرت الأسباب التجريبية لوحدة الشغيلة (العمال) فهذا يعني أننا في وضع ثوري ، أو ملتزمين بالاتجاه نحو موقف ثوري . يجهل القديس ماكس "أنه حتى أقلية من العمال، إذا اتحدوا للتوقف عن العمل ، سوف يجدون أنفسهم عاجلاً جداً ملزمين باتخاذ موقف ثوري . وهي حقيقة كان يمكن الاطلاع عليها من انتفاضة عام 1842 في إنكلترا .. ومن انتفاضة ويلش السابقة لها عام 1839 ، وهي السنة التي بلغ فيها الفوران الثوري بين العمال للمرة الأولى نسبة عالية ، ابتداء من "الشهر المقدس" الذي أعلن بصورة متواقتة مع تسليح الشعب العام. " ت. أ 209
في ت. أ 209 أيضاً عبارة تقول: "الدولة الحديثة، حكم البورجوازية.. ".
إن حرية العمل هي حرية العمال في المزاحمة فيما بينهم" ت. ا 209
"Freedom of labour is free of competition of the workers among themselves" p. 220
ومن الطبعة الإنكليزية ننقل العبارة التالية:
"The modern state, the rule of the bourgeois, is based on freedom of labour " : تقوم الدولة الحديثة ، حكم البورجوازية ، على حرية العمل [على حرية العمال في المزاحمة فيما بينهم]
ليست المسألة في حرية العمل بل إلغاؤه" ومقابلتها في اللغة الإنكليزية:
"it is not a matter of freeing labour but of abolishing it" p. 220 وهنا نلفت انتباه القارئ أن كلمة abolishing لا تعني البطالة أو إلغاء العمل هكذا على التجريد ، بل تعني إلغاء العمل المأجور بالتحديد . هكذا تترجم العبارة السابقة كالتالي: "ليست المسألة في حرية العمل ، بل في إلغاء العمل المأجور"
يعلق الدكتور فؤاد أيوب مترجم "الأيديولوجية الألمانية" في هوامش الترجمة ص 683 بالقول: "يستخدم المؤلفان(ماركس وانجلز) العبارة الهيغلية aufheben"" التي تعني الإلغاء مع التجاوز
وهنا لا بد من تعليق على هذا التعليق للمترجم ، حول الكلمة الألمانية aufheben .
ينقل هنري لوفيفر عن هيغل قول الأخير: "إن التجاوز هو تحديد جوهري يحدث في كل مكان... وكل ما يتم تجاوزه لا يصبح بذلك عدماً، فالعدم مباشر بينما الحدّ الذي يتم تجاوزه هو على النقيض حدّ دخل عليه التوسّط. إنه "لا- وجود" ولكن بمقدار ما يكون ذلك نتيجة ناجمة عن وجود، فهو ما يزال يحتفظ داخله بالتحديد الذي نشأ عنه. فلكلمة التجاوز aufheben معنيان، إنها تعني الاحتفاظ وتعني الإنهاء " (هيغل، علم المنطق ، الكتاب الأول ص 110-111) [إلغاء العمل المأجور وتجاوزه إلى مستوى أعلى من قوة العمل؛ قوة عمل غير مستلبة]
يظهر تشويش في تعليق الدكتور فؤاد أيوب : فبدلاً من أن يشمل التجاوز النقيضين؛ الإلغاء والاحتفاظ في نفس الوقت ، فقد ذكر التجاوز الذي يتضمن الإلغاء أصلاً !
سانشو .. يحول المجتمع إلى شخص ، إلى ذات.." ت. أ 210
"التملك، تملك خصوصي كلياً، الحق بالتصرف بقوة عمل الناس الآخرين.. التملك من حيث هو ، ملاّك عقاري ، تاجر ، صاحب مصنع، الخ.. "ت. أ 210
تم "رفع" المغفل البليد الضخم الجسم lump إلى صعلوك ragamuffin من أجل "رفع" كلمة صعلوك إلى درجة التخاطب الفخري، بالضبط كما فعلت الثورة بكلمة "مواطن" ت. أ 211
المواطن: citizen : المدينيّ؛ أحد سكان المدينة ، المواطن ... اللامتسرول / مقابل الناس الشرفاء" ت. أ 212
إن الليبرالية ، أي الملاكين الخاصين الليبراليين ، قد أعطوا الملكية الخاصة في مطلع الثورة الفرنسية مظهراً ليبرالياً حين نادوا بها أحد حقوق الإنسان. ولقد كانوا ملزمين بأن يفعلوا ذلك ولو من جراء مركزهم كحزب ثوري ؛ بل لقد كانوا مكرهين أن يعطوا كتلة السكان [الريفيين] الفرنسيين، لا الحق في الملكية فحسب ، بل أن يتيحوا لها الاستيلاء على المَلَكيات الفعلية ، وقد كان في مقدورهم أن يفعلوا ذلك كله لأن "مقدارهم الخاص " الذي كانوا يعتنون به قبل أي شيء آخر ، ظل سليماً، بل بات مضموناً." ت. أ 213
"إن لمما يميز هيغل أنه يجعل من عبارة البورجوازي المفهوم الحقيقي للملكية، ماهيتها [ماهية المِلْكيّة]" [هيغل يصوغ نظرياً شكل وعي البورجوازي لمفهوم الملكية ، ويعتبر البورجوازي التشخيص الأكثر "نقاءً لمفهوم الملكية "]
... إن ما أملكه ومقداره مسألة إمكانية قانونية" (أصول فلسفة الحق ، هيغل فقرة 49 ) ت. أ 213 ..
Vermôgen : الكفاءة والقدرة والثروة والغنى والملكية[باللغة الألمانية] ت. أ 214 .. "تأكيد البورجوازيين المبتذل بأنه يجب على كل امرئ أن يحصل على القدر الذي تتيحه له "كفاءته" vermôgen" ت. أ 214 .
الحديث عن تعابير الحق والعمل ، ترد في المجلد الثاني من الأيديولوجية الألمانية (الاشتراكية الحقيقية)
يكتب ماركس : "أكدنا مع كثيرين غيرنا على معارضة الشيوعية للحق، سواء أكان الحق سياسياً أو خاصاً، كلاهما يعتبر مقابلاً للملكية الخاصة المرتبطة بطبقة ، والحق مقابلا لشروط المزاحمة ، الملكية الخاصة الحرة.. وكذلك فإن حقوق الإنسان Rights of Man نفسها تدرس على اعتبارها امتيازاً ، والملكية الخاصة على اعتبارها احتكاراً. وفيما عدا ذلك ، فإن نقد الحق مرتبط بالفلسفة الألمانية ومقدم على أنه عاقبة نقد الدين . وفضلاً عن ذلك ، فقد قرر بكل وضوح أن البدهيات الشرعية التي يفترض أنها تؤدي إلى الشيوعية بدهيات للملكية الخاصة ، كما أن حق الملكية المشتركة مقدمة وهمية لحق الملكية الخاصة " ت. أ 214-215 [على هذا الأساس تكون ملكية الدولة مقدمة "وهمية" للملكية الخاصة؛ التأميم هكذا على التجريد كمقدمة للملكية الخاصة بالطبقة الجديدة الصاعدة إلى السلطة ؛ تأميمات البعث، مثال] .
.. صاحبنا الذي هو كلمة الله الساذجة " ت. أ 216
وردت كلمات أخوة ومساواة باللغة الفرنسية وهي كلمات رفعتها الثورة الفرنسية كشعار.
Fraternité : أخوّة ، Egalité : مساواة
"إن "المظلوم" الذي يفتش في "الدولة" عن "الذنب" في الإملاق ليس هو كما رأينا أعلاه بصورة عابرة ، سوى جاك المغفل نفسه، ... ذلك الذي يفتش "في ذاته" عن "الذنب كله" ، يعني ذنب حالة العالم الراهنة بكاملها، يعني مرة أخرى جاك المغفل، من دون أي امرئ سواه. "هذه إذن مجرد ظاهرة موقف قديم جداً" للطريقة المسيحية في انسحاق القلب وفعل الندامة في شكل تأمل ألماني ، موقف التشدق المثالي ، الذي ينصُّ على أنني ، أنا الإنسان الفعلي ، لا ينبغي لي أن أبدل الواقع القائم الذي لا أستطيع أن أبدله إلا متعاضداً مع الآخرين ، بل ينبغي لي أن أبدل نفسي ، في أعماق نفسي . "إنه الصراع الباطن للكاتب مع نفسه"" ت. أ 217
الإبدال هو حمار سانشو المطيع ، وحمار هنا ass لا تعني اسم الحيوان المعروف ، بل تعني: شخص حمار. شخص أبله أو أحمق أو عنيد.
"His "ass" , the apposition" : الإبدال: حماره؛ [حماقته]
"... "الواجبات" و "المصالح" وهما قطبان متكاملان لتناقض يخص المجتمع البورجوازي وحده (عندما يتعلق الأمر بالمصلحة ، فإن البورجوازي الذي يفكر يحشر على الدوام حداً ثالثاً بينه وبين نمط عمله- وهي عملية تتخذ شكلاً كلاسيكياً حقاً عند بنتام الذي لا بد أن يكون لأنفه مصلحة ما قبل أن يقرر أن يشم أي شيء كان )" – أنظر الكتاب بشأن "حق المرء في أنفه"
في زي المصلحة يحشر البورجوازي على الدوام في تفكيره حداً ثالثاً بينه وبين شكل تصرفه.. (بنتام ممثل كلاسيكي لهذا الأمر)
Bentam , whose nose had to have some interest before it would decide to smell anything": .. بنتام الذي على أنفه أن يمتلك بعض المصلحة قبل أن يقرر أن يشم أي شيء
Compare the Book "on the right to one s nose " " (قارن الكتاب، حق المرء في أنفه)
الواجبات "duties" ، والمصالح "interests" متكاملان لتناقض يخص المجتمع البورجوازي وحده
المجتمع الفعلي ؛ المجتمع البورجوازي القائم بالفعل: "إن البروليتاريين الشيوعيين الذين يثورون المجتمع (الفعلي) ويضعون علاقات الإنتاج وشكل التعامل على أساس جديد "؛ إن هدف التثوير هو تغيير أسس علاقات الإنتاج وشكل التعامل ؛ أي تغيير أسلوب الإنتاج الرأسمالي.
(ليس الذنب في نفوس الأفراد) إن البروليتاريين الشيوعيين "يعرفون أفضل المعرفة أنهم لن يكفوا عن كونهم "كما كانوا فيما مضى " إلا حين تتغير الظروف (تغيير الشرط البورجوازي بتجاوزه)، وبالتالي فهم عازمون على تغيير هذه الظروف في أول فرصة . ففي النشاط الثوري يتزامن (coincides) تغيير المرء مع تغيير الظروف" ت. ا 220
وكلمة "أول فرصة" هي كلمة مبدئية تحتاج إلى تعيين في الشرط الخاص في كل مرحلة من مراحل النضال.
نصيحة القديس ماكس والتي استوحاها من القديس برونو(قديس البورجوازية الصغيرة) هي عبارة عن مطلب أخلاقي خاص بتغيير الأفراد أنفسهم ، وبذلك تتغير مجتمعاتهم" ت. أ 221
"الشيوعية" الشترنرية التي تتوق كثيراً من أجل "الماهية" تصل ، هكذا، فقط، إلى مقولة فلسفية عن "الإيثار" ، والتي تتحقق عندئذ بمعادلات ضعيفة القوة " الطبعة الإنكليزية 231
أوين "الذي يمثل الشيوعية الإنكليزية" ت. أ 222
لما كان القديس ماكس بورجوازياً صغيراً حقيقياً فإنه ".. يُدخل من جديد إلى الشيوعية المِلْكية الخاصة في شكلها المزدوج- التوزيع والعمل المأجور.." ت. أ 223 ، ولما كان بورجوازياً صغيراً حقيقياً فإنه "ضد المزاحمة يُنْهض مبدأ مجتمع الصعاليك – التقاسم distribution.." ت. أ 223
يتحدث ماركس هنا بتهكم عن الاشتراكية العقائدية –البورجوازية الصغيرة –مجتمع الصعاليك – التقاسم؛ أو اشتراكية التوزيع (العدالة الاجتماعية عند الأحزاب الدينية البورجوازية الصغيرة ، المحققة عبر الزكاة والمشاريع الخيرية (الإحسان) ، وقارن مع اشتراكية الأحزاب القوموية كالبعث والناصرية ، الخ.. وهي إعادة توزيع لصالح الطبقات الجديدة وليس تغييراً لأسلوب الإنتاج الرأسمالي) . على هذا الأساس تكون ملكية الدولة مقدمة "وهمية" للملكية الخاصة؛ التأميم هكذا على التجريد كمقدمة للملكية الخاصة بالطبقة الجديدة الصاعدة إلى السلطة .
يقول لسان حال البورجوازي الصغير الحقيقي: "أمن الممكن أنا المؤهل جداً ألا أملك أي فضل على ذلك الذي يفتقر على المؤهلات جميعاً؟".. إن صاحبنا المؤهل جداً vermôgen (وفيرموغين بالألمانية تعني خيرات مادية ومؤهلات بنفس الوقت حيث يتلاعب شترنر بهذا الازدواج في المعنى ).. وفيما عدا ذلك ، فإن صاحبنا "المؤهل جداً" يتوهم أن المواطنيّة citizenship هي موضع اللامبالاة بالنسبة إلى البروليتاريين ، بعدما افترض قبلاً أنهم يملكونها مبدئياً ، بالضبط مثلما توهم أعلاه أن شكل الحكم هو موضع اللامبالاة بالنسبة إلى البورجوازيين. إن العمال يعلقون أهمية عظمى على المواطنيّة ، يعني المواطنيّة الفاعلة active، بحيث أنهم حيث يملكونها ، في أمريكا على سبيل المثال ، "يفيدون" منها، وحيث لا يملكونها يناضلون في سبيل الحصول عليها." ت. أ 223
نهاية القسم الثاني

Works of Marx and Engels 1845
The German Ideology
According to Its Representatives Feuerbach, B. Bauer and Stirner, and of German Socialism According to Its Various Prophets[7]
________________________________________
Written: Fall 1845 to mid-1846;
First Published: 1932 (in full);
Preface: from Marx-Engels Collected Works, Volume 5.
________________________________________
Volume I
Critique of Modern German Philosophy According to Its Representatives
Feuerbach, B. Bauer and Stirner[8]
Preface
I. Feuerbach: Opposition of the Materialist and Idealist Outlooks
II. The Leipzig Council: Saint Bruno
III. The Leipzig Council: Saint Max [45]
(Abstract of Chapter III)
Volume II
Critique of German Socialism According to Its Various Prophets




1- ماركس، انجلز: "الأيديولوجية الألمانية " ، ترجمة الدكتور فؤاد أيوب ، دار دمشق 1976 ص 185
2- تأليف وترجمة :عبد الرحمن بدوي: شخصيات قلقة في الإسلام دار سينا الطبعة الثالثة 1995 ص 211
3- في الترجمة الإنكليزية: وهذا منجز بعون الديالكتيك . (هيغل: علم ظواهر الروح أو الفينومينولوجيا)
4- الشيء ذاته دون مساعدة الديالكتيك . الترجمة الإنكليزية
5- الفيروز آبادي: القاموس المحيط الطبعة السادسة 1998 ، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ، ص 1240
6- قاموس نوبلس Dictionaire NOBILIS- فرنسي –عربي ، ص 42

7- المورد 1991 ، ص 535
8- هنري لوفيفر: المنطق الجدلي . ترجمة إبراهيم فتحي ، دار الفكر المعاصر 4 ميدان الجمهورية القاهرة ، الطبعة الأولى أبريل 1978 . ص 19
9- لازمة، نتيجة طبيعية corollary المورد 1991 ص 219 . الإنسان (على التجريد) Man ، الفرد يقابل كلمة individual
10- أنظر بصورة خاصة مقالات ماركس بصدد "المسألة اليهودية"، و "إسهام في نقد فلسفة الحق عند هيغل" و ومقالة اجلز "موجز نقد الاقتصاد السياسي" في "الحوليات الفرنسية الألمانية" منشورات دييتز، المجلد الأول. راجع أيضاً الطبعة الإنكليزية ص 225
11- راجع كتاب "العائلة المقدسة " لـ ماركس وانجلز
12- moral demand: مطلب أخلاقي
13- being- for- one- another: وجود كل واحد من أجل الغير
14- like a real petty bourgeois
15- make good use"" : "يستعملونها" جيداً (يحسنون استعمالها)




باب الترجمة




















نشر هذا المقال في مجلة La Pansee عدد 150 وأعيد نشره في كتاب لويس آلتوسير: مواقف: 1976 Positions, Editions Sociales
مقتطف من كتاب: دراسات لا إنسانوية
من لويس ألتوسير و جورج كانغيليم
ترجمة وتقديم : د. سهيل القش
المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1981
فصل: الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية (ملاحظات تمهيدية لدراسة) . لويس ألتوسير








الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية
حول تجديد إنتاج شروط الإنتاج
علينا الآن إبراز ما أشرنا إليه بإيجاز في كتابات سابقة حين تكلمنا عن ضرورة تجديد وسائل الإنتاج لكي يصبح الإنتاج ممكناً. لقد كانت إشارة عابرة. فلنتناولها الآن هي بذاتها.
إن الطفل يعرف، كما قال ماركس، أن أية تشكيلة اجتماعية لا تستطيع أن تعيش سنة واحدة إذا لم تجدد إنتاج شروط إنتاجها في نفس الوقت الذي تنتج فيه. فالشرط الأخير هو إذن تجديد إنتاج شروط الإنتاج. يمكن أن يكون تجديداً مبسطاً للإنتاج (تجديد إنتاج شروط الإنتاج السابق فقط) أو"موسعاً" (أي بتوسيع هذه الشروط). لندع الآن هذا الاختلاف جانباً.
ما هو إذن تجديد إنتاج شروط الإنتاج؟
إننا نخوض هنا في مجال مألوف (منذ الكتاب الثاني لرأس المال) ونجهله بحد ذاته. إن البديهيات الراسخة (بديهيات أيديولوجية من نوع تجريبي) من منظور الإنتاج فقط، أي من منظور الممارسة الإنتاجية (وهي نفسها مجردة بالنسبة لعملية الإنتاج) تلتصق "بوعينا" اليومي إلى حد يصعب إن لم نقل يستحيل الارتفاع إلى منظور تجديد الإنتاج. وذلك بالرغم من أن الأشياء، خارج هذا المنظور، تبقى مجردة (وأكثر من جزئية: مشوهة)- حتى على مستوى الإنتاج، بمجرد الممارسة.
فلنحاول أن نتفحص الأمور منهجياً.
إذا اعتبرنا أن كل تشكيلة اجتماعية، في نفس الوقت الذي تنتج فيه، ولكي تستطيع أن تنتج، أن تجدد إنتاج شروط إنتاجها. فعليها إذن أن تجدد إنتاج:
1- قوى الإنتاج.
2-علاقات الإنتاج القائمة.


