|
آليات سلطة الاستبداد وشرعية دولة القانون
صاحب الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 849 - 2004 / 5 / 30 - 09:45
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هناك سلطتان أساسيتان تتحكمان في سلوك المجتمع هما السلطة الدينية التي تفرض نفسها على المجتمع من خلال التعاليم اللاهوتية والأخلاقية فتضبط سلوك الناس بثنائية الخير والشر، والجنة والنار... والسلطة الدنيوية فهي سلطة الدولة التي تفرض أعرافها وقوانينها للتحكم بسلوك المجتمع من خلال استخدام آلية العنف (الشرطة؛ والجيش؛ والمخابرات؛ والأمن..) فمن يخرج عن الأعراف والقوانين الوضعية التي أقرتها الدولة يستحق العقاب ويزج في السجون والمعتقلات..وبغض النظر عن شكل الدولة. وتختلف آلية استخدام (العنف) في الدول المتقدمة عنها في دول العالم النامي، فالأولى تستخدم العنف بغرض الإصلاح والمحافظة على أمن المجتمع ولذلك استخدام العنف له حدود لا يمكن تجاوزها من قبل الشرطة وأجهزة العنف الأخرى في الدولة لأن سلطات الدولة الأخرى (التشريعية والقضائية) تتمتع بصلاحيات أكبر في الدولة من السلطة التنفيذية، وبالتالي فأنها تتحكم بآلية العنف وحجمه عند حدوث انفلات أمني ما ( أو سلوك شاذ لمجموعة من الناس) ضد الدولة وممتلكات المجتمع. وقد اعتمدت السويد آلية جديدة للتحكم بحجم العنف الذي قد تمارسه الشرطة ضد المشاركين في مسيرات الاحتجاج والتظاهر خاصة الشبابية منها، وذلك من خلال مرافقة المتظاهرين عدد من المناهضين لأعمال العنف وأشخاص من العاملين في وزارة العدل لمراقبة أداء الشرطة وانتزاع مبررات العنف والعنف المضاد. إما في دول العالم النامي، فنجد أن السلطة التنفيذية بكل أجهزتها القمعية هي التي تفرض سطوتها على أجهزة الدولة (ومنها السلطة التشريعية والقضائية) وبالتالي على المجتمع. وعلى العموم فأن عمل الشرطة والأجهزة القمعية الأخرى في كل دول العالم، ينحسر في القمع وبغض النظر عن شكل هذا القمع. ويعتقد ((جان جينه)) أن الشرطة لن يكونوا بشراً على الإطلاق، وفي اليوم الذي سيكونون فيه بشراً عليهم التخلي عن وظائفهم في الشرطة. وفي هذا الإطار فأن الدول الأكثر تحضراً تتقلص لديها حجم أجهزة القمع إلى الحدود الدنيا، كون شعوبها اكتسبت الكثير من الأعراف والثقافة لاحترام القانون من خلال الإطلاع على حقوقها وواجباتها تجاه الدولة. إما الشعوب في العالم النامي التي تعاني الأمية والفقر والجوع والأنظمة القمعية، فتزداد حاجتها لأجهزة القمع بغية المحافظة على السلطة السياسية وإلزام المواطن بالقوانين والأعراف (القرقوشية) التي يصدرها الحاكم. وبشكل عام، فأن المجتمع الذي يعاني من الجهل والفقر والأمية تزداد فيه نسب الجريمة والقتل والسرقة وانتهاك القانون، فكلما كانت الأجهزة القمعية قوية وصارمة كلما كانت السلطة قوية ومستقرة وهذا بالنتيجة ينعكس على أمن المواطن واستقراره. ويعتقد ((جون أدمن)) لو رجعنا إلى أية صفحة من صفحات التاريخ، لوجدنا الأدلة الواضحة على أن الشعب حين يترك دون زاجر أو رادع يصبح شعباً ظالماً مستبداً ووحشياً وبربرياً. فآليات العنف وأجهزة القمع التي يستخدمها الحاكم المستبد ضد شعبه من أجل المحافظة على سلطته، تفقد (مع الزمن) فعاليتها نتيجة الاستخدام المفرط للقوة التي تعمل على خلق حالة من الانفجار الاجتماعي يصعب السيطرة عليه، وبالتالي يفرز ردود الفعل العكسية (العنف المضاد) الذي يأخذ في أغلب الأحيان أوجه وأشكال متعددة من الانتقام الجماعي لأعوان النظام المستبد..