|
التعالق الفني بين التناص والتنصيص ..قراءة نقدية في تجربة الفنان التشكيلي برهان صالح محمد
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 847 - 2004 / 5 / 28 - 05:39
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
تتسم تجربة الفنان برهان صالح بالأصالة، والتنوع، والثراء. ففضلاً عن وجود الإستعدادات القبْلية أو الفطرية لديه، وتعويله على الإلهام كمحفِّز إبداعي إلاّ أنه يعتبر عملية الخلق الإبداعي مجرد " بحث دؤوب، ومكابدة مستديمة " كما يذهب نيتشه. وبين الأفق الذي تفتحه الغريزة أو الإستعدادات الفطرية، أو اللاوعي الفردي، وبين أفق المدرسة السلوكية التي تعتمد على التربية والتعليم وإجتراح عادات سوسيوثقافية تتحرك تجربة الفنان برهان صالح، فتارة تستمد قوتها من العفوية والتلقائية، والنَفَس البدئي المتجذّر فيه، وتارة تعتمد على التربية والتثقيف الذاتي الذي يفجر المكنونات الإبداعية الناجمة عن التزوّد المعرفي، والصقل الثقافي المستمر. يولي برهان صالح الجوانب الأسطورية بعض إهتمامه في صياغة العمل الفني، وشحنه بمحمولات مثيولوجية تمنح منجزه الإبداعي تميزاً من نوع خاص. وتتجلى هذه الرموز الأسطورية في أعماله الكرافيكية المنفّذة بطريقة " الحفر على الخشب " على وجه التحديد. ومرّد هذه الإفادة أو التوظيف المتعمّد هو الضغط اللاشعوري لثراء مدينة كركوك، متعددة الأعراق، والأديان، والثقافات، وقيام جزء كبير من ذاكرتها الجمعية على الأس الخرافي، وما تنتجه المخيلات البريئة من أوهام وتصورات حُلُمية لا تستند على أساس واقعي. ويمكن تعزيز هذا الرأي بالعودة إلى روايات فاضل العزاوي وبالذات " آخر الملائكة " وقصص وروايات زهدي الداوودي ومن بينها " أسطورة مملكة السيد" و " أطول عام" و " زمن الهروب " ومجمل الأعمال الفنية للأخوة التشكيليين الأربعة وهم صدر الدين، ونور الدين، وفلك الدين، وحسام الدين كاكائي الذين إستثمروا القصص والحكايات والرموز الميثيولوجية الراكسة في اللاوعي الجمعي لسكان مدينة كركوك، متعددة الأعراق والثقافات. من هنا فإن إستجابته للدعوة المبكرة لتأسيس " جماعة أفق " لم تنبثق من فراغ، وإنما كان لها ما يبررها، ويحفِّز بعض أصحابها لتحمّل وزر التنظير لمشروعهم الفني، وأطروحاتهم الفنية، ورؤيتهم الجمالية التي لم يتصدَ لها النقد العراقي بما فيه الكفاية. في عام 1986 إجتمع في بغداد خمسة فنانين تشكيليين وهم عامر حنا فتوحي، وبرهان صالح، ومحمد بن مهذول، ومحمد حسين عبدالله، وهيمت محمد علي، وأسسوا جماعة فنية أطلقوا عليها إسم " جماعة أفق " التشكيلية. وهذا الإسم له مدلولات عديدة، فهم يرونه محمّلاً بالإشارات والمفهومات والمعاني " الأسطورية- المثيولوجية، والنفسية "، ويرون فيه أيضاً " إنفتاحاً أزلياً على عوالم نائية مجهولة محمّلة ضمنياً بنوع من التحدي لسبر الأغوار، وكشف الخبايا. " وأكثر من ذلك فهم يؤمنون إيماناً قاطعاً بأنهم " مهما تقدموا في كشوفاتهم فإن الأفق سيظل رحيباً وقصياً، وفي الوقت نفسه قابلاً للمزيد من الكشوفات ". هذه هي خلاصة الأطروحات النظرية لجماعة " أفق " التي قدّمت معرضها الأول عام 1986 في قاعة " الرواق " في بغداد، ثم تسلل أعضاؤها واحداً تلو الآخر إلى المنافي الأوربية، بإستثناء محمد بن مهذول، فإستقر عامر فتوحي في أمريكا، وهيمت محمد علي في باريس، ومحمد حسين عبدالله في أمستردام، وبرهان صالح في جنوب هولندة، وبدأ كل واحد منهم يبحث عن أسراره، وطلاسمه، وأساطيره الخاصة على حدة. لم يغب برهان صالح عن مدينته كركوك كثيراً بالرغم من بعده الفيزيقي عنها، فقد كان يتردد إليها كلما عنّت له المواجع، وإستفاقت في ذهنة ذكريات الطفولة والصبا والشباب، تلك الذكريات المحفورة على جدران حي المصلّى، وآجر القلعة القديمة، والأزقة الشعبية، والشواخص الأثرية التي خلّفها الإنسان العراقي المتحدر من أصول تركمانية أو كردية أو آشورية أو عربية. أحب برهان الرسم فإنقطع إليه، لكن الكرافيك كان شغله الشاغل، إذ كرّس له جل وقته منذ أيام شبابه ويفاعته، وحينما سنحت له الفرصة سافر إلى روما، ودرس فيها فن الكرافيك لمدة سنتين، وحينما عاد إلى العراق بإجازة قصيرة أودعته السلطات العراقية السجن، ومنعته من السفر إلى إيطاليا ثانية لمواصلة دراسته الفنية التي يؤكد دائماً أنها كانت المرحلة الأخصب في حياته الفنية. وحينما إستأنف مشروعه الكرافيكي ثانية بعد مرحلة السجن عاد إلى حرفته الفنية المحببة، وشرع يحفر على الخشب من جديد. كانت أعماله الكرافيكية أول الأمر صغيرة بحجم الأوراق المتوافرة في العراق، بينما كانت مخيلة برهان تتوق لإنجاز أعمال كرافيكية أكبر حجماً، لكن هذه التمنيات كادت أن تذهب أدراج الرياح لولا أن تداركه الفنان رافع الناصري بنصيحة فنية مهمة مفادها " إن إلصق ورقتان وإطبع عليهما أعمالك الكرافيكية أو إعرض أعمالك الأصلية الطازجة من دون الحاجة إلى طباعتها " وحينما كان برهان يشكو من شحة أدوات الطبع لديه، عاجله الناصري بالقول " إستخدم مشغلي يا برهان، فالمهم أن تبدع، ولا تدع مشروعك الفني يتوقف. " كان الناصري، وهو من أبرز الكرافيكيين ليس في العراق حسب، وإنما في العالم العربي، كان يمحض أعمال برهان حُباً من نوع خاص، ويدرك جيداً مكامن القوة والإبداع فيها، لذلك لم يدخّر جهداً إلا وقدّمه لبرهان صالح الذي بدأ يحرز النجاح تلو الآخر، ويشق طريقه الإبداعية بدأب وصبر واضحين بالرغم من قتامة المشهد الثقافي آنذاك. لا يميل برهان صالح إلى المحاكاة الصماء، ولا يستسيغ التقليد الأعمى، وربما هو يعيد طرح السؤال الكبير الذي أثاره هيغل وهو" لماذا يبذل الفنان جهداً مضنياً من أجل تقليد ما هو موجود فعلاً؟ ". فمحاكاة الجمال الطبيعي ليس همه الأساسي، لأن هاجسه الأول هو خلق الجمال الفني، والإستمتاع به. من هنا قلما نجد تكراراً أو نسخاً أو إعادة إنتاج ما سبق إنتاجه في مجمل تجربته الفنية، اللهم إلا في بعض المقاربات الطريفة الناجمه عن الحب والوفاء والإخلاص لفنان ما، كما حدث في معرض " دوكم " المشترك مع الفنان ستار كاووش، إذ أنجز برهان ثلاث لوحات تتطابق كثيراً مع موضوعات وتقنيات ستار كاووش حتى أنه لم يُحرمها من إسم " رجل وإمرأة " وهو ذات العنوان الذي كان يحمله أحد معارض كاووش الشخصية. إن ظروف الإعتقال، والتجارب النفسية المريرة، وما ولّدته من ضغوط شديدة