سعيد بير مراد
الحوار المتمدن-العدد: 2804 - 2009 / 10 / 19 - 01:02
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
توسم العراقيون خيرا بتشكيل المحكمة الجنائية العراقية العليا (المحكمة الجنائية العراقية الخاصة: سابقا) وسادهم الشعور أن يتم بعقد جلساتها طي صفحة سوداء في تأريخ العراق وان يرسى واقع عراقي جديد بعيدا عن صدام حسين ونظام بعثه الدموي الذي ولى إلى غير رجعة، كما انتظروا أن تقتص المحكمة عبر محاكمات عادلة، قانونية وشفافة من القتلة والجناة الذين كانوا ولا يزالون يعبثون بأمن ومصير العراق ويبددون الاستقرار فيه، بل أكاد أن اجزم أن الكثيرون منا قد اغرق في تفاؤله حين اعتقدنا في إمكانية أن تكون هذه المحكمة رسالة غير مباشرة إلى الأنظمة الدكتاتورية الإقليمية المشابه مفادها أن سير العدالة لا ولن يتوقف بل أن عجلة الحق تمضي بخطى ثابت وان كانت وئيدة أم عاجلة إلى استئصال الطغاة والجبابرة والمارقين. فهل حققت المحكمة المراد منها؟ وهل نجحت لكي تكون للتأريخ شهادة؟ وهل وثقت لجرائم في حقبة النظام البائد في العراق ؟ وهل استطاعة المحكمة بالعقوبات التي نطقت بها أن تردع الخاص والعام كي لا تعاد هذه الأفعال الشنيعة في المستقبل؟ وهل خلقت الآليات المناسبة من اجل تحقيق الأمن والاستقرار حاليا ومستقبلا؟ و هل ساهمت في إعادة الطمأنينة إلى نفوس ضحايا الدكتاتورية وجبر مشاعر وتضميد جراح مئات ألاف منهم، لاسيما الذين عذبوا، شردوا، ترملوا، تيتموا او قتلوا؟
أجيب والمرارة تملؤني أن القليل والقليل جدا قد تحقق من خلال المحكمة، بل أكاد أن اجزم أن المحكمة تسببت، بقصد أو بدون قصد، في إفلات الكثير من الجناة من قبضة العدالة، حيث أن الذين مثلوا من البعثيين الذين ارتكبوا الفظائع أما المحكمة الجنائية العراقية العليا لم يتجاوز حتى تأريخه 10% من نسبة الفاعلين الأصلين والشركاء في جرائم الإبادة الجماعية، جرائم حرب والجرائم ضد الإنسانية، إذن لازال 90% من نسبتهم أحرار حيث يعيش اغلبهم في الدول الإقليمية والبعض الأخر في الدول الغربية والعراق. هؤلاء هم وراء اغلب الجرائم اليومية التي ترتكب بحق الشعب العراقي. و لان المحكمة الجنائية العراقية العليا محكمة وطنية خالصة ليس بإمكانها إلزام الدول التي تحتضن هؤلاء بتسليمهم من اجل المحاكمة على الأفعال التي ارتكبوها ويرتكبوها في العراق، كما لا تستطيع خوفا من القوى فاعلة في الساحة العراقية ملاحقة آخرين موجودين داخل العراق. في حين لو نظرت محكمة دولية خاصة أو المحكمة الجنائية الدولية في هذه القضايا لاسيما وأنهما والتي على شاكلتهما من المحاكم لها القدرة على إلزام الدول على تسليم المجرمين مستندين في ذلك على سلطة وقوة مجلس الأمن الدولي، فضلا عن ذلك تعقد هذه النوع من المحاكم اتفاقيات مع الانتربول الدولي لتسليم المجرمين. لقد حوصر القضاء العراقي ووضع في موقف عسير لا يحسد عليه وتم تكليفهم بما لا وسع لهم به، لذا فقد جابههم تحديات كبيرة منها على سبيل المثال:
1. اعتراك القضاء العراقي في تجربة جديدة من نوعها لم يسبق له أن خاضها في تأريخه بخاصة وان ملفات بعض القضايا وصلت إلى أطنان من الوثائق والمستندات.
