|
في عدم أهلية العدالة والتنمية للدعوة إلى تشكيل جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية
علي أوعسري
الحوار المتمدن-العدد: 2797 - 2009 / 10 / 12 - 22:24
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
على غرار الأصالة والمعاصرة، الذي جاء يستجيب لحاجيات الدولة في إعادة ترتيب الحقل السياسي، في المرحلة الراهنة، فان حزب العدالة والتنمية الذي تشكل ونما وترعرع تحت رعاية الدولة ووفقا لحاجياتها في مرحلة سياسية سابقة، ليس بمقدوره، في المرحلة الراهنة، الظهور بمظهر ذلك الحزب الجماهيري الشعبي "التاريخي" الذي بإمكانه طرح مشروع مجتمعي بديل مستقل عن السياسات الرسمية للدولة، بما هي سياسات مسؤولة عن تأزم الوضع السياسي والاجتماعي والثقافي الراهن بالبلاد منذ الاستقلال الى اليوم. يكمن عجز العدالة والتنمية في الظهور بذلك المظهر "التاريخي" في كون هذا الحزب الاسلاموي نشأ وترعرع، في كنف السلطة السياسية وبرعاية منها، في مرحلة تاريخية معينة، لخدمة أجندات معروفة لدى كل متتبع، أهمها الحد من نفوذ اليسار داخل الإطارات الجماهيرية وكبح نضالات هذه الأخيرة عن طريق إفراغها من مضمونها الاحتجاجي المطلبي الديمقراطي وتحويلها إلى فضاءات للدعوة/التناصح، في محاولة لتحريف الصراع من كونه صراعا سياسيا/طبقيا إلى صراع دعوي أخلاقي، فيه بالضبط تختفي معالم السيطرة الطبقية لمختلف الفئات البرجوازية والإقطاعية التي تشكل القاعدة الأساسية للنظام السياسي المهيمن، قبل أن يعدل حزب العدالة والتنمية خطابه، في الآونة الأخيرة، في اتجاه خلق نوع من "المسافة الفاصلة" بين السياسي والدعوي، تكيفا منه مع تعقيدات العمل السياسي ومتطلباته الواقعية. أما هذا التعديل المستجد في خطاب وممارسة العدالة والتنمية، فله أسبابه الموضوعية والذاتية؛ ودون الدخول في حيثيات هذه الأسباب، يمكن القول أن هذه الانعطافة، في صيرورة الحزب، إنما أملتها تغييرات عميقة طرأت في التركيبة البشرية للحزب، خاصة بعد التحاق فئات واسعة من البرجوازية والبرجوازية الصغيرة بصفوفه، نتيجة خيبة أمل تلك الفئات في ممثلها الأساس الاتحاد الاشتراكي، هذا من جهة. من جهة أخرى، جاءت تلك الانعطافة نتيجة اكراهات وضرورات سياسية تمليها تعقيدات العمل السياسي الواقعي على كل حزب سياسي؛ بمعنى آخر، يمكن القول أنه مهما بالغ كل حزب سياسي ذي مرجعية أصولية في التستر وراء خطابات دينية وأخلاقوية، فلا بد له، في خضم ممارسته السياسية اليومية، من ضرورة توضيح مواقفه بشأن العديد من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية الوطنية. لذا فان تلك الانعطافة، في مسار العدالة والتنمية، هي ضرورة حيوية مرحلية باعتبارها تشكل محاولة من الحزب للالتفاف على بعض ممارساته السابقة سواء ضد القوى التقدمية واليسارية أو ضد قيم الديمقراطية والحداثة التي كانت تعتبر سابقا في أدبيات الحركات الإسلامية بدعا – و"كل بدعة في النار"- وخروجا عن تعاليم الإسلام. ورغم أن العمل السياسي الحزبي يستلزم اتخاذ مواقف واضحة من العديد من القضايا الوطنية والمجتمعية، كما أكدنا، إلا أن الغموض لا يزال يكتنف الخطاب الإيديولوجي وأيضا الممارسة السياسية للعدالة والتنمية إلى حدود الآن، مما يعني أن العدالة والتنمية لن يتمكن من تجاوز هذا المأزق – أو قل هذا التناقض- بين الخطاب، باعتباره ممارسة إيديولوجية، وبين الممارسة السياسية إلا إذا أقلع عن إيديولوجيته الدينية نحو تبني احدى الإيديولوجيات المدنية