الوطأة تركت بصماتها على منجزه الكرافيكي خاصة والتشكيلي عامة. وقد تجسدت هذه المعاناة الشخصية في أعماله الفنية. فلوحته أو عمله الكرافيكي لا يضج فقط بالرموز والإشارات الأسطورية، وإنما هناك طلاسم، وأيقونات، وشيفرات توحي بالضغط النفسي الذي كان يتعرض له الفنان طوال حياته في العراق. يقول الناقد فاروق يوسف في مقالته المهمة والمعنونة بـ" الإنسان وسط عزلته " بأن برهان " لا يتحاشى التعبير وبشكل مباشر عن الألم، ليس بإعتباره الحالة الإستثنائية في الوجود، بل بإعتباره المؤشر الوحيد الذي يؤكد موقفه عند مستوى إنسانيته. ". قد تُفقد المباشرة في التعبير العملَ الفني بعض بريقه، وتُحرمه من السرية والغموض المُستحبَين، بكلمات أُخر، أنها تحرم المتلقي من ممارسة لعبة الإكتشاف أو المشاركة العضوية في خلق العمل الفني، هذا إذا إعتبرنا التلقي هو عملية خلق ثانية. تلعب التقنيات الأوربية المُستعارة دوراً مهماً في صياغة العمل الفني لبرهان صالح الذي يعتمد على أسلوبين معروفين، وهما التعبيرية، والتجريدية، فضلاً عن المنحى التشخيصي الذي يمكن تلمّسه في العديد من أعماله الفنية، فلا غرابة أن يعقد بعض المقاربات الفنية بينه وبين الفنان التعبيري ستار كاووش الذي يعمل بإخلاص شديد على ثنائية المرأة والرجل منذ بدء رحلته الفنية في أواسط الثمانينات وحتى يومنا هذا. ظل برهان أميناً للمذهب التعبيري الذي يستجيب كثيراً لأطروحاته ورؤيته الفنية، ويسجل بدقة وأمانة إنفعالاته، ويمسك بجوهر مشاعره الإنسانية في أويقات التأجج والتوهج، والنشوة والإنشراح، والغم والحزن، واليأس والإحباط، وما إلى ذلك من الخلجات الإنسانية التي تخض الدماء في شرايين الكائن البشري. رهافة التقنيات ثمة علاقة روحية وحسية في آن معاً تلك التي تربط الفنان برهان صالح بالسطح الخشبي. وهو يتعامل مع هذه " الكليشة " الخشبية برؤىً وأساليب مختلفة، إذ يتعمد شحنها بطاقة تعبيرية متشظية يستمدها من اللون الأسود الذي يشكل القاعدة الأساسية في العملية الإبداعية مع الإفادة من إشعاعات اللون الأصفر غير المبالغ فيه، هذا ناهيك عن إعتماده سواء على الأشكال والتكوينات البسيطة، والخطوط القوية، الحادة، الغائرة، المختزلة، أو على الخطوط المنحنية، اللينة، المطواعة التي تعكس جوهر ثيمته، أو بعض إنعكاساتها في الأقل. ثمة تقشف واضح في أشكال البني الداخلية المكوّنة لمتون الأعمال الكرافيكية لبرهان صالح، غير أن هذا الإقتصاد محسوب ومخطط له سلفاً بالرغم من شيوع بعض الأجواء العفوية، أو المناخات التلقائية في أغلب نتاجاته الكرافيكية. ربما يكون الفنان عامر فتوحي من أكثر النقاد قرباً لتجربة برهان صالح فهما يشتغلان في المنطقة " التعبيرية التجريدية " التي تبحث في الجذر الأسطوري، وتغوص في كثير من الأحيان في الماضي البعيد بحثاً عن النبع الأول، والبراءة الأولى، وشهقة الوصال الأول لحظة إلتماع النشوة في عين الرجل البدائي، وترقرقها في عيني المرأة الذائبة، المسترخية. يقول فتوحي عن التقنيتين اللتين إستخدمها برهان صالح في معرضهما المشترك " الحصار أو الفن الذي سيأتي " بأنه " نفّذ الأولى بشكل إعتيادي مؤكداً على نقل