2. جهل الحقوقي العراقي بعلم القانون الجنائي الدولي الذي لا ولم يدرس في الجامعات العراقية وإذا علمنا بان الجرائم الرئيسية الثلاثة التي تنظرها المحكمة هي الجرائم الدولية، سوف ندرك مدى صعوبة بل استحالة انجاز مهمة تحقيق محاكمة ناجحة.
3. مما زاد الطين بله أن اغلب قضاة المحكمة وفي الدرجات المختلفة من التحقيق والادعاء والحكم لم يكونوا قضاة أصلا بل كانوا خريجي كليات القانون الذين يفتقرون إلى الخبرة والدراية القضائية للعمل في مجال القضاء ناهيكم عن جهلهم بالقانون الجنائي الدولي كما أسلفت.
4. عدم تمكن المحكمة من ملاحقة الجناة الآخرين الذين يعيشون في الدول الإقليمية والدول الغربية كان من اخطر عوامل عدم الاستقرار في العراق وذلك لعدم إمكانية إلزام هذه الدول من تسليم المطلوبين. وإذا ما أرادت الحكومة العراقية أن تضع حدا للجرائم الإرهابية في العراق فعليها:-
أولا: أما اللجوء وبجدية إلى مجلس الأمن الدولي لتشكيل محكمة دولية خاصة على غرار المحكمة اللبنانية الخاصة بمحاكمة قتلة رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري التي ساهمت وبشكل كبير حسب تشير المعطيات إلى وقف الإرهاب والتدخل السوري في الشأن اللبناني.
ثانيا: أو أن تستنجد بالمحكمة الجنائية الدولية وذلك لكونها السلطة الوحيدة التي يمكن لها أن تردع دول الجوار عن دعم الإرهاب ألبعثي والتكفيري عدا عن الإمكانيات العالية التي يتمتع بها لجهة كشف الجرائم والادعاء والمحاكمة، ناهيكم عن استقلال والحيادية العالية التي تتمتع بها هذه المحكمة. أما ما ذهب إليه الخبير القانوني العراقي القدير السيد طارق حرب في لقاء مع الصحيفة الالكترونية "أصوات العراق" بان “العراق لا يملك حق تقديم طلب إلى المحكمة الدولية بشكل مباشر بتشكيل المحكمة، باعتبار أنه ليس طرفا موقعا لاتفاقية روما لعام 1998 التي تشكلت بموجبها المحكمة الدولية”
فان المادة 12 فقرة 3 من تدحض خبرة السيد حرب حيث تنص "إذا كان قبول دولة غير طرف في هذا النظام الأساسي لازما بموجب فقرة 2 جاز لتلك الدولة ، بموجب إعلان يودع لدى مسجل المحكمة، أن تقبل ممارسة المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث وتتعاون الدولة القابلة مع المحكمة دون أي تأخير أو استثناء وفقا للباب 9."
مما يعني أن العراق أو أية دولة أخرى غير عضو في نظام روما إعلان اعترافها باختصاص المحكمة الجنائية الدولية في قضية محددة.
أما قوله أي السيد حرب “أتصور أنه ليس من مصلحة العراق تقديم مثل هذا الطلب باعتبار أن قرار الإعدام هو غير موجود في قانون المحكمة (المحكمة الجنائية الدولية ) أيا كانت جريمة المتهم”.