كما حدث في العراق!!. لذا نجد الحاكم المستبد يلجأ لأسلوب أخر موازياً للعنف، هو العمل على تجهيل وتخلف المجتمع ودفع المواطن أكثر نحو الاعتقاد بالقدر والخرافات اللاهوتية من أجل إيهام المواطن بأن ما يجري من عنف من قبل سلطة غاشمة ضده هو (مشيئة ربانية) نتيجة السلوك الشائن والمنحرف والمنافي لتعاليم الدين من قبل المجتمع..لذا أرسل الله منِّ يعاقبهم في الدنيا قبل الآخرة لعلهم يتذكرون!!. وهذا الاعتقاد يجعل الغالبية من الناس تتجه نحو القدرية والتعاليم اللاهوتية نتيجة الخوف والشعور باليأس والترفع عن المطالب الدنيوية وشؤون السلطة والتفرغ للعبادة وطلب المغفرة من الله عن الذنوب (المفترضة) التي أوهمت السلطة المستبدة بها الناس من خلال بعض رجال الدين المتعاونين معها!!. ويجد ((عبد الرحمن الكواكبي)) المستبد من يقود إلى العلوم التي تجنب الشأن الإنساني، فهو لا يخشى من العلوم الدينية المتعلقة بالميعاد (ما بين الله وعباده) لاعتقاده أنها لا ترفع غشاوة ولا تزيل غباوة. وبالمقابل ترتعد فرائض المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية ونحو ذلك من العلوم التي تُكبر النفوس وتوسع العقل وتُعرف الإنسان ما هي حقوقه؟ وكيف المنوال؟ وكيف الحفظ؟. يبقى أن نشير إلى عامل أخر يساهم في استخدام العنف المفرط وتجهيل المواطن من قبل السلطة المستبدة، هو الحروب المتعددة التي تمر على شعب ما. فالحروب المتكررة خاصة الخاسرة منها (التي يدفع ثمنها الباهض المجتمع) تقود السلطة المستبدة نحو استخدام العنف المفرط ضد الرافضين لحروبها حفاظاً على سلطتها من الانهيار. وكلما ارتفعت الخسائر البشرية في الحروب، كلما فقد المواطن الثقة بالنفس وتنامى شعوره بعدم الأمان مما يدفعه أكثر نحو التمسك بالمعتقدات اللاهوتية كونها تعيد له الثقة بالنفس وتجلب له الأمن والاستقرار، وبنفس الوقت تخلق لديه شعوراً لاهوتياً بأن الله سينتقم من المستبدين وينظر بعين الرحمة والشفقة إلى حال رعيته!!. لقد اعتمد النظام المباد في العراق تلك الآليات الثلاثة (استخدام العنف المفرط؛ والحروب الكارثية؛ وتجهيل المواطن) لاستمرار سلطته على مدى 35 عاماً. ويمكن فحص تلك الآليات من خلال: تعدد الأجهزة القمعية لإيغال الأذى والعنف ضد المواطن؛ وشن الحروب الكارثية على دول الجوار بغرض دفع الأنظار نحو العدو الخارجي (الوهمي)؛ وأخيراً فسح المجال للتوجهات الدينية السلفية ببذر سمومها في المجتمع بغرض تجهيل المواطن ودفعه نحو الغيبيات واعتبار ما يجري من عنف مفرط ضده، هو مشيئة ربانية ناتجة عن ابتعاده عن تعاليم الدين..وانغماسه في شؤون دنيوية ومنها شؤون السلطة!!. وبهذا فأن المستبد لا يمارس العنف ضد المواطن من أجل الاحتفاظ بالسلطة فقط، وإنما يمارس كافة أنواع العهر السياسي من أجل أبعاد المواطن عن شؤون السلطة. يقول ((دانتي)) أن العاهرة التي لم تحول أبداً عينها الداعرتين عن منزل القيصر، هي هلاك للجميع وأثم لكل بلاط. لذلك السلطة المستبدة في العراق، سعت إلى إضعاف كل المرجعيات السياسية المنافسة لها وكذلك المرجعيات الدينية الإصلاحية في المجتمع بغية البقاء على مرجعيتها المستبدة والانفراد في السلطة السياسية. والآثار الكارثية لسياسة الاستبداد في المجتمع، لا تزول بسقوط السلطة المستبدة بل العكس تأخذ شكلها المفترض من التحولات في مفاصل المجتمع وتؤدي إلى احتلال مسارات السلطة المستبدة التي أُفرغت من عناصرها لحظة التحول (السقوط) في شكل النظام السياسي الجديد. فنجد ما حصل في العراق بعد سقوط النظام المستبد المتعدد السلطات والأجهزة، حدوث تناسل منقطع النظير من مراكز القوى والسلطات، وبغياب المرجعيات السياسية المعارضة عن الساحة وضعف المرجعيات الدينية الإصلاحية، أدى إلى شكل من أشكال ملء الفراغ تديره المافيات وعناصر مشبوهة لم يعرف لها تاريخاً سياسياً يلتف حولها عدداً من الرعاع وأصحاب السوابق والقتلة والمأجورين..