صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 849 - 2004 / 5 / 30 - 09:28
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
اتصلت احدى صديقاتنا المتابعات لاخبار الوطن لتسألني: ومن هم هؤلاء "التكنوقراط"؟
شرحت لها معنى الكلمة القاموسي, لكن الكلمة ظلت ترن في رأسي. لدي حساسية من الكلمات الكبيرة وبيننا عدم ثقة قديم, بل قل عدم احترام متبادل. فاشاكسها واراجع معانيها واقلبها وغالبا ما اجدها فارغة, فنترك بعضنا وقد زاد الجفاء بيننا.
الوزراء اذن يجب ان يكونوا ذوي اختصاص. فوزير الكهرباء يجب ان يكون مهندسا في الكهرباء ووزير الزراعة لا يقل عن بكالوريوس في الزراعة, ويفضل اعلى من ذلك...الخ. كل شئ يبدو منطقيا اليس كذلك؟ ليس بهذه البساطة!
علمني احد اصدقائي مشكورا في يوم ما ان وزير الدفاع لايجب ان يكون عسكريا, بل ويفضل ان يكون مدنيا من اجل حماية الديمقراطية التي لا تحب رائحة البدلات العسكرية, قلت نعم, ولكن كيف يرأس الجيش من لا خبرة له بالجيش؟ قال ان عمل الوزير اداري وليس تكنيكي. فليس من الضروري ان يقود الوزير بل ولايجب ان يقود عمليات عسكرية. كيف لم انتبه لذلك سابقا؟ وهل ينطبق هذا على بقية الوزارات؟ حتى الهندسية منها؟ الكهرباء مثلا؟
بلا شك! لم يجب ان يكون الوزير مهندس كهرباء؟ هل تتصور مثلا مديرا عاما سيتصل بوزير ليسأله كيف يجب اصلاح دائرة ترانسستور في محطة لتوليد الطاقة الكهربائية؟ ام تتخيله يسأله ان كان التيار المستمر ام المتذبذب احادي الطور او الثري فيس اوفر لنقل الطاقة؟ الوزير شخص اداري له مستشاريين تقنيين في جميع الفروع, يستمع لتوجيهاتهم ولا يتدخل في التفاصيل. فقرارات الوزير ستراتيجية سياسية تستند الى استشارة فريق علمي او تكنولوجي اضافة الى اشياء اخرى كثيرة.
اليست "حكومة التكنوقراط" عبارة فارغة اذن؟
الحقيقة ان حساسيتي وعدائي ضد الكلمات الكبيرة ينتقل بالعدوى الى كل الكلمات التي تأتي معها. فعدم الثقة بفلان من الناس يثير عدم الثقة مع كل من يسير معه. لذلك رحت اراجع معاني الكلمات التي ترافق "التكنوقراطية" هذه الايام بحثا عن كلمات اخرى فارغة, او اخذت معان مزيفة. لم اعد خالي اليدين...انظروا الى عبارة "حل وسط" هنا:
المتحدث الرسمي باسم مجلس الحكم العراقي حميد الكفائي تحدث عن دراسة "حل وسط" للخلاف بين المجلس والاخضر حول عقد مجلس وطني عراقي وموعده ومهماته. ويبدوا اننا يجب ان نجد "حل وسط" لان حقوق الطرفين في تقرير مستقبل العراق متساوية بشكل ما!
ثم ما دام الغرام ب "التكنوقراط" قد صحا فجأة لدى بريمر او الاخضر او اخر لا نعرفه, وما دمنا مضطرين لايجاد حل وسط بيننا وبينه لشكل الحكم, لم لا نطلب من كل ممثل في المجلس ان يقدم لنا "تكنوقراطيا" من جماعته, لتكون الحكومة "التكنوقراطية" الجديدة ممثلة لفئات الشعب في نفس الوقت؟ ام ان ليس بين الاسلاميين طبيب او الشيوعيين مهندس او الاكراد خريج زراعة؟
واستمر بالصيد: السفير احمد فوزي الناطق الرسمي باسم الابراهيمي في تصريح ل "ايلاف" قال ان الحكومة ستضم وزراء يتمتعون "بالكفاءة والنزاهة" اللذين سيكونان "المعيار الرئيس" لاختيارهم.
"الكفاءة والنزاهة" كلمتين جميلتين لمعنيين جميلين لكنهما عرجاوان هنا! فان كان هناك شئ لايصلح مقياسا فهو "الكفاءة" و "النزاهة" لان مقياس الكفاءة والنزاهة لم يخترع بعد. لنتخيل ان لجنة "نزاهة وكفاءة" تشكلت لاختيار كل وزير, ثم تقدم بضعة عشرات من الالوف من "التكنوقراطيين" طلبا للتعيين كوزير في اختصاصه. ستتخلص لجنة "النزاهة والكفاءة" بعد جهد جهيد من الف من هؤلاء يمكن اثبات عدم نزاهتهم. وماذا نفعل بالباقي؟ كل ما لدينا من ادوات هو "اشاعات" واراء شخصية يستحيل التحقق منها.
