يحتدم في وطننا هذه الأيام جدال حامي الوطيس حول العمليات الإنتحارية - الإستشهادية التي تبادر إليها بعض التنظيمات والتشكيلات التنظيمية الكفاحية بحق المواطنين الاسرائيليين في الشوارع والباصات والمقاهي وغيرها من مواقع التجمع والاحتشاد المديني. وهذا نقاش صحي للغاية حيث ان الشعب الفلسطيني هو الذي يتلقى ليس فقط نتائج هذه العمليات من ردود فعل اسرائيلية من تدمير وقتل وجرح وخنق وتجويع وحصار واذلال ومهانة، بل وهو الذي يتعرض لاسباب هذه العمليات التي هي ذات التدمير والقتل والجرح والخنق والحصار والاذلال والمهانة. بمعنى ان ممارسات اسرائيل القمعية هي السبب والفعل وراء هذه العمليات وان كانت تتخذ الان صورة النتيجة ورد الفعل. كما ان هذا الجدال صحي للغاية لان الشعب الفلسطيني هو الذي سيتحمل او يتمتع بما تسفر عنه هذه العمليات من نتائج فورية او بعيدة المدى، مهما اتخذت هذه النتائج من اشكال تقع بين قطبي السلب والايجاب القصويين، الكارثة او النصر.
هذا يؤكد حق الشعب الفلسطيني ليس فقط في الجدال في اسلوب الكفاح الذي تتبعه طلائعة -قياداته بل وفي التأكد من ان هذه الاساليب تصب حقا في اطار مصلحته الوطنية الحقيقية والبعيدة المدى في الحرية والاستقلال والكرامة والعيش الآمن.
ولا ريب ان هناك مجال للاختلاف حتى في تعبير المصلحة الوطنية "الحقيقية" و"البعيدة المدى". فمن يقرر هذه المصلحة، او حقيقتها او مداها؟ ومع انه يمكن الاجابة النظرية على هذا السؤال بان الاغلبية هي التي تقرر ذلك، الا ان هذا الجواب هو الآخر لا يجدي اذ اننا لا نعيش وضعا مستقرا يتاح لنا فيه ان نقرر بالاقتراع او الاستفتاء الشعبي ماذا نريد او أي اسلوب نتبع لاجل الوصول الى ما نريد. وبالتالي فانه مهم بذات قدر اهمية حسم الخلاف او الدخول في مساومة حوله التأكد اولا من انعدام كل سوء فهم حول العناصر الاساسية لموضوع الخلاف - وهنا يكمن برأيي مصدر الخلاف، والذي ينبغي تسويته حتى قبل تسوية الخلاف ذاته.
هناك في واقع الحال رؤيتان- نموجان للصراع تغذي كل منهما طرفي الجدال حول العمليات الانتحارية وان كانت تتداخل احيانا الواحدة بالاخرى. ففي رؤية - نموذج الاحتدام العرقي - الديني تتخذ العمليات الإنتحارية - الإستشهادية مكانها الطبيعي إذ تغذي هذا الاحتدام وتضمن كبرياء الطرف العرقي المبادر اليه بصفتها وسيلة الدفاع - الهجوم الاكثر مناسبة في وجه مساعي النفي المقابلة من المجموعة العرقية - الدينية المقابلة. وتتمثل هذه اكثر ما تتمثل في عبارة "مثلما يقتلون منا فلنقتل منهم ايضا، ولتدعهم يحسون ويتألمون بعضا مما نحسه ونتالمه". وضمن هذا النموذج، فانه لا يوجد ما هو اكثر "انسانية" من ذلك حيث ان الانسان هو اكثر الكائنات استجابة لنوازع الكراهية والثأر والعدوان المتبادل.