العقلانية التي ابتكرتها الإنسانية منذ القدم. بسبب إذن من ظروف نشأة العدالة والتنمية في أحضان السلطة، وبسبب أيضا من طبيعة مرجعيته الإسلاموية التي تلتقي، في أوجه منها مع المرجعية التقليدانية للدولة، فان هذا الحزب لن يكون بمقدوره، تكتيكيا واستراتيجيا، تجاوز اكراهات وظروف نشأته حتى يتسنى له النهوض بمهام هي، في طبيعتها الاجتماعية والتاريخية، ملقاة على عاتق القوى الديمقراطية وتحديدا التقدمية منها، وليس على القوى التقليدانية التي تتستر وراء الدين للدفاع عن مصالح خاصة بها. ليس ممكنا، في المدى المنظور، على حركات الإسلام السياسي -وضمنها العدالة والتنمية- تجاوز الذاكرة الجمعية، بما تستبطنه هذه الأخيرة من عوائق نفسية لدى أطراف من اليسار، وليس لدى كل مكونات اليسار، ذلك أن أطرافا أخرى محسوبة على اليسار أخذت تتخطى تلك الحواجز النفسية، في الآونة الأخيرة، بغية نسج علاقات أو تحالفات مع أطراف من الحركات الإسلامية. لا يمكن، إذن، تجاوز تلك الذاكرة الحية حتى يتسنى للعدالة والتنمية، خاصة، تبرير ممارسات وتجاوزات حركات الإسلام السياسي سابقا في حق قوى اليسار (اغتيالات، التهمة بالإلحاد والزندقة...). اظافة الى الإشكالات النفسية والاختلافات الإيديولوجية التي تنتصب في طريق إقامة نوع من التقارب بين إسلاميي العدالة والتنمية وأطراف معينة من اليسار(الاتحاد الاشتراكي على وجه التحديد)، هناك إشكالات إيديولوجية وهوياتية عميقة، أي أكثر حدة من التي بين العدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي، قائمة موضوعيا بين الاسلاميين والامازيغيين، بحيث أنها –أي تلك الإشكالات- تعيق كليا أية إمكانية للتواصل ولفتح النقاش بين مكونات الحركة الإسلامية وبين فعاليات الحركة الثقافية الامازيغية. فهذه الأخيرة راكمت، بسبب من نضالاتها، زخما ثقافيا وسياسيا مكنها، في المرحلة الراهنة، من تبوء موقع لا يستهان به في المعادلات السياسية والثقافية القائمة بالبلاد؛ الشيء الذي أضحى يشكل حرجا كبيرا للإسلاميين بشكل عام وللعدالة والتنمية الذي بات يستأنس في نفسه "الأهلية/القدرة" للدعوة الى تشكيل "جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية"، بشكل خاص. هناك شروط سياسية واجتماعية وإيديولوجية محددة لا بد لها أن تتوافر، تاريخيا، لأي حزب سياسي، أو لأي قوة اجتماعية، حتى يتمكن، أو تتمكن، من الرقي الى مستوى تحمل مهام تشكيل جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية. إلا أن مثل تلك الشروط التاريخية، بما هي شروط موضوعية، لا يمكن لها أن تتحقق لكل حزب، بشكل ارادوي، في أية لحظة ارتأى فيها، وفقا لتكتيكات وحسابات مصلحية مبتذلة، رفع شعار تشكيل جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية. هنا تتجسد مهزلة حقيقية، ألا وهي مهزلة أولئك الذين ربما هم على جهل تام بمفهوم الجبهة الوطنية وبدلالاتها الاجتماعية والسياسية، وكذا بشروطها الموضوعية والتاريخية المحددة. لذا، فان حزب العدالة والتنمية سيظل موضوعيا عاجزا عن إقناع كل مكونات الحقل السياسي والثقافي المتعددة بجدوى تشكيل جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية فيها يتغيى هذا الحزب أن يلعب دورا "طليعيا" ارادويا. تكشف هذا العجز عمليا من خلال عدم استجابة كل مكونات الحقل السياسي لهذه الدعوة، ما أفسد على قيادة العدالة والتنمية فرحتها/نشوتها بانجاز هذا "السبق التاريخي"، وما فوت على حزبها تلك "الفرصة الذهبية" للتمظهر بمظهر