|
صفحات من كتاب - قرن من الزمان .. مئة سنة من العمارة الحديثة : المشهد المعماري في روسيا بين الحربين
خالد السلطاني
الحوار المتمدن-العدد: 848 - 2004 / 5 / 29 - 09:26
المحور:
الادب والفن
يمثل الإنتاج المعماري الروسي في الفترة المحصورة بين الحربين في القرن الماضي ، إنتاجا مهما ومميزا في عموم النشاط المعماري الحداثي الأوروبي، فروسيا أضافت إبان تلك الفترة أفكارا معمارية طليعية كان لها تأثير كبير في ترسيخ فرشة العمارة الحديثة وتوطيد قيمها.
اتسمت عمارة روسيا في العشرينات والثلاثينات بمزايا محددة ذات خصوصية منفردة. وهذه المزايا انبثقت بالأساس من محاولات البحث والتقصي المثابرين عن طرق وأساليب معمارية حديثة يمكن لهما أن تتجاوبا مع طبيعة البناء الاجتماعي الجديد وافكاره. ومع أن النشاط العمراني في بداية العشرينات كان يجري بمقاسات متواضعة، فقد كان بمقدور المرء أن يلحظ التغييرات الكبرى التي طرأت على أنماط العمارة المبنية وطبيعة مشاريعها التصميمية كقصور العمل، ونوادي العمال والإسكان التعاوني المشترك الخ… ولعل مجرد ذكر عناوين تلك الأنماط المعمارية يوحي بحضور أجواء التوجهات الفكرية الاجتماعية لتلك الحقبة الزمنية.
في غمرة التقصيات عن طراز معماري جديد، أحس المعماريون الروس بنوع من الفجوة العميقة التي تفصل النزعات التصميمية الثورية التي يتطلعون إليها وبين طبيعة الإرث البنائي التوليفي لأساليب العمارة القديمة، مما طبع المشهد المعماري الروسي، في تلك الفترة الزمنية بطابع خاص تجلى في حدة الاستقطابات بين أنصار النزعات الجديدة وممثلي التقاليد القديمة، علما بأن الكثيرين وعلى وقع الأحداث الجارية كانوا ينظرون إلى الأشكال المعمارية الطليعية بمثابة رمز للإطاحة بالأساليب القديمة وبزوغ الطراز المعماري المنتظر!
طمح المعماريون الطليعيون أن يعكسوا بنتاجهم ، حماسة التغييرات التي تجري في بلادهم ليس فقط عبر الوسائل الشكلية كالمعالجات التعبيرية وديناميكية التقسيمات الخ… وإنما من خلال دراسة المشاكل الاجتماعية الوظيفية والتعرف عليها. وعندما كانت تجري دراسة المتطلبات الوظيفية التي بدورها أفضت إلى حلول عقلانية لأنماط مختلفة من المبادئ كان ذلك يحدث انسجاما مع البرنامج العام للتغييرات الاجتماعية، بمعنى آخر ظلّ الأسلوب الوظيفي المعتمد على معالجات تكوينية مشوبة دائما بمسحة من الاهتمامات الاجتماعية والسعي نحو ايجاد حلول لها ، وبالطبع فإن ذلك الأسلوب نهض على قاعدة متينة من النجاحات التي أحرزها العلم والمستوى العالي للتكنولوجيا. إن اقتران الأساليب الوظيفية مع تقصي الأشكال الطليعية المستندة على تقدم تكنولوجيا البناء كانت تمثل إحدى السمات الأساسية للتيار المعماري الروسي الذي دعي ب ( البنائية المعمارية) Arch. Constructivism
ولد هذا التيار في أوائل الحكم السوفياتي بروسيا، وكانت تقصياته مرتبطة ارتباطا وثيقا مع التجارب المخبرية التي أجراها الفنانون للأثاث وأدوات الفن التطبيقي، انطلاقا من توظيف تركيبات شكلية متميزة وفريدة ذات تفصيلات دقيقة مشغولة بصفائح الحديد، وبأنابيب نحاسية وأخرى معمولة من الأخشاب والأسلاك الخ…. وقد تم استخدام كل واحدة من تلك المواد بعقلانية وطبقا لخصائصها الفيزيائية ( فعلى سبيل المثال استعملت الأسلاك للعناصر الممتدة والخشب على شكل ركائز ومساند الخ..) لاحظ أنصار التيار البنائي الأوائل بأن التكوينات الفضائية المخرمة يمكن لها أن تكون رمزا للأشكال المعمارية الحداثوية تلك الأشكال التي خصص للمهندس دورا كبيرا في تطورها.
