|
تركيا كنموذج عملي يُتعلّم منه
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2790 - 2009 / 10 / 5 - 19:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم يمر يوم منذ 90 عاما كانت علاقات تركيا بالعالم العربي أكثر إيجابية مما في السنوات الأخيرة. وقد ينسب الفضل في ذلك إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يحكم تركيا منذ نحو عقد من السنين. ففي عهده رفض البرلمان التركي السماح للأميركيين باستخدام القواعد الأميركية في تركيا لشن الحرب على العراق، وفي عهده أيضا حققت العلاقات التركية السورية قفزات متتالية، تمخضت مؤخرا عن مجلس تعاون استراتيجي بين البلدين وعن تسهيل حركة الأفراد بينهما بدرجة قلما يتاح مثلها بين البلدان العربية. هذا فضلا عن أنه تحقق لتركيا قدر أكبر من الاستقرار السياسي في العقد الأخير، فضلا أيضا عن نمو اقتصادي مطرد وضع اقتصاد تركيا في الموقع السابع عشر بين اقتصادات العالم اليوم. وإلى ذلك كله تظهر جارتنا الشمالية توجها جديا لمعالجة المشكلة الكردية المزمنة بروح من احترام الشعب الكردي وثقافته. لكن في الواقع ينسب إلى الحزب فضل في ما هي ميزات تحققت تدريجيا وعبر مسارات متعرجة وشاقة عموما للدولة التركية: البنيان العلماني، التوجه الأوربي العريق، توازنات اجتماعية وسياسية ملائمة للديمقراطية، هيكل إنتاجي يزداد تنوعا وتقدما تكنولوجيا، ثقافة منفتحة على العالم، ومجتمع مدني غني ونشط. ربما يكون حزب أردوغان "الإسلامي" منح عمقا ثقافيا ورمزيا لعلاقات تتحسن سياسيا واقتصاديا مع الجوار العربي، لكن الشيء الأهم هو الإطار السياسي والثقافي الأوسع الذي يندرج فيه حزب العدالة والتنمية، أعني النظام العلماني الذي استوعب حزبا "إسلاميا"، ليس دون احتكاكات وتوترات، لكن بنجاح معقول في ضبط هذه التوترات والاحتكاكات حتى اليوم. وفي المجمل، تبدو تركيا مثالا موفقا لمعالجة المسألة الإسلامية أو للعلاقة بين الدين والدولة. وبفضل هذا كله، أضحى ما تمثله تركيا أهم مما تفعله. نموذجها أهم من سياساتها حيال جوارها العربي والعالم العربي ككل، وإن زادت السياسات المتبعة من جاذبية النموذج. تركيا دولة "إسلامية" و"آسيوية" وتشبهنا، وهي في الوقت نفسه "علمانية" و"أوربية" و"متقدمة". ما هو ناجح فيها يمكنه أن يكون ناجحا عندنا إذا اعتمدنا توجهات مقاربة لتوجهاتها. ومسألة النموذج هذه مهمة في ظل الافتقار حاليا إلى نموذج عربي إيجابي، ولكون النموذج الأوربي والغربي بعامة بعيد سيكولوجيا وثقافيا. من يسهل التماهي معه يفتقر إلى نموذج جاذب، ومن هو جذاب ومتألق لا يسهل التماهي معه. تركيا في موقع متوسط، لا بالمعنى الثقافي والجغرافي فقط، وإنما أولا بالمعنى التاريخي، كما سنوضح على الفور. طوال أجيال كانت النخبة العربية مشدودة الأنظار نحو الغرب، الغرب الأوربي والأميركي، ولبعض الوقت تفريعته السوفييتية والأوربية الشرقية، بحثا عن حلول سياسية وعملية لمشكلاتنا المتنوعة. لعب هذا الانشداد دورا في إضعاف واقعية التفكير والنشاط السياسي في البلدان العربية. هذا لا يعود إلى التباعد الثقافي وحده، بل بخاصة إلى كون النظم الاجتماعية والسياسية والعلمية الغربية المعاصرة ذات تاريخ عريق، يقدر ببضع مئات من السنين، وقد قطعت شوطا طويلا من التقدم، ما يصعِّب تطبيق نموذجها في بلداننا الفتية التي لم يمر على انخراط أكثرها في الحداثة العالمية أكثر من قرن واحد أو أزيد قليلا. من يصر على التمثل المباشر بنماذج أوربية ينفصل عن الواقع المعاين في مجتمعاتنا، ويضعف فرص تطوير مقاربات أكثر واقعية لتنظيم شؤونها. وهو ما يؤول إلى تقوية مواقع رافضي الغرب والحداثة الغربية جملة، هؤلاء الذين يعرفون أنفسهم بـ"الإسلام"، وقد دأبوا على تحويل المشكلات العملية والسياسية والتاريخية إلى قضايا مجردة، تتصل بالعقيدة والهوية والأصل. وعلى هذه الصورة يرتسم ضرب من تكامل موضوعي بين "غربويين" يجعلون الغرب معيارا ناجزا للتطبيق هنا والآن (وليس مثالا ثقافيا ملهما فقط)، وبين "الإسلاميين" المكتفين بما لديهم. هؤلاء بلا أفق، وأولئك أفقهم ناء ومحبِط. تركيا نموذج واقعي لانكسار هذا الاستقطاب غير الجدلي. هي "غربية" بصورة حاسمة، دون أن تكف عن كونها تركية، و"إسلامية" بصورة ما. كان الجمع بين قومية تركية وعقيدة إسلامية