ذاك الحزب "الطليعي التاريخي" الذي بإمكانه أن ينهض بمهام الدعوة لبناء جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية.... غير أن هناك إمكانية أخرى لتحالفات العدالة والتنمية، بشكل خاص، والحركة الإسلامية بشكل عام، باتت تتكشف منذ مدة، ببلادنا، وهي بداية تشكل تحالف –وليس جبهة وطنية- غريب في ظاهره، موضوعي في مضمونه، بين الاسلاميين وما تبقى من القوميين/العروبيين، بشتى تلاوينهم اليسارية والليبرالية، سعيا منهم لإقامة تحالف يمكنهم من تحصين مواقعهم الطبقية في ظل زحف العولمة وما تحمله من قيم كونية وحداثية وعقلانية أضحت تزعزع تلك الوثوقيات واليقينيات التي تستبطنهما الإيديولوجيتين القومية والاسلاموية، تحت يافطة الدفاع عن "قضايا الأمة". ورغم أن الإيديولوجية القومية المتهالكة تتميز في أمور شكلية فقط – وليس طبقية- عن نظيرتها الاسلاموية التي أضحت تتمتع، في المرحلة الراهنة، بنوع من الهيمنة على مستوى تسييد الخطاب/الشعار وعلى مستوى الممارسة السياسية، إلا أن ذلك لا يمنع من إقامة نوع من التحالف بين الاسلاميين والعروبيين وبين جزء من اليسار "القومي" ليس في بلادنا وحسب وإنما في المشرق حيث موطن الإيديولوجيتين القومية المتهالكة والإسلاموية النامية. ما كان إذن ممكنا لهذه التحالفات أن ترى النور ببلادنا لو لم يتكلف أولئك القوميون والإسلاميون بإسقاطها واستنباطها في التربة المغربية التي ظلت لقرون مستعصية عن الثقافة المشرقية. أخذ هذا النوع من التحالف اللاتاريخي يعبر عن نفسه من خلال تلاق غير موضوعي، غير تاريخي، بين إسلاميي العدالة والتنمية والعدل والإحسان ومكونات من اليسار ذي النزعة القومية، من أجل الدفاع عما يسمونه القضايا المركزية للأمة..... أما الأمة عندهم فليس لها من أصل سوى المشرق.... لذا كانت قضايا الأمة كلها هي قضايا المشرق "القومية" على حساب القضايا الوطنية الأساسية بما هي قضايا الديمقراطية والتقدم والتحرر الاجتماعيين، فهل تريد مكونات هذا التحالف تأجيل هذه القضايا الوطنية الحاسمة الى حين حل قضاياهم "القومية"؟... يعرف المشرق، اليوم، بروز وتنامي شعور هوياتي لدى قوميات غير عربية تريد أن تسترد لنفسها قدرا من الاعتراف بقوميتها المسلوبة، حتى أن ذلك انعكس على مكونات الساحة العربية في شكل حروب واقتتال وثأر مذهبي وعرقي وهوياتي.... أما وأن أهل الشرق أنفسهم غير مجمعين على القومية العربية والإيديولوجية الاسلاموية، فكيف لنا نحن الذين عنهم مستقلون منذ قرون أن نقبل بإيديولوجية قومية "عربية" هم عليها منقسمون ومتحاربون؟! المشرق لم يحسم إشكالاته السياسية والثقافية منذ قرون، وعوامل التفكك العرقي والمذهبي تهدده في غياب توافق حول ثوابت "الأمة". أما حركة التحرر الوطني العربية، أعني بالعربية هنا المشرق العربي، فهي الوحيدة تاريخيا التي لم تنجز مهماتها التحررية على أكمل وجه، تحت قيادة البرجوازية العربية وإيديولوجيتها القومية؛ فكانت النتيجة أن دخل العرب مرحلة تاريخية من التخلف والاستبداد والانحسار والتفكك والتزمت، في غياب تام للديمقراطية وللحريات السياسية والمدنية والدينية، حيث بات يتهددهم انقراض تاريخي. وإذا كانت "الأمة العربية والإسلامية" على هذا المستوى من الهوان والخراب، فأي أنموذج ذاك الذي يريد العروبيون والإسلاميون إسقاطه على المغاربة؟!... أهو "الجهاد"؟!... أم أنه الخراب والتفكك الذي يسود الدول العربية في المشرق والذي بات يحولها الى ملل ونحل وعشائر وجماعات ومذاهب تتقاتل وكأني