|
ما بعد الحداثة: مقاربة سوسيولوجية
علاء الفزاع
الحوار المتمدن-العدد: 851 - 2004 / 6 / 1 - 06:14
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في روايته الشهيرة (أبسالوم،أبسالوم)، وفي الفصل الثامن تحديداَ، كان وليم فوكنر -كما يرى بعض النقاد- يتفوق على نفسه وعلى عصره ويخترق التخوم الفاصلة بين الحداثة وما بعد الحداثة. ويتحقق هذا الاختراق أيضاَ في بعض أعمال بريخت وبيكيت وكولن ولسون وغيرهم. ولكن لماذا لم تبدأ حقبة ما بعد الحداثة منذئذ؟ إن ذلك يعود إلى ما تسعى هذه المقالة إلى اكتشافه: الجذور الاجتماعية لتلك ال(ما بعد). فمن المعروف أن الحداثة ارتبطت بالمراحل المتقدمة من المجتمع البرجوازي مع بلوغ الرأسمالية مراحل متقدمة في التصنيع. واعتماداَ على إرث التنوير (العقلنة، والحرية الإنسانية، والصرامة المنطقية) فقد بنت الحداثة بكل مدارسها على أسس أنطولوجية ثابتة، تماماَ كثبات الفكرة القومية في ذلك الوقت. ونتج عن هذا الالتقاء (الحداثة والقوميات الأوروبية والثبات الأنطولوجي) ما عرف لاحقاَ بالنزعة المركزية الأوروبية. وبعد هذا الحسم الأنطولوجي انطلقت الأسئلة الإبستمولوجية للحداثة، مكونة ما يعرف بالأنساق الفكرية الكبرى (والحكايات الكبرى) على أساس أن من الممكن تفسير جمع كبير من الحقائق والمجالات الحياتية والفكرية والروحية بنظرية مركزية جامعة (أنطولوجية). وهذا ما يجعل (أبسالوم،أبسالوم) تتجاوز أفق الحداثة، إذ عادت بقوة لتطرح أسئلة وجودية أنطولوجية بعد شك إبستمولوجي عميق متصاعد. ويوازي ذلك شك إبستمولوجي وأسلوبي متصاعد في كل من الحركة الفنية (الانطباعية، التكعيبية، السريالية،...) والعلمية (إسهامات بور وشرودنغر وهيزنبرغ وغيرهم). إن فشل مشروع الحداثة - إثر حربين عالميتين، ولعدم قدرتها على لجم وحشية الرأسمالية - قد دفع الغرب إلى محاولة ارتياد آفاق جديدة، وإلى التشكك في كل قيم الحداثة: الفن الراقي، النظريات الكبرى، تقديس الحريات الإنسانية (بالنسبة للغربي)، العلمية المفرطة. ومن المفيد هنا التذكير بعبارة وردت في رواية (الشك) لكولن ولسون: "صحراء شاسعة من الحرية" وذلك إثر "تحرر العقل من أسر العادة والحواس". إن هذه الحرية مرعبة دون هدف. وكذا الشك دون بديل. وهذا هو أحد أهم أسباب اندفاع حركات الرفض التي اجتاحت الغرب منذ أواخر الخمسينيات وحتى السبعينيات، بدءاَ من (الروك أند رول) وحتى (الهيبيز) وثورات الطلبة. إن هذا الشك في الحرية، إضافة إلى فقدان المعنى، نتجا عن مكننة الحياة في الغرب، وتعاظم سيطرة الموضوعي (آليات المجتمع الصناعي) مقابل تراجع الذاتي (الحرية الحقيقية). ونتج عن ذلك كله فكرة موت الأدب والأديب في ما بعد الحداثة، كما هو موت مبدع التاريخ عند فوكو. ولعل التراجع الكبير للحداثة في ستينيات القرن العشرين يعود إلى التغيرات التي بدأت تطال قاعدتها الاجتماعية،إذ بدأت تركيبة المجتمع بالتغير السريع إثر انتقال رأس المال إلى مراحل استغلال جديدة تتجاوز أدوات الكولونيالية البالية. ومن الواضح أن رأس المال كان دائماَ مرتبطاَ بالفكرة القومية التي كان يعتبرها مرجعه، مما كان يوازي و يعزز فكرة الأنساق الكبرى. ومنذ منتصف الستينيات كانت إدارة رأس المال تنتقل بهدوء، وبدون ضجة، إلى أيدي محترفي الإدارة (التكنوقراط) ليجلس أصحاب رؤوس الأموال في استرخاء، و يقبضوا أرباحهم. ومع انكسار الارتباط بين رأس المال وأصحابه (البرجوازيين) انكسر ارتباطه بالقومية، مما ساعد على انطلاقه من كل عقال، يسرح ويمرح عالمياَ، مدشنا ما سيعرف لاحقاَ باسم (العولمة)، وفي نفس الوقت مدشنا سقوط الحكايات والأنساق الكبرى المرتبطة عضوياَ بالقومية، وسقوط الحداثة معها. إن المجتمع ما بعد الصناعي الجديد كان يتبرأ من الحداثة فعلياَ منذ الخمسينيات. وقد استندت ما بعد الحداثة في انطلاقتها إلى ثلاثة أسس رئيسة. أولها