إنفعالاته الطازجة في الخشب المحفور على سطح الورقة، فيما إكتفى في الثاني بمسح خشبة الحفر بالحبر مما أدى إلى تكثيف الطاقة التعبيرية لخطوطه ومنحها حرارة أكبر في التفاعل مع المتلقي بخاصة عندما أكد على أولوية العلاقات البصرية بين الأسود القاسي، والأصفر المشع، والأوكر الحيوي الأنثوي. "1. والمتتبع الجيد لكرافيكيات برهان صالح سيكتشف من دون عناء هذا التقشف اللوني، وعدم ميله إلى البهرجة اللونية، ويمكن ملاحظة عزوفة عن الألوان الحارة، ولكن موهبته في تطويع هذه الألوان المحدودة، وخبرته العالية في توظيف سطح الخشبة ذاتها هي التي منحته هذا الإمتياز، وسجّلت له هذا التفرّد. وفي موضع آخر يمجّد فتوحي هذه الخبرة والرهافة الفنية التي يتوافر عليها برهان فيقول: " ومما ساعد على نجاح أعماله في التواصل مع الآخر رهافة حسه، وطواعية أنامله، وقدرته المتكيفة على التعامل مع الخامات المختلفة بروحية الساحر والمغامر في آن. "2. في أوائل التسعينات من القرن الماضي كان برهان منغمساً في موضوعه الأثير " الوجه والجسد "، ومن بين 23 لوحة قدّمها في المعرض المشترك مع عامر فتوحي كانت هناك 17 لوحة تعالج " موضوعات الوجه البشري الذي يرسمه برهان صالح مكتنزاً بالتعبير، متوغلاً في أعماق النفس حتى لكأنه يحاول أن يعكس الوجه من خلال اللون، وتداخل الخطوط حركات الإنسان كلها. ويبدو أن معظم أشكاله توحي بأزمة روحية حادة، معمقاً إياها بضربات حادة جداً على الورق والقماش وهو يركز على العيون في دراسته للوجه معتبراً إياها مفتاحاً للتعبير عن مختلف الحالات النفسية. "3. من هنا نكتشف أن الموضوعة النفسية هي من الموضوعات الضاعطة على ذهن الفنان المسكون بالقلق، والخوف، والترقب. وقد أصاب الحسيني كبد الحقيقة بوصفه الحالات التي تناولها برهان في هذا المعرض بـ " العُصابية " حينما قال: " وقد جاءت أعماله بحركاتها القوية موحية بما يشبه " العصابية " في التعبير النفسي. "4. تثير أعمال برهان أسئلة عميقة تتعلق بكينونة الإنسان، وتبحث في مصيره، وتبرر الإقرار بثنائية الوجود والعدم، وربما تفلسفها بطريقة فنية. كما تضع المتلقي العضوي أمام نوع من المتعة البصرية القائمة على ثنائية الضوء والظل، أو الشفافية اللونية، ومشتقات العتمة الناجمة عن الألوان الكابية التي أشرنا إليها سابقاً، وهي الأسود القاسي، والأوكر الحائل، والأصفر الباهت. المعارضة التشكيلية بين التناص والتنصيص لم يعرف التشكيل المعارضة " والمعارضة هنا كأن نقول عارضته بما صنع، أي أتيت بمثل ما أتى به، وفعلت مثلما فعل "، ولكن هذا الأمر لا يلغي التأثر والتأثير المقصود أو غير المقصود، ولا يمنع من وجود النسخ، والتقليد، ولا يحد من إستمرار ظهور المماثلات المشوّهة، والمطابقات الخرقاء التي يظن أصحابها أنهم ينجزون أعمالاً فنية خالصة. ما نروم الإشارة إليه هنا أن هناك فناناً يمحض تجربة فنان آخر حُباً من نوع خاص، ويريد أن يتماهى معها، ويأتي بمثلها لكي يعبّر عن حبه لهذه التجربة التي يراها فريدة، ومميزة، وإستثنائية. لذلك يلجأ إلى ما نسميه بالتعالق الشكلي أو المضموني ليقدم عملاً فنياً فيه الكثير من أوجه المماثلة أو المطابقة