"النزاهة والكفاءة" مقياس مطاط يتيح لصاحب الامر ان يضع من يريد حيث يريد دون ان يبدو دكتاتورا ودون( ان ) يعترض احد.
"النزاهة والكفاءة كمقياس" كلمات فارغة ..اليس كذلك؟... لنستمر...
عضو مجلس الحكم العراقي الانتقالي الدكتوره سلامه الخفاجي كشفت في تصريح لوكالة الانباء السعودية أن مشاورات مجلس الحكم مع ممثل الامين العام للامم المتحدة الاخضر الابراهيمي على مدى الاسابيع الاربعة الماضية ركزت على ضرورة ان تكون الحكومة المؤقتة "بعيدة عن المحاصصة الطائفية والاثنية والحزبية".
انتبه اولا الى ان "المحاصصة" استعملت هنا كشتيمة! ولو اننا استعملنا بدلها عبارة "التوزيع" (الذي يفترض ان يكون عادلا) التي لا تختلف عنها في المعنى, لاصبحت العبارة: "بعيدة عن التوزيع العادل بين الطوائف والقوميات والاحزاب السياسية". عبارة اسوأ من فارغة اليس كذك؟
لكن لنستبدل هذه الروح العدائية المترصدة لكل كلمة بروح اكثر ايجابية ولنقل ان الدكتورة سلامة الخفاجي كانت تقصد ان الوزارات يجب ان توزع على اسس افضل واقرب ما تكون الى الديمقراطية, الى ان نحقق كل الديمقراطية.
فالمحاصصة سيئة باعتبارها تقاسم للسلطة بين المجاميع المختلفة وليس اشتراك فيها. لكن المشاركة لاتنبع الا من الثقة بان الاخر لن يسرق حصتي. فهل الثقة موجودة بين اطياف الشعب العراقي؟ لا بالطبع. ان تأريخ الاضطهاد اكل ما قد كان من الثقة, والى ان نبنيها من جديد فعلينا ان لا نخدع انفسنا. فان كانت ازمة الثقة تمنع المشاركة فليس امامنا غير المحاصصة الى ان تنقذنا الديمقراطية المباشرة منها, ونرجو( ا) ان تتمكن من ذلك. ان القفز الى رفض المحاصصة قبل ان يكون لنا بديل افضل, يعرضنا الى اختيار ما هو اسوأ.
لاحظ ايضا جمع "الحزبية" مع كلمتين لا يجمعها معها شئ: الطائفية والاثنية. فالحزبية تعود الى الاختيار الفكري للمواطن, ولاعلاقة لها بالوراثة التي تتحكم بالكلمتين الاخريين.
وبالاستعاضة, تصبح عبارة: "بعيدة عن المحاصصة الطائفية والاثنية والحزبية", تصبح " بعيدة عن المحاصصة الطائفية والاثنية والاختيار الفكري للمواطن"
عبارة خطيرة, وفي احسن الاحوال فارغة..الست معي؟
هل انتهينا؟ تعالوا ننظر "بين السطور" ايضا لعلنا نجد ولو ارنبا.
القراءة بين السطور هي محاولة فهم ما يريد كاتبي تلك السطور او قائليها مما لم يذكروه. فمن يريد اصحاب الامر يا ترى لحكم العراق؟ لن يكون ذلك رمزا طائفيا ولا اثنيا ولا سياسيا فمن سيكون؟ لربما كان "المستقل". ولم لا؟ اليس المستقلون اكثرية ساحقة؟ الا يفترض في الديمقراطية ان تكون الحكومة ممثلة للاغلبية؟ كلام فارغ!
ف"المستقل" كلمة دبلوماسية لمن "لا نعرف عن ارائهم شيئا". هم لم يقولوا اراءهم السياسية او لم تتح لهم الفرصة لذلك او اننا لا نعرف ما قالوا. هؤلاء لا يجمعهم جامع. ولا يمثل المستقل المستقلين مثلما يمثل الشيوعي الشيوعيين. في الانتخابات يمكن للمستقلين ان يقولوا رأيهم, وقد ينتخبوا مستقلا او غيره, اما قبلها فلا علاقة بين المستقل وغيره من المستقلين. فالمستقل لا يمثل الا نفسه! ومع احترامي للمستقلين (وانا منهم) فليس لهم اية ميزة على من تمكنوا من تنظيم انفسهم في احزاب سياسية.
من كل هذا نجد ان الخطة العامة لاختيار حكومة العراق القادمة تتلخص بما يلي: اختيار احد ممن لا يمثلون الا انفسهم و لانعرف عن موقفهم السياسي شئ وسنستخدم الاشاعات والاراء الشخصية لاختيار حكومتنا بعيدا عن انتساب المواطن او اختياره الفكري.
الحكومة الجديدة لا تبدو جميلة اليس كذلك؟....لكننا سنختار لها بالطبع اسما براقا....ما رايكم ب "تكنوقراط"؟
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