أن طرح السيد حرب هذا يخلق للوهلة الأولى لدى القارئ الكريم انطباعا بان الشعب العراقي هو شعب عدواني ومتعطش إلى القسوة والدم ، وان فلسفة العقوبة التي كانت سائدة في ظل النظام الدكتاتوري ما زالت سارية وان شيء لم يتغير، هذا الرأي لا يستقيم مع التحولات الديمقراطية الجديدة في العراق ومحاولته اي محاولة العراق مسايرة التطورات الحضارية الحديثة ومنها القانونية والتوجه العالمي إلى إلغاء عقوبة الإعدام حيث لم يكن اعتباطا بل هي نتيجة سنين طويلة من الدراسات والأبحاث في هذا المجال. فهدف العقوبة ليس الانتقام بقدر ما هو ردع. وهنا يتبادر السؤال: هل استطاعة عقوبات الاعدام التي نفذت منذ سقوط النظام إلى يومنا هذا أن توقف الإرهاب والجريمة في العراق؟
أن لجوء العراق إلى المحكمة الدولية سوف يؤثر وبشكل كبير إلى وقف الإرهاب في العراق نتيجة اضطرار الدول التي تدعم المجموعات الإرهابية إلى وقف تعاونها خوفا من الوقوع في قفص الاتهام.
أخيرا ورغم كل الانتقادات التي وجهت مني ومن غير إلى هذه المحكمة إلا أننا جميعا يجب أن لا ننسى بان هذه المحكمة هي الوحيدة من نوعها في العالم العربي ولم تكن هناك بدائل أخرى أمام الحكومة العراقية وذلك لان الولايات المتحدة الأمريكية كانت ستمنع أي محاولة للإنشاء محكمة دولية، كما أن محاكمة هؤلاء استنادا إلى قانون العقوبات العراقي ومن خلال المحاكم العراقية العادية رغم امتلاكها قضاة أكفاء وعلى مستوى عالي من النزاهة لم يكن ممكننا بسبب موضوع الحصانة التي كان يتمتع بها المدان صدام حسين وأزلامه. المحكمة الجنائية العراقية العليا بقانونها وتركيبتها جاءت واقعا مفروضا بل خيارا بين بدائل معدومة.
الحقيقة الأخرى التي أثبتتها هذه المحكمة أن هناك قضاة كبار في العراق لا يقلون في مستواهم عن القضاة في المحاكم الدولية ولا يقبلون تدخل السلطة التنفيذية في مهامهم وقد جسد القاضي العراقي الكردي رزكار محمد أمين هذه الحقيقة حين رفض تدخل السلطة التنفيذية في عمله وعلى أثرها قدم استقالته، وقد حضيت هذه الاستقالة باهتمام حقوقي عالمي كبير حيث بها تم دحض التصور سائد في الغرب بان القضاة في االعالم العربي ليسوا اكثر من ادوات يحركها الحكام ، حيث برهن القاضي رزكار أن هناك قضاة في العراق يحترمون مهنة القضاء ويتمتعون بنزاهة عالية لا يقبلون عبرها الخضوع سوى لضميرهم وتجردهم وقد لمست هذا الاهتمام بهذه السابقة في كثير من المؤتمرات الدولية لخبراء القانون الدولي والقانون الجنائي الدولي وهنا أشير إلى إشادة الرئيس السابق للمحكمة الجنائية الدولية والذي يدعى بابو المحكمة الجنائية الدولية القاضي كيرش، بالقاضي رزكار وموقفه، في دورة ومؤتمر لخبراء القانون الجنائي الدولي في لاهاي قبل ثلاثة أشهر كنت قد تشرفت بحضوره.
ولكن إلى أين تسير المحكمة الجنائية العراقية العليا بالعراق؟ وهل سوف يتم تطوير قانونها بحيث تستجيب لمتطلبات الوضع الحالي في العراق؟ أم سوف تستنجد الحكومة العراقية بصورة جدية بمجلس الأمن بغية تشكيل محكمة خاصة أم تعلن اعترافها بالمحكمة الجنائية الدولية في قضية محددة؟ أم ماذا، الأسئلة برسم الجواب.
* Said Pirmurat, PhD Candidate at the chair of Professor Ambos, University of Göttingen, Institute for Criminology, Department for foreign and international criminal law, chair for criminal law, procedural criminal law, comparative law and international criminal law, .
باحث متخصص في القانون الجنائي الدولي والمحاكم الجنائية الدولية/ المحكمة الجنائية العراقية العليا
#سعيد_بير_مراد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