|
منهج الطبري فى تاريخه ( تاريخ الرسل و الملوك )
أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن-العدد: 2794 - 2009 / 10 / 9 - 23:32
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
1 ـ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، عاش فيما بين" 224 : 310 هـ".
2 ـ وتاريخ الطبري هو عمدة التواريخ ، بدأه بالحديث عن خلق السماوات والأرض وبداية آدم وتاريخ الأنبياء والأمم السالفة إلى أن وصل إلى تاريخ العرب فى الجاهلية، ثم بدأ تاريخ الإسلام بالبعثة والسيرة النبوية إلى تاريخ الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين .أى إنه طبقا للعنوان تحدث عن تاريخ الأنبياء و الرسل ، وعن تاريخ الملوك من الخلفاء و السلاطين ، قبل وبعد نزول القرآن الكريم .، واستمر الى أن أصبح يؤرخ لعصره .
3 ـ واتبع الطبري المنهج الموضوعي فى تاريخه لعصور ما قبل الإسلام .. أي كان يبحث تاريخ الفرس مثلا من بدايته إلى نهايته ، ثم يؤرخ لموضوع آخر مثل تاريخ بنى إسرائيل من بدايته إلى نهايته . ثم إذا وصل إلى التاريخ الإسلامي اعتمد على المنهج الحولي أي يذكر الأحداث التى حدثت فى العام ، وبعد أن تنتهي أحداث العام يدخل فى العام التالي ، وذلك المنهج الحولي تتجمع فيه كل أحداث العام الواحد فى فصل واحد مهما اختلفت أماكنها وأبطالها . والطبرى هو أسبق المؤرخين العرب فى استعمال منهجى التاريخ ( الموضوعى )و( الحولى ) معا فى كتاب واحد ، وبالنسبة للتأريخ (الحولى) بالذات فهو فيه العمدة ، والمثل الأعلى بين من جاء بعده من المؤرخين . من جاء بعده من المؤرخين إختلفت مشاربهم ( المنهجية ) . منهم من اتبع التأريخ الحولى مقتفيا منهج الطبرى ، ولكن مع إختصار الروايات ( من حيث المتن ) واختيار ما يراه منها صحيحا ( من حيث الاسناد و العنعنة ) مثل ابن الأثير فى تاريخه ، وابن الجوزى فى المنتظم الذى تميز بالتركيز على الوفيات لكل عام ، بعد سرد أحداث العام ، مكتفيا برواية واحدة . ومنهم من جمع بين التاريخ الحولى والتاريخ الموضوعى معا فى نفس الموضوع كأن يؤرخ لموضوع معين كالخلافة العباسية أو تاريخ الأندلس أو شمال افريقيا (من ناحية الموضوع ) ولكن يتبع المنهج الحولى داخل هذا التأريخ الموضوعى ، ، أهمهم النويرى ( ت 733 ) فى موسوعته ( نهاية الأرب ) والتى خصص الأجزاء الأخيرة منها فى التاريخ ( من ج 22 : 31 ) حسبما نشرته دار الكتب المصرية محققا منها ،و ابن خلدون فى تاريخ ( العبر ) ومثل مؤرخى الآندلس ، والمؤرخين المصريين فى العصر المملوكى كالمقريزى فى ( السلوك ) وتلامذته من بعده الى ابن اياس المؤرخ المخضرم فى العصرين المملوكى و العثمانى ، ثم الجبرتى فى العصر العثمانى .
4 ـ ونعود الى الطبري . فقد نقل الروايات المتداولة فى عصره فيما يخص أخبار السابقين فى تاريخ الأمم السابقة وتاريخ المسلمين قبل عصره. واتسم هذا النقل بتعدد الروايات والعناية بالسند والعنعنة مثل ما كان سائدا فى علم الحديث أي يقول " حدثنا فلان عن فلان عن فلان ". وقد يأتي براويات مختلفة فى الحدث التاريخي الواحد ، ويترك للقارىء الباحث مهمة الفحص ونقد الروايات ، وقد أشار إلى ذلك فى مقدمة تاريخه .. والروايات التى نقلها الطبرى عن خلق العالم والأمم السابقة ، وخصوصا الفراعنة تمتلىء بالخرافات وفيها خطل كبير ، ولا يعيب هذا الطبرى فى شىء ،لأنه أوضح منهجه هو تدوين الروايات دون نقدها و التمييز بينها من حيث الصحة و الخطأ ، ولأن هذا النقل للروايات المتداولة فى عصر الطبرى يتيح لنا الحكم على ثقافة العصر وتصوراته وافكاره عن السابقين . أى إن هذه الروايات ـ مع كذبها ـ فهى صادقة فى رسم لوحة تاريخية لمعتقدات وثقافة الناس فى عصر الطبرى ، تلك الثقافة السمعية التى كان يغذيها ( القصاصون ) فى المساجد ، وتتحول خرافاتهم الى احاديث و روايات تاريخية . وكان الناس يتداولونها مصدقين لها ، ومعتقدين فيها لو ارتبطت بالدين وتاريخ الأنبياء . وكان سهلا منح تلك الأكاذيب (السند والعنعنة ) أى حدثنا فلان عن فلان . وهذا فى حد ذاته كان يعطى صدقية لأى كلام يقال ، مهما بلغت فجاجته وخرافته . والثعلبى فى ( قصص الأنبياء ) هو المثل الكلاسيكى على هذا النوع من التأريخ للماضين .