في عام 1919، تم الشروع بتصميم تمثال ( الأممية الثالثة) والذي حال الانتهاء من تصاميمه عام 1920، نال شهرة عالمية واسعة، ( المصمم فلادمير تاتلين V. Tatlin).
تتمازج في هذا المبنى الديناميكية التامة للشكل الرمزي – الرومانطيقي- مع الحلول الإنشائية الجرئية، فالمنظومة الإنشائية الحاملة لا تعمل من داخل جسم المبنى ذاته وإنما جردت وأخرجت للخارج، إن المبنى عبارة عن هيكل حلزوني معدني ضخم ( يصل ارتفاعه وفقا للتصميم إلى 400 مترا) وفي داخل هذا الهيكل الحلزوني علقت حجوم زجاجية الواحدة فوق الأخر في أشكال هندسية مختلفة، مكعب، هرم واسطوانة وقبة نصفية. وهذه الحجوم خصصت فضاءاتها لأداء وظائف مختلفة كقاعات للاجتماعات والمؤتمرات وفضاءات إدارية ومركز معلومات. والجدير بالإشارة أن تلك الحجوم الزجاجية ذات الوظائف المختلفة كانت تدور بسرعات دائرية متابينة تشير رمزيا الى حتمية التغيير والتطور. لقد منحت تركيبة المبنى الفريد ذات المنظومة الإنشائية الحاملة الخارجية وفضاءات مبانيها الداخلية منحت مشروع "تاتلين" هيئة مميزة بحيث باتت تمثل تلك الهيئة رمزا ذا أهمية بالغة من رموز "العمارة الحديثة".
لم يكن " برج تاتلين" ـ (كما دعي ذلك المبنى الفريد فيما بعد) ، لم يكن تصميما جديدا فحسب، وإنما عدت لغته التكوينية بمنزلة الاكتشاف الفني، ذلك الاكتشاف الذي عاكس جميع المعايير التقيمية السائدة بحيث أن الكثيرين لم يكن بمقدورهم استيعاب وهضم تلك الحداثة اللاذعة، وتعاملوا معه بكثير من الريبة وعدم المقبولية. على أن برج تاثلين وفقا لتعبير أحد النقاد، كان واحدا من أهم المشاريع المعمارية في القرن العشرين، وقد كانت تأثيرات هذا التصميم على العمارة المعاصرة أكثر بكثير من تأثيرات برج ايفيل على عمارة القرن التاسع عشر؛ ذلك لأن تاتلين ساعد بهذا التصميم كثيرا من المعماريين لاجتياز الحاجز النفسي في تقييم المنظومات الإنشائية ودورها في عملية خلق الشكل المعماري للمبنى المعاصر.
ارتكزت المنطلقات النظرية للبنائية في بداية العشرينات على ما يسمى ( بالفن الانـتاجي) أي ذلك الفن المعني في خلق البيئة المادية وبمساعدة الوسائل التقنية الجديدة. وفي هذا الصدد كتب المعمار (اندريه فيسنين A. Vesnin) أحد قادة التيار البنائي بأن الأشياء التي يتعاطى معها الفنانون المعاصرون ينبغي أن تكون ذات هيئات صافية من دون مداخلات تشكيلية، وأن تكون مبنية وفق مبدأ الزوايا القائمة والمنحنيات الهندسية كما أن هذه الهيئات ينبغي أن تكون مشغولة باقتصادية عالية مع اكتنافها لتأثيرات بالغة القوة".