تجديد إنتاج وسائل الإنتاج.
لقد أصبح الجميع يعترفون (ربما في ذلك الاقتصاديون البورجوازيون الذين يعملون في المحاسبة القومية، أو المنظرون العصريون لعلم الاقتصاد المكبّر) بأنه ليس هناك إنتاج ممكن بدون تجديد إنتاج شروط الإنتاج المادية: تجديد الإنتاج، وهذا ما بينه ماركس في الكتاب الثاني من رأس المال.
إن أي اقتصادي يعرف، وهو بذلك لا يتميز عن مطلق رأسمالي، بأن عليه أن يتحسب كل سنة لما يجب استبداله من الأشياء التي تنضب وتضمحل في الإنتاج: المادة الأولية، التجهيزات الثابتة (الأبنية) وسائل الإنتاج (الآلات) الخ. قلنا مطلق اقتصادي= مطلق رأسمالي، وذلك لأن كليهما يعبر عن وجهة نظر المشروع، مكتفياً بتقييم نهايات الممارسة المالية والحسابية في المشروع.
لكننا نعرف، بفضل عبقرية كيسناي، وهو أول من طرح المشكلة "التي تبهر الأعين"، وبفضل عبقرية ماركس الذي أوجد لها الحل، أنه يجب ألا نطرح مسألة تجديد إنتاج الشروط المادية للإنتاج على مستوى المشروع إلا نتيجة، تعطينا فقط فكرة عن ضرورة تجديد الإنتاج، ولكنها لا تفصح البتة عن شروطها وتركيباتها.
يكفي للتثبت من ذلك ، التفكير لحظة: السيد ب ، رأسمالي ينتج في معمل للغزل أقمشة صوفية، وعليه أن "يجدد إنتاج" المواد الأولية، والآلات الخ. ولكننا نرى بأنه ليس هو الذي ينتج هذه المواد الضرورية لإنتاجه- بل رأسماليون آخرون: مربٍّ كبير للحيوانات في أستراليا، السيد ج...معدني كبير ينتج آلات- معدات، السيد هـ...الخ. ولكي يستطيع هؤلاء أن ينتجوا هذا الإنتاج الذي يتحكم بتجديد إنتاج السيد ب....عليهم بدورهم أن يجددوا إنتاج شروط إنتاجهم الخاص، وهكذا إلى ما لانهاية، -الكل موزع نسبياً بطريقة يمكن بواسطتها للطلب على صعيد السوق القومية والعالمية أن يجد لدى العرض ما يحتاجه من وسائل إنتاج (من أجل تجديد الإنتاج).
لكي نفهم هذه التركيبة التي تخلص إلى نوع من "الخيط الذي لا نهاية له"، علينا تقصي مسيرة ماركس "الشاملة"، ودرس علاقات انتقال رأس المال بين القطاع1 (إنتاج وسائل الإنتاج) والقطاع 2 (إنتاج وسائل الاستهلاك) وتحقيق فضل القيمة، في الكتابين 2 و3 من رأس المال.
لن ندخل في تحليل هذه المسألة . يكفي أننا نوهنا بضرورة تجديد إنتاج الشروط المادية للإنتاج.
تجديد إنتاج قوة العمل.
قد يلاحظ القارئ غياب شيء ما عن هذا البحث. فقد تكلمنا عن تجديد إنتاج وسائل الإنتاج- وليس عن تجديد إنتاج القوى المنتجة. فنكون بذلك قد أغفلنا تجديد إنتاج ما يميز القوى المنتجة عن وسائل الإنتاج، أي بالتحديد تجديد إنتاج قوة العمل.
إذا كان بإمكاننا ، بمراقبة ما يجري في المشروع، وخاصة بتفحص الممارسة المالية-الحسابية لتوقعات الصيانة- والاحتياط، تكوين فكرة واضحة عن وجود العملية المادية لتجديد الإنتاج، فإننا ندخل الآن في مجال لا تستطيع تلك المراقبة أن تستجليه، إن لم يكن كلياً فعلى الأقل جزئياً، وذلك لسبب وجيه: يتم تجديد إنتاج قوة العمل بشكل أساسي خارج المشروع.
كيف يتم تجديد إنتاج قوة العمل؟
إنه يتم بتوفير الوسيلة المادية لتجديد إنتاج قوة العمل: الأجر. يدخل الأجر في محاسبة كل مشروع، ولكن "كرأس مال يد عاملة" ، وليس كشرط مادي لتجديد إنتاج قوة العمل.
وذلك على الرغم من أن الأجر "يقوم" بذلك، لأنه لا يمثل إلا جزءاً من القيمة المنتجة باستهلاك قوة العمل، هذا الجزء الضروري لتجديد إنتاج قوة العمل: أي الضروري لتجديد قوة عمل الأجير (ملبس، مسكن، مأكل، أي باختصار ما يلزمه ليكون في وضع يؤهله أن يتقدم في اليوم التالي- وكل يوم من صنع الخالق-على باب المشروع)، يضاف إلى ذلك: الجزء الضروري لتربية وتعليم الأولاد الذين يجدد العامل بواسطتهم إنتاج نفسه (على عدد ب من النسخ: ب يمكن أن تتراوح بين 0، 1، 2، الخ...) كقوة عمل.
نذكر هنا بأن الذي يحدد هذه الكمية من القيمة (الأجر)، الضرورية لتجديد إنتاج قوة العمل، ليست فقط حاجات حد أدنى "بيولوجي"، بل هي حاجات حد أدنى تاريخي (يلاحظ ماركس: العمال الإنكليز بحاجة إلى الجعّة، والعمال الفرنسيون بحاجر إلى الخمْر)- وهو حدّ يتغير تاريخياً.
لنلاحظ أيضاً بأن الحد الأدنى هذا ذو طبيعة مزدوجة تاريخياً، وذلك لأنه ليست الحاجات التاريخية للطبقة العاملة "المعترف بها" من قبل الطبقة الرأسمالية هي التي تحدده، بل تحدده الحاجات التاريخية التي فرضها الصراع الطبقي البروليتاري (صراع طبقي مزدوج: ضد زيادة ساعات العمل، وضد تخفيض الأجور).
ولا يكفي توفير الشروط المادية لتجديد إنتاج قوة العمل حتى يتجدد إنتاجها كقوة عمل. لقد قلنا بأن قوة العمل المتوفرة يجب أن تكون "كفوءة"، أي قادرة أن تدخل في النظام المعقد لعملية الإنتاج. إن نمو القوة المنتجة ونوع الوحدة التاريخية الذي تتكون منه القوى المنتجة في لحظة معينة يؤديان إلى نتيجة أن على قوة العمل أن تكون (بتنوع) اختصاصية وبالتالي يتجدد إنتاجها على هذا الأساس: بتنوع، حسب متطلبات تقسيم العمل التقني-الاجتماعي، في كافة "مراكزه" و"وظائفه".
كيف يتوفر إذن في النظام الرأسمالي تجديد إنتاج اختصاص قوة العمل (المتنوع)؟ إن تجديد إنتاج اختصاص قوة العمل، خلافاً لما كان يجري في التشكيلات الاجتماعية العبودية، يتجه (فالأمر يتعلق بقانون اتجاهي) شيئاً فشيئاً إلى استيفاء شروطه ليس "في الواقع" (التعلم في الإنتاج نفسه) بل خارج الإنتاج: بواسطة النظام التعليمي الرأسمالي، وبواسطة مستويات ومؤسسات أخرى.
ماذا نتعلم في المدرسة؟ يذهب الجميع إلى الدروس، ولكن المدرسة تعلمهم القراءة، الكتابة، الحساب- أي بعض القضايا التقنية وأشياء أخرى بما فيها عناصر (يمكن أن تكون بدائية أو معمقة) "ثقافية علمية" أو "أدبية" يمكن استعمالها مباشرة في مراكز الإنتاج المختلفة (برنامج للعمال، وآخر للتقنيين، وثالث للمهندسين، وآخر للأطر العليا، الخ). إن المدرسة تعلم إذن "أصول التصرف".
ولكن المدرسة تعلم إلى جانب هذه القضايا التقنية وهذه المعارف ومن خلالها، "قواعد" السلوك الصحيح، أي اللياقة التي يترتب على كل وكيل في تقسيم العمل أن يراعيها، حسب الوظيفة "المعد" ليشغلها: قواعد الأخلاق، والوعي المدني والمهني، وباختصار قواعد احترام تقسيم العمل الاجتماعي-التقني، أي قواعد النظام القائم تحت السيطرة الطبقية. تعلم المدرسة أيضاً "الكلام الفرنسي الصحيح"، "والكتابة" الصحيحة، أي في الواقع (بالنسبة لرأسماليي المستقبل وخدامهم) "التحكم" أي (حل مثالي) "التكلم الصحيح" مع العمال، الخ.
لتصوير هذا الواقع بلغة أكثر علمية، نقول بأن تجديد إنتاج قوة العمل يحتم ليس فقط تجديد إنتاج اختصاصها، بل، وبنفس الوقت، تجديد خضوعها لقواعد النظام القائم، أي تجديد خضوع العمال للأيديولوجية المسيطرة وتجديد إنتاج القدرة على التحكم بالأيديولوجيا المسيطرة بالنسبة لوكلاء الاستغلال والقهر، وذلك لكي يوفروا أيضاً "بالعبارة" سيطرة الطبقة المسيطرة.
إن المدرسة ، بتعبير آخر، (وكذلك مؤسسات الدولة الأخرى والكنيسة وأجهزة أخرى كالجيش) تعلم "أصول التصرف" ، ولكن بأشكال تؤمن الخضوع للأيديولوجية المسيطرة، أو ضبط "ممارستها". يجب أن "تخترق" هذه الأيديولوجية كل وكلاء الإنتاج والاستغلال والقهر، دون التطرق إلى "محترفي الأيديولوجية" (ماركس)، وذلك لكي يقوموا "بملء وعيهم" بواجبهم- كمستغلين (العمال) أو كمستغلين (الرأسماليون) أو كمساعدين للاستغلال (الأطر)، أو كرهبان كبار للأيديولوجية المسيطرة "موظفيها" الخ...
إن تجديد إنتاج قوة العمل تظهر إذن كشرط لها، ليس فقط تجديد إنتاج "اختصاصها"، بل كذلك تجديد إنتاج خضوعها للأيديولوجية المسيطرة، أو "لممارسة" هذه الأيديولوجية، وبتعبير أدق، لا يكفي أن نقول: "ليس فقط تجديداً ولكن كذلك"، إذ يبدو أن تجديد إنتاج اختصاص قوة العمل يتم في وتحت أشكال الخضوع الأيديولوجي.
ولكننا بذلك نتعرف على وجود قوي لواقع جديد: الأيديولوجية.
سنبدي هنا ملاحظتين:
الملاحظة الأولى: لتوضيح تحليلنا عن تجديد الإنتاج.
لقد درسنا بسرعة أشكال تجديد إنتاج علاقات الإنتاج. إن هذه مسألة مركزية في نظرية نمط الإنتاج الماركسية. ويعتبر التغاضي عنها إهمالاً نظرياً-أنكى من ذلك، فهو خطأ سياسي فادح.
سنتحدث إذن عنها . وعلينا ، لكي نتمكن من ذلك، أن نقوم مجدداً بدورة كبيرة.
الملاحظة الثانية: علينا ، للقيام بهذه الدورة، أن نعيد طرح سؤالنا القديم: ما هو المجتمع؟
البناء التحتي والبناء الفوقي
لقد أتيح لنا أن نؤكد على الطبيعة الثورية لتصور "الكل الاجتماعي" الماركسي، فيما يتميز به عن "المجموع" الهيغلي. لقد قلنا (وتردد هذه الموضوعة جملاً شهيرة من المادية التاريخية) بأن ماركس يرى بنية كل مجتمع مكونة من "مستويات" "أصعدة"، يصوغها تقرير محدد:
البناء التحتي أو القاعدة الاقتصادية "وحدة" القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، والبناء الفوقي، ويحتوي نفسه على "مستويين" أو "صعيدين": الحقوق-السياسة (الحق والدولة) والأيديولوجيا (الأيديولوجيات المختلفة، الدينية، الأخلاقية، الحقوقية، السياسية، الخ).
إن هذا العرض، بالإضافة إلى فائدته النظرية-التربوية، (التي تظهر الاختلاف الذي يفصل ماركس عن هيغل)، يتمتع بالفائدة النظرية الرئيسية التالية: إنه يدخل في المضمون النظري لتصوراته الأساسية ما دعوناه دليل الفعالية المناسب. ما المقصود بذلك؟
يمكننا أن نوضح بسهولة بأن هذا العرض لبنية كل مجتمع كبناء يضم قاعدة (بناء تحتي) يقوم عليها "طابقان" من البناء الفوقي، إن هو إلا استعارة فضائية: استعارة مكانية . إن هذه الاستعارة، ككل الاستعارات، توحي، تسمح برؤية شيء ما. ما هو؟ إنه بالتحديد أن الطوابق العليا لا تستطيع أن "تقف" (في الهواء) وحدها، إذا لم تستند بالتحديد على قاعدتها.
إن الغاية من مجاز البناء هي بالدرجة الأولى إظهار التحديد في التحليل الأخير" الذي تتمتع به القاعدة الاقتصادية. إن تأثير هذه الاستعارة الفضائية ينعكس في تعيين قاعدة دليل الفعالية المعروف بالتعبير الشهير: التحديد في التحليل الأخير من قبل ما يجري في القاعدة الاقتصادية لما يجري في "الطوابق" (البناء الفوقي). انطلاقاً من دليل الفعالية هذا "في التحليل الأخير" ، تتضافر بالطبع دلائل فعالية مختلفة لتعيين "طوابق" البناء الفوقي. أي نوع من الدلائل؟
إننا نستطيع القول بأن طوابق البناء الفوقي ليست محددة في التحليل الأخير، ولكن فعالية القاعدة هي التي تحددها، فإذا كانت لها فعالية خاصة بها (غير محددة بعد) فهذا نتيجة للتحديد الذي تقوم به القاعدة.
إن دليل فعالية "الطوابق" (أو دليل تحديدها)، كونه محدداً بالتحديد في التحليل الأخير الذي يأتي من القاعدة، قد عرف شكلين في تراث التفكير الماركسي:
1- يوجد "استقلالية نسبية" للبناء الفوقي بالنسبة للقاعدة.
2- يوجد "رد فعل معاكس" من البناء الفوقي على القاعدة.
إننا نستطيع إذن القول بأن الفائدة النظرية الكبرى للاستعارة المكانية الماركسية، أي للاستعارة الفضائية حول البناء (القاعدة والبناء الفوقي) يتجلى في إظهار أهمية مسائل التحديد (أو دليل الفعالية) من جهة، ومن جهة أخرى في إظهار أن القاعدة هي التي تحدد في التحليل الأخير كل البناء، وبالتالي في تحتيم طرح المشكلة النظرية المتعلقة بنوع الفعالية "المنبثقة" الخاصة بالبناء الفوقي، أي في إجبارنا على التفكير في ما عرف في التراث الماركسي باستقلالية البناء الفوقي النسبية، وبرد فعل البناء الفوقي المعاكس على القاعدة.
إن السيئة الأساسية لعرض بنية كل مجتمع حسب الاستعارة الفضائية للبناء، هي كون هذا العرض مجازياً: أي بقاؤه وصفياً.
لقد أصبح من الممكن ومن المستحسن عرض الأشياء بشكل مغاير. فليفهمنا الجميع جيداً: إننا لا ننكر الاستعارة الكلاسيكية، إذ أنها تجبرنا هي نفسها على تخطيها. ونحن إذ نتخطاها فليس لإسقاطها واعتبارها فانية.إننا نريد فقط محاولة التفكير في ما تقدم لنا بشكل وصف.
إننا نعتقد بأنه من الممكن ومن الضروري التفكير في ما يميز أساسياً وجود طبيعة البناء الفوقي انطلاقاً من تجديد الإنتاج. يكفي أن ننطلق من منظور تجديد الإنتاج لتتضح الكثير من المسائل التي كانت تشير إلى وجودها الاستعارة الفضائية حول البناء، دون أن تجد لها جواباً نظرياً.
إن موضوعتنا الأساسية هي أنه لا يمكن طرح هذه المسائل (وبالتالي الجواب عنها) إلا من منظور تجديد الإنتاج.
سنحلل باختصار الحق والدولة والأيديولوجيا من هذا المنظور. وسنظهر في نفس الوقت ما يجري من وجهة نظر الممارسة والإنتاج من جهة ، وتجديد الإنتاج من جهة أخرى.
الدولة
إن التقليد الماركسي شكلي: فهمت الدولة منذ البيان و18 برومير (وفي كل النصوص الكلاسيكية اللاحقة، وبالدرجة الأولى، ماركس حول كومونة باريس ولينين حول الدولة والثورة) على أنها جهاز قمع. إن الدولة هي "آلة" قمع، تسمح للطبقات المسيطرة (الطبقة البورجوازية "وطبقة" كبار ملاكي الأرض في القرن التاسع عشر) بتأمين سيطرتهم على الطبقة العمالية إخضاعها لعملية نهب فضل-القيمة (أي للاستغلال الرأسمالي).
فالدولة هي إذن ، كما (دعاها) كلاسيكيو الماركسية، جهاز الدولة. يدخل في هذه العبارة: ليس فقط الجهاز المختص (بالمعنى الحصري) الذي اعترفنا بوجوده وبضرورته انطلاقاً من احتياجات الممارسة الحقوقية، أي البوليس -المحاكم-السجون، بل كذلك الجيش الذي (وقد دفعت البروليتاريا من دمها ثمن هذه التجربة) يتدخل مباشرة كقوة قمع احتياطية في اللحظة الأخيرة حين "تطغى الأحداث" على البوليس، وعلى أجهزته المساعدة المختصة، وعلى رأس هذا المجموع رئيس الدولة، الحكومة والإدارة.
بعرض "النظرية" الماركسية-اللينينية حول الدولة بهذا الشكل، نلامس الشيء الأساسي، ولا مجال إطلاقاً لعدم إدراك أن الشيء الأساسي يكمن هنا. إن جهاز الدولة ، الذي يحدد الدولة كقوة قمعية تنفذ و تتدخل "في خدمة الطبقات المسيطرة" إن هذا الجهاز هو بالضبط الدولة، وهو يحدد بالضبط "وظيفتها" الأساسية.
من النظرية الوصفية إلى النظرية كنظرية
هنا أيضاً يبقى عرض طبيعة الدولة في جزء منه وصفياً، كما سبق ولاحظنا بالنسبة لاستعارة البناء (البناء التحتي والبناء الفوقي).
وبما أننا سنستعمل مراراً هذه الصفة (الوصفية)، فمن الضروري أن نشرح ذلك بكلمة منعاً لكل التباس.
حين نقول في الكلام عن استعارة البناء، أو في الحديث عن "النظرية" الماركسية في الدولة، بأن المفاهيم هي مفاهيم أو تفسيرات وصفية بالنسبة لغرضها، فإننا لا نضمر فكراً نقدياً. بل لدينا بالعكس كل الأسباب للاعتقاد بأن الاكتشافات العلمية الكبيرة لا تقدر أن تتجنب المرور بمرحلة ما سندعوه نظرية وصفية. فهذه هي المرحلة الأولى لكل نظرية، على الأقل في المجال الذي نحن بصدده (مجال علم التشكيلات الاجتماعية). على هذا الأساس، نقدر - بل يتوجب علينا- أن نواجه هذه المرحلة كمرحلة انتقالية، ضرورية لنمو النظرية. كونها انتقالية، سندخل ذلك في تعبيرنا، "نظرية وصفية" ، بإظهارنا، في تركيب العبارات التي نستعمل، ما يوازي نوعاً من "التناقض". إن عبارة نظرية "تتنافى" في الواقع مع صفة "وصفية" التي التصقت بها. هذا يعني بالتحديد:
1-أن "النظرية الوصفية" هي، بلا شك، بداية لا تراجع فيها للنظرية ولكن.
2-الشكل "الوصفي" الذي تبرز فيه النظرية يفرض، تحت تأثير هذا "التناقض" ذاته، نمواً في النظرية يتعدى شكل "الوصف".
لنحدد أفكارنا بالعودة إلى موضوعنا الحاضر: الدولة.
حين نقول بأن النظرية الماركسية في الدولة ، التي لدينا، تبقى جزئياً "وصفية"، فهذا يعني أولاً وقبل كل شيء أن هذه "النظرية" الوصفية هي، بلا ريب، البداية بذاتها للنظرية الماركسية في الدولة، وأن هذه البداية تعطينا الشيء الأساسي، أي المبدأ الحاسم لكل نمو لاحق للنظرية.
إننا نعتبر في الواقع بأن النظرية الوصفية في الدولة هي صحيحة، وذلك لأننا نستطيع أن نطابق تماماً بين الأكثرية الساحقة من الوقائع الني يمكن ملاحظتها في المجال الذي تتناوله وبين التعريف الذي تطلقه على غرضها. وهكذا فإن تحديد الدولة كدولة طبقية، موجودة في جهاز الدولة القمعي، يوضح بشكل ساطع كل الوقائع التي يمكن مراقبتها في مختلف أنظمة القمع، مهما كانت مجالاتها: من مذابح حزيران 48 وكومونة باريس، من الأحد الدامي أيار 1905 في بتروغراد، من المقاومة ، من شارون، الخ..حتى التدخلات البسيطة (والخفيفة نسبياً) "للرقابة" التي تمنع "راهبة" ديدرو أو مسرحية لكاتي حول فرنكو، إن هذا التحديد يلقي ضوءاً على كل الأشكال المباشرة وغير المباشرة للاستغلال ولإبادة الجماهير الشعبية (الحروب الإمبريالية)، إنها تلقي ضوءاً على هذه السيطرة اليومية الدقيقة حيث يبرز، مثلاً في أشكال الديمقراطية السياسية، ما دعاه لينين إثر ماركس دكتاتورية البورجوازية.وهكذا فإن النظرية الوصفية للدولة تمثل مرحلة من تكون النظرية الذي يحتم هو ذاته "تخطي هذه المرحلة". إذ من الواضح بأنه إذا كان التحديد الذي نحن بصدده يتيح لنا أن نوحد ونتعرف على وقائع القهر بردها إلى الدولة المحددة بجهازها القمعي، فإن هذه "المقارنة" تولد نوعاً خاصاً جداً من البديهيات، سيتاح لنا قول كلمة عنها بعد بضع لحظات: "نعم ، فهو كذلك، هذا صحيح"! .
إذا كان تراكم الوقائع تحت تحديد الدولة يضاعف في تصويرها، فإنه في الواقع لا يدفع بتحديد الدولة إلى الأمام ـ أي بنظريتها العلمية. وهكذا فإن كل نظرية وصفية تتعرض "لتجميد" نمو النظرية الذي لا بد منه.
لذلك فإننا نعتقد بأنه ، لكي ندفع بهذه النظرية الوصفية نحو النظرية كنظرية، أي لكي نفهم أكثر ترتيبات الدولة في حركتها، لا بد أن نضيف شيئاً ما إلى التحديد الكلاسيكي للدولة كجهاز دولة.
الشيء الأساسي في النظرية الماركسية حول الدولة
لنحدد في البدء نقطة هامة: الدولة (وجودها في جهاز الدولة) لا معنى لها إلا بالنسبة لسلطة الدولة.. وكل الصراع الطبقي السياسي يتمحور حول الدولة. يعني التمسك ، أي استيلاء طبقة معينة أو تحالف طبقات أو أقسام طبقية على سلطة الدولة وحفاظها على هذه السلطة. إن هذا التحديد يفرض علينا أن نميز بين سلطة الدولة (الحفاظ أو الاستيلاء على سلطة الدولة)، غاية الصراع الطبقي السياسي من جهة، وجهاز الدولة من جهة ثانية.
من المعروف أنه يمكن لجهاز الدولة أن يظل قائماً ، كما أثبتت ذلك "الثورات" البورجوازية في القرن التاسع عشر في فرنسا (1830-1848) أو الانقلابات (2 ك1، أيار1958) أو انهيار الدولة (سقوط الإمبراطورية عام 1870، سقوط الجمهورية الثالثة عام 1940) أو صعود البورجوازية الصغيرة السياسي (1890-95 في فرنسا) ، الخ، يمكن أن يبقى قائماً، وسط الأحداث التي تدور حول التمسك بسلطة الدولة.
حتى بعد ثورة اجتماعية كثورة 1917، بقي جزء كبير من جهاز الدولة قائماً وذلك رغم استلام تحالف البروليتاريا والفلاحين الفقراء السلطة: لم يفتأ لينين يردد ذلك.
إننا نستطيع القول بأن هذا التمييز بين سلطة الدولة وجهاز الدولة يشكل جزءاً من "النظرية الماركسية" في الدولة، بشكل واضح منذ 18 برومير والصراع الطبقي في فرنسا لماركس.
لإيجاز "النظرية الماركسية في الدولة" حول هذه النقطة، يمكننا القول بأن كلاسيكيي الماركسية ما فتئوا يؤكدون:
1-إن الدولة هي جهاز الدولة القمعي.
2- يجب التمييز بين سلطة الدولة وجهاز الدولة.
3-إن غاية الصراع الطبقي تتناول سلطة الدولة، وبالتالي استخدام جهاز الدولة من قبل الطبقات (أو تحالف الطبقات، أو الأقسام الطبقية) التي تتمسك بالسلطة في سبيل أهدافها الطبقية.
4-إن على البروليتاريا أن تستولي على سلطة الدولة لتحطيم جهاز الدولة البورجوازية القائم ، والاستعاضة عنه، في مرحلة أولى، بجهاز دولة مختلف, بروليتاري، ومن ثم الشروع ، في المراحل اللاحقة، بعملية جذرية تقوم بتحطيم الدولة (نهاية سلطة الدولة وكل جهاز دولة).
ومن هذا المنظور يبرز بوضوح ما كنا نريد أن نضيفه إلى "النظرية الماركسية" في الدولة . ولكن يبدو لنا بأن هذه النظرية التي خضعت لهذه الإضافات تبقى جزئياً وصفية وذلك رغم أنها أصبحت تحتوي على عناصر مركبة ومتفاوتة لا يمكن فهم تحركها دون اللجوء إلى تعمق نظري إضافي.

