|
المعتقدات الدينية الصينية وفلسفة الوجود
نضال الصالح
الحوار المتمدن-العدد: 2786 - 2009 / 10 / 1 - 10:33
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يقدرعدد المسلمين في العالم اليوم بمليار وثلاثمائة ألف مسلم بنسبة تساوي حوالي 20 في المئة من سكان المعمورة كما يقدر عدد المسيحيين بمليونين ومائة الف بنسبة 33 في المئة من سكان العالم أما اليهود فلا يزيد عددهم على الخمسة عشر مليونا. وهذا يعني أن أكثر من نصف سكان المعمورة يدينون بديانات غير سماوية أو لا يدينون بأية ديانة. ومع ذلك فهناك تركيز منقطع النظير على الديانات المدعوة سماوية وكتبها وعقائدها وشبه إهمال لبقية الأديان والمعتقدات باعتبارها إلحادية وكافرة . تسمى الأديان "السماوية" بذلك لأنها مبنية على مفهوم الإله الخالق للعالم والمتحكم به من خارجه والمتربع على عرش مملكته، يرسل رسائله وتعاليمه للبشر عن طريق مراسليه الملائكة، يطلب منهم فيها عبادته وعدم الشرك فيه والإخلاص له والإلتزام بتعاليمه. تعتبر الأديان السماوية أن الله هو خالق كل شيء، قائم منذ البدء، عندما لم يكن حوله شي، والموجودات خلقها بعدما أظهر نفسه إلى الوجود. أبو البدايات، أزلي أبدي، دائم قائم، ليس له من شبيه، سرّ لا تدركه المخلوقات، الواحد الذي صنع كل ما ظهر في البدايات الأولى،كان، عندما لم يكن هنالك شيء، يقدر المصائر للمستقبل البعيد، وأحكامه لا مبدِّل لها، يطلب من خلقه عبادته وعدم الإشراك به وبناء على قدر الإلتزام بهذه العبادة سيلقون الثواب في جنة الخلد أو العقاب في نار جهنم. حملة الرسالة الإلهية على الأرض يدعون بالرسل والأنبياء وهم يتلقون الرسائل والتعليمات الإلهية عن طريق الوحي وعليهم نشر هذه الرسائل والتعليمات بين البشر، لكي ينتشر دين الله ويعم جميع الإنسانية. طبعا كل من هذه الأديان تدعي أن دينها هو دين الله ودين الحق وان الأديان الأخرى هي أديان مزيفة وهرطقية. الدين الإسلامي رغم إعترافه بالمسيحية واليهودية كأديان سماوية فأنه يعتبر نفسه دين الحق الذي نسخ بقية الأديان. ما نعرفه عن الأديان السماوية التي نبعت وتأسست في الجو الديني الشرق أوسطي لا ينطبق على المعتقدات الدينية الصينية. فمفهوم الإله الخالق للعالم والمتحكم به من خارجه، والمتربع على عرش مملكته، كما في الأديان السماوية لا ينطبق على المفهوم الصيني للإله. الإله في المفهوم الديني الصيني هو القوة أو الطاقة الفاعلة في الكون من داخله والتي تدفع حركة وتنسيق المظاهر الطبيعية. الكون في مفهوم المعتقدات الصينية، ليس نتاجا لعمل إله سماوي خارج عنه وإنما وحدة حية تعتمد وظائفه على بعضها البعض وفق طاقة تلقائية مغروسة في صميم تركيبه. الكون لم يخلق نتيجة فعل خارجي أو إرادة خارجة عنه، وإنما نتيجة خلق غير إرادي من داخله، لأنه لو كان العالم قد خلق نتيجة إرادة خارجية عنه، فمن الضرورة حينئذ وجود خالق صنع نفسه. لا يوجد في المفهوم الديني الصيني رسل وأنبياء يتلقون التعاليم من السماء وإنما فلاسفة وحكماء يدرسون الظواهر الوجودية ومظاهر الكون والطبيعة ويسعون للتلائم معها.
أهم وأشهر كتب الحكمة الصينية هو كتاب " آي تشينغ" أي" التغيرات" أو "التحولات"، والذي ظهر في مطلع الألف الأول قبل الميلاد و الذي تعزوه كثير من المصادر إلى القائد الأسطوري " فو هسي" الذي عاش منذ قرابة 4860 سنة . أساس الكتاب يتمثل في ثمانية رموز بصرية التية تسمى " با هوا " أو "باكوا" يمكن من خلال تأملها بوسائل روحية معينة أن يصل المتأمل إلى استنبطان رحم المستقبل –. ولقد شغل هذا الكتاب كثير من المفكرين الصينيين قرونا طويلة، وساهم عدد منهم في شرحه والتعليق عليه، وكان منبعا لأهم المنجزات الفكرية في التاريخ الصيني، ومن أهمها فرعي الحكمة الصينية، التاوية والكونفوشية.