في وقت لاحق، أدخلت ( البنائية المعمارية) الأسلوب الوظيفي ضمن معاييرها، ووظفته كأساس متين للإبداع، وقد أدرك أعضاء ( البنائية) بأن تأثير النجاحات التقنية العلمية على العمارة ينبغي أن لا يقتصر على إدراك للمنظومات الإنشائية الجديدة لوحدها وإنما يلزم تغيير طريقة المعمار التصميمية ذاتها، ويعتقد م. غينزبورغ M.Ginzburg وهو أحد منظري ( البنائية) المشهورين بأن: (على المعمار أن يلم بالأساليب العقلانية للتصميم وأن يتقنها كإتقان الإنشائي لحساباته، عند ذاك يشعر المعمار بأن مهمته ليس قاصرة على زخرفة الحياة وتزيينها ، وإنما هو منظما لها.. إن الإنتاج المعماري المبنى على السليقة والمعتمد على الوعي الباطني، الوجداني، ينبغي له أن يتغير ليفسح المجال نحو الأسلوب المنظم الواضح والبيّن..).
يعتقد أنصار البنائية بأن الإنتاج الإنشائي المقيس والذي هو نتيجة منطقية لعقلنة العملية الإبداعية، ينبغي له أن يكون أساس إجراءات التصنيع بالجملة للعناصر المعمارية والإنشائية، كما ربط أولئك الأنصار مبررات مهام التشكيل الفني للمبنى بارتباط مباشر مع بنيتيه الوظيفية والإنشائية. وكما هو معلوم فإن قيم ومبادئ البنائية تشكلت وتكونت في خضم التغييرات الثورية الفعالة، مما حدى بأنصار هذا التيار أن يولوا اهتماما بالغا للقضايا الاجتماعية، وأن يصروا على وجوب إيجاد حلول سريعة للمشاكل الملحة؛ الأمر الذي ساهم في انتشارهم الواسع في الممارسة المعمارية الروسية إبان تلك الفترة، كما أن هذا التيار المعماري أثر تأثيرا عميقا لجهة تطور الاتجاه الوظيفي الأوروبي وساهم مساهمة قوية في ترسيخ قيمه.
اتخذ أنصار "التيار البنائي" في روسيا قرارا بالانضمام الى تنظيم معماري دعي ( جمعية المعماريين المعاصرين) (OCA) التي أصدرت مجلة CA) ( العمارة المعاصرة) بهيئة تحرير مشكلة من الأخوة فيسنين وم. غنيزبرغ، وانضم إلى الجمعية معماريون مثل ميخائيل بارش، واندريه بوروف، وإيفان ليويندوف ، وغيورغي اورلوف ، وإيفان نيكولايف وغيرهم اللذين سيثروا تيار البنائية بتصاميم معبرة عدت من كنوز العمارة العالمية في حينها. ومن خلال النشاط التصميمي التطبيقي تشكلت المبادئ الإبداعية للتيار البنائي ولا سيما عندما نظم في أوائل العشرينات مباريات معمارية عديدة لتصميم مباني عامة كبرى.