أجهزة الدولة الأيديولوجية
يجب إذن إضافة شيء آخر إلى "النظرية الماركسية" في الدولة.
علينا أن نخوض هنا بحرص في مجال سبقنا إليه في الواقع كلاسيكيو الماركسية ولكن دون أن يصوغوا ، بشكل نظري، التقدم الحاسم الذي حتمته تجاربهم ومسيراتهم . لقد بقيت تجاربهم ومسيراتهم في الواقع ضمن حيز الممارسة السياسية.
لقد عالج كلاسيكيو الماركسية الدولة في الواقع، أي في ممارستهم السياسية، كواقع أكثر تعقيداً من التعريف المعطى لها في "النظرية الماركسية في الدولة" والذي أضيفت له أشياء أخرى كما أتيح لنا أن نفعل. لقد اعترفوا في ممارستهم بهذا التعقيد ، ولكنهم لم يعبروا عنه بنظرية مقابلة .
إننا نريد أن نصوغ بشكل مبسط هذه النظرية المقابلة, ونحن نعرض لهذه الغاية، الموضوعة التالية:
لندفع نظرية الدولة إلى الأمام، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار، ليس فقط التمايز بين سلطة الدولة وجهاز الدولة، بل وكذلك حقيقة أخرى تبرز إلى جانب جهاز الدولة (القمعي)، دون أن تذوب فيه. إننا نطلق على هذه الحقيقة تصور: أجهزة الدولة الأيديولوجية
ما هي أجهزة الدولة الأيديولوجية؟
إنها لا تذوب في جهاز الدولة (القمعي). نذكر هنا، بأن جهاز الدولة (ج.د) . في النظرية الماركسية يحتوي على : الحكومة، الإدارة، الجيش، البوليس، المحاكم، السجون، الخ. والتي تشكل ما ندعوه من الآن فصاعداً جهاز الدولة القمعي. قمعي يعني أن جهاز الدولة موضوع البحث "يسير بواسطة العنف"، - في بعض أجزائه على الأقل (إذ أن القمع، الإداري مثلاً، قد يكتسي أشكالاً غير جسدية).
إننا نحدد أجهزة الدولة الأيديولوجية بعدد معين من الحقائق الني تبرز للمراقب المباشر بشكل مؤسسات مميزة وذات اختصاص. سوف نعرض بها لائحة عينية تتطلب بالطبع تفحصاً مفصلاً ، امتحاناً، تعديلاً وتحويلاً. مع التحفظ حول المتطلبات التي تحتمها هذه اللائحة نستطيع، مؤقتاً، أن نعتبر المؤسسات التالية كأجهزة دولة أيديولوجية (ليس هناك معنى خاص للترتيب الذي نعددها به).
1. ج.د.أ. الديني (نظام مختلف الكنائس).
2. ج.د.أ. المدرسي (نظام مختلف "المدارس"، العامة والخاصة).
3. ج.د.أ. العائلي .
4. ج.د.أ. الحقوقي .
5. ج.د.أ. السياسي (النظام السياسي، بما فيه مختلف الأحزاب).
6. ج.د.أ. النقابي.
7. ج.د.أ. الإعلامي (صحافة، راديو- تلفزيون، الخ).
8. ج.د.أ. الثقافي (آداب، فنون جميلة، رياضة، الخ).
إننا نقول بأن أجهزة الدولة الأيديولوجية تتميز عن جهاز الدولة القمعي. فعلام يقوم هذا التميز؟
- يمكننا ، في المستوى الأول، أن نلاحظ بأنه في حين يوجد جهاز دولة (قمعي) واحد، يوجد أجهزة دولة أيديولوجية متعددة وعلى افتراض أن ثمة وحدة تضم هذه الكثرة من أجهزة الدولة الأيديولوجية في جسم الوحدة، فإن هذه الوحدة يصعب رؤيتها بشكل مباشر.
يمكننا ، في المستوى الآخر، أن نلاحظ أن جهاز الدولة (القمعي)، الموحد، ينتمي بمجمله إلى القطاع العام، في حين أن القسم الأكبر من أجهزة الدولة الأيديولوجية (في تشتتها الظاهر) تنتمي بالعكس إلى القطاع الخاص. فالكنائس، الأحزاب، النقابات، العائلات، بعض المدارس ، معظم الصحف والمشاريع الثقافية، الخ..كلها أجهزة خاصة.
لندع الآن جانباً ملاحظتنا الأولى . لكننا نستعين بالملاحظة الثانية للتساؤل حول ما يخولنا أن نعتبر ، كأجهزة دولة أيديولوجية، مؤسسات لا تنتمي، بمعظمها، إلى القطاع العام، بل هي مجرد مؤسسات خاصة.
لقد سبق لـ غرامشي ، كماركسي واع، أن استدرك، بكلمة، هذا الاعتراض. فالتميز بين القطاع العام والخاص إنما هو تمييز داخل التشريع البورجوازي ، وهو يصح في المجالات (التابعة) حيث يمارس التشريع البورجوازي "سلطانه". إن مجال الدولة يتعداه لأنه "ما وراء التشريع":
فليست الدولة، دولة الطبقة المسيطرة، لا عامة ولا خاصة، بل هو بالعكس الشرط المسبق لأي تمييز بين العام والخاص. لنردد هذه المرة نفس الشيء انطلاقاً من أجهزة الدولة الأيديولوجية التي لدينا, ولا يهم إذا كانت المؤسسات التي تجسد هذه الأجهزة، "عامة" أو "خاصة". المهم هو سير هذه المؤسسات. فيمكن لمؤسسات خاصة أن "تسير" تماماً كأجهزة دولة أيديولوجية. ويكفي لتبيان ذلك، القيام بتحليل معمق قليلاً لأي جهاز من أجهزة الدولة الأيديولوجية.
ولكن لنذهب إلى الشيء الأساسي. إن ما يميز ج.د.أ عن جهاز الدولة (القمعي) هو الاختلاف الأساسي التالي: إن جهاز الدولة القمعي "يسير بواسطة العنف"، في حين أن أجهزة الدولة الأيديولوجية تسير "بواسطة الأيديولوجيا".
إننا نستطيع أن نحدد ، وذلك بتعديل هذا التمايز. فنقول أن كل جهاز دولة ، قمعياً كان أم أيديولوجياً، "يسير" في نفس الوقت بواسطة العنف وبواسطة الأيديولوجيا، ولكن مع اختلاف مهم جداً، يمنع المزج بين أجهزة الدولة الأيديولوجية وجهاز الدولة (القمعي).
ذلك أن جهاز الدولة (القمعي)، من جهته، يسير بشكل غالب بواسطة القمع (بما فيه الجسدي) ، مع سيره بشكل ثانوي بواسطة الأيديولوجيا . (ليس هناك جهاز محض قمعي). الأمثلة يسير الجيش والبوليس أيضاً بواسطة الأيديولوجيا ، وذلك لتامين تلاحمهما الخاص وبنفس الوقت إعادة إنتاجهما ، بالإضافة إلى "القيم" التي يفرضانها على الخارج.
وبنفس الطريقة ولكن بشكل معكوس، يجب القول بأن أجهزة الدولة الأيديولوجية من جهتها تسير بشكل غالب بواسطة الأيديولوجيا ، ولكن مع سيرها بشكل ثانوي بواسطة القمع، ولو بنسبة ضئيلة، جد منخفضة، مواربة ورمزية. (ليس هناك جهاز محض أيديولوجي). وهكذا فإن المدرسة والكنائس (تنشئ" كهنتها ورعاياها بطرق لا تخلو من العقوبات، الطرد، والانتقاء، الخ..كذلك العائلة..وجهاز الدولة الأيديولوجي الثقافي (الرقابة كي لا نذكر غيرها)، الخ.
هل من فائدة أن ننوه بأن هذا التحديد "للسير" المزدوج (بشكل غالب، وبشكل ثانوي) بواسطة القمع وبواسطة الأيديولوجيا إن من حيث جهاز الدولة (القمعي) أو من حيث أجهزة الدولة الأيديولوجية ، يسمح لنا بملاحظة أن هناك تركيبات دقيقة ضمنية أو معلنة تحصل باستمرار بين لعبة جهاز الدولة (القمعي) ولعبة أجهزة الدولة الأيديولوجية؟ إن الحياة اليومية تقدم لنا عن ذلك أمثلة لا تحصى، علينا دائماً أن ندرسها بالتفصيل لكي نتعدى مستوى هذه الملاحظة.
يضاف إلى ذلك أن هذه الملاحظة تضعنا على الطريق المؤدية إلى فهم ما يكون وحدة جسم أجهزة الدولة الأيديولوجية المتباين ظاهراً. إذا كانت أجهزة الدولة الأيديولوجية "تسير" بواسطة أيديولوجيا بشكل غالب، فإن ما يوحد اختلافها هو هذا السير نفسه، وذلك بمقدار ما تتوحد في الواقع هذه الأيديولوجيا التي تسيرها، رغم اختلافها وتناقضاتها، تحت الأيديولوجيا المسيطرة، التي هي أيديولوجيا "الطبقة المسيطرة". إذا اعتبرنا من حيث المبدأ بأن "الطبقة المسيطرة" تتسلم سلطة الدولة (بشكل صريح)، أو، غالباً، بواسطة تحالفات طبقات أو فئات طبقية) وتستأثر بذلك بجهاز الدولة (القمعي)، فإننا نستطيع القول بأن الطبقة المسيطرة نفسها تنشط في أجهزة الدولة الأيديولوجية بمقدار ما تتجسد في النهاية الأيديولوجية المسيطرة، عبر تناقضاتها نفسها في أجهزة الدولة الأيديولوجية . من البديهي أن ثمة تمايزاً بين التحرك بقوانين ومراسيم في جهاز الدولة (القمعي) وبين "التحرك" بواسطة الأيديولوجيا المسيطرة عبر أجهزة الدولة الأيديولوجية . يجب الدخول مفصلاً في هذا التمايز-الذي لا يستطيع أن يطمس حقيقة تطابق عميق، ليس باستطاعة أية طبقة، حسب ما نعرف، أن تتسلم سلطة الدولة بشكل دائم دون أن تمارس في نفس الوقت هيمنتها على وضمن أجهزة الدولة الأيديولوجية , لن أتناول إلا مثالاً واحداً لتبيان ذلك: إلحاح لينين المفرط على تثوير جهاز الدولة الأيديولوجي المدرسي (وغيره) ليتسنى للبروليتاريا السوفياتية التي استولت على سلطة الدولة أن تؤمن ببساطة مستقبل ديكتاتورية البروليتاريا، والانتقال إلى الاشتراكية .
إننا ندرك من خلال هذه الملاحظة الأخيرة أن باستطاعة أجهزة الدولة الأيديولوجية أن تكون ليس فقط الرهان بل وكذلك المكان الذي يدور فيه الصراع الطبقي، صراع غالباً ما يكتسي أشكالاً حادة. لا تقدر الطبقة (أو تحالف الطبقات) أن تسن القانون في أجهزة الدولة الأيديولوجية بسهولة أكثر مما تقدر عليه في جهاز الدولة (القمعي) ، وذلك ليس فقط لأن الطبقات القديمة المسيطرة تستطيع أن تحافظ طويلاً على مواقع قوية لها في هذه الأجهزة، ولكن كذلك لأن المقاومة التي تبديها الطبقات المستغلة يمكن أن تجد الوسيلة والفرصة للتعبير عن نفسها في هذه الأجهزة، باستغلال التناقضات الموجودة في هذه الأخيرة، أو باكتسابها بنضالها داخلها مواقع قتالية. (10 مكرر).
لنقم بجردة لملاحظاتنا
إذا صحت الموضوعة التي عرضناها نجد أنفسنا مضطرين لاستعادة النظرية الماركسية الكلاسيكية في الدولة وذلك بعد التدقيق فيها بالنسبة لنقطة محددة.
وبذلك نخلص إلى القول بأنه يجب التمييز بين سلطة الدولة (واستلامها من قبل..) من جهة، وجهاز الدولة من جهة أخرى. ولكننا نضيف بأن جهاز الدولة يحتوي على جسمين: جسم المؤسسات التي تمثل جهاز الدولة القمعي من جهة، وجسم المؤسسات التي تمثل جسم أجهزة الدولة الأيديولوجية من جهة ثانية.
ولكن لا يسعنا والحالة هذه ، إلا أن نطرح على أنفسنا ، ولو ضمن الشكل المختصر الذي وردت فيه إشاراتنا، السؤال التالي: ما هو بالضبط مدى الدور الذي تقوم به أجهزة الدولة الأيديولوجية ؟ ما هو الأساس الذي تقوم عليه أهميتها؟ بعبارات أخرى : ماذا يقابل "وظيفة" هذه الأجهزة، التي لا تسير بواسطة القمع بل بواسطة الأيديولوجيا؟.
هوامش
1- يحتوي النص الذي نشرته مجلة "الفكر" (La pensee) على مقتطفات من دراسة قيد الإعداد أطلق عليها المؤلف اسم: ملاحظات تمهيدية لدراسة. والأفكار التي وردت هنا ما هي إلا مدخل للنقاش.
2- رسالة إلى كوجلمان: 11-7-1868 (رسائل حول رأس المال).
3- لقد حدد ماركس التصور العلمي لهذه العبارة: الرأسمال المتغير.
4- في "مع ماركس" و"قراءة رأس المال". ماسبيرو 1965.
5- تعبير إغريقي : مكان، الأمكنة التي تشغلها الحقائق المناسبة في حيز محدد. وهكذا فالاقتصاد تحت (القاعدة) والبناء الفوقي فوق.
6- انظر فيما بعد: حول الأيديولوجيا.
7- إن غرامشي ، حسب معرفتنا، هو الوحيد الذي سار بهذا الاتجاه. فقد أشار إلى الفكرة "الخاصة" بأن الدولة ليست محصورة فقط بجهاز الدولة (القمعي)، ولكنها تحتوي، كما كان يقول، على عدد معين من مؤسسات "المجتمع الأهلي ["المدني"]": الكنيسة، المدارس، النقابات الخ. إن غرامشي لم يبلور مع الأسف حدسه الذي بقي بشكل إشارات دقيقة، ولكن جزئية (غرامشي: مختارات- رسائل من السجن).
8- تملأ العائلة "وظائف" أخرى غير وظيفة ج.د.ا. إنها تتدخل في تجديد إنتاج قوة العمل. إنها ، حسب نمط الإنتاج، وحدة إعادة إنتاج و (أو) وحدة استهلاك.

9- ينتمي "التشريع" في نفس الوقت إلى جهاز الدولة (القمعي) وإلى نظام أجهزة الدولة الأيديولوجية.

10- ترومي كروبشكايا في نص فريد يعود إلى علم 1937 ـ تاريخ الجهود اليائسة التي بذلها لينين ، وما كانت تعتبره فشل لينين ("الطريق التي مشاها").
11- مكرر أن ما قيل هنا ، بكلمات عابرة ، خول الصراع الطبقي داخل أجهزة الدولة الأيديولوجية ، لا يمكن أن يغطي مسألة صراع الطبقات.
لنتناول هذه المسألة يجب أن نضع نصب أعيننا مبدأين.
المبدأ الأول: صاغه ماركس في مقدمة المساهمة:" حين نعالج هكذا تحولات (ثورة اجتماعية)، يجب أن نميز دائماً بين التحول المادي-الذي نستطيع رصده بطريقة علمية دقيقة-لظروف الإنتاج الاقتصادية والأشكال الحقوقية، السياسية ، الدينية، الفنية أو الفلسفية التي يعي الأفراد من خلالها هذا النزاع ويخوضونه حتى النهاية. "يعبر عن الصراع الطبقي إذن ويمارس في الأشكال الأيديولوجية ، أي في الأشكال الأيديولوجية لأجهزة الدولة الأيديولوجية , ولكن صراع الطبقات يطغي كثيراً على هذه الأشكال، ولذلك فإنه يمكن لصراع الطبقات المستغلة أن يتم داخل أشكال أجهزة الدولة الأيديولوجية ، أي أن يقلب سلاح الأيديولوجيا ضد الطبقات التي في السلطة.
وذلك بفضل المبدأ الثاني: إن صراع الطبقات يطغى على أجهزة الدولة الأيديولوجية لأنه منخرط في مكان آخر غير الأيديولوجيا ، في البناء التحتي، في علاقات الإنتاج، التي هي علاقات استغلال، والتي تكون قاعدة العلاقات الطبقية.




ركن ا لأدب



















Love of Life


"This out of all will remain -
They have lived and have tossed:
So much of the game will be gain,
Though the gold of the dice has been lost."

Jack London




















حُبُّ الحياة*
جاك لندن**

"ما سيبقى من بين الأشياء جميعاً
هم أولئك الذين عاشوا وتقلبت بهم صروف الدهر
ومع أن المرء قد يخسر الرهان في اللحظة الحاضرة
إلا أن اللعبة رابحة في النهاية".