الشكل الاجتماعي الاقتصادي الجديد للعلاقات فوق-الحدودية وفوق-الوطنية ممثلة في الشركات عابرة الجنسية. وهذا هو السبب الأهم الذي سهل انتشار فكر كانت إرهاصاته لم تجد أرضيتها في أوائل القرن العشرين في مرحلة ارتبطت بقوة بالرأسمالية الوطنية الاستعمارية. ومن هنا تبرز أهمية إشارة تشارلز نيومان إلى ما بعد الحداثة على أنها "أدب الاقتصاد التضخمي". أما ثانيها فيعود إلى النزوع الإنساني العالمي المتعاظم لعدد كبير من مثقفي العالم إزاء تحديات عالمية لا تفرق بين دولة وأخرى، مثل السقوط الإنساني والأخلاقي لنظام السوق، والتلوث المتزايد، والحروب، وأسلحة الدمار الشامل، وغيرها، خصوصاَ مع اتساع شبكات الاتصالات والمعلومات بين-الدولية. وعزز هذا النزوع رغبة في الحميمية الجماهيرية كانت رد فعل مباشر على نخبوية الحداثة، خصوصاَ في مراحلها العليا. ولعل أيهاب حسن هو أبرز من ركز على هذا الاتجاه و هذا النزوع. أما الأساس الثالث - وإن كان أسبق زمنيا َ- فهو الشك الإبستمولوجي المتوازي مع ميكانيكا الكم ومبدأ هيزنبرغ في عدم التحديد. هذا الشك الذي أفضى - ولا يزال - إلى تفكيك البنى والأفكار والكليات والشموليات، وتشظيها وذوبانها ضمن سياق التفكيكية. ويشترك ديريدا وليوتار في التركيز على هذه الناحية، رغم اختلافاتهما في نواحي أخرى. وما بعد الحداثة - كما يدل اسمها - ليست مشروعاَ ناجزاَ، بل هي منهج يؤدي غرض الانتقال إلى وضع جديد. تماماّ كما هي العولمة سيرورة وليست وضعاَ ناجزاَ، أي أنها انتقال إلى مرحلة عالمية الإنتاج والتسويق الرأسماليين. وعليه فإن المدارس المختلفة لما بعد الحداثة تعبر عن الاتجاهات المحتملة لذلك المشروع. ولعل أبرز ما يؤخذ على تلك الاتجاهات أن أكثرها اتجاهات هدم وتفكيك، أو بمعنى آخر هي تعبر عن ثقافة رفض عدمي، وعن احتقار للفعل الاجتماعي، على نفس خط حركات الرفض في الستينيات مع بعض الفروق، تلك الحركات التي لم تفض إلى شيء حقيقي. وهنا الرفض العدمي يفضي إلى لا - عقلانية متزايدة، تنسف كل قاعدة للمجتمع الحديث بدعوى مقاومة وحشية نظام السوق. ولكن من المهم التذكير هنا إلى أن الرفض ما بعد الحداثي لا يقدم بناءاَ جديداَ بديلاَ. ومن الممكن أن نلتقط رأي جون بارت بقوله أن ما بعد الحداثة هي أدب إعادة شحن، بما في ذلك من مضامين إيجابية تفاؤلية، وبما يوحي بأن هذا الاتجاه، محمولاَ على تقنية المزاوجة بعد الحداثية، ربما يكون المسار الأفضل للنقد ما بعد الحداثي في العالم الثالث، ومنه عالمنا العربي. حيث أن التفكيكية بهدمها وتشككها وتشتيتها وإرهاقها تنطلق من واقع مجتمع ما بعد صناعي، وتتوجه إليه بالخطاب. وعليه فهي قد لا تتناسب مع مجتمعات العالم الثالث، وإن كانت التفكيكية قد استخدمت بفعالية من قبل بعض الباحثين العرب في مجالات محدودة (على سبيل المثال طيب تيزيني ومحمد أركون في كتاباتهما حول تاريخ الفكر العربي الإسلامي).
#علاء_الفزاع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفقسة
-
دور الأحزاب في تعطيل الديموقراطية
المزيد.....
-
هوت من السماء وانفجرت.. كاميرا مراقبة ترصد لحظة تحطم طائرة ش
...
-
القوات الروسية تعتقل جنديا بريطانيا سابقا أثناء قتاله لصالح
...
-
للمحافظة على سلامة التلامذة والهيئات التعليمية.. لبنان يعلق
...
-
لبنان ـ تجدد الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت
...
-
مسؤول طبي: مستشفى -كمال عدوان- في غزة محاصر منذ 40 يوما وننا
...
-
رحالة روسي شهير يستعد لرحلة بحثية جديدة إلى الأنتاركتيكا
-
الإمارات تكشف هوية وصور قتلة الحاخام الإسرائيلي كوغان وتؤكد
...
-
بيسكوف تعليقا على القصف الإسرائيلي لجنوب لبنان: نطالب بوقف ق
...
-
فيديو مأسوي لطفل في مصر يثير ضجة واسعة
-
العثور على جثة حاخام إسرائيلي بالإمارات
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|