وحازت مشاريع الأخوة فيسنين المشاركين الدائمين في تلك المباريات على شهرة واسعة ومنها (قصر العمل) في موسكو 1923، وكذلك مشروع بيت اركاس 1929، ومبنى جردية لنينغراد سكايا برافدا 1924، الخ… جسدت تلك المباني المبادئ الأساسية للبنائية على قدر كبير من الدقة كالحجوم المنتظمة، وتقسيمات المبنى بواسطة النوافذ الكبيرة أو المزججة بالكامل والتي تتوافق مع الهيكل الإنشائي. في الحلول التكوينية لتلك المباني. لعبت العناصر التقنية الخالصة دورا تصميما هاما مثل الساريات وهوائيات الراديو وسلالم الخدمة المعدنية وكذلك استخدام الأحرف الكتابية واللوحات الإعلانية الضخمة الخ…
أعارت البنائية أهمية خاصة لأسلوب معالجة المنظومة الحجمية – الفضائية للمباني، وأسبغت عليها (على تلك المنظومة) نوعا من الشفافية التخريمية، تلك الشفافية التي تتوق لأن تكسب الجدران إحساسا بالخفة، كما تنشد إلى توحيد الفضاء الداخلي مع الخارج. تمثلت الخصائص البنائية ولا سيما وجهها الوظيفي، بشكل واضح في مجمع مباني قصر الثـقافة لمصانع ليخاجيوف للسيارات في موسكو ( المصممون الأخوة فيسنين) 1931. في هذا التكوين الغير متناظر يمتلك كل قسم من اقسام المبنى الثلاث الأساسية خاصيته الوظيفية إذ تم تجميع القاعة الرئيسية مع البهو الخاص بها بالإضافة إلى المداخل والفضاءات المساعدة في كتلة بنائية مستقلة، ومهيبة مع الحرص على تأكيد مفردة المدخل الرئيسي بواسطة استخدام مسطحات زجاجية هائلة في منطقة المدخل وفي أعلاها. ويوحد فراغ البهو وكذلك منطقة الحركة العمودية الكتلتين الأخريتين من المبنى، اللتان تمتلكان ارتفاعا أوطأ من ارتفاع كتلة المبنى الرئيسية، كما أن مقياس تقسيمات فضاءاتهما الداخلية مختلف جدا عن المقياس الفسيح المستخدم في فضاءات القاعة الرئيسية.يعكس كل قسم من أقسام المبنى المتعددة خاصيته الوظيفية، وهذا الانعكاس يتجلى في أسلوب تقسميات الواجهات واصطفاء تناسب محدد للفتحات واختيار أبعادها، وتؤلف هذه الأقسام معا تكوينا متعدد الكتل متوازنا يمتد بحرية في الفضاء المحيط.
أن النزوع نحو توسيع إمكانات التكوين وإثراء أدواته، ذلك النزوع المعتمد على الوسائل التقنية المتقدمة، قادت البنائية إلى توظيف منظومة التراكيب الإنشائية الفضائية الجديدة ( Space Frame) ويعتبر مبنى القبة الفلكية Planetarium في موسكو المعماريان ميخائيل بارش وميخائيل سينيا فسكي 1927-1929 من أوائل المنشآت البنائية ذات الاتجاه التركيبي الفضائي، فثمة قبة ذات تراكيب إنشائية خفيفة تمتلك هيئة بيضوية من الخارج تنهض على قاعة دائرية هي هيئة العرض الرئيسية. يجعل المصممان من مفردة التضاد أداة أساسية في الحل التكويني المعبر فخطوط القبة المائلة الإنسيابية في الأعلى تتضاد مع التقسيمات الأفقية في القسم الأسفل من المبنى، كما أن كتلة السلم الحلزوني الجميل والمنفصل عن جسم المبنى لا تخلو هي الأخرى من الهاجس التضادي المتجلية في تباين القسم الأعلى المصمت منه وشفافية الجزء الأسفل ويكتب دينيس شارب عن مبنى القبة الفلكية، فيقول: ( … في نهاية العشرينات وجدت في روسيا السوفياتية نماذج مبان تستحق الملاحظة فقد وصف مبنى القبة الفلكية بأنه مسرح بدون ممثلين، حيث بنى لغايات علمية وكان في نفس الوقت يؤدي وظيفة البناء التعليمي للعمال في أوقات الفراغ).
تعد مشاريع المعمار ايفان ليويندوف (1902-1959) Ivan Leonidov إحدى قمم نماذج العمارة البنائية وتقصياتها المؤسسة على استخدام التقنيات الحديثة، ( فالكمال التقني – كما كان يؤكد المعمار- يثير دائما الاعجاب، ويستدعي الارتياح الجمالي). في تصاميمه، التي بلغت منتهى صفائها تتمازج الأشكال الهندسية مع الحلول الإنشائية الجريئة وغير المتوقعة دوما. فمثلا مشروعه الذائع الصيت مشروع معهد لينين يتكون من مزاوجة تضادية بين الكتلة التحتانية الممتدة والتركيبة المرهفة الدقيقة العليا على شكل موشور شاقولي منتصب، (مخصص لخزن الكتب) وثمة قاعة كبرى ذات حجم كروي تستند بمفصلات على نقطة واحدة، وتتكفل أسلاك فولاذية ممتدة في تثبيت القاعة الكروية وكتل المشروع الأخرى، الأمر الذي تبدو فيه المنظومة الإنشائية المستخدمة في التصميم على قدر كبير من الخلفة والشفافية، إن قوة تعبيرية التكوين الفضائي الحجمي للمشروع، لا تنفصم هنا عن الإبداع التقني!