هبط الرجلان المنحدر منهكين من التعب ووجع الأرجل. فترنح الرجل الأول مرة وهو يطلع وسط الصخور القاسية المتناثرة. بدا على وجهيهما أثر تحملهما الطويل للمشاق والمصاعب. وكانا يحملان صرتين ثقيلتين وبندقيتين شدتا إلى أكتافهما.
واصلا هبوط المنحدر والأكتاف منحنية، والرأسان شاخصان إلى الأمام والعيون مطرقة في الأرض.
قال الرجل الثاني في صوت خال من العاطفة تماماً. ليتنا أخذنا بعض الطلقات من مخزن الذخيرة. قال ذلك بلا حماس.
خاض الأول جدولاً مزبداً دون أن يعلق على ما قاله زميله الذي يمضي في أثره. لم يكن بالإمكان خلع الأحذية لفرك الرجل التي بدأت تنمل وتؤلم من جهة الرسغين. كان الماء شبه المتجمد. يصل أحياناً إلى ركبهم في اندفاعاته، فيترنح الرجلان بحثاً عن موطئ قدم.
زلت قدم الثاني فوق صخرة ملساء، وكاد يقع. ولكن اعتدل جسمه بعد جهد شاق أطلق على أثره صرخة ألم حادة. بدا دائخاً وواهناً وهو يدور على نفسه ويمد يده، كأنه يطلب عوناً على الهواء. وما أن انتصب واقفاً وخطا إلى الأمام، حتى انفتل مرة أخرى وكاد يقع. توقف بعدئذ عن السير ونظر إلى زميله الذي لم يكلف نفسه عناء الالتفات إلى الوراء.
نادى بعد أن حدث نفسه في أمر ما: يا "بل" رضت رسغ قدمي، ترنح بل وسط المياه المزبدة دون أن يلتفت إلى الوراء. راقبه الرجل وهو يمضي. ثم مشى في وجه متحجر وعينين مثل عيني غزال جريح.
ها هو ذا يطلع على سفح المنحدر المقابل باستقامة دون أن ينظر إلى الوراء، وزميله ما يزال يخوض الجدول مراقباً إياه. ارتجفت شفتاه واضطرب الشعر الذي يغطيهما. ولكي يرطبهما مد لسانه ثم صرخ: يا "بل"!.
هذه المرة نمت الصرخة عن استعطاف رجل قوي وقع في شدة. ولكن "بل" لم يلتفت. إنه ما يزال يمضي في مشيته العرجاء المضحكة على سفح التلة حتى اختفى عن بصر زميله. أجال الطرف في دائرة الأفق بعد اختفاء "بل"وراء قمة التلة. كانت الشمس الغاربة تحترق في أفق قاتم، وتكاد الغيوم الهائلة والأبخرة تحجبها، وتخلف في نفس الرائي انطباعاً غير محدد عن كثافة الكتلة. سحب الرجل ساعته ووقف على رجل واحدة. الساعة تقارب الرابعة من يوم لا يدري ما هو سوى أنه من أيام تموز الأخيرة وأوائل آب، ولم يستطع تحديد الأسبوع كانت الشمس تشير إلى الشمال الغربي. نظر إلى الجنوب هناك خلف التلال العارية تقع بحيرة الدب الكبير حيث تشق الدائرة القطبية طريقها الوعرة عبر الفيافي الكندية. أما الجدول الذي يخوضه فإنه رافد لنهر "كوبر ماين" الذي يتجه شمالاً ويصب عند خليج "كورونيشن" على المحيط القطبي. لم يذهب إلى تلك الأماكن قط، ولكنه شاهدها في إحدى خرائط شركة خليج "هودسون". أجال الطرف فيما حوله ثانية.
لم يكن المنظر مشجعاً فقد أحاط به خط الأفق الدقيق، وترامت حوله التلال الوطيئة التي لا عشب فيها ولا شجر. لا شيء إلا الخواء الهائل المرعب الذي أفزعه. كرر النداء في صوت خفيض: "بل"... "بل"...!
انحنت قامته وسط المياه المزبدة، كأنما ضغطت عليه رهبة الخواء الفسيح الهادئة ضغطاً لا يقاوم. يا للقسوة الساحقة! ارتجفت يده وسقطت البندقية في الماء. نبهه صوت تناثر الماء فتشجع وخطا في الماء والتقط البندقية من قاعه. شد الصرة إلى الكتف اليسرى ليخفف الثقل عن رجله المرضوضة، ثم تقدم في بطء وحذر نحو المنحدر وهو ينتفض من الألم. لم يتوقف، صعد سفح التلة، التي اختفى وراء قمتها "بل"، كاليائس المجنون دون مبالاة بما به من أوجاع. كانت مشيته أشد ترنحاً وعرجاً وأدعى إلى الضحك من مشية "بل" حين تسنّم القمة رأى وادياً ضحلاً لا حياة فيه. قاوم الخوف وانتصر عليه، وشد الصرة إلى الجانب الأيسر ثانية، ثم انحدر في إعياء على السفح.
اكتسى بطن الوادي بطحالب رطبة كالإسفنج. كان الماء ينبجس من تحت قدميه ويحدث صوت امتصاص عند تخلص الرجل من قبضة الطحلب. شق الرجل طريقه من مستنقع إلى آخر مقتفياً آثار "بل" عبر الصخور البارزة كالجزر الصغيرة في بحر الطحلب.
لم يضل طريقه رغم أنه وحيد، وعلم أنه لا بد واصل إلى حيث تحيط أشجار صغيرة من الصنوبر والتنوب الذابلين بضفة البحيرة التي يدعوها السكان المحليون "أرض العصي الصغيرة". تذكر أن هناك جدولاً صغيراً صافياً يصب في تلك البحيرة، وأن الأخشاب نادرة في تلك المنطقة التي تنمو فيها الحلفاء. عليه أن يماشي ذلك الجدول حتى يتفرع ثم يخوض جدولاً آخر يسيل غرباً إلى أن يصل نهر "ديس" حيث مخزن الذخيرة تحت زورق مقلوب مركوم بالحجارة، سيأخذ من هناك بعض الطلقات والصنانير والحبال وشبكة صغيرة وكل ما يحتاج إليه من أجل الحصول على ما يقيم أوده. قد يجد هناك طحيناً ولحم خنزير مقدد، وبعض الفاصولياء، سيكون "بل" في انتظاره هناك، وسوف يعبران المخاضات معاً صوب بحيرة الدب الكبير عبر "ديس" حتى يصلا "ماكنزي" في الجنوب. سيكونان في منجى من جليد الشتاء وزمهريره حين يصلان إلى مركز شركة خليج "هودسون" حيث الأشجار والأطعمة الوافرة والدفء.
خطرت للرجل هذه الأفكار وهو يكابد مشاق الطريق. كان يقاسي جسماً وعقلاً، أشد أنواع الوجع. تصور أن "بل" لن يتخلى عنه، بل سينتظره عند الزورق بالتأكيد، ولولا هذا الأمل لتوقف عن السير وجلس على الأرض وواجه حتفه طوعاً. ازدحمت في مخيلته صور شتى عن فراره مع "بل" قبل حلول الشتاء، واستطهر الأطعمة في مركز شركة خليج "هدسون" وفي مخبأ المؤن. مضى يومان لم يأكل شيئاً فيهما، كما أنه لم يتناول غذاء كافياً منذ مدة طويلة، إذ كان طعامه ما يلتقط من ثمر العليق النابت فوق المستنقعات، وهو ضرب من التوت الماوي ذي بذور مرة الطعم. كان الرجل يعرف أن هذا النبات لا يغني شيئاً، ولكنه كان يمضغه في صبر وأمل أقوى من المعرفة ومن التجربة.
في التاسعة، اصطدم مقدم رجله بصخرة، فترنح من شدة التعب والضعف ووقع، وبقي مستلقياً دون حراك فترة من الزمن. فك بعدئذ أربطة الصرة واقتعد الأرض. تحسس دربه بين الصخور في أضواء المساء الأخيرة باحثاً عن الطحلب الجاف. وبعد أن جمع كومة منه أشعل النار فيها.
وضع إبريقاً من الماء فوقها. كانت النار بطيئة الاشتعال، كثيرة الدخان، فك الصرة، وبحث عن علبة الكبريت، وراح يعد أعوادها فوجدها سبعة وستين عوداً. كرر ذلك ثلاث مرات، ثم قسم الأعواد إلى عدة مجموعات، ولفها بأوراق مشمعة ووضع واحدة في علبة التنباك الفارغة، وأخرى في قبعته البالية، ووضع الثالثة في عبّه. بعد أن أنهى عمله هذا انتابه ألم شديد. فما كان منه إلا أن أخرج أعواد الثقاب وعدها ثانية ووجدها سبعة وستين عوداً.
اقترب من النار ليدفئ رجليه. إن حذاءه المبتل قد تمزق، وجوربه قد تثقب، أما قدماه فقد دميتا وتقرحتا. حين تحسس تورم كاحله أدهشه أنه في حجم الركبة. مزق من البطانية قطعة ولف الكاحل بها ثم مزق قطعاً أخرى ليلف بها قدميه لتكون بمثابة الحذاء والجورب. تناول الإبريق عن النار وشرب ماءه الساخن. اندس بعد ذلك تحت البطانية الدافئة ونام كالميت. سرعان ما انحسرت ظلمة منتصف الليل، وأقبل نهار حجبت شمسه غيوم غبراء.
استفاق في السادسة وهو مستلق في هدوء على ظهره، ونظر إلى السماء الباهتة مدركاً أنه جائع. أفزعه شخير عال وهو يتقلب على الأرض. كان على بعد خمسين قدماً منه أيّل يرمقه في حذر وفضول. خطرت له في الحال صورة اللحم المشوي على النار، فمد يده نحو البندقية في حركة آلية، ثم لقمها وهيأها للإطلاق، ولكن الوحش لم يمهله حتى يصوب ويطلق، بل ثغا وراح يركض قافزاً قفزات سريعة.
تناهى إلى سمع الرجل قرقعة أظلاف الأيل على الصخور، فرمى البندقية وراح يلعن حظه السيئ. أنّ أنيناً عالياً وهو يحمل نفسه على الانتصاب في بطء ومشقة، كانت أعضاؤه تصرف كالآلة الصدئة التي تحتاج في كل حركة إلى صبر وجهد شديدين. حين وقف لم يستطع الانتصاب إلا بعد عدة دقائق. وهكذا استطاع أن يقف منتصباً كما ينتصب الرجل.
زحف نحو قمة الهضبة واستشرف المكان المحيط بها. ما من شجرة هناك، بل سهب طحلب أغبر لا يلمح فيه أي أثر للصخر أو للماء. السماء غبراء والشمس محتجبة فأنى له أن يعرف الجهات؟ إنه لا يذكر الجهة التي قدم منها إلى هذه الهضبة ليلاً، على أية حال هو لم يته بعد. ما زال يؤمن أنه سيصل إلى "أرض العصي الصغيرة"، فهي قريبة جداً على ما يبدو بل قد تكون خلف التلة المجاورة.
اقترب من الصرة ليعيد حزمها ويتابع الرحلة. تحقق من وجود أعواد الثقاب التي لم يكف عن عدها. تريث قليلاً، ونظر ملياً إلى الكيس الجلدي. كان صغير الحجم لكنه يساوي في وزنه كل ما يحمل، أي حوالي خمسين كيلو غراماً تقريباً أزعجه أمر الكيس، فوضعه جانباً وحزم الصرة ثم توقف ونظر إلى الكيس الذي التقطه بسرعة متحدياً الأرض الخالية التي بدت كأنها تريد أن تسلبه أشياءه. حين تابع سيره المترنح كان الكيس الجلدي في الصرة التي على ظهره. كانت قامته مائلة نحو اليسار وهو يقف في الحين بعد الحين ليلتقط توت المستنقعات. تصلب كاحله وصار يظلع ظلعاً واضحاً. ولكن أوجاع المعدة كانت أقوى من أي ألم آخر، فها هي ذي أنياب الجوع الحادة التي ما انفكت تقرض بطنه قد أوهنت قواه العقلية والجسمية عن متابعة السير نحو المكان الذي يقصد. إن التوت البري لم يهدئ سورة الجوع بل سبب له لسعاً مهيجاً وتحرقاً في سقف الفم واللسان.
وصل إلى واد ترفرف فوق صخوره ومستنقعاته أسراب الدجاج القطبي. رمى بعضها بالحجارة فعلت صيحاتها كر.. كر.. كر.. دون أن يصيب أياً منها. ألقى حمله على الأرض وراح يطاردها كما يطارد القط عصفوراً، فاصطدمت ساقاه بالصخور الحادة وانساب دمه على الأرض. استلقى على الطحلب الرطب فأحس بالبرد من ابتلال ثيابه. يا للجوع! قد طغى الإحساس به على كل شيء. كان الدجاج يطير دون توقف وكان صياحه المستمر كر.. كر.. كر.. يعلو ساخراً منه. لعن تلك الطيور مطلقاً صيحات كصيحاتها.
رأى دجاجة ظن أنها نائمة فزحف نحوها. لم يكد يقترب من مخبئها الصخري حتى انطلقت كالسهم فمد يده وقد أفزعته المفاجأة كما أفزعتها، فلم تمسك إلا بعض الريش من ذيلها. نظر إليها في حقد وكره وهي تطير مبتعدة عنه كما لو أنها أخطأت في حقه خطأ شنيعاً. عاد إلى الصرة أخيراً، ووضعها على كتفه وسار.
وصل في المساء إلى واد آخر يعج بالأيائل، كيف له أن يصطاد أحدها، تلك الحيوانات الغريبة التي تمر ضمن مدى رمي البندقية ودَّ لو يطاردها واعتقد أنه يستطيع اللحاق بها. وفجأة شاهد ثعلباً يدنو منه وفي فمه دجاجة. أطلق صرخة مرعبة فقفل الثعلب هارباً دون أن يتخلى عن طريدته.
مشى عصراً حذاء جدول أبيض المياه ينساب عبر حشائش الحلفاء التي صار يقتلعها ويأكل جذرها الشبيه بالبصلة الصغيرة كرأس المسمار. إنها طرية، ويوحي منظرها بالمذاق اللذيذ، إنما أليافها قاسية ومشربة بالماء، مثل التوت، وليس فيها أي غذاء. رمى حمله وتغلغل بين تلك الحشائش الكثيفة زاحفاً، وصار يقضم ويمضغ كالحيوان المجتر.
أحس رغبة عارمة بالراحة والاستلقاء والنوم، غير أنه كان يحمل على التقدم حملا، لا بسبب الحرص على بلوغ المكان الذي يقصد. بل بسبب الجوع. بحث في المستنقعات عن ضفادع، ونبش التراب مفتشاً عن دود وفي علمه أنه غير موجود في هذا الصقع القريب من القطب. وبينما هو يبحث عن طعام ما عند إقبال الفجر، إذا به يعثر على سمكة صغيرة ووحيدة في أحد المستنقعات. غمس ذراعه حتى الكتف في الماء، ولكن السمكة أفلتت من قبضته، فغمس كلتا يديه عله يتمكن من التقاطها، ولكنه أثار عكر الماء الأبيض في القاع، والأدهى من ذلك أنه سقط في غمرة انفعاله، في المستنقع وابتل حتى الخصر.
احتجبت السمكة في المياه العكرة، وكان عليه أن ينتظر حتى يترسب الوحل. عاود البحث ثانية، فانبعث العكر أيضاً. نفذ صبره فتناول سطلاً وأخذ يضخ مياه المستنقع. تسرع في عمله في البداية، فابتلت ثيابه، وعاد الماء الذي صبه فريباً من المستنقع إلى مستقره الأول.هدّأ اضطراب نفسه وركز انتباهه وعاد إلى الضخ ثانية بيدين مرتجفتين وقلب خافق. بعد نصف ساعة لم يكن في المستنقع الصغير ملء كأس من الماء، ولم يكن هناك أي سمكة.
رأى شقاً بين صخرتين فأدرك أن السمكة قد انسلت منه إلى بركة مجاورة كبيرة لا يستطيع ضخ مياهها في يوم وليلة. لو شاهد الشق في البداية لسده بحجر ولكانت السمكة في يده الآن...
تثنى جسمه بعد هذه التأملات ثم تهاوى على الأرض الرطبة. بكى في صمت ثم علا عويله بعد ذلك وسط الخلاء العديم الرحمة. كان جسمه يرتعد وهو يطلق زفرات قوية.
أشعل ناراً وتدفأ، وبعد أن شرب قليلاً من الماء الساخن اعتلى صخرة واستلقى عليها كما فعل في الليلة الفائتة. تفحص أعواد الثقاب آخر الأمر ودوّر ساعته قبل أن ينام. كانت البطانيات دبقة ورطبة . أحس بالوخز المؤلم في كاحله، ولكن الإحساس بالجوع سيطر على تفكيره. وحلم خلال نومه القلق بالموائد والولائم المعدة على أحسن ما يمكن تصوره من الأشكال.
استيقظ صباحاً مقروراً متوعكاً. الشمس احتجبت وراء غبرة كثيفة غطت الأرض والسماء، والريح الباردة هبت والتلال غطى قممها الثلج المتساقط ليلاً. أشعل النار وسط ضباب كثيف انتشر حوله، وسخن ماء. وفجأة بدأ الثلج يتساقط، ثلج ومطر، ثلج كبير الندف، يذوب حالما يلامس الأرض، ولكنه غطى الأرض بعد قليل فانطفأت النار وابتلت وقدة الطحلب المعدّة.
كان هذا نذيراَ بالرحيل الذي لا يعرف له جهة ولا غاية. ليس همه الآن "أرض العصي الصغيرة" أو "بل" أو مخزن الذخيرة تحت الزورق المقلوب قرب نهر "ديس" ، بل الطعام وطريقة الحصول عليه ليس غير. لقد أوصله الجوع إلى حافة الجنون، لذلك سار في الدرب الممتد عبر المنخفضات إلى حيث لا يدري. ما أغنى التوت البري وبصلات الحلفاء الدقيقة شيئاً. كان ينبشها من تحت الثلج ويقلعها من جذورها. عثر على عشبة حامضة الطعم، فأكل كل ما وجد منها على قلته، إذ كانت من النوع الذي يتمدد على الأرض ويختبئ تحت عدة إنشات من الثلج.
لم يستطع إشعال النار في تلك الليلة، فنام نوم الجائع المتقطع تحت بطانيته. أفاق غير مرة أثناء الليل وأحس بالمطر يهمي على وجهه. أقبل يوم آخر احتجبت شمسه وراء الغبرة أيضاً. توقف المطر وتوقف الإحساس بالجوع. لقد تبلد وتحول إلى ألم محمول. عادت إلى الرجل قدرته على التفكير السليم، فانصب اهتمامه على أهمية الوصول إلى "أرض العصي الصغيرة" ومخبأ المؤن قرب نهر "ديس".
ضمد قدمه المدماة بالبقية الباقية من مزق البطانية، وهيأ نفسه للرحيل. اقترب من حمله ورمق الكيس الجلدي ، ثم مضى دون أن يلقيه في الخلاء. أذاب المطر الثلج إلا عن التلال. يا لحسن الحظ! ها هي ذي الشمس تظهر في الفضاء الأغبر، وينجح الرجل في توجيه البوصلة. إنه يعلم بأنه قد تاه. قد يكون انحرف قليلاً نحو اليسار في رحلاته السابقة، لذلك عمد إلى تصحيح خط سيره بالانحراف قليلاً نحو اليمين ليسلك الطريق الصحيح.
علم أن قواه ضعيفة، مع أن وخزات الجوع ليست مؤلمة. كان يتوقف، حين يهاجم توت المستنقعات وبقع الحلفاء، ليستريح. تضخم لسانه وجف ريقه وصار مرَّ المذاق وخشن الملمس كأنما غطته طبقة من الشعر الناعم. أما قلبه فقد أربك سيره في خفقانه الشديد، فكان يحس بالاختناق ثم يدوخ وتتلاشى قواه.
في منتصف النهار وجد سمكتين في بركة كبيرة. لم يفكر في ضخ مائها، بل في التقاط السمكتين بالسطل. كانت الواحدة منها في حجم الإصبع. أكل إحداها رغم تبلد إحساسه بالجوع، كأن معدته قد غلبها النعاس وعلم أنه لا يلبي رغبة، إنما ينبغي أن يأكل لكي يبقى حياً.
التقط ثلاث سمكات أخرى في المساء، فأكل اثنتين وترك الثالثة للإفطار، جفت بعض الطحالب المتناثرة تحت أشعة الشمس، وصار في إمكانه تسخين الماء. ها هو ذا الآن لم يقطع أكثر من عشرة أميال في اليوم الأول، وخمسة أميال في اليوم الثاني وذلك بسبب القلب. ليست المعدة هي ما يؤثر في قدرته على السير، بل القلب، إذ أن معدته قد نامت نوماً عميقاً. إنه الآن في أرض تعج بالأيائل والذئاب التي تتجاوب صيحاتها في الخلاء. رأى ثلاثة منها تنسل بعيداً في الطريق التي يسلكها.
مرت ليلة أخرى. فكر في أمر الكيس الجلدي ففك رباطه وفتحه فتدفقت منه شذرات الذهب الخام. لف قسماً منها في قطعة من البطانية وخبأه تحت صخرة بارزة، وأعاد الباقي إلى الكيس. ثم انكب على قدمه واستخدم قطعاً من البطانية المتبقية لديه في تضميدها. وإذا استغنى عن بعض الذهب ليخفف حمله، فلم يكن بوسعه أن يستغني عن البندقية، إذ أن هناك ذخيرة عند نهر "ديس".
وانتشر الضباب في اليوم التالي، واستيقظ الجوع من غفوته أيضاً. ما أشد ضعفه الآن! صارت الدوخة تفقده القدرة على البصر أحياناً، وصار يعثر ويسقط باستمرار. وقع مرة على عش دجاجة برية فوجد فيه أربعة فراخ زغب لا تكاد تملأ الفم. التهم الفراخ وهي حية وطحنها بأسنانه كقشر البيض، بينما تحوم فوقه وتطلق صرخات حادة. حاول ضربها بالبندقية، ثم رماها بالحجارة فأصابها في الجناح فراحت تطير وتحط جارة جناحها المكسور خلفها مذعورة من الرجل الذي يطاردها.
أثارت الفراخ الصغيرة شهيته للطعام، فراح يعرج في ملاحقته للدجاجة ، ويرميها بالأحجار ويصرخ صراخاً حاداً. كان يضطر أحياناً للسير في بطء وهدوء، وحين يقع كان يبذل غاية ما يستطيع من صبر وتجلد للانتصاب، ويفرك عينيه إذا ما غامت في عينيه الأشياء من دوار خطير.
ظل يطارد الدجاجة حتى أسفل الوادي الموحل حيث رأى آثار أقدام على الطحلب الرطب وتأكد أنها ليست سوى آثار"بل". لم يتوقف عن الركض وراء الدجاجة الهاربة، وظن أنه سيلتقطها ومن ثم يعود إلى تفحص آثار الأقدام.
أنهكته المطاردة وأنهكت الدجاجة أيضاً، فرقدت هي لاهثة واستلقى هو على الأرض لا يكاد يلتقط أنفاسه. كانت على بعد اثني عشر قدماً . عجز عن الزحف إليها. وعندما استعادت قوتها طارت مبتعدة عن قبضته الجائعة، فاستأنف مطاردتها، ولكنها نجت عند حلول الظلام. وقع على الأرض لاهثاً والصرة على ظهره، فجرح خده. بقي مستلقياً دون حراك فترة طويلة ، فظن بعدها أن عليه أن يدور الساعة، ثم غفا كما هو حتى الصباح.
لم ينقشع الضباب في اليوم التالي. أفاق وضمد قدمه التي مزق نصف البطانية من أجلها. حين عاد أدراجه لم يجد آثار "بل". لا يهم ، إن الجوع يدفعه إلى السير دفعاً. ليته يعرف ما إذا كان "بل" قد تاه أم لا
أثقله الحمل، فرمى قسماً من شذرات الذهب، وعند الظهر رمى البقية الباقية ، واستبقى البندقية ونصف البطانية والسطل فقط.
بدأت تنتابه الهلوسة وألحّت عليه، فقاومها مدة طويلة. كان اعتقاده أن بالبندقية طلقة يبعث الثقة في نفسه، ولكنه فوجئ حين فتح البندقية ووجدها فارغة. كانت خيبته مريرة وكأنه توقّع حقاً أن يجد الطلقة.
مشى متهادياً حوالي نصف ساعة, فعاودته نوبة الهلوسة أقوى من ذي قبل، ففتح البندقية كي يتأكد ثانية من خلوها من الطلقة. كانت الأوهام والنزوات تنهش دماغه كالدود. تابع تهاديه دون وعي، وطاف أثناء ذلك تفكيره في حقول بعيدة، ولكن تلك الرحلات الوهمية لم تدم طويلاً، بل سرعان ما كانت تبددها عضة الجوع. وفجأة تراجع إلى الخلف وكاد يقع وهو يترنح كالسكران. ماذا ترى عيناه؟ حصاناً؟ لم يصدق عينيه اللتين علتهما غشاوة كثيفة تلمع وسطهما بقع ضوئية. فرك عينيه بشدة عله يرى بوضوح . ليس حصاناً ما يرى بل دباً بنياً ضخماً وقف يتفحصه بنظرة شرسة ومستغربة.
سحب الرجل البندقية ثم أدرك أنها فارغة. وضعها على الأرض واستل خنجر الصيد المرصع بالخرز. مرّر إبهامه على حد الخنجر الحاد وهو يرمق كتلة اللحم الحية الواقفة أمامه. هم بالانقضاض على الدب بغية قتله ولكن قلبه بدأ بالقرع المنذر المضطرب. تمشى الدوار في دماغه فأحس كأن طوقاً من الحديد يلتف حول رأسه.
طرد شجاعته البائسة خوف شديد. ماذا لو هاجمه الوحش وهو في حالة الضعف هذه؟ بذل كل ما يستطيع من جهد كي يبقى منتصب القامة، وأمسك بالخنجر، وحدق إلى الدب. تقدم الدب قليلاً ثم تراجع مزمجراً. كان كأنه يختبر قوة الرجل وشجاعته، فإذا ما هرب فسوف يتبعه، ولكن الرجل لم يهرب، بل أعادت شجاعة الخوف قوته إليه. وهو أيضاً صرخ صراخاً رهيباً نمَّ على الخوف الوثيق الصلة بالحياة. وقف الدب وقفة مواربة وزمجر مهدداً. ها هو يرتد عن هذا المخلوق المنتصب أمامه دون خوف. لم يتحرك الرجل، وظل واقفاً كالتمثال حتى ابتعد الدب وولى عنه, أصابت الرجل رعدة تهاوى على أثرها فوق الأرض الرطبة.
استعاد قواه وتابع السير. إنه الآن لا يخاف الموت جوعاً، بل يخاف أن تمزقه أنياب الوحش قبل أن يقضي الجوع على آخر خلية حية فيه. كان هناك ذئاب تجول في الأرض الخالية، وتملأ الفضاء من كل حدب وصوب كما لو أنه في خيمة تجتاحها الرياح.
كانت الذئاب تجتاز الطريق أمامه، وتتجنب الاقتراب منه. لم تكن كثيرة العدد، وكانت تفضل افتراس الأيائل، التي لا تقاوم ، على ذلك المخلوق الغريب المنتصب القامة والذي يبدو أنه يستطيع أن يخمش ويعض.
عصر ذلك اليوم عثر على عظام أيل لم يمر وقت طويل على افتراسه. كان أيلاً صغيراً يصرخ ويركض مفعماً بالحياة والقوة. أمعن النظر في العظام المعروقة الناصعة البياض. كانت بعض العروق ما تزال حمراء. أيلاقي نفس المصير؟ ها هي ذي الحياة!...إنها عبث سرعان ما ينقضي. ليس هناك من ألم إلا في الحياة، ففي الموت تتغير الأمور. الموت يعني السبات، والتوقف والراحة, وما دام الأمر كذلك فلماذا لا يتقبل الموت راضياً؟.
لم يَطُل تفلسفه هذا ، إذ كان بعد فترة وجيزة يخوض المستنقع وفي يده عظمة عليها بعض اللحم. اللحم حلو وقليل وسريع الزوال كالذكرى. شد فكيه على العظمة وراح يمضغ كالمجنون مما أدى إلى كسر العظمة وكسر بعض أسنانه. وضع العظمة أخيراً على صخرة ودقّها حتى صارت كالعجين ثم ابتلعها. لقد دق في تعجله بعض أصابعه أيضاً، واندهش من عدم إحساسه بأي ألم.
مرت أيام مروعة سقط فيها ثلج ومطر. صار يسافر في الليل والنهار، لا يدري في أي وقت يبيت أو في أي وقت يرتحل. كان يستريح حيث يفع خائر القوى ، وكان يزحف حين تخفق الحياة الصائرة إلى الموت فيه وتلتهب. إنه لا يكافح الآن خطر الموت فيه كإنسان، بل إن غريزة الحياة فيه تأبى الموت وتدفعه إلى الأمام دفعاً. إنه لا يعاني شيئاً. إن أحاسيسه قد تلبدت وأعضاؤه قد خدرت، فازدحم عقله بالرؤى الغريبة والأحلام اللذيذة.
التهم معظم العظام التي حملها معه. إنه الآن يمشي حذاء جدول كبير في واد غير منخفض. ليس هناك من تلال أو ممرات. لقد حجبت الرؤى عنه رؤية الوادي والجدول. ما أضعف الخيط الذي يربط بين جسم الرجل وروحه وهو يمشي ويزحف.
استيقظ من غفوة على صخرة، فإذا بالشمس تشع دافئة وهاجة. سمع صراخ أيائل صغار من بعيد فخطرت له ذكريات غامضة عن المطر والثلج. هل رمته عاصفة أرضاً فنام يوماً أو يومين أو أسابيع..؟ إنه لا يدري.
أشعة الشمس انسكبت عليه وهو مستلق بلا حراك وأنعشت جسمه المنهك بالدفء. كان يوماً جميلاً ففكر في ترتيب مكان للإقامة فيه. حاول أن يضطجع على جنبه الآخر. أزعجه منظر نهر هادئ قذر، فقلَّب طرفه في التلال الشاحبة العارية التي لم ير مثلها في طريق رحلته، وتابع النظر بتأن إلى مجرى النهر في لا مبالاة بما يرى إلا ما تثيره الأشياء الطارئة، ورآه يصب في بحر لامع ومشع عند الأفق. ظن أنه رؤيا أو سراب أو خدعة من خدع العقل المشوش، ولكنه تأكد من صحة ما يراه ولم يثره حين رأى سفينة راسية في عرض البحر. أغمض عينيه قليلاً ثم فتحهما، فاندهش من وضوح الرؤية الغريبة. إنه يعلم أنه لا وجود للسفن والبحار في هذه الأراضي العقيمة، كما يعلم أن البندقية فارغة من الطلقات.
سمع حفيفاً وصوتاً كاللهاث فانقلب ببطء الواهن المتصلب على جنبه الآخر، ولكنه لم ير شيئاً. أصغى قليلاً في صبر وانتظار، فسمع ثانية سعالاً وخنيناً ، وحين التفت رأى رأس ذئب أغبر بين صخرتين على بعد عشرة أقدام منه. عينا الذئب حمراوان عمشاوان وأذناه مسبلتان لا كآذان الذئاب التي شاهدها من قبل، أما رأسه فقد تدلى على نحو مترهل وبائس. كان الحيوان يرمش باستمرار تحت أشعة الشمس، لا شك أنه مريض. رآه يخن ويسعل مرة أخرى.
لا يشك في حقيقة هذا المنظر. استدار الرجل ليرى العالم الذي أخفته الرؤى الكاذبة، فرأى البحر ما يزال يشع من بعيد. والسفينة ما تزال راسية. أغمض عينيه طويلاً وفكر، فعاد إليه إدراكه للجهات. لقد ظن الشمال شرقاً طول الرحلة. إن النهر الذي رآه هو نهر "كوبر ماين" ، أما البحر فإنه المحيط القطبي الشمالي. وما تلك السفينة إلا إحدى سفن صيد الحوت التي تاهت شرقاً بعيداً عن مصب نهر "ماكنزي" وهي ترسو الآن في مضيق "كورونيشن". تذكر خريطة شركة خليج "هودسون" التي شاهدها من زمان بعيد، وأصبح كل شيء واضحاً ومعقولاً بالنسبة إليه.
نهض واهتم بالشؤون العاجلة، فوجد قدمه كتلة متورمة من اللحم كان قد مزق بطانية من أجل تضميدها، وفقد آخر بطانية لديه. بحث عن البندقية والخنجر فلم يجدهما وكذلك القبعة وما فيها من أعواد ثقاب، ثم تحسس علبة التنباك والورقة المشمعة اللتين في عبه فوجد أعواد الثقاب الأخرى سالمة وجافة. نظر إلى الساعة فإذا بها تشير إلى الحادية عشرة فاتضح له أنه لم يغفل عن تدويرها.
بدا هادئاً منضبط الأعصاب رغم ضعفه الشديد. لم يكن يحس بالألم أو بالجوع، بل إن التفكير بالغذاء كان يزعجه. إنه يتصرف باتزان وترو. مزق بنطاله حتى الركبتين وضمد قدمه. من حسن الحظ أنه احتفظ بالسطل. لا بد من شرب بعض الماء الساخن قبل المضي صوب البحر، وهو ما رآه رحلة شاقة جداً.
تحرك ببطء كالمشلول . حاول أن يلتقط بعض الطحالب فلم يستطع الانتصاب، فكرر المحاولة دون جدوى، ثم زحف نحو الذئب المريض فنفر الذئب منه باشمئزاز، ولحس فكيه بلسانه الذي بدا متصلباً. لاحظ لسان الذئب المختلف عن ألسنة الذئاب الأخرى. كان أصفر داكن الصفرة غطته طبقة من مخاط جاف.
استطاع الرجل الانتصاب بعد شرب الماء الساخن، واستطاع السير كما يمكن أن يسير رجل ميت. توقف في الحين بعد الحين ليريح جسمه الواهن المتعثر الخطا كالذئب الذي رآه. حين خيم الليل واختفى البحر وأدرك أن أربعة أميال تفصله عن البحر ليس غير.
ظل يسمع سعال الذئب طوال الليل. أوحت له صيحات الأيائل الصغيرة بالحياة التي يضج بها المكان، ولكنها حياة الأقوياء. إن الذئب المريض يتأثر خطا الرجل آملاً أن يموت قبله. أفاق مرة فرآه يلحظه لحظ الجائع المتلهف المتأهب وذيله بين رجليه مثل كلب بائس خائف. هبت ريح الصباح الباردة، فارتجف الذئب وأنَّ أنيناً كئيباً عندما سمع صوت الرجل الذي لم يكن إلا همساً أجش.
أشرقت الشمس، وواصل الرجل سيره المترنح صوب السفينة. ما أجمل الطقس في هذا اليوم من أيام الصيف الهندي القصير في الشمال القطبي! قد يستمر الصيف أسبوعاً، وقد ينقضي غداً أو بعد غد.
عثر عند الظهر على آثار رجل زاحف ظنه "بل". لم تكن به رغبة في المعرفة لقد فارقه الإحساس والعاطفة، ونام البطن والأعصاب، ومع هذا فقد دفعته الحياة المتبقية فيه إلى الأمام، ولقد رفضت الموت رغم الإرهاق والضنك، وكانت وراء أكله للتوت البري والسمكات، وشربه للماء الساخن وعدم غفلته عن الذئب المريض المتربص به.
اقتفى آثار الأقدام والأيدي التي رآها ، فوصل أخيراً إلى مكان فيه بعض العظام المنهوشة من وقت قريب، وآثار الذئاب واضحة على الطحلب الرطب، ثم رأى جراباً جلدياً مثل جرابه ممزقاً بالأسنان، فالتقطه رغم ثقله. أدرك أن "بل" لم يتخل عن الذهب طيلة الرحلة. كاد ينفجر ضاحكاً على "بل". ها هو ذا قد نجا من الموت وسوف يحمل الكيس إلى السفينة الراسية في البحر الوهاج. لم يكن الرجل ليختلف عن الذئب في صوته الأبح الناعق كالغراب، أو في لونه الممتقع كلون الأموات. أيضحك على "بل"؟ أهذه العظام البيضاء المدماة عظامه؟
ابتعد الرجل. حسناً...إن "بل" قد تركه. ولكن لن يحمل الذهب ، ولن يقتات باللحم المتبقي على عظام زميله. لم يكن "بل" ليتورع عما يأنف الرجل عن فعله الآن. استغرق في التفكير وهو يمضي مترنحاً.
وصل إلى بركة صغيرة، فانحنى باحثاً عن سمك فيها، وفجأة تراجع كالملدوغ. رأى صورته في الماء، وكانت صورة مرعبة أيقظت فيه الإحساس الذي أوشك أن لا توقظه أية صدمة. السمك يلعب في البركة التي يصعب عليه ضخ مياهها. حمل السطل وحاول التقاط إحداهن أكثر من مرة، ولكنه خاف أن يسقط ويغرق فتراجع إلى الوراء. لقد فقد الثقة بقواه. ولهذا السبب لم يجرؤ على محاذاة النهر والسير على ضفته المغطاة بالأخشاب.
في ذلك اليوم قطع ثلاثة أميال وفي اليوم التالي قطع ميلاً واحداً. كان يزحف مثل "بل" . ما تزال السفينة تبعد سبعة أميال. وهو عاجز عن قطع ميل في اليوم الواحد. استمر الصيف الهندي، واستمر الرجل بالزحف المنهك عبر طريق ملتوية والذئب خلفه يسعل وينخط. تورمت ركبتاه، ورغم أنه مزق قميصه ولفهما، إلا أن خيط الدم لازم آثار زحفه على الطحلب والحجارة. التفت مرة إلى الوراء فشاهد الذئب يلعق الماء على الأرض في نهم، رأى بعينيه ما يمكن أن ينتهي إليه إن لم يقتل ذلك الوحش المريض. يا للمأساة الرهيبة التي لم تمثل من قبل: رجل مريض يزحف، وذئب مريض يعرج خلفه، مخلوقان يجرجران جثتيهما الصائرتين إلى الموت عبر الخلاء، ويتصيد الواحد منهما الآخر.
لو كان الذئب سليماً لما اهتم الرجل، ولكنه لم يطق تصور نفسه غذاء لهذا الوحش المقزز والموشك على الموت. يا للعجرفة..! ها هو ذا الهذيان يستلب عقله ثانية، وتصبح فترات الصحو أقصر وأقل..
استفاق مرة من إغماء على صوت خنين قربه، فما أن رآه الذئب حتى قفز مبتعداً ووقع بعد أن اختل توازنه. رغم أن منظره كان مضحكاً فإن الرجل لم يبد أي ابتهاج. جلس الرجل وأخذ يفكر رغم الإعياء الشديد. لم يكن خائفاً. إنه يستطيع رؤية السفينة رغم الغشاوة التي غشت عينيه. لم تكن أبعد من أربعة أميال عنه. ذاك هو الزورق الصغير يشق مياه البحر اللامعة. أتراه يستطيع قطع المسافة المتبقية زحفاً؟ بقي هادئاً رغم شكه في قدرته على ذلك، إلا أنه يريد أن يحيا، ومن غير المعقول أن يموت بعد كل هذا العذاب الذي قاساه. إن القدر يطلب منه الكثير، ها هو ذا يموت، و لربما كان جنوناً تاماً أن يتحدى الموت ويرفضه وهو في قبضته المحكمة.
أغمض عينيه وهدأ روعه في حرص شديد. عزم على التغلب على الترهل الذي يسري في خلاياه كالمد الصاعد. إنه يغمر قدراته الواعية شيئاً فشيئاً، ويلفه النسيان. ولكنه لا يلبث أن يجد مزقة من إرادته المتلاشية فيستعيد قوته التي ما تزال سيمياء الروح الغريبة تحتفظ بها.
استلقى على قفاه دون حراك. سمع صوت صفير أنفاس الذئب المريض يقترب منه. اقترب أكثر في فترة من الزمن غير محدودة. ولكن الرجل لم يتحرك. وصل الذئب إليه وأحس لسانه الجاف الخشن فوق خده. امتدت يداه، أو مدهما، إنما الأصابع الشبيهة بالمخالب التي لم تقبض إلا على الهواء. إن سرعة التأكد تحتاج إلى قوةٍ ما لا يملكها الرجل.
يا للصبر العجيب الذي تحلى به الرجل والذئب على حد سواء. اضطجع الرجل نصف يوم بلا حركة، يقاوم الغيبوبة، وينتظر افتراس الوحش له، بينما كان يأمل أن يفترسه هو. كان البحر الباهت يغمره أحياناً، فيحلم أحلاماً طويلة تقطعها يقظات متعاقبة يترقب خلالها النفس الصافر واللسان الخشن. لم يسمع شيئاً، بل أحس اللسان يلمس يده. تبدد عالم الأحلام، فانتظر ضغطة الأنياب. ها هي ذي تضغط برفق ثم بقوة. كان الذئب يبذل أقصى جهده ليغرز أنيابه في الطعام الذي انتظره طويلاً. نفد صبر الرجل، فأطبقت يده المتقرحة على الفك . الذئب يجد مشقة في التمكن من فريسته وكذلك اليد التي راحت أختها تحاول الإمساك بالوحش. بعد خمس دقائق كان الرجل ينبطح على الذئب. لم يقْدر أن يخنق الذئب بيديه، فصار يتحسس حنجرته فامتلأ فمه بالشعر. بعد نصف ساعة أحس الرجل بشيء دافئ ينساب في بلعومه، فامتعظ مما سقط في معدته كأنه قطعة من الحديد المصهور. ابتلعها قسراً، ثم تدحرج على الأرض ونام.
كان في السفينة بعض أعضاء الحملة العلمية لدراسة الحيتان. شاهدوا شيئاً غريباً على الشاطئ يتجه صوب الماء. لم يستطيعوا تمييزه، فركبوا زوارق ومضوا نحوه. وجدوا شبحاً حياً عميت عيناه وفقد الوعي. كان يتلوى كالدودة الكبيرة وهو يزحف نحو الماء عبثاً، إذ أنه لم يكن يقطع عشرين قدماً في الساعة.
بعد ثلاثة أسابيع استلقى الرجل في قمرة في السفينة وراح يحكي للركاب والدموع تسح من عينيه، عن نفسه وعما جرى له. ذكر أمه في أحاديثه الهاذية المتقطعة، وذكر جنوب كاليفورنيا المشمس، وأشجار البرتقال والأزهار.
أصبح يجالس العلماء والضباط بعد عدة أيام، وينظر إلى الطعام وهو يدخل أفواههم نظرة المنهوم الشره. كان يظهر الأسف العميق كلما رأى الخبز يختفي في الأفواه، ويبدي كرهه لمن يتناوله، إنه يفكر في كامل قواه العقلية فيخاف أن تنفد الأغذية، ويتساءل مع الطباخ وصبي القمرة وقائد السفينة عنها. طمأنوه مراراً ولكنه لم يصدق، فذهب إلى المخازن ليرى بأم عينيه.
لاحظ ركاب السفينة أن الرجل يسمن، فهز العلماء منهم رؤوسهم وتناقشوا في الأمر. غيروا الوجبات التي يتناولها. إلا أن حجمه ظل يزداد، وثيابه ضاقت عليه.
علم البحارة السبب فضحكوا باستهزاء. وعندما راقبه العلماء رأوه يستعطي الطعام بعد الإفطار كالشحاذ، ويأخذ ما يرمى له من بسكوت، كما يأخذ البخيل قطعة من الذهب، ويحشرها في عبه، وما أكثر ما رمى له البحارة من هبات!
تصرف العلماء في حكمة وحذر، فتركوه وحيداً، وراقبوا قمرته خفية. كانت القمرة مملوءة بالبسكوت الجاف. لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الشك في قواه العقلية، فهو إنما يحتاط من مجاعة محتملة. قال العلماء: سيشفى من هذا الهوس. وهكذا حدث فعلاً قبل أن ترسو السفينة في خليج "سان فرنسيسكو".

