|
قراءة نقدية في رواية -قدس الأقداس
علم الدين عبد اللطيف
الحوار المتمدن-العدد: 849 - 2004 / 5 / 30 - 09:24
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
العمل : قدس الأقداس (رواية) المؤلف : شاهر أحمد نصر الناقد: علم الدين عبد اللطيف
" قدس الأقداس".. للكاتب شاهر أحمد نصر.. رواية جديرة بالاهتمام.. نظراً لاحتوائها جملة من العناصر البنائية المستحدثة التي تنهض بالنص الروائي ، مكونة أنساقاً مميزة على مستوى السرد والبناء .. الرواية تندرج في إطار الأعمال ذات النزعة الإنسانية الواقعية. وبمنهجية الواقعية النقدية .. حيث الثقة بالإنسان .. ومقاربة وجوده كقيمة .. والتركيز على الموضوعات كما هي في حقيقتها الثابتة . هي الهم الأساس للإفلات والخلاص من الوجود الصلب للحياة .. .. وإذا كانت الحياة جديرة بأن تعاش كما يقرر الكاتب .. فإننا نجده أيضاً يشي عبر شخصياته .. أن الحياة نفسها يمكن أن تهز الوجود كيقين في مقارباتها المختلفة . وقد يكون الإنسان انقطاع كما هو استمرار .. وقد لا يستطيع الإفلات من دائرة نفسه .. ومن العبث إثبات عكس ذلك .. وقد نصل مع الكاتب إلى موضوع " ضد الرواية" التي قال بها سارتر .. وبموجب ذلك يتم التنكر للمروي بواسطة الرواية نفسها.. وتهدمه على مرأى منا .. في الوقت الذي يبدو لنا أنها تبنيه .. لكنها تكتب الرواية عن رواية تستحيل أن تكون .. وإن كانت تستحق .. الإشارة هنا إلى ذاكرة الجيل السابق .. إنها نتاج لحظات يتم فيها إعادة توليف للحياة .. وتركيب يماهي الدفاع عنها في لحظات تمزقها .. ثم العودة إلى مقولات الروح باتكائها على الأسطورة "لكن النرفانا تخلص من العذاب .. فهي السكينة لا يشوبها سخط ولا تذمر.." ... هذه النرفانا هي بمواجهة .. " ريح ، ريح تكنس الذرى .. والأفق أبعد من المدى، غيوم سوداء تلهث راكضة تبحث عن الأفق.. ودموع حائرة تنهمر باستمرار.." .. هذا الفضاء الروائي .. وإن بدا متشظياً ... فإنه لا ينفلت من رقابة الكاتب .. إذ ينهض به سارد يتوزع في تقنيات مختلفة.. فيبدو النص ليس شكلاً مجتزءاً للحياة .. أو مرتجلاً.. بل شكل من أشكال الحقيقة المتحولة .. غير العابئة بسيطرة العقل الآسر .. فنرى الكاتب يكتب أحياناً بانزياح عما يتحدث.. ويتحدث أحياناً مفارقاً ما يفكر.. ويفكر على عكس ما ينبغي له .. وهو نوع من النصوص المفتوحة.. ذات التوليف المدروس.. تبرز فيه الشخصية ليس باعتبارها مجرد أداة حاملة للحالة أو الموقف.. وتتماهى مع " النحن " ـ الآخرين ـ فنلحظها في ذواتنا .. كتأكيد على التداخل والاندماج للعقل .. الشخصية الساردة في الرواية تقوم بعملية "مناجاة" مستمرة .. ويتوزع النسيج الروائي بموجبها في جملة من الأنساق المتحكمة بتحولات النص .. فيلامس الشك اليقين .. وتدور ثوابت المقول المفترض حول محور الضبط .. ليس كمتلازمات تكمل بعضها .. بل كمتغايرات تعطي القيمة لبعضها بحكم التغاير.. وهي ليست "مناجاة " هامسة .. بل قوية .. وأحياناً نزقة .. وقليلاً ما تلجأ إلى التوصيف العاطفي .. بل تضعفنا أمام مجرى التفكير .. أو جريان الوعي الذي يقيم صراعه في داخل جواني .. وتمكننا