أولوا أنصار تيار البنائية اهتماما كبيرا للقضايا الاجتماعية في العمارة، وحاولوا عبر تقصياتهم المثابرة إيجاد نمط سكني جديد يتجاوب مع التغييرات الجذرية الحادثة في بنى المجتمع الجديد، و وظف البنائيون بكفاءة أساليب التصميم العقلاني كتكرار العناصر المعمارية، وتنميطها Standardization واستخدام الوحدات القياسية Modules، فضلا على التأكيد لجهة اقتصادية الحلول التصميمية ونجاعة الحلول التكنولوجية . ويعد المجمع السكني المشيد في منطقة بولفار نوفينسكي بموسكو 1928-1930، للمعمار م. غينزبورغ 1892-1946 M. Ginzburg تجربة رائدة في مجال هذا المنحى. يتألف المجمع السكني الذي صمم لسكن 50 عائلة من اربعة مبان: القسم السكني وقسم الفضاءات العامة ( قاعة رياضية مع مقصف كافتيريا) ومبنى منفرد مخصص لروضة أطفال فضلا عن قسم خاص للخدمات ( غسيل ملابس، كراجات الخ..) يثير الاهتمام في مباني المجمع مبنى القسم السكني الذي صمم كقسم block يتألف من ستة طوابق وبممر جانبي يخدم جميع الشقق ووقع سلمان في طرفي المبنى ويتجه ممر مغلق آخر يربط هذا لقسم بقسم الفضاءات العمومية. يحتوي البلوك السكني على ثلاثة أنماط من الشقق، بضمها نوع من الشقق بطابقين. سمح أسلوب تركيبة أنماط الشقق المتنوعة بارتفاعاتها المتباينة وتداخل فضاءاتها، سمح ذلك بالاكتفاء بوجود ممرين أفقيين فقط ( في الطابقين الثاني والخامس) لتنظيم مسارات الوصول إلى مداخل جميع الشقق.
تم اختيار نظام الهيكل الإنشائي Skeleton المعمول من الخرسانة المسلحة كمنظومة إنشائية حاملة كما جرى أبعاد الجدران العازلة الخفيفة عن المساند الدائرية عبر تطليعات كابوليه Cantilever الأمر الذي سمح بترتيب نوافذ زجاجية شريطية في واجهات المبنى السكني. أن الطابق الأرضي لهذا البلوك لم يبن بالكامل وترك مكشوف جزئيا، في حين جاء سطح المبنى مستويا وتم توظيف مساحته لأغراض خدمات المبنى. وعلى عكس معالجات الجناح السكني صممت واجهة مبنى الخدمات العمومية والواجهة الشمالية، بتزجيج كامل من أسفلها إلى أعلاها، عاكسة بتكويناتها طبيعة التقسيمات الوظيفية، وبالتالي فإن الحل التصميمي يعبر بأمانة أيضا عن خصائص المنظومة الإنشائية.
ثمة اتجاه تصميمي آخر شغل مساحة مهمة في المشهد المعماري الروسي إبان تلك الفترة الزمنية، دعي بالاتجاه " المنطقي العقلاني Rationalism" أنصاره ومشايعوه التفوا حول طروحات المعماري المنظر الشهير " نيكولاي لادوفسكي N. Lagovesky" وكذلك ثبتوا المعايير التكوينية المتجلية في إبداعات المعمار قسطنطين ميلنيكوف (1890-1979) K. Melnikov.