* المصدر: مختارات من القصص الإنكليزية الحديثة ، ترجمة عارف حذيفة ، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، دمشق 1979 .






** جاك لندن ( Jack London )

يكتفي بعض المؤلفين بكتابة مغامرة أما لندن فقد عاش مغامرة .
إن لندن الذي ولد في سان فرانسيسكو عام 1876، لم يعرف بشكل مؤكد من هو والده . كانت أمه فلورا ولمان ، امرأة ذكية لكنها غير مستقرة . جاء اسمه من زوج أمه؛ جون غريفيت لندن . كانت الأسرة فقيرة . وقد اتصف التعليم المبكر لجاك بأنه "متقطعاً"
حتى يعيل الأسرة تجرع جاك لندن مرارة الحياة، و امتهن أعمالا مختلفة ، من توزيع الصحف ، إلى العمل في مصنع معلبات ، وقطع الطريق، والشرطة البحرية ، وقبطان سفينة، وطالبا، ومراسلا صحفيا، وعامل منجم وسواها.
في عام 1894 شهد مزيداً من الأوقات العصيبة . فقد زحف العاطلون عن العمل على واشنطن فيما كان يعرف آنذاك باسم جيش كيلي الصناعي . انضم لندن إلى الزاحفين لفترة وجيزة ، ثم تحول إلى متشرد متجول ابتغاء التسول والسرقة.
انتهى به هذا الفصل من حياته بأن قضى حكماً بالسجن بسبب التشرد في سجن مقاطعة آري . لكن هذا ساعد في إقناعه بمدى أهمية التعليم . فدخل المدرسة الثانوية وهو في سن التاسعة عشرة ، وصار يكتب لجريدة المدرسة ، ثم انخرط في المجتمع المتصارع.
في العام التالي اجتاز امتحانات الدخول إلى جامعة كاليفورنيا . بيد أنه بعد أن أمضى فصلاً دراسياً كطالب جامعي كان عليه أن ينقطع عن الدراسة لكي يعيل أسرته. مع ذلك ، فقد ظل مواظباً على القراءة ، فقرأ كماً كبيراً . كان يقرأ كل شيء .. خصوصاً الاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع . واستمر في الكتابة حتى بالرغم من أن كتاباته لم تلق رواجاً.
انضم جاك لندن عام 1896 وله من العمر 20 عاما إلى حزب العمل الاشتراكي Social Labour Party حيث شكلت حلقات لدراسة بيان الحزب الشيوعي، وكتابات ماركس وكانط ونيتشه وسبنسر. كما انتدبته أحزاب ومنظمات اشتراكية لتمثيلها في أعمال المجالس البلدية، وشارك في اجتماعات الاشتراكيين في أمريكا بخطاباته الثورية.
في آذار 1897 كانت فورة ذهب الكلوندايك . انضم لندن إلى السباق المتجه شمالاً معتمداً على النقود التي استدانها . وبناء على هذه الرحلة كتب رواية "الناب الأبيض و "قصص من كلوندايك ، وهي مجموعة من ألمع قصصه تتضمن قصة : "إشعال النار" ، "وحب الحياة" وهما قصتان كان يقرأهما لينين قبيل وفاته بساعات
يركز جاك لندن في كتاباته على أن الصراع الطبقي بين العمال والرأسماليين أمر لا بد منه، وهو يروج طوال عمره للأفكار الاشتراكية ، والثورة العمالية القادمة. وكان ينتقد باستمرار النظام الرأسمالي ، ويفضح القوانين اللاإنسانية الجائرة ،و يفضح الخصال الكلبية للرأسمالية وجشعها اللامحدود. وكان يدعو إلى تجديد روح الاشتراكية دوما، و إلى حماية البيئة وجمال الطبيعة الواهبة لسعادة الحياة وبهجتها. لقد تنوعت الثيمات في كتاباته التي اشتركت كلها في مقاربة مسألتي علاقة الإنسان بالطبيعة، وعلاقة الفرد بالمجتمع. وقد كتب قصص مغامرات أبطالها حيوانات، مثل رواية «الناب الأبيض». كتب الناقد دوايت ف. سوين في تقديمه للناب الأبيض: "إن قصة الناب الأبيض " هي إحدى أعظم حكايات المغامرات في عصرنا"
أما رواية " العقب الحديدية" والتي جعلت من الكاتب من أكثر الكتّاب شعبية عند العمال والكادحين والمثقفين ذوي الاتجاهات الاشتراكية، فهي تصوير لمستقبل البشرية، ورواية هادفة ، تمثل أحداثها ثورة المضطهدين ، ونضال العمال الدامي في أمريكا، و تنبئ باقتراب ظهور الفاشية في أوروبا. لقد وضعها جاك لندن عام 1907 فصور فيها حتمية انتصار الاشتراكية وحتمية انهيار الرأسمالية، والصراع الرهيب الذي لا بد أن يدور بين معسكري التقدمية والرجعية، والأساليب الجهنمية التي تلجأ إليها الرأسمالية في صراعها من أجل البقاء.
والأطرف في هذه " الرواية- المعجزة" أن جاك لندن وضعها على لسان زوجة البطل، وتخيل أنه عثر عليها من طرق المصادفة بوصفها مخطوطة كتبت في عهود الظلام، ومن أجل ذلك راح يضع لها الحواشي والشروح، مفترضا أنه يكتب تلك الحواشي والشروح بعد سبعة قرون انقضت على بزوغ فجر الاشتراكية ليصف بعض ظواهر الحياة الغربية في العهد القديم.
و" العقب الحديدية" اسم أطلقه جاك لندن على الرأسمالية الاحتكارية التي تتطلع إلى سحق الطبقات الكادحة بالنار والحديد.
يرى تروتسكي أن " العقب الحديدية" أفضل وثيقة توضح عملية تشكّل الفاشية، ويعتبرها إطارا تحليليا للمظالم التي تتعرض لها البشرية على يد الرأسمالية، وأن بطل الرواية يمثل مصير البشرية كلها وهي تعاني في عصر عبادة الربح وفظاعة الاستغلال. و ثمة نقاد لا يستبعدون أن يكون الروائي جورج أورويل قد كتب روايته " 1984" تحت تأثير "العقب الحديدية".
أمّا رواية "مارتين إيدن" فهي كتاب تعليمي يتضمن أفكار جاك لندن ومواقفه الفكرية والسياسية وتحولاتها.
وفي رواية " ذئب البحر" المصورة سينمائيا نتطلع على القبطان لارس الذي يذكّرنا خلال صراعاته القاسية مع الطبيعة والمجتمع بإنسان نيتشة المتفوق. وإن من دواعي محبوبية جاك لندن وشهرته التي أطبقت الأفاق هو أنه بين أعوام 1913, 1958 تم تصوير حوالي 42 عملا من أعماله الروائية والقصصية أفلاما ، شاهدها الناس في أرجاء العالم.
بالإضافة إلى لينين، أبدى قادة ومفكرون شيوعيون آخرون إعجابهم بجاك لندن، مثل تروتسكي وبوخارين ورادك، وأكدوا جميعهم على بعد نظر الكاتب ، وسعة آفاقه الفكرية والسياسية في رواية «العقب الحديدية».
لم يقتصر إبداع جاك لندن على كونه كاتبا اشتراكيا يدافع عن العدالة والحق ويناضل في سبيل مستقبل اشتراكي للبشرية، بل كان مبدعاً كبيرا في قصص المغامرات والطبيعة والحيوانات أيضا. وقد تركت كتاباته وأفكاره الثورية ومواهبه الإبداعية العظيمة تأثيرا عظيما على الأدب والثورة الأممية العمالية رغم التناقضات التي انتابته وأفكاره.
اعتبرته البرجوازية الحاكمة في زمانه ولسنوات عديدة مخربا ومعاديا للديمقراطية الأمريكية، ومنعت كتبه من التداول ، وطردت من المكتبات العامة. وقال عنه روزفلت الرئيس الأمريكي إن جاك لندن ليس فقط يجهل معلومات عن الذئاب ، بل أنه غافل حتى عن كلاب أمريكا، ورغم كل ذلك طبعت عام 1975 في أمريكا 17 شكلا من رواية " نداء البرية"
يستغل النقاد البرجوازيون العناصر الداروينية والنيتشوية، لتشويه جاك لندن وتغليب تلك العناصر على أفكاره الاشتراكية. فقد كانت حقا ، آثار جاك لندن مثلها مثل حياته ملؤها التناقضات ، فهي تحتوى على الداروينية، والإنسانية المسيحية ، والعدمية الطبيعية، والجبرية الاجتماعية والبطولية الفردية الاشتراكية. ولكنه كان مثال الطليعي المناضل في سبيل الاشتراكية، وتحقيق العدالة والمساواة في نظر الاشتراكيين. وكان يرى فيه النقاد الأدبين أستاذ كتابة القصة القصيرة. ويقول فرانس يونج إن تراجيديا جاك لندن مثل جميع كتّاب أمريكا تكمن في أنه لا يستطيع أن يحسم الاتجاه الفكري والسياسي الذي ينبغي أن يخطه لمسير حياته، فهو حائر بين الكتابة للسوق والناشر أم يكتب لتحرير البشرية. وفي رأي ايتون سينكلر، أن جاك لندن كان نصير الكادحين، وأن دموعه التي ذرفها على فقراء شرق لندن تشبه الدموع التي سكبها المسيح حين بكى على سكان القدس. ورغم كل الآراء التي تناقضت عن جاك لندن، ورغم بعض كتاباته هابطة المستوى الفني، فإن الجميع بمختلف مشاربهم الفكرية والسياسية متفقون على أنه كاتب عظيم ومبدع كبير، وظاهرة أدبية عظيمة ظهرت في أمريكا في القرن الماضي.
توفي عام 1916 في الثاني والعشرين من تشرين الثاني عن عمر يناهز الأربعين عاماً ، متأثراً بتسمم بولي في مزرعة المواشي العزيزة عليه قرب سونوما ، كاليفورينيا ، تاركاً إرثاً من النثر المثير.
المصادر:
1- حياة جاك لندن. مقتبس من "الناب الأبيض : ترجمة عدنان حسن ، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق 1998 ص 3-6
2- ويكيبيديا: الموسوعة الحرة.
3- - Jack London - Biography and Works