بها لم تخرج بعد من ذلك التاريخ السحيق، و قل إنها تحيى خارج التاريخ المدني الكوني؟!.... من نافلة القول أن الشعب المغربي -بعبقريته المتميزة وبوعيه التاريخي والوطني- وقف تاريخيا سدا منيعا أمام كل المظاهر والممارسات المشرقية التي أراد البعض استنباتها في التربة المغربية والتي ظلت تاريخيا مستعصية عن كل تطويع مشرقي. ليس ذلك التنامي في الإحساس والشعور بالهوية الامازيغية، لدى مكونات وفعاليات ثقافية أمازيغية يذهب بعضها حد التطرف، سوى ردة فعل عما يحاول أصحاب الارتباطات المشرقية فرضه وتسييده على المغاربة. يبرز هنا سؤال أكثر أهمية وهو: لحساب من يعمل هذا التحالف بارجاءه قضايا الديمقراطية والتحرر الاجتماعي الى حين حل القضايا "القومية"؟... على هؤلاء إن هم أرادوا حقا حل قضيتهم القومية، أن يخطوا خطوات جريئة تتجاوز تقاعس الأنظمة العربية في حق القضية الفلسطينية التي هي بالمناسبة قضية تحرر وطني، لا بد أن تكون محط دعم وتأييد كل تقدمي وديمقراطي، وليس قضية "مركزية قومية" استعملت منذ ما يناهز الخمسين سنة كشعار لتأجيل النظر في الديمقراطية والتحرر الاجتماعي وإقرار الحريات من الأنظمة العربية الرجعية بتأييد من تحالف القوميين والإسلاميين. ضرورة التاريخ تقضي بألا يظل هؤلاء القوميين والإسلاميين على حالهم، يرددون شعارات طوباوية جوفاء ويقومون بتعبئة الجماهير، في مسيرات ومهرجانات "لدعم فلسطين"، دون اتخاذ إجراءات عملية ملموسة ضد تقاعس الأنظمة العربية. فهم في الحقيقة ليسوا يمارسون بهذا الذي دأبوا عليه سوى نوع من التواطؤ المكشوف في محاولة لتضليل وتمويه الوعي الاجتماعي للجماهير الكادحة؛ وكل ذلك إنما يجري لصالح الأنظمة العربية الرجعية الذين هم محسوبين عليها ولحسابها يعملون. ألم تلتف رموز القوميين والإسلاميين حول الرئيس السوداني تحت يافطة حماية السيادة الوطنية للسودان؟.... فبدل أن يناضل هؤلاء في سبيل إقرار الديمقراطية بما تعنيه عدم الإفلات من العقاب، هاهم يجتمعون في ضيافة عمر البشير لحشد نوع من الدعم السياسي له فيما قناتهم الجزيرة تتولى تغطية ذلك الالتفاف في احدى حلقات "لقاء مفتوح". إن هؤلاء بعملهم على تأجيل القضايا الاجتماعية الوطنية لحساب القضية القومية والدينية، إنما هم يحاولون عبثا تضليل الوعي الاجتماعي للجماهير الكادحة حتى لا تنهض للنضال الاجتماعي والديمقراطي العام. هذه إذن الحقيقة المرة التي لا بد وأن نجهر بها، ذلك أن التضليل الإيديولوجي الذي تمارسه هذه القوى لا ينفك يفعل فعله في الوعي الاجتماعي ويحول دون تلمس الطريق نحو هذه الحقيقة بما تعنيه من ضرورة إعطاء الأولوية للقضايا الوطنية على حساب القومية، وليس العكس. جدير بالإشارة هنا أن منبع ذلك التحالف الغريب بين الاسلاميين والعروبيين ليس منبعه وطنيا، أي أنه لا ينبع عن حاجات وضرورات في النضال منن أجل القضايا الوطنية الأساسية، في بعدها الاجتماعي والديمقراطي، بل انه يجد أساسه وشروطه الموضوعية الفوق وطنية في ذلك التناقض المأزقي التاريخي الذي تجتازه حركة التحرر في البلدان العربية المشرقية تحديدا، باعتباره مأزق القيادة الطبقية البرجوازية العربية لحركة التحرر الوطني، أو قل مأزق الإيديولوجية البرجوازية في شكليها التاريخيين الأساسيين (القومي و الإسلامي). لذا فان أي تقارب بين الاسلاميين وبين ما تبقى من "القوميين العرب" ببلادنا، هو امتداد/انعكاس لما يجري في الساحة العربية والإسلامية، وليس نابعا من ضرورات وطنية. بمعنى أكثر تدقيق، يمكننا