أما في الرؤية - النموذج الآخر وهو نموذج الصراع السياسي - الوطني، فان العمليات الإنتحارية - الإستشهادية تتعارض معه تماما، حيث انه يأخذ الجغرافيا - السياسية بالاعتبار، كما يأخذ مواضيع الرأي العام الاسرائيلي والعالمي والشرعية الدولية وغيرها من الاعتبارات في حساباته. وهذه حسابات عقلانية باردة وغير انفعالية، ليس المهم فيها تحقيق القدر الاكبر من القتل في الجهة المقابلة، بل ممارسة ما يكفي من الضغط بالمنسوب الملائم والزمان والمكان المناسبين كي يحمل العدو عصاه ويرحل عن البلاد في اطار جغرافي محدد (حدود العام 67 الى هذا الحد او ذاك كما يتجلى في الخطاب السياسي الفلسطيني الرسمي).
ومن هنا فان الجدال حول اسلوب العمليات الإنتحارية - الإستشهادية يمثل خلافا اعمق حول النموذج المتبع او المراد اتباعه للصراع بين الشعبين في هذه البلاد: هل هو احتدام عرقي - قومي ام هو صراع سياسي - وطني. ومن الضروري بالتالي حتى قبل حسم الخلاف في الاسلوب الاتفاق ايضا في الهدف وفي الجوهر.
ولهذين النموذجين سوابق تاريخية جاهزة، وما علينا الا ان نطلع عليها كي نرى آفاق كل منها ونستدل من ذلك على خير السبل لنيل مبتغانا. فهل نريد ان نكرر نموذج ايرلندا او البوسنة او حتى كشمير ام ان نموجنا هو فيتنام والجزائر!؟
في الاول ، هناك قتل واقتتال حتى الشبع دون حسم او نتيجة أو حرية او أمان. اما في الثاني، فهناك قتل وتدمير ينتهي بالحسم وبالفراق الذي يعني كلا من الحرية ومن الأمان.
في الاول تتشوش الرؤية ويختلط الحابل بالنابل، حيث لا يدري احد من الضحية ومن المعتدي، وغالبا ما يصبح الطرفان ضحية اكثر نوازع الانسان بشاعة من حقد وانتقام وعدوان حيث تصبح مبررة اكثر الافعال وحشية واجرام. أما الثاني فالضحية هي الشعب الخاضع للاحتلال والاستعمار فيما المعتدي هو الاحتلال والاستعمار.
وفي واقع الحال فأن اسوأ ما في العمليات الإنتحارية - الإستشهادية هو انها تجعل الضحية الحقيقية - أي الشعب منزوع الحرية ومدوس الكرامة هو المعتدي، فيما يصبح المعتدي نارغ الحرية ودائس الكرامة هو الضحية. "من حق اسرائيل ان تدافع عن نفسها" هكذا يدعي العالم ممثلا برئيس الولايات المتحدة، القوة العظمى الاولى والوحيدة، اذ يرى استشهادينا يقتلون منهم الاطفال والنساء والرجال المدنيين الابرياء، فتضيع وراء صور الباصات المحترقة على ركابها والمقاهي المحطمة على روادها الصورة الحقيقية للدمار والقتل والتجويع والحصار والاهانة في مدننا وقرانا.
ان على العمليات الإنتحارية - الإستشهادية ان تتوقف ليس فقط لان نموذج الصراع السياسي - الوطني هو الذي يملك الفرصة الاكبر لتحقيق الاجماع الوطني حوله بل ولان الاساليب والاهداف التي لا تملك حق الاجماع وتكون في غاية الاثارة للجدال هي دوما أكثر الاساليب اضرارا باصحابها وابعدها عن القدرة على تحقيق اهدافهم المنشودة.
إسألوا كل قادة الثورات الوطنية في العالم عن عوامل النصر التي تجمعت لديهم حتى وصلوا اليه، فانهم سيقولون لكم، وحدة الهدف ووحدة الاسلوب ووحدة القيادة اضافة الى الشرعية الدولية والتأييد العالمي الواسع بما في ذلك وبالاساس بين اوساط جمهور الدولة التي كانت تستعمر بلادهم.
لهذه الاسباب جميعها ينبغي اعطاء أنفسنا فرصة اعادة النظر في اهدافنا واساليب كفاحنا لتحقيق هذه الاهداف وذلك لاجلنا نحن، ولاجل مستقبلنا وأمننا نحن وليس لأجل أي احد أو أي أمر آخر.
*كاتب وصحافي فلسطيني، مدير مكتب "المصدر" للشؤون الإسرائيلية.