وغيرهم ممِّا يدفعهم الطموح الشخصي نحو إدارة دفة السلطة السياسية. ورافق ذلك ضعف سلطة الدولة الجديدة وجهل المواطن والاحتلال والفقر والجوع الذي وظفته الظروف الشاذة لتلك للقوى الطارئة على المجتمع، فعمدت إلى ممارسة غيِّها في الإرهاب وفرض معتقداتها البالية..بحجة ممارسة حرية العمل السياسي مرة، ومرة أخرى بحجة محاربة الاحتلال، والحقيقة أنها لا تهدف إلى هذا وذاك بل إلى مسعى نحو استعادة سلطة الاستبداد. ويجد ((ماركيز)) أن العجز عن الحب لدى السياسي، يدفعه للبحث عن السلطة. تلك الآثار الكارثية للاستبداد لا يختص بها العراق لوحده، فهناك العديد من دول العالم مرت بنفس الظروف الشاذة نتيجة معاناتها من الأنظمة المستبدة. وقد تجاوزت أزمتها السياسية وتعدد سلطاتها، بعد أن اضطلعت دولة القانون بمهامها وأخضعت كل أفراد المجتمع للقانون وفككت مفاصل تعدد السلطات غير الشرعية في المجتمع باستخدام العنف (الشرعي) ضد الخارجين عن القانون من أجل تأمين الأمن والاستقرار للمواطن. فدولة القانون فوق جميع السلطات، ومن لا يخضع لمظلة القانون فالشريعة القانونية تجيز استخدام العنف المفرط لإخضاعه لسلطة القانون. ستوكهولم بتاريخ 29/5/2004.
#صاحب_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محطات من السيرة الذاتية للشاعر- بايلو نيرودا
-
صراع الأجيال في الوسط الثقافي!!
-
أسباب الاحتلال ونتائج الاستبداد في أجندة المثقف!!
-
تساؤلات في زمن الخراب عن: المثقف وصناعة الأصنام والقمع والإر
...
-
الإرهاب والاحتلال نتاج السلطات القمعية والتيارات الدينية الم
...
-
المعركة الخاسرة - السيد مقتدى الصدر من الفتنة وشق وحدة الصف
...
-
مشاهد من العراق: الخراب والفوضى في العاصمة بغداد
-
مفهوما الإرهاب والمقاومة في زمن الاحتلال
-
رؤية المثقف للمستقبل السياسي والثقافي في العراق
-
الأحزاب الشمولية من سياسية تفقيس المنظمات إلى الهيمنة واللصو
...
-
مثقفو النظام المباد وحضانات الأحزاب الشمولية
-
منِّ يتحمل مسؤولية خراب الوطن والمجتمع؟!.
-
رؤية المثقف للسياسي العراقي!!.
-
الصراع بين المثقف العراقي والكائنات الحزبية
-
سياسيون ومواقف!!
-
رؤية في السلطات وأحزاب المعارضة في الوطن العربي!!
-
المثقفون العلمانيون بين الحزبية والاستقلالية!!.
-
موقف الأدباء من الناقد والنقد الأدبي
-
دور المرأة في حياة الأديب ( غابريل ماركيز نموذجاً)!!؛
-
اختلاف مفردات اللغة وآليات الحوار بين السياسي والمثقف!!.
المزيد.....
-
الحكومة الإسرائيلية تقر بالإجماع فرض عقوبات على صحيفة -هآرتس
...
-
الإمارات تكشف هوية المتورطين في مقتل الحاخام الإسرائيلي-المو
...
-
غوتيريش يدين استخدام الألغام المضادة للأفراد في نزاع أوكراني
...
-
انتظرته والدته لعام وشهرين ووصل إليها جثة هامدة
-
خمسة معتقدات خاطئة عن كسور العظام
-
عشرات الآلاف من أنصار عمران خان يقتربون من إسلام أباد التي أ
...
-
روسيا تضرب تجمعات أوكرانية وتدمر معدات عسكرية في 141 موقعًا
...
-
عاصفة -بيرت- تخلّف قتلى ودمارا في بريطانيا (فيديو)
-
مصر.. أرملة ملحن مشهور تتحدث بعد مشاجرة أثناء دفنه واتهامات
...
-
السجن لشاب كوري تعمّد زيادة وزنه ليتهرب من الخدمة العسكرية!
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|