وعلى الرغم من الاختلافات الشكلية التي ميزت البنائية عن الاتجاه العقلاني" فإن كلا الاتجاهين خدما قضية واحدة- وهي تعزيز طروحات " العمارة الحديثة" وتكريس قيمها في النشاط البنائي المعماري لروسيا السوفيتية، فالاختلاف بين الاتجاهين كان محصورا في نوعية المنطلقات التكوينية. وأشكالها. وإذا تعاطت " البنائية" لحل تلك الإشكالية من أولوية المعالجات الإنشائية الوظيفية، فإن " العقلانيين" انطلقوا من الحقائق الموضوعية لإدراك الشكل " الفورم" وأهميته في الحلول التكوينية، أن مقولتهم "الحيز- الشكل- الإنشاء". عكست بوضوح اعتقادهم في وجوب خضوع ودور الإنشاء للصياغات الشكلية " الفورم" على أن هذا لا يعني التغاضي عن دور التقنية الإنشائية في العملية التصميمية، فمع الهيئات التشكيلية الناصعة والمؤثرة لمبانيهم، استخدم " العقلانيون" في أحيان كثيرة الأساليب التقنية الفريدة.
يعد إنتاج ميلنيكوف المعماري انتاجا متساوقا مع طروحات الاتجاه " العقلاني" ذلك الاتجاه المؤثر في النشاط المعماري الروسي في العشرينات وبداية الثلاثينات، ولهذا فقد حظيت إبداعاته المعمارية باهتمام كبير سواء من قبل المعماريين الروس أو من قبل المعماريين الأوروبين، كون نتاجه التصميمي قيم كبحث دائم عن أشكال معمارية معبرة وحيوية مشوبة بالعاطفة والإنفعال، أشكال أسهمت في صياغاتها التكوينية أيضا المنظومات التركيبية ذات الأفكار الجريئة.
يجسد " جناح الاتحاد السوفيتي" في " المعرض الدولي للفنون التزيينية" المقام في باريس 1925 والمصمم من قبل قسطنطين ميلنيكوف يجسد الجناح تلك الرغبة العارمة لدى المعمار لإكساب مبناه شكلا ذا قوة تعبيرية مؤثرة تتزايد قوتها أيضا بفعل تجليات فرادة المنظومة الإنشائية المستخدمة. وكما أشير سابقا فإن " جناح الاتحاد السوفياتي" مع جناح " اسبيري-نوفو" للمعمار لوكوربوزيه في نفس المعرض مثلا ظهور " العمارة الحديثة" الساطع في المشهد المعماري العالمي، وبانا من خلال معالجاتهما التصميمية مدى التضاد الجذري بين منطلقات الفكر المعماري الجديد والمفاهيم السائدة في العمارة القديمة.
وحول عمارة " الجناح" كتب، حينذاك أحد النقاد المعماريين الفرنسيين ما يلي: يعبر جناح ميلنيكوف عن تركيبة إنشائية عارية، تسبح في الفضاء يمكن استعراضها ومشاهدتها بجلاء، إن المعمار هنا يحرر مفهوم الحجم عن مفهوم الكتلة المتراصة، وهو بهذا يعبر عن بعد ثالث، أنه يخلق إحساسا بالفضاء من خلال اتجاهية الخطوط المعمارية ذاتها…".
في تقصياته وتطلعه نحو التعبيرية المفرطة، اهتم" ميلنيكوف "كثيرا بالتراكيب الكابولية، مّركزا على المحاور الوترية Diagonal في الأشكال المبتدعة، ومستعينا بالأشكال الهندسية كالمخروط والقطع المكافأ والمتوازي الأضلاع الخ…… وفي استجاباته لحل النواحي الوظيفية كان " ميلنيكوف" يتوق إلى الفضاء الديناميكي المتحرر من المهام ذات الطابع الأحادي، في المبنى الذي صممه لنادي " روساكوف Rusakov" في موسكو 1927، يلجأ ميلنيوكف إلى تقسيم فضاء العرض إلى جزء أساسي وثلاثة أجزاء مدرجات ( امفيتياتر Amphitheatre مستطيلة الشكل في مساقطها، وكل فضاء من هذه الأجزاء يمكن أن يعمل منفردا أو مجتمعا مع خشبة مسرح واحدة. لقد أسبغت المدرجات الثلاث التي صيغت كتلها كحجوم خرسانية كابولية على قدر كبير من الجرأة الإنشائية، أسبغت على هيئة المبنى قوة تعبيرية فنية عالية، ومنحتها دينامية فعالة وأكسبتها سمات حداثية واضحة!