أو المشابهة إلى حد الإستنساخ. ففي الشعر، على سبيل المثال لا الحصر، هناك إشتغال على تقليد بعض " المعاني الشائعة "، وكما يذهب د. يوسف إسماعيل " إن الشاعر لا يقيم علاقة تناص مع بيت محدد لشاعر معين، وإنما يشكل المخزون الشعري العام رصيداً له. " 5. وهناك من يتبع " بيتاً شعرياً محدداً " لا يضمنّه أو يقتبسه، وإنما يتعالق معه ليبيّن إعجابة المفرط فيه عله يتمكن في نهاية المطاف من إحالته إلى " مخزونه الشعري، إنطلاقاً من قدرته على إعادة صياغته في سياق آخر. " 6. وهناك نوعان آخران من التعالق، وقد أسماهما د. يوسف إسماعيل بـ " التعالق النصي على مستوى التركيب" و " التعالق الفني " أما الدافع الأساسي الذي يحفّز بإتجاه التعالق النصي فهو أن بعض الأبيات الشعرية قد حققت " ذيوعاً ووقعاً لدى المتلقي لصياغتها على طريق المثل، وما لذلك من دور في حفظها، وبخاصة إذا كانت ذات إيقاعٍ طاغٍ. " 7. فبعض من الشعراء يرومون تثبيت الدلالة الشعرية لهذه الأبيات، أو اللعب في مناخها المُستحب، أو مجاراة الشاعر ومحاكاته في بعض آرائه التي خلقت جواً شعرياً مميزاً يحيل إليه، ويمجد البراعة التي حققها من خلال التناص لا التنصيص أو الإيداع أو الإقتباس. أما التعالق الفني فهو يركز على بعض الأبيات التي حققت " حضوراً فنياً في الذاكرة الشعرية بسبب طاقتها التصويرية، أو بسبب نكتة بلاغية جعلت البيت الشعري يتداول على ألسنة الناس، وهذا ما يدفع الشعراء اللاحقين لإقتفاء أثر تلك الأبيات، مركّزين على العنصر الذي حقق لها الذيوع. "8. تتضح أهمية التعالقين الأخيرين في الأسباب الرئيسة الكامنة في خلق جملٍ شعرية شديدة الدلالة والتركيز بحيث أنها تقترب من صياغة الحِكَم والأمثال، وتشكّل في النهاية حضوراً طاغياً لا يبهت أمام تقادم الزمن بحكم فرادة المعنى، وجودته. أو بسبب ما أسماه الناقد بـ " الطاقة التصويرية أو النكتة البلاغية " التي تشحن البيت الشعري بصورة فنية، قوية، مليئة بالدلالة والإيحاء. ولسنا بحاجة إلى التوسع والإسهاب في الحديث عن المعارضة الشعرية، ولكننا أحببنا أن نميز بين نوعين من المعارضة، وهما المعارضة التناصية والتنصيصية لكي تعيننا في كشف الدوافع الحقيقية التي حفزّت الفنان برهان صالح لكي يتناص تشكيلياً مع تجربة كاووش الفنية شكلاً ومضموناً في " معرض دوكم المشترك 2004 ". وكما أشرنا سابقاً أن برهان صالح هو فنان متميز، ولا يسعى إلى تقليد أي فنان مشهور آخر ليؤكد حضوره الفني من خلال المجاراة في التقنية أو الثيمة. وقد قال عنه الناقد التشكيلي فاروق يوسف، وهو من المتابعين الجيدين لتجربة برهان الفنية، قال عنه بالتحديد: " لقد جرَّ برهان صالح محمد الرسم الحديث في العراق إلى المنطقة التي كان يتحاشى البقاء فيها طويلاً " التعبيرية "، فلا يغيظه أن يكون وحده تعبيرياً، بل يُصر على أن يكون تعبيرياً حتى في أشد لوحاته إنحيازاً للتجريد. "9. إذاً، أن فناناً مجرّباً، ومغامراً، وذا رؤية فنية حديثة متجددة إنما يقصد التعالق التناصي، التقني والمضموني، وليس المقاربة التنصيصية العابرة التي لا تخلّف أثراً يذكراً. هذا ناهيك عن طبيعة العلاقة الحميمة التي تربطه