من مشاهدة جدل التداخل في وعي الشخصية.. أو في نصف وعيها.. من حيث تقديم نمط من العلائق كصورة مصغرة للعالم الواقعي.. وتقارب التأريخ والسيرة الذاتية عبر وقائع محددة وموصّفة .. بغرض إثارة أسئلة الثقافة والسياسة والتاريخ.. وذلك من خلال تداعيات التوثب والطموح.. والحقد والتسامح.. " كظم من لا يقهر غيظه وتحني الفرصة للثأر.." وإذا كانت المناجاة هي خطاب داخل الخطاب الآخر المتمثل بالسرد.. فإن الأول يميل إلى الداخل .. والثاني إلى الخارج .. لكنهما يتضايفان لإضافة بعد متغير باستمرار للحدث وللسرد ذاته .. بعد يفترض تشخيص الخطاب العام الروائي.. "كيف السبيل إليها وهي من أسرة محافظة كتومة.. منضبطة.. يعمل والدها في نقل الركاب مستخدماً سيارته القديمة لكسب قوة يومه.." ...فتضاف جملة المناجاة "كيف السبيل" إلى السرد التفكيري "يعمل والدها في نقل الركاب.."... وأيضاً "مؤتمرات.. اجتماعات.. لقاءات.. كلمات تجتر.. آلهة تنصب.. فراغ.. خواء... رياء.." ثم يتلو ذلك حوار مع "الأنتم" المخاطب.. "أهنئكم أيها الرفيق العام.." وقد يكون حضور الشخصية الراوية غائماً ... ومتعرجاً أحياناً.. ويحل محلها استحضارات تكون ظلالاً لها.. لكن الشخصية الساردة تبقى متخيلة في الوعي.. وقائمة في أصل البنيان الروائي من خلال نظام الوعي.. "انتظار.. ترقب فانتظار.. ولادة فأمل..".. وتقوم المناجاة هنا.. وتحت رقابة الوعي.. بمفارقة السرد في كتابة متزامنة مع لحظتها.. وتتخذ موقفاً تحكم من خلاله بصدق الكلمة المحكية كنشوء لحظي مستقل.. "من أنا؟.. أين أنا؟.. هل أنا على الكرة الأرضية؟... أم معلق بين السماء والطارق؟.. أين أنت يا مايكوفسكي؟.. وهل حقاً أنا هنا الآن؟.. أم الحياة مجرد حلم؟.. متى ينتهي هذا الحلم الطويل؟.. أجل إنه حلم.. يا رب فليكن حلماً..". إنه هجس النفس لذاتها.. خطاب جواني حميم.. يندّس داخل اللغة المشتركة بين السارد والشخصية.. ويمثل توافق المؤلف والسارد في عملية البوح.. إن التقطيع والإنطاق .. والأنسنة تقدم مظهراً من مظاهر الجغرافيا.. لكنها ليست هي.. إنها تفيض عن الجغرافيا.. تمتد وترتفع.. وتنخفض.."ينقطع شريط الذاكرة مع توارد صور الأزقة مرصوفة بالحجارة.. تدخلها من أبواب مختلفة... بعضها تزينه أقواس حجرية.. وتؤدي جميعها إلى مسجد كبير كبير.. تعلوه قبة بديعة الجمال.. أين رأى تلك الأزقة.. ؟".. وأيضاً .."لسبب ما خرجت من البيت.. اجتزت الأزقة والحارات. وخرجت من أحد الأبواب.. من باب الساهرة.. أو من باب ستنا مريم.. وتهت في الأودية..".. .. إنه المظهر المتحول للمكان.. وهو من مظاهر الفراغ والامتلاء.. والتقلص والامتداد.. إنه نشاط المكان المستولد من نشاط النجوى أساساً. .. النص ينهض في أربعة أشكال للضمائر تقدم الشخصيات: ـ 1 ـ شخصيات تقدم ذاتها "أنا من قال عنه محمود دويش.. إنني مندوب جرح لا يساوم.." و"أنني روح شهيد حصدني رصاص وجنازير دبابات الوحوش بعد خروجي من مدينتي المقدسة.." ـ2 ـ شخصيات تقدمها شخصيات أخرى.. "إنه حسان وابنة خالته سوسنة.. أخت صديقتي رؤى.." ـ3 ـ شخصيات يقدمها سارد.. "هيام أحبته.. كانت تصغره سناً.." ـ 4 ـ شخصية تقدم السارد "كل يرى الأمر من زاوية ووجهة نظر تختلف عن الآخرين.. وفي زمن آخر يرى نفس الشخص خلافاً ما يراه الآن.." لكن هنا تكون الشخصية موضوعاً لبحث النص.. ولا تستطيع وحدها أن تهتم بذاتها دون محايثة السارد أو الشخصيات الأخرى. تنهض هذه الضمائر من خلال اللغة المكونة للخطاب السردي ..