نص مقلق للراحة
عمران
- من أجلها أعانق الحروف والقصائدْ
من أجلها أرحل فوق أنجم السماءْ
ومن ضفائر النجوم أصنع القلائد
لجيدها مئذنة المساجدْ
لجيدها سيّدة الخرائدْ.
- من وطن للعشق قد أتيتْ
كي أجعل الحب لنا وسائدْ
وأنزع الألغام من حياتنا
وأكسر القيود في عقولنا
كي تصبح القلوب للشموس كالموائدْ
- من أجلها أمزّق الستائر القديمةْ
وترّهات هَتْكُها جريمةْ
بلغة البيان والتبيين، جديدةً قديمةْ
كي يستعيد شرقنا صحّته المنسيَّةْ
في الطرقات الموحلةْ
وفي خرائب النصوص والمعابدْ
- في وطن يملؤه الحرامْ
يحتلّه الدعاء والظلامْ
يؤثّم الأجساد والأقلامْ.
عيوننا مدانة إذا رأتْ
قلوبنا مريضة إذا أحبّت أن تكونْ
ملاعباً للفرح البهيّ والقصائدْ
كي تسلمَ الطقوسْ، طقوسنا المصائدْ
ويصبح الأحرار في أوطاننا طرائدْ.
- من أجلها أحارب الظلامْ
ومن يريد جرّنا لسالف الأيامْ
طال انتظار أمة تجترّها البوائدْ
على مفارق الضياع كالرهائنْ
تقمعها النصوص والعقائدْ
- من أجلها من أجل عينيها كزورقينْ
من أجل من يحترم الحياةْ، حرّيّة الحياةْ
سأكتب الأشعارْ، في الليل والنهارْ
لنهزم الذين يرفضونْ
أن تنجوَ الحياة من لوثتهمْ ومنْ
أوبئة الأدمغة المحنّطة ومن علامة استفهامْ
في وجه كلِّ من أحبَّ أو سار إلى الأمامْ
كي تزهر الأوطان بالأحلامْ
بالعشق، بالخير وبالسلامْ
والفرق فيما بيننا كمثل فرق بين مَنْ
يطفئ نور شمعةٍ وبين من يضيء ألف شمعة ليطرد الظلامْ.
- أحبُّها، أحبُّ عينيها كطلعة الشموسْ
أحبُّ رقّة الطموح في النفوسْ
كي يخرج الفكر من الزنزانة الأثيمةْ
كي توصد المدارس القديمةْ
فترتقي أجيالنا مدارج الحرّيّة الكريمةْ
وتشرق الحياةْ، بالحبِّ والجمالْ
ويصدح الوجودْ بأعذب الأنغامْ.
إلى متى ننام فوق الأرصفة!!
- إلى متى نظلُّ، في غيبوبة تطعننا الأوهامْ!!
نجرّم الفكر الجريء، نطلق الأحكامْ
ولا نريد الضوء في عقولنا
مخافة المضيِّ للأمامْ
لقد غدونا أمةً يرثى لها
تُتلى عليها الفاتحةْ وينتهي الكلامْ













حول الشخصية النموذجية في الأدب المسرحي

عبد الكريم عمرين

كثيرا ما يصادفك وأنت تقرأ كتب النقد الأدبي والمسرحي , ومباحث علم الجمال , أو وأنت تطالع بعض المقدمات لروائيين ومسرحيين , تنظيرات مختلفة حول مفهوم الشخصية الأدبية والمسرحية, وهذه الرؤى والتأملات والتنظيرات, متناقضة أو متطابقة أو متقاربة .
وبسبب هذه المفاهيم حول الشخصية الأدبية والمسرحية قامت الدنيا ولم تقعد , وجرت حروب أدبية ونقدية طاحنة , خرج منها المتصارعون بتوصيفات وتسميات شتى للشخصية الأدبية والفنية , منها : الشخصية النموذجية , والشخصية النمطية , والرئيسية والثانوية والعرضية , والحاضرة والغائبة والمحورية , والمثال والبطل , والدرامية والكاملة والمتكاملة , والمنبسطة والكروية , والإيجابية والسلبية والسيكولوجية....الخ.
ثم إن بعض النقاد والمشتغلين في الإبداع المسرحي , حصروا تصنيفهم للشخصيات المسرحية تبعا لكبار الكتاب فقالوا في الشخصية الإغريقية , والشخصية المولييرية والشخصية الشكسبيرية .
والبعض ضيّق الخناق على الشخصية المسرحية , مؤطرا إيّاها بحسب عائديتها المدرسية , فنادى , هذا البعض , بالشخصية الأرسطية , والشخصية الرومانسية , والشخصية العبثية , والشخصية البريختية ...الخ.
وأخيرا هدأت المعارك الطاحنة ... وانحصرت التسميات في مصطلحين اثنين , وصار جل التنظير والتوصيف والجدل , يدور حول الشخصية النموذجية , والشخصية النمطية.
لكن هذان المفهومان – المصطلحان – فتحا الأبواب من جديد , لاختلاف الرؤى والتوصيف ولاختلاف المعايير . فما هو نموذجي عند هذا هو نمطي عند ذاك , وما هو نمطي عند هؤلاء هو نموذجي عند أؤلئك .
ولنبدأ من أرسطو , الذي وضع الأسس الأولى لفن التراجيديا , حيث يقول في كتابه "فن الشعر". "أن تكون عقدة الرواية من الأمور المحتملة الوقوع , لا من الحياة الواقعية نفسها , وأن تكون شخصياتها أنماطا يحتذى بها , ولهذا يحسن اتخاذهم من التاريخ...".
ومصطلح النمط استخدمه شلنغ بمعنى : " الشخصية العالمية العظيمة ذات الأبعاد الأسطورية : هاملت- دون كيشوت- فاوست-شايلوك- ياغو-بروميثيوس". أما بلزاك في مقدمة الكوميديا الإنسانية عام1842, فيعتبر نفسه دارسا للأنماط الاجتماعية. والروائية جورج صاند في مقدمة روايتها "رفيق رحلة في فرنسا" عام 1851, تعرّف النمط بأنه:
"مثال اجتماعي يستحق أن يحتذى في الحياة".أما الناقّد الروسي بلنسكي فيعتبر أن : " مهمة الفنان الأولى هي خلق أنماط " , ومواطنه دوبروليوبوف يقرر أن " الأنماط الاجتماعية نقاط يتبلور عندها التغير الاجتماعي" أما الإيطالي لويجي كابوانا فيعتبر أن : " النمط شيء مجرد , هو المرابي وليس شايلوك ". أما الناقد المجري , الأشهر في القرن العشرين , جورج لوكاتش فيكتب : " إن الفرق الجوهري في الأسلوب بين الواقعية القديمة والحديثة يكمن في تصوّر ما هو نموذجي في وصف الأشخاص " . وقبل جورج لوكاتش كان قد قرّر فريدريك أنجلس أن مهمة الأدب العظيم تكمن في تصوير " الشخصيات النموذجية في الظروف النموذجية " .
إن جميع الكتّاب والنقّاد , وعدد غير قليل من الفلاسفة , أدلوا بدلوهم , في مفهوم الشخصية الأدبية أو المسرحية , وحتى كبار الإيديولوجيين , وبخاصة الماديين , على مختلف أطيافهم , تحدثوا وكتبوا في موضوع الأدب والفن , ودور ووظيفة كل منهما, وتطرّقوا لمفهوم الشخصية الأدبية والفنية , كماركس وأنجلس , وهيغل وروجيه جارودي... الخ . انطلاقا من أن الآداب والفنون ما هي إلا انعكاس جدلي [موسّط] عن الواقع المادي.
إن هدف هذه الدراسة هو البحث في الشخصية النموذجية وتوصيفها , وإبانة سر سحرها وديمومتها , رغم مرور مئات أو آلاف السنين على خلقها الإبداعي , عبر نماذج لشخصيات مسرحية خالدة , مازالت تقدّم على خشبات المسارح في العالم , بل مازالت تمنح المسرحيين الإلهام , لتقدّم برؤى جديدة ومعاصرة . وقد تركنا جانبا الشخصية النمطية لاعتبارها شخصية تعيش في فلك الشخصية النموذجية . وهي تعرّف من مصدر واحد , قد يكون مهنة , أو صفة أخلاقية , أو طبع نفسي واحد , كشخصيات :إياغو , شايلوك , الرسول , العرّاف , البهلول......الخ .
وتعرّف القواميس النموذج و بفتح النون بأنه : " مثال الشيء "1 ويقال عن النموذج , أنموذج , وجمعها نموذجات , وأنموذجات , وهي كلمة ذات أصل فارسي 2 . أما النمط محرّكة :" ظهارة فراش , أو ضرب من البسط , والطريقة والنوع من الشيء , وجماعة أمرهم واحد , وثوب صوف يطرح على الهودج – جمعها أنماط ونماط , والنسب : أنماطي