وحضارة أوربية كما صاغه ضيا غو كالب تطلع المثقفين الأتراك في الفترة التي نطلق عليها عندنا عصر النهضة. واليوم يبدو أن تركيا تقدم صيغة عملية موفقة لهذا التركيب. على أنه لا ينبغي جعل تركيا نموذجا ثقافيا، أو بديلا حضاريا عن الغرب. هذا طريق مسدود يتعين تجنبه. نتكلم بالأحرى على مرجع عملي، على حلول لمشكلات تشبه مشكلاتنا وعن مرحلة تطور قريبة من تطورنا، وعلى بلد نقدر أنه يمكن تعلم الكثير من معرفته المباشرة والتفصيلية. التقارب الثقافي يسهل التعلم، لكن ينبغي أن يكون هناك ما يمكن تعمله أولا. ويبدو أن هناك ما يمكن تعلمه فعلا في تركيا. نستدرك للقول إن تجربة تركيا لا تزال غضة، وأن لكل ميزاتها الإيجابية المذكورة وجها آخر أقل إشراقا. وتبدو أحيانا أنها لا تزال على بعد حادث كبير واحد من انهيار توازناتها الحالية. وتاليا قد يكون الكلام على نموذج تركي مبالغا فيه. ربما. لكن طراوة عود التجربة التركية تقربها أكثر منا ولا تبعدها. بلد يصارع الآن وبكفاءة مشكلات مجايلة تقريبا لمشكلاتنا يمكن التعلم منه أكثر من بلدان تواجه أجيالا مختلفة من المشكلات، كبلدان الغرب. نختم بنقطة قد تبدو جانبية، لكنها كثيفة الدلالة. طوال سنوات كان الأكثر اهتماما وإحاطة بالشأن التركي من بين السوريين هم ناشطون ومثقفون أكراد. الأمر مفهوم جدا، ويلتقي فيه التجاور الجغرافي (معظم أكراد سورية يعيشون في شمال البلاد وشمالها الشرقي، قريبا من الحدود مع تركيا) مع كون تركيا مسرحا لصراع مديد مع إخوانهم في الشمال. ما يمكن أن يبنى على ذلك هو أن من شأن إطلاق دينامية سياسية لمعالجة المسألة الكردية في سورية على نحو ما يبدو الحال في تركيا أن يغني البلد بطاقات مهدورة، ويحول المشترك الكردي بين سورية وتركيا (والعراق) من مساحة للصراع بينهما معا وداخل كل منها إلى مساحة للتعاون والاغتناء الثقافي والبشري. بين البلدان الثلاثة، سورية والعراق وتركيا، للعرب دولتان وللأتراك دولة، وللأكراد لا شيء. العدل الحسابي يقضي بقيام دولة كردية مستقلة. لكن عدلا أعلى قد يزكي تقارب واختلاط هذه الدول والمجتمعات، بحيث يكون لكل من العرب والأتراك والأكراد ثلاثة دول، أو ربما إطار اجتماعي ثقافي فوق دولتي يجمعهم، وينفتح على محيط أوسع حولهم.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما وراء الزيدي وحذاءه: اعتلال الروح العربية
-
المحركات المحتملة للعلاقات الأميركية السورية في النصف الأول
...
-
سورية ولبنان وفشل بناء الأمة
-
من الاقتصادوية إلى الثقافوية إلى السياسوية إلى آخره
-
ثلاث أسئلة بخصوص كتاب عبدالله العروي -السنة والإصلاح-، وثلاث
...
-
في تأسيس المحاصّة الطائفية معرفياً
-
ربيع الأقوياء العائد... مخيف حقا!
-
عن التماهي مع الشاعر في حضرة غيابه
-
سياسة التعقيد ك-جدار فصل- للفلسطينيين عن قضيتهم
-
في نقد السياسة.. أو من تأليف القلوب إلى انشراح الصدور
-
الحداثة كخير عام، كوني وضروري
-
في شأن الذاكرة والسلطة والرقابة
-
فيما خص أزمة الثقافة النقدية..
-
منظومتا استثناء، لا واحدة، في سورية
-
تعقيب على نقاش منتدى -هلوسات- حول مشروع قانون الأحوال الشخصي
...
-
في أصول صناعة التشاؤم العربية
-
بصدد العنف والنخبوية
-
ملحوظات أولية في نقد السياسة
-
ماذا يعني مفهوم الحريات الاجتماعية؟
-
موقع -الديني السياسي- في وثيقتين معارضتين سوريتين
المزيد.....
-
الشرطة الإسرائيلية تحذر من انهيار مبنى في حيفا أصيب بصاروخ أ
...
-
نتنياهو لسكان غزة: عليكم الاختيار بين الحياة والموت والدمار
...
-
مصر.. مساع متواصلة لضمان انتظام الكهرباء والسيسي يستعرض خطط
...
-
وزير الخارجية المصري لولي عهد الكويت: أمن الخليج جزء لا يتجز
...
-
دمشق.. بيدرسن يؤكد ضرورة وقف إطلاق النار في غزة ولبنان ومنع
...
-
المكتب الإعلامي الحكومي بغزة: القوات الإسرائيلية تواصل انتها
...
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 360 عسكريا أوكرانيا على أطراف
...
-
في اليوم الـ415.. صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا الحرب الإس
...
-
بوريل: علينا أن نضغط على إسرائيل لوقف الحرب في الشرق الأوسط
...
-
ميقاتي متضامنا مع ميلوني: آمل ألا يؤثر الاعتداء على -اليونيف
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|