5 ـ وبسبب كثرة الروايات التى نقلها الطبرى فى التاريخ الإسلامي تضخمت الأحداث التى رواها عبر روايات متعددة ، ولكنه عندما وصل إلى التاريخ لنهاية العصر الذي يعيشه اختار طريق الإيجاز والاختصار ، ثم أنهى التاريخ حتى سنة 302 مع أنه مات سنة 310 ، وحرمنا من التأريخ للسنوات الثماني الباقية، كما حرمنا أيضا من تفصيلات كثيرة حدثت فى السنوات الأخيرة التى أرخ لها باختصار ، وخصوصا عندما تولى الخلافة العباسية المقتدر بالله سنة 295 ، حتى أنه مثلا ذكر التاريخ لسنة 300 هـ فى أقل من نصف صفحة ، وأرخ لكل من سنوات 297 ، 298 ، 299 فى أقل من صفحة .. والسنوات الأخرى فى حدود الصفحتين وأكثر .. هذا بينما نراه ينطلق فى التأريخ للقرون السابقة على سجيته، خصوصا فى السنوات التى امتلأت بالأحداث ، فعلى سبيل المثال استغرق فى تاريخه لسنة 132 هـ حوالي خمسين صفحة غطى فيها سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية خلال ذلك العام ، وفى سنة 251 كان الطبري شابا معاصرا للأحداث وكان ينقل من خلال المشاهدة والمعاينة وليس عن طريق الروايات والإسناد والعنعنة ، ومع ذلك استطرد فى رصد أحداث ذلك العام الذي شهد صراعات مختلفة فى داخل عاصمة الخلافة العباسية ومحاولات لخلع الخليفة المستعين وأسهب الطبري فى تسجيل أحداث هذا العام حتى ملأ حوالي سبعين صفحة .
6 ـ وهنا تسأول عن السبب الذي جعل الطبري يختصر فى تأريخه للسنوات الأخيرة فى خلافة المقتدر بالله وهو ـ أي الطبري ـ فى هذه الفترة كان يعيش مرحلة النضج الفكري والعطاء المتدفق ، وقد أصبح علما مشهورا مقصودا بالرحلة للتعلم وله جملة من الأتباع والتلاميذ يكتبون عنه وينشرون ما يكتب ! إن السنوات التى آثر الطبري اختصارها وهو يعيش أحداثها ـ تلك السنوات قد شهدت كثيرا من الحركات والتقلبات والصراعات ، وكنا نتمنى أن نرى شرحها وتفصيلها لدى الطبري عمدة المؤرخين ..ولكنه أمسك عن الخوض فى تفصيلاتها مع إنه كان شاهد عيان عليها . لذا نحاول معرفة السبب . فى تلك السنوات حدثت مؤامرة لعزل الخليفة المقتدر سنة 296 وفشلت المؤامرة بعد نجاح المتآمرين فى اعتقال المقتدر . وأسفرت المؤامرة عن مقتل ابن المعز الذي بايعه المتآمرون خليفة ، وقد ذكر السيوطى فى كتابه ( تاريخ الخلفاء ) أن الطبري حين ذكر له تلاميذه خبر تلك المؤامرة وعزل المقتدر وتولية ابن المعز فإنه تنبأ بفشل المؤامرة وعلل ذلك بأن كل واحد من المتآمرين " عالي الرتبة " و" الزمان مدبر والدنيا مولية " وصدقت توقعات الطبري ، فقد فشلت المؤامرة وعاد الخليفة الصبي " المقتدر بالله " وعادت أمه " السيدة " ـ وذلك لقبها ـ تمسك بزمام الأمور فكثر عزل الوزراء وتوليتهم مع شراء المناصب ومصادرة الأموال وتلك أعراض "الزمان " حين " يدبر" و"الدنيا " حين "تولى " ظهرها ، ولذلك لم يذكر الطبري نبوءته تلك فى تاريخه ، بل ذكر الأحداث مختصرة كأنه يكتب شيئا يكرهه ولا يريد حدوثه . ولعل الإجابة تكمن ليس فقط فى الظروف السياسية التى عاشها الطبري فى سنواته الأخيرة ولكن أيضا فى أثرها على حياته الشخصية . لقد تولى المقتدر الخلافة وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، أي كان أصغر من تولى الخلافة وتمت بيعته يوم الأحد 14 ذي القعدة 295 هـ وكان الطبري وقتها قد تجاوز عمره السبعين ، وأصبح أستاذ عصره فى التأريخ والتفسير والحديث ، وقد أراد الخليفة المقتدر أن يكتب كتاب وقف تكون شروطه متفقا عليها بين العلماء فقيل له : لا يقدر على عمل ذلك إلا محمد بن جرير الطبري ، فاستدعاه الخليفة وقربه إليه ، وبعد أن عمل للخليفة ما أراد سأله الخليفة حاجته فأبى