إن في حوار يفترض إقامة علاقة خطابية مع طرف آخر.. أو عبر المناجاة المهتمة أبداً بالحوار الداخلي.. وعندما يستلزم البناء النصي.. فصل "الأنا" السارد عن "الأنا" الكاتب يقوم ضمير الغياب "الـ هو" بمهمة السرد على مسؤوليته.. ويكتسب مصداقية من شخصيته.. لكن "الهو" قد يعني "الأنا" أو "الـ أنت" .. فأنا ربّما كان هو.. وهو أنت.. وذلك للتحكم ببداية ونهاية للجملة الإبداعية بحضور "الأنا " الكلية للكاتب.. فيجعل من السرد رواية ومن الرواية سرداً.. في محاولة لتكوين عالم إبداعي مواز للواقع والحياة.. .. وإذا كان ضمير الغياب هو الأكثر حضوراً في النص.. فإن ضمير المتكلم يبرز أحياناً لإذابة الفروق الزمنية والسردية بين السارد والشخصية الأخرى.. ويفترض المحايثة الزمنية الدائمة بافتراض تحقق المشاهدة في الزمن المضارع التام. ..لكنه قد يجعل الحكاية السردية أكثر التصاقاً بالمؤلف "أسرت عينه الصورة المنحوتة على سطح البدر.. يا رب أعد لي أخي..".. هنا يقارب المؤلف شخصيات الرواية بالنسبة للمتلقي.. ويميل على ذاته بفعل المرجعية الجوانية "المناجاة" التي تعري الذات في عملية أشبه ما تكون بالرؤية المتصاحبة مع الأنا السارد، الشاهد.. لكنه يبقى أقل روائية من ضمير الغياب .. أما ضمير المتكلم فيبقى وسيطاً بين "الـ هو" والأنا .. ولا يميل إلى خارج قطعاً.. ولا إلى داخل حتماً. متوزعاً في الغياب المتسجد بالـ هو.. والحضور المشهدي في المتكلم.. لكنه يتيح حل بعض المشاكل النفسية.. وربما النرجسية المتمثلة بالأنا.. ففي أنت .. خلاص للأنا وإن كان بلعبة تقنية وظيفتها الأساسية هي السرد.. لكنه لا يحمل إضافة دلالية حقيقية.. لأن السارد في الأصل يقدم وعي ذاته.. "كيف ستتصرف؟.. أين ستجد عملاً في هذه الظروف الصعبة؟.. سأسعى في اتجاهين.." ولابد أخيراً من الوقوف مع موضوع السيرة الذاتية.. فإذا كانت هذه تستلزم اندماج المؤلف مع السارد إلى درجة يصعب معها التمييز بينهما.. فإن التفرقة الوحيدة تقوم في النص باصطناع التخييل.. أو التخييل غير الواقعي بواسطة السارد الذي يتوجب عليه أن يصدق دائماً ما يسرد.. في حين أن ذلك ليس مفروضاً على المؤلف.. ومن هنا نستطيع فهم لعبة تذكر القدس كمدينة.. أو مكان تشيؤ شخصية السارد.. وموقف الكاتب لا يعدو كونه تحولاً مقصوداً له وظيفته السردية فقط.. بحيث يبقى الموقف في غائيته لا في سرديته ويقوم بمهمة تجميلية بالنسبة للسارد.. تنزاح عن التفاصيل التي ينهض بها السارد.. وتكون عرضية بالنسبة للمؤلف.. "الريس رجل شهم.. تربى على الإباء".. وإذا كان من المهم التفصيل أكثر في مسألة السيرة الذاتية في الرواية.. فإن الأمر يبدو في ظاهره وكأن النص يبتعد في التخييل أكثر مما تتحمله موضوعة السيرة الذاتية .. خصوصاً في مسألة استحضار مدينة القدس