بالفنان المبدع والمثابر ستار كاووش الذي يعتمد في مشروعه الفني على محاور متعددة من بينها ثنائية الرجل والمرأة، والعلاقة الملتبسة التي أحبها برهان صالح، وحاول أن يتناص معها من خلال ثلاثة أعمال حملت عنوان " رجل وإمرأة ". والمتمعن في هذه الأعمال سيكتشف أن برهان قد إستطاع فعلاً أن يستوحي ثيمة كاووش الأثيرة، بل ويقترب من تقنيتة كثيراً إلى الدرجة التي أوهم فيها متلقين عراقيين بأن هذه اللوحات الثلاث هي نتاج كاووش نفسه! وهذا الحالة تذكّرنا بالواقعة التي حدثت بين زيوسس وبارسيوس مع فارق التشبيه طبعاً، ولكنني أحببت الإشارة إليها لأن برهان صالح تمكن " إيهام الشاعر موفق السواد وخداعه مثلما أوهم الكثير من المتلقين " الذين ظنّوا بأن هذه اللوحات الثلاث " المتناصة " هي لكاووش، وليس لبرهان صالح! يُقال أن فناناً يونانياً ذائع الصيت، عاش قبل ميلاد السيد المسيح بـ 400 سنة، قد رسم ذات مرة صبياً صغيراً يحمل عنقوداً من العنب، وكانت درجة الشبه بين العنقود المرسوم وعناقيد العنب الحقيقية كبيرة إلى الدرجة التي خدع فيها العصافير وجعلها تهجم على العنقود ناقرةً في حباته من دون جدوى. وقد عنَّ له أن يشترك في مسابقة فنية مع فنان آخر يوناني آخر طبقت شهرته الآفاق، ولكنه عوّل كثيراً على لوحته طالما أنها أوهمت حتى العصافير. وحينما بدأت مراسيم المسابقة قال زيوسس مخاطباً منافسه بارسيسوس الذي كان يقف أمام ستارة كبيرة: " أزِح الستارة لكي ترينا لوحتك! " فرّد بارسيوس منتشياً " هذه الستارة هي لوحتي، فحتى أنت الإنسان قد خُدعت، وظننتها ستارة حقيقية. لذا فالرابح في هذه المسابقة هو أنا من دون شك. لقد أوهمتَ الطيور بعنقودك، ولكنني أوهمتكَ أنت، هذا ناهيك عن أن الطفل الذي رسمته حاملاً العنقود لم يكن حقيقياً بما فيه الكفاية بحيث أنه يخيف الطيور أو يبعدها عن عنقود العنب. "10. إذا كانت هذه اللوحات الثلاث قد رُسمت وفاءً لشخص كاووش، وإعتزازاً بتجربته الفنية، وقد شذّت في موضوعها على الأقل عن السياق العام الذي تتمحور عليه تجربة برهان صالح فإن بقية الأعمال التي تضمنها هذا المعرض هي إمتداد متطور لمحاوره السابقة التي لم تسقط في فخ التكرار والنمطية، وهذا هو دأبه ودأب جماعة " أفق " برمتها التي تسعى وراء المغامرة، والتجديد، وتجاوز الأشكال والموضوعات الجاهزة. وفيما يتعلق بتجربة الفنان برهان صالح فقد وصفها الناقد التشكيلي عادل كامل بالقول " إنه يبحث عن أشكال شعرية متحركة "11 وهذا يعني أنه ظل مخلصاً لخطابة البصري المُستفز على الدوام. وبالرغم من إنضوائه تحت يافطة " أفق " إلا أنه لم يكن يبحث عن هوية جماعية محددة. وقد جاء في بيانهم ما يعزز هذه الأطروحة إذ يقولون بلسان الجمع " نحن لا ننتمِ إلى جيل محدد أو لإتجاه ما قدر ما ننتمي لأنفسنا، وذلك لأننا نؤمن بأن الفنان الحق هو الذي يسعى بهدي من نوره الداخلي متجاوزاً كل الجاهز من الأفكار. "12. وبالرغم من إشتراكهم في المفهومات والرؤى العامة إلا إن لكل فنان خصوصيته، وعالمه الفني الذي يسعى قدر الإمكان ألا يتأسلب فيه، لكي لا يقع في فخ النمطية، والتكرار، والقيود الصارمة التي تحد من نزعته التجريبية.