لعبت تقصيات أنصار التيار " العقلاني" دورا فعالا في المسار التطوري لعمارة روسيا السوفيتية في العشرينات وبداية الثلاثينات، كما أن تلك التقصيات أثرت تأثيرا عميقا على الناتج المعماري لأنصار التيار البنائي إذ حاول بعض المعماريين أن يجمعوا مبادئ " البنائية" ذات الحس الوظيفي-الاجتماعي، مع تعبيرية " العقلانيين" الوهاجة ليخرجوا " بفورم" معماري جديد يشي بالسمات المشتركة لهذين التيارين وتعتبر محاولة المعمار " أيفان غولوسوف I. Golosov في مشروعه المنفذ " نادي زويف" في موسكو 1929، إحدى المحاولات الجريئة في هذا السبيل، إذ جاءت تشكيلات فراغات المبنى بحجوم مكعبة وأخرى أسطوانية مع استخدام كثيف للزجاج في أسطح الجدران كما أكسب المعمار مسقط مبناه الأفقي قابلية التغيير وإمكانية التحويل.
لقد طرأ على المشهد المعماري الروسي تغييرات جوهرية اعتبارا من أواسط الثلاثينات، إذ عزف كثير من المعماريين الطليعيين عن تقصياتهم وتخلى البعض عن قناعاتهم تحت وطأة الظروف السياسية المستجدة في روسيا، تأثيراته المدمرة بدأت تشمل جميع النواحي الثقافية والممارسات الإبداعية ولاسيما العمارة. وبات النشاط المعماري الروسي الذي عد يوما من أكثر الممارسات المعمارية تجديدا وطليعية بات هذا النشاط متسربلا برداء كثير من أشكال العمارة الكلاسيكية ذات المنحى التوليفي – التلفيقي الرخيص.
ولم تعط المماسة المعمارية الروسية إضافة تذكر منذ ذلك الحين وعلى مدى سنين لاحقة كثيرة، غير أن الأفكار الجريئة والجديدة التي سبق وأن أوقد جذوتها معماريو "البنائية" و"العقلانية" قد ارست إرثا معماريا مهما ومتكاملا ظل صداه يتردد من حقبة زمنية إلى أخرى ذلك الإرث الذي استطاع أن ينشر التجديد والحداثة في فضاءات معمارية ، ويدلل بجلاء عن أهمية الاجتهاد المعماري الروسي ودوره في توسيع مبادئ " العمارة الحديثة" وتكريس حضورها في الخطاب المعماري العالمي. □□
___________________________________________________
د. خالد السلطاني مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون كوبنهاغن – الدانمرك
#خالد_السلطاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدرسة اولوغ بيك : جماليات مكان التعلم .. والتعليم
-
حديث هادئ ، في معمعة كلامية
-
صفحات من كتاب - العمارة العراقية الحديثة: السنين التأسيسية -
...
-
العلم العراقي الجديد: ملاحظـات تنظيـمية وفنـية سريعـة
-
منجز العمارة الاسلامية (3 ) عمارة - مسجد امام - في اصفهان
-
صفحات من كتاب - قرن من الزمان .. مئة سنة من العمارة الحديثة
...
-
بمناسبة فوزها بجائزة - بريتزكير- العالمية عمـارة - زهـاء حدي
...
-
عام على احداث جسام في حياة الشعب العراقي
-
مبنى - السفارة الامريكية - ببغداد : تـناص معماري .. لمفاهيم
...
-
منجز -اوسكار نيماير- التصميمي : مفرد .. بصيغة الجمع
-
افرازات الحكم الشمولي -الصدامي- :العمارة .. انموذجـاً
-
يورن اوتزن-... والعمارة الاسلامية
-
صديقي : حسب الشيخ جعفر
المزيد.....
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
-
-هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ
...
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|