كمكان تستحيل معه الكلام عن السيرة الذاتية.. لاستحالة تصور وجود المؤلف في هكذا مكان ـ وهو الطرف المعني بالسيرة الذاتية ـ لأسباب تتعلق بالآن والإمكان.. إلا أن هذا الموضوع في أساسه يجب أن ينظر إليه في غائيته وليس فقط كإمكان لدى السارد.. وإن مسألة الابتعاد في التخييل لدى السارد أو عن طريقه، لا تنفي غائية المؤلف.. ويمكن اعتبار تخيل السارد ليس أكثر من معطى تقني يضاف إلى تقنيات البناء الأخرى ويكملها.. وخاصة منها المناجاة التي لا يتصور حضورها بهذا الحجم في نص غير معني بالسيرة الذاتية.. إضافة إلى ذلك كله وجود مقاطع شعرية وشبه شعرية.. لا ترتد على السارد... ولا يمكن أن تعزى إلى غير المؤلف.. وحتى في سجال طرح الرؤى والأفكار.. فإن المؤلف يبدو حاضراً بقوة.. يوصف ويعمم.. ويؤرخ.. كما في "فصول الجنون" وهو بكامله تقريباً.. من هجس ذات المؤلف.. وتنزع مقولات الرؤية باتجاه التركيز على تفاصيل الشعور.. والموازنة.. والتقييم.. وإعلان أحكام القيمة. و"الاسكندر" اسم مختار بدقة.. بحيث أن السارد المفترض لا يكون متجاوزاً منطق الأمور العقلية مهما أوغل في التوصيف.. أو حمل أنواع القيم.. باعتباره حفيد الفاتح العظيم وباني الإسكندرية.. وفي ذلك هروب من خطر تهمة النرجسية التي يمكن أن تعزى إلى مؤلف يختفي عبر ساترة ضمير "الأنا".. أما مسألة المكان فلا تعدو كونها تناصاً توثيقياً.. وقد يبدو مقحماً.. الهدف منه متابعة التخيل السردي في مستوياته المفتوحة .. فوصف مدينة القدس وشوارعها والمسجد الأقصى.. وإن كان يفترض المشاهدة الحقيقية.. إلا أن تحميل كل ذلك إلى السارد يبدو طبيعياً.. وتعطي انطباعاً مباشراً باللجوء إلى المراجع المختصة التوثيقية بالنسبة للمؤلف.. الذي يبدو أحياناً إنه لا يصدق سارده.. "والقدس.. أين القدس في كل ذلك؟ سأل الاسكندر؟؟".. "لا تضحك الناس على سذاجتك.. أجاب الفيومي..".. ويبدو أيضاً أن عدم هروب الكاتب من جملة تفصيلات تنطبق على صحيح حياته وعلاقاته، يشي بعدم رفض موضوع السيرة الذاتية حتى بالنسبة للكاتب نفسه.. وفي مستويات الانطباع المباشر لدى المتلقي.. قدس الأقداس .. رؤية تمجد الحياة التي تستحق أن تعاش.. بتمجيدها للإنسان وهو يدير صراعاً مع الحياة...
طرطوس 23 / 5 / 2004 علم الدين عبد اللطيف
#علم_الدين_عبد_اللطيف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بالصور..هكذا يبدو حفل زفاف سعودي من منظور -عين الطائر-
-
فيديو يرصد السرعة الفائقة لحظة ضرب صاروخ MIRV الروسي بأوكران
...
-
مسؤول يكشف المقابل الروسي المقدّم لكوريا الشمالية لإرسال جنو
...
-
دعوى قضائية ضد الروائي كمال داود.. ماذا جاء فيها؟
-
البنتاغون: مركبة صينية متعددة الاستخدام تثير القلق
-
ماذا قدمت روسيا لكوريا الشمالية مقابل انخراطها في القتال ضد
...
-
بوتين يحيّد القيادة البريطانية بصاروخه الجديد
-
مصر.. إصابة العشرات بحادث سير
-
مراسل RT: غارات عنيفة تستهدف مدينة صور في جنوب لبنان (فيديو)
...
-
الإمارات.. اكتشاف نص سري مخفي تحت طبقة زخرفية ذهيبة في -المص
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|