• إحالات ومصادر
1- عامر فتوحي، معرض حصار أو الفن الذي سيأتي، صحيفة القادسية، 26 أيار 1992. 2- المصدر نفسه. 3- حسين الحسيني، الفن الذي سيأتي: في المعرض المشترك لعامر فتوحي وبرهان صالح محمد، الرافدين، العدد 35، 27، حزيران،1992. 4- المصدر نفسه. 5- د. يوسف إسماعيل، التعالق النصي في الخطاب الشعري: مقاربة نقدية في المرجعية الثقافية للقصيدة المملوكية، مجلة التراث العربي، العدد 89 آذار " مارس " 2003. 6- المصدر نفسه. 7- المصدر نفسه. 8- المصدر نفسه. 9- فاروق يوسف، الإنسان وسط عزلته، كتالوك عن تجربة الفنان برهان صالح محمد أعده الناقد في أواخر الثمانينات من القرن الماضي. 10- V.M.Hillyer and E.G.Hueg, The story of our heritage, Fine Art 15,000 B.C-1,800 A.D,p 25. 11- عادل كامل، جماعة أفق. . تجريب وحداثة، مجلة ألف باء، العدد 996، 28 تشرين الأول 1887. 12- المصدر نفسه.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رفعت الجادرجي يسطو على تصميم لعامر فتوحي في رابعة النهار
-
بعد أربعين من صدوره يسبّب- منهاج المسلم - بترجمته الهولندية
...
-
التابو في المشهد الثقافي العربي والإسلامي إشكالية التحريم وا
...
-
مهرجان السينما العربية في باريس يحتفي بالسينما العراقية، ويك
...
-
مهرجان الحلقة التونسي في روتردام
-
حوار مع الفنانة عفيفة العيبي : العمل الفني أشبه ببناء عمارة
...
-
الفنان صادق الفراجي في معرضه الشخصي الجديد يدوّن ذكريات المد
...
-
عفيفة العيبي في معرضها الشخصي الجديد: فنانة ترسم بتقنيات نحت
...
-
صالة Ezerman في مدينة دوكم الهولندية . . تحتفي بأعمال الفنان
...
-
المخرج السينمائي طارق هاشم: - 16 ساعة في بغداد - مليئة بالذه
...
-
التعالق الفني بين التناص والتنصيص قراءة نقدية في تجربة الفنا
...
-
حوار مع الفنانة التشكيلية رملة الجاسم
-
جائزة إيراسموس لعام 2004 يتقاسمها ثلاثة مفكرين: صادق جلال ال
...
-
رموز وإشارات وعوالم خاصة في معرض مشترك لتشكيلي عراقي ونحّات
...
-
رقصة الحلم و رجل وإمرأة معرض مشترك لستار كاووش وبرهان صالح ف
...
-
حوار مع الفنانة إيمان علي خالد
-
حوار مع الشاعر إبراهيم البهرزي
-
حوار مع الشاعر العراقي كريم ناصر
-
فوق الثلج الأحمر لكابول
-
التشكيلي الأفغاني شكور خسروي
المزيد.....
-
مصر.. حكم بالسجن المشدد 3 سنوات على سعد الصغير في -حيازة موا
...
-
100 بالمئة.. المركزي المصري يعلن أرقام -تحويلات الخارج-
-
رحلة غوص تتحول إلى كارثة.. غرق مركب سياحي في البحر الأحمر يح
...
-
مصدر خاص: 4 إصابات جراء استهداف حافلة عسكرية بعبوة ناسفة في
...
-
-حزب الله- يدمر منزلا تحصنت داخله قوة إسرائيلية في بلدة البي
...
-
-أسوشيتد برس- و-رويترز- تزعمان اطلاعهما على بقايا صاروخ -أور
...
-
رئيس اللجنة العسكرية لـ-الناتو-: تأخير وصول الأسلحة إلى أوكر
...
-
CNN: نتنياهو وافق مبدئيا على وقف إطلاق النار مع لبنان.. بوصع
...
-
-الغارديان-: قتل إسرائيل 3 صحفيين في لبنان قد يشكل جريمة حرب
...
-
الدفاع والأمن القومي المصري يكشف سبب قانون لجوء الأجانب الجد
...
المزيد.....
-
فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال
...
/ المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
-
الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري
...
/ صالح ياسر
-
نشرة اخبارية العدد 27
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح
...
/ أحمد سليمان
-
السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية
...
/ أحمد سليمان
-
صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل
...
/ أحمد سليمان
-
الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال
...
/ مركز الآن للثقافة والإعلام
-
جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م
...
/ امال الحسين
المزيد.....
|