ونمطي"3. وتدل كلمة النمط على النوع , فيقال : " هذا من نمط هذا " , ويقال : " ما عنده نمط من العلم "؛ أي نوع 4 .
والممثل الأول – ويقال المؤلف الأول للتراجيديا – الذي جسّد الشخصية المسرحية الأولى , التي انفصلت عن الجوقة المسرحية , هو ثيسبيس وذلك عام 535 ق.م . حيث كان المسرح قبلها جوقة , تغني وترقص وتنشد الأشعار , في احتفالين اثنين , الأول يقام في الخريف , والثاني في الربيع من كل عام .
واحتفال الخريف , احتفال فرح ولهو , وفيه يقدم الشكر للإله ديونيسيوس Dionysus إله الخمر , بعد جني محاصيل العنب , وعصره وتحويله إلى خمر . أما احتفال الربيع , فهو احتفال حزين , احتفال تراجيدي , تطلب فيه الجوقة من ديونيسيوس أن يحل في الذبيحة , وهي من الماعز , وعند لحظة الحلول , يذبحون أضحيتهم ويأكلونها , وإذ ذاك يحل ديونيسيوس فيهم . وبذا تحل بهم روح التخطي . ويثقون أن الإله سيمنحهم موسما طيبا لعنبهم وخمرتهم. ومن هنا جاءت كلمة تراجيديا التي تعني حرفيا " أغنية الماعز ".
والممثل ليس رجل دين كما يظن البعض , والتراجيديا الإغريقية لم تأخذ موضوعاتها من قصة ولادة وموت ديونيسيوس الإله , رغم تراجيدية حياة ديونيسيوس وأمه سيميلي ابنة قدموس الفينيقي السوري , بل استمدت موضوعاتها من الأساطير الإغريقية , واستوحت أبطالها من هذه الأساطير, واسخيلوس وسوفوكليس ويوروبيدس , ليسوا رجال دين , بل هم شعراء , كتبوا التراجيديات الخالدة.
ولكن ماالذي تعنيه عبارة الاحتفالات الديونيسيوسية؟؟.
وماذا يعني ديونيسيوس للإغريق ؟؟.
وأية مفاهيم إيمانية وأية بنية إيمانية تشكلت للفرد الإغريقي من خلال ديونيسيوس ؟؟ ومن هو ديونيسيوس ؟؟.
إن ديونيسيوس هو إله ابن إله , فديونيسيوس إله الكرمة والخمرة , ووالده زيوس Zeus رب الأرباب عند الإغريق , ويقابلهما عند الرومان باخوس , وجوبيتر .
ودينيسيوس لم يولد من رحم أمه سيميلي ابنة اللإله قدموس الفينيقي , وإنما ولد من رماد جثتها المحترقة .
وقد احترقت سيميلي , نتيجة لمكيدة دبرتها هيرا Hera وهي أخت زيوس وزوجته . إن غيرة هيرا النسوية دفعتها لتدبير جريمة , تنهي فيها حياة سيميلي, دون أن تتدخل أو تفعل مباشرة في قتل سيميلي , وكل ما فعلته أن أوحت إلى سيميلي أن يتجلى لها رب الأرباب , بكل بهائه وجماله الإلهي وجبروته . وتصدق سيميلي الطيبة , دون أن تفكر أو تخمن أن في كلام هيرا , ضرتها , مكيدة , أو سوء نية , فكيف لا تطلب من زيوس , رب الأرباب , أن يتجلى لها وهو زوجها؟؟ . ولربما فكرت سيميلي في عقلها الباطن , أن في إجابة زيوس على طلبها وتجليه لها , شيء من التفوق والامتياز لها , وأن زيوس إذا تجلى , فهذا يعني أن لها حظوة خاصة عنده , لا تحظى بها ضرتها هيرا .
ويتجلى زفس مشرقا بالصاعقة لسيميلي , فتصيبها الصاعقة , فتحترق , وتتحول إلى رماد , ومن رمادها يولد ديونيسيوس .
وللوليد ديونيسيوس حظ طيب , فقد كفلته أرواح الغابات وربات الفنون , وسيلين Silene السكير , وهو شخصية أسطورية . وقد ترعرع ونشأ ديونيسيوس في أحضان هذا الثالوث , وحين صار رجلا , طفق يجوب الآفاق في بلاد المشرق بصحبة سيلين , وبدأ يعلم الناس هناك زراعة العنب , وصناعة الخمر , والنشوة واللذة .
ثم عاد إلى بلاد الإغريق , وفرض على الناس هناك عبادته بطقس يشبه الاحتفال المسرحي , وهو احتفال قوامه , العربدة والمجون والنشوة , والرقص والغناء .
ومكان هذا الاحتفال – الطقس- العبادة , هو مكان مقدس يسمى تيميلي Thymele وهي حفرة خصصت لجمع دم الأضاحي . والأضحية في هذا الاحتفال هي ثور أو تيس من الماعز , وهذا الحيوان هو رمز لديونيسيوس . ويبدأ الاحتفال بإشارة من رئيس الكورس , فيبدأ الغناء والرقص والنواح والعويل , حتى يصل المحتفلون إلى مرحلة من النشوة الروحية أو الجنون أو اللامانيا Lamania , وهذه النشوة أو هذا الجنون , يقذفه الإله في صدر المحتفلين , فينقضون على الحيوان الضحية , ويمزقونه ويأكلونه , لتحل فيهم روح ديونيسيوس .
ولما كان هذا الاحتفال – الطقس يخالف عقيدة وأخلاقيات فئات كثيرة من الناس في المدن الإغريقية , فقد لجأ ديونيسيوس إلى عقاب من يخالفه , وقد جعل نساء مدينة ناكسوس , يمزقن ويقطعن أطفالهن الرضع , بسبب قوة بثها ديونيسيوس وحلت فيهن , فخافه الناس وعبدوه , وانتقص بذلك هيبة أبيه زيوس رب الأرباب . لقد أراد بعبادته أن يقر الناس أن النشوة لا العقل هي التي تستطيع انتهاك أسرار الآلهة وجبروتها , وأن الطبيعة عبر الخمرة ابنة الكرمة , هي التي تسمو بالإنسان إلى التخطي , تخطي مأساة الإنسان , جاعلا من نفسه أمثولة لبني الإنسان , فقد تجاوز دينيسيوس مأساته بالخمرة والنشوة والعربدة والجنس .
وفي فرضه وتأسيسه لهذا الاحتفال الطقسي الديني المسرحي , تحديا ليس لزيوس وحده , وإنما لأبوللو Apollo إله العقل والحكمة , لذا فإن أنتيلجينيسيا وأرستقراطية أثينا وبقية المدن الإغريقية وقفت ضده , ولم يتبعه سوى العامة والدهماء وشعب أثينا البسيط.
ولأن ديونيسيوس إله النشوة , والنشوة تفضي إلى خصوبة الخيال والعاطفة والجنس , فقد صار ديونيسيوس إله الخصب أيضا . وهذا ما جعل أتباعه يقيمون له التماثيل على هيئة ثور بقرنين , وحول قرنيه عرشت كرمة صغيرة, وبرزت ثمارها عنبا شهيا.
إذن فجوهر الاحتفالات المسرحية أيام الإغريق يكمن , في أنه يخلق لدى المحتفلين , الذين هم في الأساس الكورس ومن حضر من البشر ككتلة واحدة , أن يخلق فيهم روح التخطي , الجرأة والتجاوز والخيال والنشوة والخصوبة , روح التحدي للآلهة , وتحدي العقلية الدينية السائدة , وتحدي الروح العلمية , لكن عبر إله شعبي هو ديونيسيوس , ولن يستطيع إنسان أن يملك هذي الروح , فروح الإنسان أصلا منتهكة من المعتقد الديني والسياسي والفلسفي السائد , ومستسلمة له , لن يستطيع الإنسان الإغريقي أن يتمرد ويتحرر,على ومن , منظومة المعتقدات التي أسلفناها , لن يستطيع أن يتغلب أو يتخلص من مأساته , والتي هي مأساة ديونيسيوس ذاتها , إلا إذا تجسدت فيه روح ديونيسيوس , وهي روح تمردت على الأرباب وربها , إذ ذاك , تأخذ روح ديونيسيوس بالإنسان إلى الفن والجمال والمتعة والجنس , وتتطهر من بؤس الواقع المعيشي
من هنا نستطيع أن نفهم لماذا كان سقراط يحارب هذه الاحتفالات ويندد بها , معتبرا أن الاحتفالات الديونيسيوسية , وما آلت إليه , بتطورها إلى عروض مسرحية , بجهود ونشاط سوفوكليس وأريستوفانيس ويوروبيدس , تقدم حكايا خرافة , لا تمثل الحقيقة , ومشاهدوها من الدهماء والرعاع قليلو العقل . وحذا حذو سقراط تلميذه أفلاطون وغيرهما من فلاسفة الإغريق.
وحين تطورت هذه الاحتفالات بديونيسيوس والدونيسيوسية , إلى شكل أرقى , وقام سوفوكليس ويوروبيدس وأريستوفانيس بتأليف وتجسيد وتقديم عروض مسرحية , أساسها العقل والخيال الأدبي والفني , وحاملها الشعر الإغريقي بأوزانه وقوافيه المنضبطة والمصنوعة بموهبة , ومحتواها – أي العروض المسرحية – حكايات فيها الحكمة والأمثولة , بهتت العامة , لهذا التحول في جوهر وأدوات وأسلوب هذه الاحتفالات , وصارت تسأل : " ماذا بقي لديونيسيوس؟؟! ". وذهب هذا التساؤل ليصبح مثلا شعبيا في حيوات الناس مذ ذاك .
لكن ما الذي يميز الشخصية النموذجية عن الشخصية الدرامية ؟؟. , ما هي صفاتها ؟؟. بنيتها التراجيدية ؟؟. ما هو الدرامي فيها ؟؟ . وكيف تتميز دراميتها ؟؟. ما هو سر خلودها ؟؟. وما الأثر الذي تتركه فينا كقراء ومشاهدين ؟؟. ما معنى مأساتها ؟؟. وما معنى الشفقة والتطهير الذي تتركه فينا ؟؟.
إن الشخصية النموذجية تسعى لتغيير معنى الوجود , ولا تهتم بالمعيشي , لذا فإننا نفهم المسرح , وعلم المسرح , فهما تاريخيا ومشخصا عبر حاملين , الحامل الأول هو الكاتب المسرحي , والحامل الثاني هو الشخصية المسرحية النموذجية , وهذه الأخيرة تحيل الواحد منا لأن يكون متعرفا , وهي المتعرف إليه .
إن الشخصية النموذجية يمكن عقلنتها , أي يمكن أن ندركها من خلال بعض المحاكمات العقلية , كالاستدلال والاستنتاج والاستقراء , ويمكن تأويلها تأويلا فلسفيا ونفسيا وفنيا , ويمكن أن نطلق عليها أحكام قيم , يمكن أن نتعامل معها عاطفيا , بحيث نحبها أو نكرهها , أو نحب بعضا منها ونكره البعض , ويمكن أن نأخذ بها إلى قلوبنا , وندعها تلامس أرواحنا ... ويخال لنا هذا , والحقيقة أن الشخصية النموذجية هي التي تفعل بنا كل ذلك , فهي التي تحاكمنا , وهي التي تؤولنا , وهي التي تحب وتكره بعض أو كل ما فينا , ونحن الذين نسكن قلبها ونلامس روحها ... مع أننا نخال العكس .
وفي حوار الشخصية المسرحية النموذجية , في كلامها , في منطوقها , أسئلة كبرى , تجيب عليها أجوبة كبرى , لكن السمة الأبرز لأجوبتها الكبرى أنها مولّدة لأسئلة جديدة وكبرى أيضا .
ولعل أبرز تجليات هذه الثنائية , ثنائية الأسئلة الكبرى والأجوبة الكبرى , تكمن في الأساطير , كأساطير جلجاميش , وبروميثيوس , وأدونيس , وأوزيريس... والأساطير بحد ذاتها ليست سوى تجليا آخر لصراع الإنسان مع الطبيعة , ومن ثم صراعه مع الآلهة.
وللأسطورة حقيقتها الخاصة , حقيقة الأضداد والأسرار , حقيقة الدهشة الأولى للبشرية, حقيقة الصراع غير المتكافئ بين الإنسان والطبيعة , الإنسان والآلهة, والذي ينتهي بانتصار الإنسان أخيرا على خصميه , رغم هزيمة الشخصية الأسطورية , فجلجاميش مهزوم , وكذلك بروميثيوس وسيزيف , وأوديب وأدونيس , لكن هزائم هؤلاء الأبطال هي نصر بشري في المآل .
وقد ولدت الأسطورة في أحضان , أومن أحشاء الطقوس والشعائر السحرية , التي كانت تقام في المجتمعات القديمة , كمواجهة صدامية بين البشر والطبيعة المجهولة , والآلهة المتخيلة الخالقة لهذه الطبيعة . وكانت تلك الطقوس والشعائر تقام بهدف أنسنة الطبيعة والآلهة بواسطة السحر. يقول مكسيم غوركي في مقاله المعنون : " في الفن " والذي ظهر في مجلة يوروب Europe العدد 1960 شباط-آذار صفحة 107 يقول : " لا تعكس القصص والأساطير القديمة خوف الإنسان أمام الطبيعة , بل العكس تؤكد انتصاره عليها, كما تؤكد قوة الكلمة السحرية القادرة على تذليل مقاومات المادة الرهيبة والظواهر الطبيعية " .
إن الأسطورة هي التجسيد النهائي للصراع النهائي بين الإنسان من جهة , وبين الطبيعة والآلهة من جهة أخرى, إنها تعبير نهائي عن تطور الإنسان كقوة منتجة في صراعه ذاك.
وقد توقف الإنسان عن اختراع الأسطورة , حين توقف صراعه مع الطبيعة والآلهة , وتحول هذا الصراع إلى صراع الإنسان مع الإنسان , مع ظهور الملكية وهيمنة طبقة من المستغلين , وعند هذه النقطة , عند هذا الانعطاف التاريخي , صار للشخصية النموذجية المسرحية , شأن آخر , وملامح أخرى, وأضداد وأسرار أخر.
وإذا كان جوهر مأساة أوديب هو صراعه مع قدره , وجوهر صراع جلجاميش هو دهشة الموت , وجوهر مأساة بروميثيوس هو في صراعه مع الإله الجبار زيوس , لأن بروميثيوس مكر لزيوس , وسرق النار وأهداها للبشرية , حسب رواية اسخيلوس ... إلا أن هذا الجوهر – جوهر المأساة – قد تغير بتطور القوى المنتجة , وتقسيم العمل , تغير ليأخذ منحى آخر , وأفقا آخر , تغير ليأخذ مضمونا جديدا وشكلا جديدا , تجلى فيما بعد , بشخصيات نموذجية جديدة , كهاملت ومكبث , وريتشارد الثالث , وعطيل ...الخ.
وهاهنا , بموت شيكسبير توقف إنتاج الشخصيات المسرحية النموذجية , ليتحول إلى إنتاج شخصيات مسرحية نمطية , انعكست عن أنماط اقتصادية جديدة , وعلاقات إنتاج جديدة , وهذا ما عبر عنه الرومانسيون أصدق تعبير, كاشفين عبر إبداعهم الأدبي والفني عن تطور المجتمع البشري , باعتباره صراعا بين الطبقات , متناقضين بنظرتهم الجمالية إلى الواقع الجديد , مع فلاسفة وأدباء عصر التنوير والكلاسيكيين , مؤكدين عبر أدبهم , أنهم أبناء الثورة الفرنسية بحق . وانتقلت الشخصية المسرحية النمطية من موضوع عند التنويريين , إلى ذات عند الرومانسيين , ذات تتجمع فيها وحولها مواقف جمالية وفكرية جديدة , عكست واقعا جديدا , واقع الثورة البرجوازية الأوروبية؛ الثورة التقدمية آنذاك.
وسعت الرومانسية إلى نمذجة أبطالها , باعتبار البطل ذات إنسانية , وكشفت عن العالم الروحي والنفسي لهذه الذات , كشفت عن العالم الداخلي للشخصية , وعن أناها كذات , وعن علاقاتها ومواقفها من الحياة , عاكسة في الوقت ذاته طابع العلاقات الاجتماعية الجديدة , التي أعلنتها مبادئ الثورة الفرنسية حول الفرد والمجتمع . طابع العلاقات الجديدة الغامض والمبهم والغريب عن الرومانسيين . ولم تفلح الرومانسية في نمذجة أبطالها , بسبب ذاك الإبهام والغموض والغرابة , فلجأ الرومانسيون إلى الأسطورة , فقدموا أبطال الأساطير لكن من منظورهم الجمالي مثل قابيل وبروميثيوس ...الخ.
ومن سمات الشخصية النمطية الرومانسية , تأكيدها على تفصيلات زمانية ومكانية , ولجوءها إلى الغروتسك – المبالغة – والتهكم , والتهويل , ورصد المفارقات الحادة للواقع بحرارة وحساسية وبغنى في جوانيتها. وخير مثال نظري وعملي , على الشخصية النمطية الرومانسية نجده في مسرحية فيكتور هوغو " كرومويل " , وفي مقدمتها النظرية , والتي كانت بمثابة بيان للرومانسية , وذلك عام 1829.
والواقعية الاشتراكية وكتابها , فضلوا تعبير البطل , وترنموا أكثر بتعبير البطل الإيجابي رغم أن مباحث منظريها ونقادها, استخدموا تعبير أو مصطلح الشخصية . ورغم اجتهاد منظري ونقاد الواقعية الاشتراكية في دراستهم للشخصية الأدبية والمسرحية , من حيث سيمائها وطباعها , وأفكارها , وتركيزهم الشديد على المضمون الفكري وعلاقته بالشكل الفني , إلا أنهم كانوا يعتبرون أن الأبرز والأهم في الشخصية المسرحية – والأدبية طبعا – هو أن تكون قادرة على تحرير قوى الإنتاج , وأن تكون مبدعة في دعم وتطوير علاقات الإنتاج , والعلاقات الاجتماعية في المجتمع الاشتراكي , وأن تحارب البقية الباقية من العلاقات الموصوفة و السابقة لقيام الثورة الاشتراكية.
وإذا كان أدب الواقعية الاشتراكية قد أبدع شخصيات أدبية ومسرحية رائعة , كشخصيات غوركي , وأربازوف , وشخصيات ميخائيل شولوخوف , وجينكيز ايتماتوف وغيرهم , إلا أن هذه الشخصيات لا تصنف كشخصيات نموذجية من وجهة نظرنا , لأن في مفهومنا , توصيفا عاما للشخصيات المسرحية النموذجية , سنورده بعد قليل , لا ينطبق على شخصيات الواقعية الاشتراكية , والتي نعتبرها أيضا شخصيات نمطية , تعكس فلسفة الماركسيين , ووجهة نظرهم الجمالية إلى العالم.
وانطلاقا من وجهة نظرنا حول الشخصية النموذجية الأدبية والمسرحية , ندعي أن شخصيات مسرح العبث أو اللامعقول , هي شخصيات نمطية أيضا . فلم يبدع صموئيل بيكيت , ولا جان جينيه , ولا فرناندو آرابال , أو جورج شحادة , إلا شخصيات مسرحية اتسمت بالعزلة والعجز , والإحساس بالغربة والبؤس واليأس والكآبة , من منظور عبثية الحياة , والسوداوية والتشاؤم , فلا معنى – عند هذه الشخصيات – للمكان ولا للزمان , فهي تحيا بروح منكسرة , وبعقل عاجز مرتاب وشكاك , ومسكونة بالقلق والتوتر والتطيّر . وبعض شخصيات بيكيت ليس لها اسم , بل يرمز لها بسين أو عين , وأحيانا ليس لها هذا الرمز بل يشار إليها برقم , فهذا هو الأول وذاك الثاني . وباختصار إن مسرح العبث لا يدعو إلى العقلنة , بل يشير إلى لا معقولية العقلية , كاشفا عن نتائجها الكارثية.
وقد يقول قائل, ويطالبنا مطالب : ما الشخصية النموذجية إذن ؟. ما أوصافها وسماتها؟. فنقول:
إن ما يميز الشخصية المسرحية النموذجية هو السقوط , السقوط الحاصل نتيجة الوهم والمفارقة والضدية , نتيجة الأنا المتورمة والطموح الشخصي الذي يمكن تحقيقه بخطوات درامية , لذا فإن إمكانية تحقيق هذا الطموح يغري الشخصية , ويشوش أفكارها ورغباتها , رغم وضوح الهدف , ووضوح الوسيلة . إن سقوط الشخصية المسرحية النموذجية نابع من قدراتها الاستثنائية , ومن ظرفها الفردي الخاص والنموذجي أيضا , لذا فإن سقوط هملت يكمن في تردده الفلسفي والنفسي , تردده في الوقوف بمواجهة الشر المتمثل بعمه قاتل أبيه , وسقوط عطيل يكمن في نزوعه إلى الاستماع لفحيح اياغو , وشكه في حب ديدمونة له , والسقوط التراجيدي لماكبث هو في تصديقه الداخلي لنبوءة الساحرات الثلاث و كذا الأمر ينسحب على الملك لير , وريتشارد الثالث...الخ . وهكذا ففي تراجيديات شكسبير العظيمة , ثمة سقطة للبطل التراجيدي.
إن الشخصية النموذجية ذات جذور واقعية و لكن أغصانها الباسقة الشامخة , وأوراقها اليانعة ليستا من الواقع , ولا يمكن أن تصادف شبيها لها في الواقع , لكنها لا تنعزل عنه , مهما وأينما وكيفما انبثق هذا الواقع. إن دون كيشوت يمثل حالة من حالات الكفاح , حالة ليست من الواقع , لكنها لا تنعزل عنه.
إن الشخصية النموذجية في الأدب المسرحي , هي شخصية درامية بطولية , وهي شمولية لها القدرة على أسلبة العصر الذي تعيش فيه , ولطموحها قدرة العبور إلى أزمنة مستقبلية أيضا , وهي تعميمية , فريتشارد الثالث يسعى إلى تعميم القتل والعنف والتدمير , في سبيل تحقيق طموحه وأحلامه.
إن الشخصية النموذجية , ذات منطق قوي ومتماسك ومنسجم ومحكم , بغض النظر عن قيمة هذا المنطق ومحتواه , وهي تحاور بشكل قوي , وبعزيمة لا تلين , وتفعل بشكل أقوى , وبقسوة نادرة , ولندقق معا في مقطع صغير جدا حوار ريتشارد الثالث ,في مسرحية حملت اسم بطلها ذاته لشكسبير, ليتكشف لنا ذاك المنطق الذي أسلفنا , والمفعم بالحرارة والسخرية أيضا :
ريتشارد : سيدتي إنك لا تعرفين شيئا من شرائع الرحمة , التي تجزي بالشر خيرا , وباللعنة بركة .
آن : أيها الشرير , إنك لا تعرف شيئا من شرائع الله أو الإنسان , وما من وحش خلا قلبه من الرحمة , مهما بلغت ضراوته .
ريتشارد : ولكن قلبي لا يعرف الرحمة مطلقا , فأنا إذن لست حيوانا .
آن : ما أعجب أن تنطق الشياطين بالحق !!.
ريتشارد : وأعجب من ذلك أن يستبد الغضب بالملائكة .
في هذا الحوار القصير , ثمة مقدرة حوارية وتعبيرية واضحة ومحكمة عند ريتشارد , وثمة منطق قوي وسلس , وثمة باطن وظاهر للحوار , باطن يكمن في تعطش ريتشارد للقتل والدم , وظاهر منطقي يستمد منطقيته من الثوابت في حوار النقيضين , ويكشف هذا الحوار عن فلسفة خاصة عند ريتشارد , وفي حواره في نص المسرحية , يقلب الشر الذي هو استثناء في حيوات الناس , إلى قاعدة , إلى منهج , إلى عقيدة وفلسفة حياتية خاصة , ذات منطق محكم .
إن مصائر الشخصيات النموذجية هي الموت , أو الهزيمة , أو عدم الجدوى والحكمة الضائعة , لكن البليغة والعميقة , فمصير أوديب هو أن يفقأ عينيه ويهيم على وجهه , ومصير بروميثيوس هو أن يبقى مكبلا ومعلقا بين جبلين من جبال القوقاز,ومصير سيزيف هو أن يعيد الصخرة الملعونة المتدحرجة أبدا , إلى رأس الجبل , ومصير مكبث حكمة الفشل والهزيمة , وحكمة عن الحياة , حكمة ماكبث وهي : " حكاية يحكيها معتوه ملؤها الصخب والعنف , ولا تعني أي شيء " .
أما ريتشارد فيواجه ذاته في سقوطه المريع , فيقول : " وكل لسان يحكي قصة , وكل قصة تنطق بأنني شرير.. الخيانة في أبشع صورها.. والقتل الأثيم في أقسى ألوانه . جرائم مختلفة في صور متعددة , تزدحم كلها في ساحة القضاء وتصيح : مذنب مذنب !! ليس لي إلا اليأس , فما من أحد يحبني . وإذا مت فلن يأسى أحد لموتي , أجل ولم يأسون , وأنا نفسي لا أسى على نفسي ".
إن الشخصية النموذجية المسرحية , تجد أصدق تعبير عنها , وأكثف تصوير درامي لها , في المآسي الإغريقية والتراجيديات الشكسبيرية , فقد ولدت هذه النماذج , في الترابط الشامل وعبره , وعبرت ذاتيا , وبشكل شخصي ومتفرد ومنفرد , عن أعمق التناقضات في عصرها , وفي ظروفها الأكثر نموذجية , وضمن مسار معقد ومتبدل ومتحرك ومتناقض , وضمن وعي الشخصية لمصيرها الخاص , الوعي الذي نلقاه في تأملات هاملت بعد لقاءه الأول مع فورتنبراس على سبيل المثال , إن وعي الشخصية المسرحية لذاتها , وسماتها الفكرية هو الذي يميزها , وهو الذي يسمو بها من الفردية إلى النموذجية .
إن معظم الشخصيات النموذجية مصيرها الإخفاق والفشل , أو الموت . لنتذكر معا مصائر: أوديب , بروميثيوس , هاملت , روميو وجولييت , عطيل , أنتيجون , ريتشارد الثالث , ماكبث , الملك لير .
لكن هذا الإخفاق في الشخصية النموذجية , هو محل رضى وسرور بالنسبة لنا , لأن إخفاق الشخصية , أي مصيرها , وقبل ذلك مراقبة خط فعل سيرورتها بظاهره وباطنه , هو الذي يكشف الانتصار الباطني فينا , وهو الذي نستخلص منه مقولة للحياة , لحياتنا , فتكون هذه المقولة , ومن ثم المقولات , هي من ثوابت حياتنا , فبموت جولييت نقرر أن ثمة حبا عظيما وجليلا ورائعا يتألق , وكورديليا تعلمنا الوفاء وتجعلنا نتشبث به ونمارسه , أما بريخت في دائرة الطباشير القوقازية , فيعلمنا أن الأم هي التي تربي وليست تلك التي تنجب, وعطيل يعلمنا الشجاعة , ليس لأنه محارب فذ , وليس لأنه قفز من طبقة أخرى وعرق آخر, إلى طبقة غنية وإلى البيض , وليس لأنه قتل ديدمونة , بل لأنه غرس الخنجر في جسده , لأنه عرف أن ديدمونة بريئة , واياغو شرير استطاع أن يغرر به , وفي موته قصاص , وتأكيد لحبه الكبير لديدمونة , ولأن الحياة بدون الحبيبة هي لعنة كريهة , وجحيم لا يحتمل , هي البؤس والقحط واليباس والاختناق .
إن التراجيديات العظيمة التي قدمت شخصيات نموذجية عظيمة , لم تصور اليأس في عصرها , ولم تكن الشخصيات التي قدمتها يائسة . إن التراجيديات الرائعة قدمت شخصياتها تعبيرا عن اليأس في عصرها , وقدمتها كطريقة أو وسيلة للخلاص , وهذا ما ينطبق على الشخصيات التي أبدعها الكاتب العظيم أنطون تشيخوف , فليس الملل والسأم من طبيعة شخصياته , بل تعكس وتعبر, هذه الشخصيات , عن الملل والسأم والضجر في الحياة.
وفي المآل فإن الشخصيات النموذجية , هي التي تجعلنا نؤمن بقوة وعظمة الإنسان وقدرته على التغيير , من خلال الألم واليأس والشقاء , وكأن في قول نيتشه بعض الحقيقة حين يقول : " الحياة جيدة لأنها مؤلمة " .
إن للشخصية النموذجية في التراجيديات الرائعة أسرارها , وأحد أهم أسرارها هو عذابها , تعاستها شقاؤها , وبكلمة واحدة مأساتها , وسر مأساتها يكمن في عدم معرفة سبب هذه المأساة ولا مصدرها , رغم المنطق المتماسك والذاتي لطموحها , ومبررات هذا الطموح ذاتيا وأحيانا موضوعيا . والسر الآخر الكامن في الشخصية النموذجية هو صراعها مع ذاتها , صراعها الروحي والأخلاقي مع ذاتها , ومن ثم مع الخارج , مع الآخرين , وهذا الصراع ليس بالضرورة أن يكون صراع خير في مواجهة الشر , بل هو في جزء منه , صراع خير مع خير , والسمة الأبرز للشخصية النموذجية أنها شخصية تسير إلى هدفها , أو إلى مصيرها بإصرار لا يلين , وهمة لا تفتر , إن حياتها كلها مكرسة لتحقيق هذا الهدف , إن جوهر شخصية أوديب هو إصراره على معرفة قاتل أبيه , ويحين يعرف أنه القاتل , يعلن ذلك أمام الملأ , رغم أن بإمكانه كتم السر ومتابعة حياته ملكا معززا مكرما , لكنه يفقأ عينيه ويهيم على وجهه , وكذا إصرار أنتيجون على أداء واجبها نحو أخيها المقتول , وإصرار روميو على حب جولييت . وماكبث على القتل.
إن الفعل الدرامي , في الصراع التراجيدي , له مبررات متساوية عند طرفي أو أطراف الصراع , نقول مبررات متساوية , وليس حقوقا متساوية .
لماذا لم تستطع الدراما الحديثة أن تخلق شخصيات نموذجية ؟؟. لماذا لم يستطع أزوالد بطل مسرحية " الأشباح " لمؤلفها هنريك إبسن رائد الدراما الحديثة , أن يكون شخصية نموذجية ؟؟ , رغم أنه بطل , وفي وضع مأساوي للغاية , حيث اكتشف أنه ورث مرض الزهري عن أبيه , ويطلب من أمه أن تضع له السم القاتل ليتجرعه ؟؟.
لماذا لم يخرج فلاديمير واستراجون , وهما الشخصيتان الرئيسيتان في مسرحية " في انتظار غودو " لرائد مسرح العبث أو اللامعقول صموئيل بيكيت , عن أن تكونا مجرد شخصيتين نمطيتين ؟؟. ولماذا لم يقدم لنا بيتر فايس وهو رائد المسرح التسجيلي أو السياسي , أية شخصية تبقى في الذاكرة , وتحيا على مر التاريخ ؟؟. ولماذا لا يوصف أبطال مسرحيات كورني وراسين و وجان بول سارتر وجان جينيه , وماكس فريش , ولويجي بيرانديلو , وتينسي ويليامز وآرثر ميللر , وحتى أبطال الكتاب المعاصرين كهارولد بينتر , لماذا لا توصف بالشخصيات النموذجية ؟؟. وحتى أبطال الواقعية الاشتراكية , كأبطال غوركي وأربوزوف لا يمكن نمذجتها , رغم أنها شخصيات بطولية؟؟.
وببساطة شديدة نستنتج مما أسلفنا أن كل شخصية نموذجية هي شخصية بطولية, وليس كل شخصية بطولية يمكن اعتبارها شخصية نموذجية .
ليس الموضوع الذي تطرحه المسرحية بالتأكيد هو السبب , فالحب صورته مسرحيات شتى , وبقيت روميو وجولييت , والغيرة طرح كموضوع لمسرحيات كثيرة , وبقي الخلود لعطيل ......... الخ .
وليس الشعر وحده هو السبب الذي يجعل من هذه المسرحيات , فنا عظيما , ومن شخصياتها نماذج حية على مر العصور , فكم من نصوص مسرحية كتبت شعرا واندثرت.
وليست الحكاية المشوقة , ولا الحبكة القوية , وليست المبررات المعطاة في النصوص المسرحية , وليست رؤية العالم , وليست الفلسفة التي تنطلق منها هذه المسرحيات , ولا الموقف الجمالي , ولا الشكل المسرحي , ولا قوة الأسلوب , ولا جزالة الألفاظ , ولا الحكمة , وليس الغضب والحزن , والقتل والدم , ولا السخرية أو الكوميديا السوداء أو البيضاء ... ليس هذا الذي ذكرناه , ولا ذاك الذي لم نذكره , هو الذي خلّد تلك الشخصيات
وجعلها نموذجية , فالمسرحيات الإغريقية , طرحت موضوع القدر , وتعدد الآلهة , يوم لم يكن ثمة إله واحد في ذاك الزمن الغابر , ومسرحيات شكسبير عالجت موضوعات ومآس تخص الملوك والأمراء , واليوم لم يعد ثمة ملوك ولا أمراء . وبكلمة إننا لا نتفق مع فكر وإيمان وعقيدة كل من سوفوكليس وشكسبير , ونتفق مع غوركي , أو بيكيت أو جان بول سارتر , لكننا نقبل ونحب ونخلد شخصيات المسرحيات التراجيدية الإغريقية والشكسبيرية ولا نذكر أو نكاد , الشخصيات المسرحية التي كتبها أؤلئك الذين نتفق معهم , أو مع رؤيتهم أو تفسيرهم للعالم , كلا أو جزأ . إن شخصيات المسرح الإغريقي هي أنصاف آلهة أو من سلالتها , من فروعها أو أصولها , أفخاذها أو بطونها , وشخصيات مسرحيات شكسبير , هي من الملوك والأمراء والبهاليل , ومعتقداتنا الراهنة تسخر من مكانة هؤلاء , بل تنكر المكانة والسمو الزائفين اللذان تتحلى بهما هذه الشخصيات .
إن مصائر الشخصيات النموذجية – على اختلاف هذه المصائر – في التراجيديات العظيمة يسحرنا , يسحرنا فعل الشخصية وقولها , يسحرنا حبها وقنوطها , تسحرنا أفعالها الشنيعة وفضائلها , خيرها وشرها , يسحرنا موتها ونرضى به , أو نسر , وتغادرنا هذه الشخصيات وثمة لذة , لذة تسكر , وذكرى تطرب .
إننا نصدق المنطق المغلوط الذي تتكئ عليه التراجيديات العظيمة وشخصياتها , لأنها ببساطة تجعلنا نرضى بتعاستنا , لأن هذه التعاسة بالذات هي مصدر شعورنا بالعظمة والأهمية .
إن الشخصية النموذجية هي التي تستطيع أن تتحدث عن نفسها ضمن ثلاث مستويات من الخطاب الذاتي :
1 – خطاب الأنا .
2 – خطاب الأنت .
3 – خطاب الهو .
إن محور ذاتها محصلة لأناها الحاضرة , وأنت المخاطب – الذي هو أنا الآخر فيها - , وهو الغائب – الذي هو أناها فيما فعلته وقالته سابقا - .
و هو عند الشخصية غائب , ومونولوج الشخصية النموذجية – دائما – هو مابين أنا الحاضر المخاطِب , وأنت الحاضر المخاطب , وقمة دراما وتراجيديا الأبطال المسرحيين , تكمن في هذه النقطة , في حوارها الداخلي , العقلي والنفسي والحسي . إن قمة دراما الشخصية النموذجية , يكمن في تناقضها الداخلي , وليس في تناقضها الخارجي , في أضدادها الداخلية , وليس في أضدادها الخارجية , وهذه الأخيرة هي الباعث والمحرك للأضداد الداخلية .
إن "الهو" شخصية غائبة في الشخصية النموذجية, وأنا حاضرة , تملي في أغلب الأحوال أوامرها وتوجيهاتها وإيحاءاتها وبرنامجها على "أنت" , وقد تتبادل الأنا و الأنت الأدوار , لكن كليهما , الأنا والأنت , تتحدثان عن ومع , الهو, باعتباره مشجبا لتعليق أخطاءهما ولاعتبار أفعال الهو, مبررات لفعل قادم . إن هذا الفصل الافتراضي لضمائر الشخصية النموذجية , مهم جدا لعمل الممثل بالدرجة الأولى , وهو مهم جدا للناقد الفني بالدرجة الثانية , ومهم أخيرا للمتفرج الذكي في العرض المسرحي , أو للقارئ النبيه للنص .
والإدراك عند الشخصية النموذجية , يمكن تلمسه أو ضبطه في مستويات ثلاث أيضا :
1 – الإدراك الغائم .
2 – الإدراك المبكر .
3 – الإدراك المتأخر .
وأزمنة هذه الإدراكات مختلفة تبعا للآلية النفسية والفكرية للشخصية , وقد يسود إدراك واحد من هذه الإدراكات في لحظة ما , ظرف ما , عند الشخصية النموذجية , أو يجتمع إدراكان في لحظة , أو موقف ما , فقد يجتمع الإدراك المبكر والغائم بآن معا , أو يجتمع الغائم والمتأخر معا , لكن من المستحيل أن يجتمع الإدراك المبكر مع الإدراك المتأخر , أو أن تجتمع هذه الإدراكات الثلاث بآن معا.
إن الشخصية النموذجية تملك القدرة على التغيير ولا تستطيع , أوديب وهاملت, ماكبث وريتشارد الثالث، أن تملك القدرة والاستطاعة , , لكن هذا التغيير وبغض النظر عن الاستطاعة , يتجه إلى خلق عالم مختلف وجديد , على أنقاض عالم قائم قديم ومترهل.
وحدها الواقعية الاشتراكية , في شكلها الجدانوفي , قدمت لنا أنماطا من أبطال أيديولوجيين , يقولون ويفعلون دون صعوبات تذكر , ودون أن يكون هذا التغيير ضرورة ذاتية . لذا عمد المنظرون العقائديون للواقعية الاشتراكية , إلى تسمية وتوصيف هذه الشخصيات , بالأبطال الإيجابيين تمييزا لهم , وهذا التمييز أيديولوجي دعائي , عن باقي الشخصيات السلبية , الرجعية أو الشريرة , والتي تقف في مواجهة البطل الإيجابي وتصارعه , سواء في حبكة النص المسرحي , أو في حمأة الواقع الاجتماعي المعيشي , وخصوصا في المرحلة الستالينية , وما بعدها . ففي خطاب لجيورجي ديميتروف , في الأمسية المعادية للفاشيستية في دار الكتاب بموسكو , يطالب ديميتروف بتصنيع بطل بروليتاري, لاستخدامه كسلاح أيديولوجي ضد البرجوازية , ولنتأمل مطلب ديميتروف :
" إن البرجوازية الثورية قد شنت في زمانها كفاحا عنيفا في سبيل قضية طبقتها, واستخدمت كل الوسائل بما فيها الأدب الجميل . ما الذي جعل بقايا الفروسية موضع ضحك عام ؟؟. دون كيشوت – سرفانتيس . إن دون كيشوت كان أقوى سلاح في يد البرجوازية في كفاحها ضد الإقطاعية وضد الأرستقراطية .
والبروليتاريا الثورية تحتاج على الأقل إلى سرفانتيس واحد صغير ( مرح ) يمكنه أن يقدم لها مثل هذا السلاح ( مرح وتصفيق ) ".
وإذا كانت الواقعية الاشتراكية قد قامت بتصنيع نمط البطل الإيجابي , فإن مسرح العبث أو اللامعقول , قد عكس في مرحلة لاحقة , نمطا آخر من البطولة, نمطا ليس ايجابيا ولا سلبيا , إنه نمط الإنسان المشلول الذي يرغي ويزبد دون هدف , إنه إنسان تلفه الوحدة والعزلة والقهر , وهو مغيب ويائس وبائس وكئيب وقلق ومتوتر , مرتاب وشكاك ومهووس ومتطير ومتشائم , وروحه منكسرة .
وكأن مسرح العبث أو اللامعقول , يريد أن يقول أن الخطاب الإنساني اليوم هو كلمات , لكنها كلمات تحض على الانفصال لا الاتصال , كلمات تزرع الكراهية لا الحب , تقال للتضليل , لا لتنير الدرب , كلمات تشيد الجدران والحواجز بين البشر , لا لتفتح الآفاق وتزيل الحدود.
أما الشخصية النموذجية , فتجعل القارئ أو المشاهد , يحس بإيمان غريزي , وبأن ثمة روح أخرى تحل فيه , ليست روحه التي في ذاته , وبأن هموم الشخصية النموذجية , فعلها ورد فعلها هي جزء منه , طباعها جزء من طباعه , وسموها جزء من سموه ونذالتها جزء من نذالته , أما أبطال المسرحيات اليوم , وقبل ذلك بقليل , فهي شخصيات تطرح أشجانها , فنؤيدها أو نستنكر ما تفعله , ونأسف على أنفسنا في نهاية المطاف , إذا ما كانت هذه الشخصيات تشبهنا , أو نشبهها , وجل الأمر أننا نتأثر بغنائية هذه الشخصيات .
في هذا الكون الفسيح الأرجاء , كان للآلهة أمجادا , وكذلك للإنسان , أما اليوم فالعالم فقير بالأمجاد , إنه ينوء تحت مطارق الإيديولوجيات , والعقائد الدينية والقومية والوطنية وتفرعاتها وانشقاقاتها المختلفة . إن عالم اليوم مزيف , مزيف ومهجن ومبرمج حتى عمق أي مكون من مكونات الخلية الحية , داخل كل كائن فوق البسيطة , وبذا يصبح العالم بائسا ومضحكا ومثيرا للأشجان , وهو يفتقد إلى مجد التراجيديا , مجد الكشف والاكتشاف الملتصق بالطبيعتين الأرضية والإنسانية , مجد الصراع مع الآلهة والطبيعة , مجد المثل التي تبني , مجد الحقيقة الإنسانية.
إن جوهر الأمر هنا , والأمر هنا أن المسرح لم يعد يبدع شخصيات نموذجية , يكمن في أن حل مشكلة الوجود لم يعد حلا تراجيديا , لم يعد الصراع مع الطبيعة ومع الآلهة صراعا تراجيديا , لذا افتقد الكتاب – بحكم تطور الحياة – هذا الإيمان , الإيمان بالتراجيديا. لذا فإن التراجيديات والشخصيات النموذجية , انتقلت من الأسطورة إلى الدين , ومن ثم إلى المسرح , وأخير استقرت اليوم في الأرشيف الإنساني .
إن البطل المسرحي في تضاؤل دائم , فثمة تضاؤل في القوة التي مكنته في صراعه مع الطبيعة والآلهة , ثم اضمحلت هذه القوة قليلا , وألقي به في ساحة الصراع مع الآخرين , مع بشر من لحم ودم , مثله تماما , ثم تضاءلت قوته فبدأ يصارع ذاته , ثم صغرت دائرة الصراع , بل لم يعد ثمة صراع , بل حل محله الشجن والضياع , واللاجدوى واللاأمل .
إن الشخصية النموذجية هي التي تحرض الفضائل فينا , وتبعث فينا السمو الإنساني , وتثير فينا المشاعر والعواطف النبيلة , التي " تطهرنا " بتعبير أرسطو , فتفصل بين الدنس والخطأ الذي في دواخلنا , وبين النبل والفضائل في ذات المكان , فتبعد الأول وترسخ الثاني , ومن هنا يتأتى سرورنا واللذة التي نحصل عليها , من خلال مشاهدتنا للعروض المسرحية , أو من خلال قراءاتنا , التي نغوص في كلتيهما إلى أعمق أعماق النفس البشرية , فيصبح الواحد منا عقلا وعاقلا ومعقولا بآن معا .
وفي توقنا لتجسيد ومشاهدة الشخصية النموذجية المسرحية , توق إلى الطفولة البشرية .
طفولتنا . التي نحنّ إليها كأفراد , وكجمع بشري . طفولة كل ما يثيرنا فيها هو لذة الاكتشاف.
إن هذه الدراسة تستخلص مواصفات الشخصية النموذجية في الأدب المسرحي , ولكن , ليس من خلال شخصية مسرحية واحدة , بل من مجمل الشخصيات المسرحية في العهدين الإغريقي والشكسبيري , فلا يمكن أن ندرس الشخصية المسرحية النموذجية , أو أن ندرس التراجيديا من خلال شخصية واحدة , أو نص مسرحي واحد , ففي بحث ودراسة كهذين , يركب الباحث أو الدارس المخاطر, رغم اجتهاده , وينزلق مستخدما سرير بروكسيت الظالم , ولعل من المخاطر التي ركبها أرسطو في كتابه فن الشعر, أنه قد وضع القواعد للتراجيديا من خلال دراسته لمسرحية وشخصية أوديب لسوفوكليس , ومن ركاب المخاطر الفيلسوف الألماني هيغل , الذي وضع نظريته في التراجيديا , استنادا إلى شخصية أنتيجون . ومن المخاطرين دراسة وتأليفا , معظم الكتاب والمنظرين العرب , الذين يقيسون ويفصلون وينظرون لإنتاجهم , وإنتاج غيرهم , المسرحي , اعتمادا على القواعد التي وضعها أرسطو للتراجيديا في كتابه الأشهر . واليوم لم يعد ثمة تراجيديا , بل ثمة دراما مختلفة في المبنى والمعنى , عما أنتجه شعراء التراجيديا الإغريق , وحتى هؤلاء الشعراء الثلاثة , لم يكتبوا نصا واحدا بل طوروا إنتاجهم المسرحي شكلا وموضوعا في زمن قياسي , فقد كانت شخصيات أسخيلوس من الآلهة , وشخصيات سوفوكليس من الأبطال , أما شخصيات يوروبيدس فهي من البشر , مدفوعا , أي يوروبيدس , ومتأثرا بصديقه سقراط وفلسفته . إضافة إلى أن هؤلاء الشعراء قد , حيّدوا الكورس وهمشّوه , بزيادة الشخصيات المسرحية . أما شكسبير فقد ترك الآلهة في ملكوتها , وخلق شخصياته من الأبطال , أبطال من بشر , ملوك وأمراء وقواد جند , وبعض الناس العاديين , لكنه بث في بعض نصوصه شخصيات ميتافيزيقية , كالأشباح والملائكة والشياطين .
إن الشخصية النموذجية المسرحية , هي الشخصية التراجيدية , المشبعة بالروح الديونيسيوسية , روح التخطي , والتي يحتاجها الإنسان الفطري . واليوم لم يعد ثمة شخصية نموذجية , ولا تراجيدية , لأننا لسنا أبرياء أبدا , فنحن نقرأ ونشاهد مسرحيات اليوم , بموقف مسبق , ونحاكم أبطالها بدافع الخبث والتخابث أحيانا , وليس بدافع التطهر. وليس بمقدور أي نص أو عرض مسرحي , أن يثير فينا شفقة ما , فالشفقة هي رد فعل الإنسان الفطري. إن قمة إثارتنا في نصوص وعروض مسرح اليوم , تتأتى من غنائيتها , ولا يترك فينا المسرح اليوم , وفي قمم إبداعاته , إلا سحابة صغيرة من أسف ومن شجن .
إن الشخصية النموذجية في الأدب المسرحي , هي التي توقظ الفطرة فينا , وتأخذ بيدنا إلى لذة الاكتشاف , فنخاف كثيرا ونشفق قليلا ونتطهر بمقدار, لكن هذا الخوف والإشفاق والتطهر, لا يصدر عنا ومنا كحل أخلاقي , فليس لهذا الثالوث علة الخطيئة أو الذنب , كمفهوم الأديان السماوية عن الوجود . وتحل فينا روح التخطي , روح ديونيسيوس , بدلا من أرواحنا المسمومة بزرنيخ العقائد والدعائية , والحقائق الكاذبة . الحقائق السيزيفية , الحقائق التي تصل إلى قمة الجبل كحقائق مطلقة , ثم لا تلبث أن تهوي إلى القاع كحقائق نسبية , ووحده الإنسان الفارغ المتشدق , مثير الجلبة والقرقعة , يدعي امتلاك الحقيقة.. والحقيقة سراب .
" وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ". الكهف [18/ 54]