القول أن القوميين والإسلاميين المغاربة يسعون لإسقاط قضايا -يسمونها قضايا مركزية تارة وقومية تارة أخرى- على الساحة الوطنية، بما يؤجل الخوض في طرح نقاش وطني حقيقي في قضايا الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والحداثة في أفق بناء دولة الحق والقانون. لا غرابة إذن أن ينهض رموز التيار الإسلام السياسي، ومعهم بعض القوميين، للتصدي لكل الحركات المدافعة عن الحريات والحقوق الفردية، ولا أدل على ما نقول هو ذلك الاندفاع الغوغائي للتنظيمات الشبابية المرتبطة بالأحزاب "الوطنية" والإسلامية، وهم يعلنون عن مواقفهم من قضية إقدام حركة "مالي" على الإفطار العلني. فبدل وضع ذلك الحدث بشكل عقلاني في سياقه الاجتماعي والتاريخي واستكشاف دلالاته بما هي تعبير عن تحولات عميقة تجري في رحم المجتمع المغربي، بدل ذلك سارع أولئك الإيديولوجيون وهم يتعالون عن الواقع الى رجم ونعت أعضاء حركة مالي بالخروج عن "الثوابت" وعن "الإجماع". كيف أمكن اليوم لحزب العدالة والتنمية، وهو الذي يعاني من تناقض مأزقي بين ممارساته السياسية وخلفياته الإيديولوجية الاسلاموية، أن يدعو كل الديمقراطيين إلى تشكيل جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية؟....ألا يستطبن شعار تشكيل جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية مغالطة، أو قل تضليلا، للرأي العام، وكأن الديمقراطية قد تحققت فعليا ببلادنا ولم يعد أمام الديمقراطيين من مهام سوى تحصين تلك "الديمقراطية" والانبراء للدفاع عنها من خلال خلق جبهة وطنية؟.... من أواليات العمل السياسي أن تقوم أية جهة سياسية محترمة، ترغب في رفع شعار خلق جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية، بتحديد مضمون تلك الديمقراطية حتى يتسنى لكل الأطراف السياسية الأخرى تحديد مواقفها، بشكل لا لبس فيه من ذلك الشعار..... أليس الخروج، في هذه المرحلة المتأزمة، بشعارات ملتبسة هي ضرورة تكتيكية، لهذا الحزب، للالتفاف على المأزق السياسي الذي أضحت توجد فيه تلك الجهة السياسية الداعية الى خلق جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية؟.... لم تمض سوى أيام معدودات على رفع حزب العدالة والتنمية لمثل هذا الشعار "الوطني الكبير" حتى جاءت مواقفه عكسية لادعاءاته من خلال موقفه الرجعي مما أقدمت عليه حركة مالي. شاءت الصدفة التاريخية أن تضع هذا الحزب، وهو يرفع شعار خلق جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية، أمام بروز مطالب ديمقراطية مجتمعية دفينة، من خلال انبثاق حركة "مالي" تدافع عن الحريات الفردية، من قبيل الحق في التعدد والاختلاف في الرأي والإقرار بالحريات الفردية، وهي قيم تشكل الأساس الفلسفي لمفهوم الديمقراطية. لقد جاءت مواقف هذا الحزب، ومعه بعض الأحزاب اليسارية ذات الميول القومي، سلبية من مطالب حركة "مالي" في إقرار ديمقراطية فعلية؛ لذا فان الشعار المرفوع لم يكن في حينه سوى استهلاكا إعلاميا اقتضته مناورات انتخابوية، وإلا فأين الحزب اليوم من شعاره "الوطني الكبير" بخصوص خلق جبهة للدفاع عن الديمقراطية..... وحدها الأحزاب الجماهيرية التي قد تنشأ في استقلال تام عن الدولة، وفي شروط تاريخية محددة، هي شروط التحرر والتقدم الاجتماعيين، ستكون لها القدرة على تغيير واقع الجماهير الشعبية؛ ووحدها ستكون مؤهلة، اجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا وتاريخيا، لرفع شعار تشكيل جبهة وطنية، ليس للدفاع عن الديمقراطية، بل للنضال من أجل تغيير ديمقراطي فعلي.....