الطبري أن يأخذ منه شيئا . وفى هذا دليل على مكانة الطبري الشخصية والعملية فى سنواته الأخيرة ، وحقيق بتلك المكانة أن تجعل صاحبها ينطلق فى التأريخ لعصره المتأخر فى حرية وتعمق وتأصيل .. إلا أن " التعمق " فى بحث السنوات الأخيرة يظهر السبب الحقيقي الذي اضطر معه الطبري للإيجاز ثم للكف نهائيا عن تسجيل الأحداث التاريخية للسنوات الثماني الباقية من عمره .. لقد اختل نظام الدولة العباسية فى تلك السنوات فى الفترة الأولى من خلافة المقتدر ويقول المؤرخ الذهبي " اختل النظام كثيرا فى أيام المقتدر لصغره " ومن الطبيعي أن يمسك الطبري قلمه عن تسجيل الكثير من أحداث زمن اعتبره " مدبرا " وتاريخ دنيا اعتبرها " مولية " تعطى الناس ظهرها . فى فترة الاضطراب هذه سيطر عوام الفقهاء الحنابلة على الشارع وتزعمهم ابن الجصاص وابن عرفة ، وغيرهم من المتشددين السّنيين ، ممن ليس لهم ذكر ولا مقدرة علمية ، وإن كانت لهم المهارة فى السيطرة على الغوغاء ، ومن الطبيعي أن يجد أولئك فى الطبري منافسا خطيرا حين قدم من طبرستان إلى بغداد ، وعاش فيها إماما فى التفسير و الحديث ، ولذلك اضطهدوه وكفّروه وطاردوه إلى أن اضطر للاختفاء فى بيته ، وقام رئيس الشرطة " نازوك " بحمايته . بل إنه حين مات حبيس داره ظلوا فى حصارهم له حتى منعوا دفنه نهارا .. ومؤلفات الطبري تدفع عنه تلك التهم بالزيغ عن السّنة ، وقد أنصفه اللاحقون خصوصا من أعلام المذهب الحنبلي السّنى مثل ابن الجوزى فى تاريخه " المنتظم " وابن كثير فى تاريخه " البداية والنهاية " وغيرهم ، وكلهم أجمعوا على انه كان من أئمة أهل السّنة علما وعملا .. ومن الطبيعي ـ والطبري محاصر فى بيته لا يستطيع الخروج منه ـ أن يعجز عن كتابة السنوات الأخيرة من تاريخه .. ومن الطبيعي أيضا وهو يحتاج لحماية الدولة العباسية أن يمسك قلمه عن نقدها مهما بلغ الخلل فيها ، ومهما بلغ تحكم السيدة أم المقتدر ( شغب ) فى أمور الدولة العباسية .. فكما قال الطبري " الزمان مدبر والدنيا مولية .."
7 ـ رحمه الله تعالى .
#أحمد_صبحى_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
( مصر فى القرآن الكريم ) : قبل أن تقرأ هذا الكتاب : مقدمة
-
وظيفة القضاء بين الاسلام والمسلمين ( المقال التاسع )انهيار
...
-
وظيفة القضاء بين الاسلام و المسلمين ( المقال الثامن )، جار
...
-
وظيفة القضاء بين الاسلام و المسلمين ( المقال السابع )منصب
...
-
وظيفة القضاء بين الاسلام و المسلمين (6 ) منصب القضاء ونزوا
...
-
وظيفة القضاء بين الاسلام و المسلمين ( المقال الخامس )القضا
...
-
وظيفة القضاء بين الاسلام و المسلمين ( المقال الرابع ) ضمير
...
-
وظيفة القضاء بين الاسلام و المسلمين ( المقال الثالث ) التش
...
-
وظيفة القضاء بين الاسلام و المسلمين ( المقال الثانى )القضا
...
-
سؤال واحد أخير للشيخ القرضاوى : ألا تخجل من نفسك وشيبتك ؟
-
المسكين والهلاك القادم للمترفين المسلمين:
-
رسالة الى الأحبة ( 25 )
-
بيان من المركز العالمى للقرآن الكريم : تفعيلا لتوصيات المصال
...
-
وظيفة القضاء بين الاسلام والمسلمين : ( المقال الأول) التنا
...
-
رمضان بين سطور التاريخ (15 ) رمضان فى القاهرة الفاطمية
-
خرافات الدين الأرضى (7 ) المطالب وأشياء أخرى
-
( 7 ) مصطلحات قرآنية خاصة في سورة يوسف تأملات في قصة يوسف ف
...
-
(مدرسة الإمام محمد عبده بين مصر وتونس) ( 3 / 3 )
-
(مدرسة الإمام محمد عبده بين مصر وتونس) ( 2 / 3 )
-
بسبب هذا الخطاب فى ندوة فى الكونجرس الأمريكى : عملاء السعودي
...
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|