المصدر: مجلة الحياة المسرحية السورية . العدد المزدوج 67-68 شتاء وربيع 2009 . وقد أرسله المؤلف للنشر في "جدل"























قُصاصات إلى حبيبة غائبة


المساءات الحزينة تسير قوافل
والغروب المسرع، يحمل رائحة شرفتها البهيّة.
وأنتِ، تنظرين، بإمعان مربك،
في الوجوه المتقاطرة كدرب نمل،
يجعل الحضور غائما
كخيط طويل من غبار.


في المعارك الموغلة
وفي الصراع عند سفح الروح
تبدين من بعيد، كمسافر وحيد
يلوّح لغيم هارب،
صوب محطات غريبة.
وأنا، من أعالي سفح الروح
أحس بعظمة موحشة،
ومجد مجوّف ، كقصبة قديمة.


مطر وأنهار- هذا الصيف-
تعب وشرود
أيام هاربة لا تدري كيف تسير
وهج وحريق- هذا الصيف-
وغياب لعينيها المربكتين..
عطرها المسافر يُعمل التفاتة في الروح.
سَعْد بُلَعْ

فهرست
*-افتتاحية العدد:
" الاشتراكية الماركسية والمهمات الديمقراطية ___________________________________
*- المقالات:
1- نجيب روميّة: "قراءة أولية في الفلسفة الوضعية" ______________________________________
2- د. غريغوار مرشو: " مساءلات حول الحداثة السياسية العربية" ______________________________
3- نايف سلّوم: " الفلسفة في مواجهة العصر الذري! نقد ميتافيزيقا هايدغر"_________________________
4- محمد سيد رصاص: "كوريدور الماركسية- الليبرالية "___________________________________
5- فراس يونس:"حول مفهوم الحزب الشيوعي"
6- يرفند أبراهميان: "القوى السياسية في الثورة الإيرانية"______________________________
*- حوار مع مفكر ماركسي عربي:
حوار مع سمير أمين _______________________ *- قراءة في كتاب:
سعد الذَّّابِح: "" هوامش "الأيديولوجية الألمانية؛ - القسم الثاني" ____________________________________
*- باب الترجمة:
لويس ألتوسير:" الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية" ____________________________________

*- ركن الأدب:
1- جاك لندن: " حب الحياة" _________________
2- عمران: " نص مقلق للراحة "______________
3- عبد الكريم عمرين: "حول الشخصية النموذجية في الأدب المسرحي" ____________________________
4- سعد بُلَعْ: "قصاصات إلى حبيبة غائبة"_________
5- فهرست: ___________________________






#تجمع_اليسار_الماركسي_في_سورية (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جدل - العدد الخامس- أيار2009
- طريق اليسار - العدد 15: سبتمبر/ أيلول 2009
- طريق اليسار - العدد 14: تموز 2009
- طريق اليسار - العدد 13: حزيران 2009
- طريق اليسار العدد 12: أيار 2009
- طريق اليسار - العدد11، مارس/ آذار ، 2009
- مشروع المهمات البرنامجية المرحلية
- جدل - مجلة فكرية-ثقافية-سياسية - العدد(4)-شباط2009
- طريق اليسار العدد 10: شباط
- طريق اليسار - العدد / 9 /: كانون الأول/ 2008
- طريق اليسار - العدد الثامن: تشرين الثاني 2008
- طريق اليسار - العدد السابع- سبتمبر/ أيلول2008
- جدل - مجلة فكرية سياسية ثقافية العدد 3 : آب 2008
- طريق اليسار - العدد السادس:أغسطس/آب/2008
- طريق اليسار - العدد الخامس: حزيران 2008
- طريق اليسار - العدد الرابع: أيار 2008
- جدل مجلة فكرية- سياسية – ثقافية العدد 2 : نيسان 2008
- طريق اليسار - العدد الثالث: نيسان 2008
- طريق اليسار العدد 2 : شباط 2008
- طريق اليسار جريدة سياسية - العدد الأول : أواسط كانون الأول 2 ...


المزيد.....




- بعد وصفه بـ-عابر للقارات-.. أمريكا تكشف نوع الصاروخ الذي أُط ...
- بوتين يُعلن نوع الصاروخ الذي أطلقته روسيا على دنيبرو الأوكرا ...
- مستشار رئيس غينيا بيساو أم محتال.. هل تعرضت حكومة شرق ليبيا ...
- كارثة في فلاديفوستوك: حافلة تسقط من من ارتفاع 12 متراً وتخلف ...
- ماذا تعرف عن الصاروخ الباليستي العابر للقارات؟ كييف تقول إن ...
- معظمها ليست عربية.. ما الدول الـ 124 التي تضع نتنياهو وغالان ...
- المؤتمر الأربعون لجمعية الصيارفة الآسيويين يلتئم في تايوان.. ...
- إطلاق نبيذ -بوجوليه نوفو- وسط احتفالات كبيرة في فرنسا وخارجه ...
- في ظل تزايد العنف في هاييتي.. روسيا والصين تعارضان تحويل جنو ...
- السعودية.. سقوط سيارة من أعلى جسر في الرياض و-المرور- يصدر ب ...


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - تجمع اليسار الماركسي في سورية - جدل - العددالسادس - تشرين الأول2009