حين ستتحقق الديمقراطية الفعلية، حينذاك فقط يمكن للقوى الديمقراطية أن ترفع شعار تشكيل جبهة للدفاع عن الديمقراطية. أما الشعار الذي يطابق المرحلة الراهنة من تطور الصراع السياسي الوطني ببلادنا فهو النضال من أجل تحقيق الديمقراطية وليس الدفاع عن ديمقراطية لم يكتب لها التحقق بعد.... هل تتعايش الديمقراطية مع تكميم أفواه الصحافة المستقلة؟!.... هل تعني الديمقراطية استفراد أقلية محظوظة "آل الفاسي الفهري نموذجا" بكل مفاصل الدولة المغربية؟!... هل تعني الديمقراطية قمع المعطلين أمام البرلمان حيث يوجد "ممثلي الأمة" الذين يفترض فيهم حماية الحق في الاحتجاج السلمي والديمقراطي للمواطنين؟. إلى أن تنوجد أحزاب جماهيرية ديمقراطية، والى أن تعود بعض الأحزاب إلى ما كانت عليه من قوة اجتماعية ونفس تاريخي، مع أن شرط عودتها أن تأخذ بعين الاعتبار متغيرات الواقع المغربي وليس التمادي في إيديولوجيات فوق وطنية متهالكة ومرفوضة حتى في مواطنها الأصلية، الى ذلك الحين يبقى من واجب المثقفين والديمقراطيين الحقيقيين الانكباب على دراسة الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي الراهن ببلادنا بغية إعادة صياغة مشروع تقدمي ديمقراطي وطني قادر على الإجابة على متطلبات المرحلة الراهنة، في تأهيل الجماهير الكادحة وتنظيمها في جبهة مستقلة عريضة مرنة تضم كل التيارات السياسية والاجتماعية والثقافية، من شأنها منع انزلاق البلاد إلى متاهات ومخاطر مستقبلية، قد تنشأ جراء ذلك الفراغ الهائل الذي ما فتئت تكرسه الجماهير بعزوفها وبخيبة أملها في الأحزاب السياسية الراهنة التي أخذ منها الوهن والعجز مأخذا عظيما. قد يكون هذا الوهن وهذا العجز مبررا، من الناحية التاريخية، بحكم أن العالم اليوم يعيش عصر تفككات كبرى، لكن ما لا يمكن تبريره هو تقاعس الفاعلين عن التقاط متطلبات اللحظة الراهنة وعجزهم عن فعل شيء ما قبل فوات الأوان.
#علي_أوعسري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حركة -مالي- والحاجة الى حوار عقلاني حول الحريات الفردية
-
تصارع العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة وتداعياته على السا
...
-
التحالفات المشاعية مظهر من مظاهر التفسخ السياسي: في البدائل
...
-
من الانتقال الديمقراطي الى حركة لكل الديمقراطيين
-
مآل الانتقال الديمقراطي بعد استيفاء ضروراته السياسية وانتفاء
...
-
موازين وشهداء الفلكلور: في نقض الخلفية الثقافية لمنظمي مهرجا
...
-
ليس بتهميش الدكاترة يمكن الاطمئنان الى حال البحث العلمي في ا
...
-
في الحاجة الى حوار وطني شامل وليس الى مأسسة الحوار الاجتماعي
المزيد.....
-
الأردن.. ماذا نعلم عن مطلق النار في منطقة الرابية بعمّان؟
-
من هو الإسرائيلي الذي عثر عليه ميتا بالإمارات بجريمة؟
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
إصابة إسرائيلي جراء سقوط صواريخ من جنوب لبنان باتجاه الجليل
...
-
التغير المناخي.. اتفاق كوب 29 بين الإشادة وتحفظ الدول النامي
...
-
هل تناول السمك يحد فعلاً من طنين الأذن؟
-
مقتل مُسلح في إطلاق نار قرب سفارة إسرائيل في الأردن
-
إسرائيل تحذر مواطنيها من السفر إلى الإمارات بعد مقتل الحاخام
...
-
الأمن الأردني يكشف تفاصيل جديدة عن حادث إطلاق النار بالرابية
...
-
الصفدي: حادث الاعتداء على رجال الأمن العام في الرابية عمل إر
...
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|