لا مجال هنا في البحث في تفاصيل محتويات الكتاب وليس ذلك من أهداف هذا المقال ولكننا نستطيع أن نقول أن فلسفة الكتاب تقوم على أن كل شيء متغير ومتحرك، ولكن التغير يجري على أرضية ثابتة هي "التاو" أو "الداو" ،والتي تعني بالصينية الطريق، وهي هنا تقوم بدور المبدأ الضمني الذي يفعل من داخل مظاهر الكون والطبيعة، و هو أيضا الوحدة الكامنة خلف الكثرة الظاهرة. ومن أدرك معنى التغير ومضمونه صرف النظر عن الأعراض الزائلة في الأشكال المتنوعة، وثبت فكره وقلبه على المبدأ الغير متغير. لقد اطلع كونفوشيوس، مؤسس الكونفوشية، على كتاب التغيرات ودرسه وشرحه وعلق عليه. كما أن الحكيم لاو- تسو مؤسس التاوية درس الكتاب وكان منبعا رئيسيا لإلهامه. لم يعتبر أي من كونفوشيوس أو لاو تسو نفسه رسولا من قبل السماء، يحمل رسالة إلهية للبشر، بل انسانا يعمل على التلاؤم مع النظام الكوني، واعتبر كلاهما أن الإنسان ليس كائنا مستقلا عن الكون، وكلما سلك الإنسان سلوكا متلائما ومتفقا مع النظام الكوني كلما عاش حياة أكثر سعادة. لقد صيغت الكونفوشية والتاوية بطريقة حكموية،بعيدة كل البعد عن الطابع الديني للرسالات السماوية المعروفة. وبخلاف الكونفوشية التي تركز على القانون الأخلاقي في المجتمع باعتباره صورة عن النظام الكوني، فإن التاوية لا تأبه للأخلاق المفروضة على الإنسان من الخارج، بل ترى أن السلوك التلقائي للإنسان إذا ترك على سجيته فإنه سينحو منحا أخلاقيا. إن تعاليم الاستقامة وأفعال الخير لا ضرورة لها عندما يعيش الناس وفق طبيعتهم الأصلية ، وإن المفكرين الذين يعملون على صلاح المجتمع لا حاجة إليهم عندما يسود التناغم علاقات الأفراد والجماعات . ومهما بالغنا في فرض اللوائح الأخلاقية من الخارج ، فإن هذه اللوائح تبقى مصطنعة وبدون فاعلية إذا لم تكن المرجعية الأخلاقية هي ذاته ونابعة من داخله. يتخذ مفهوم المحبة: " ين" مكانة مركزية في الحكمة الكونفوشية، ويقوم هذا المفهوم على أساس من التميز العقلي الذي يدعي " يي" . والإنسان في الكونفوشية ذو طبيعة عقلية بالدرجة الأولى، ولكي يحقق طبيعته العقلية ، عليه بالدرجة الأولى أن يقوم بواجباته الأخلاقية، بعيدا عن الرغبات الشخصية، بناءا على لائحة المعايير الأخلاقية والسلوكية التي تدعى " لي" ، وتغطي كل وجهات العلاقات الفردية والاجتماعية. وفي حالة مواجهة موقف لا وجود له مرجعية في لائحة الأخلاق ، عليه أن يلجأ إلى محاكمته العقلية الخاصة، من أجل تطبيق قاعدة فقهية عامة على مسألته الخاصة تلك ، وهذا ما يدعى " تشيه" أي الحكمة. التاوية تناقض هذا المفهوم للمحبة وفي مقابل ال "ين" الكونفوشي ذي الطبيعة الجامدة، تطرح مفهوما يدعى " تزو" الذي يشير إلى المصدر الأصلي للمحبة، المزروع في صميم الكون، وفي صميم النفس الإنسانية. لا تقوم هذه المحبة التاوية على أساس من التميز العقلي والرجوع إلى لوائح أخلاقية، بل تفعل من داخل الإنسان إذا ترك نفسه على سجيتها وتخلص من التعاليم والشرائع المسبقة. الإنسان الذي يعمل الخير عن سابق تصميم وتدبير، كي يشعر بعد ذلك بالرضى عن نفسه أو طمعا في ثواب أو خوفا من عقاب، هو في رأي التاوية إنسان غير فاضل، لأن الخير في هذه الحالة لم ينبع من ذات طبيعته وإنما من الأنا المشغولة بنفسها والساعية للرضى عن أعمالها أو لرضى الغير. أما عندما ينبع الخير من داخل الإنسان ويقوم بعمل الخير في كل خطوة يخطوها دون أن يشعر بأنه يقوم بعمل الخير، أو يتملكه شعور بالرضى والاعتزاز عن النفس فهو إنسان فاضل. الحكيم التاوي ليس مصلحا أخلاقيا كما هو شأن الحكيم الكونفوشي وإنما هو معلم روحي، يدلل على كيفية التناغم مع الكون. والتاوية تخلو من الطقوس والعبادات المتعارف عليها في الأديان السماوية، والتاوي حر من أية فروض طقسية أو تعبدية. الكونفوشية تدعو إلى سياسة الثواب والعقاب،والمدح والتقريع كوسيلة للردع وإثارة الحوافز. أما التاوية فتعتبر أن ذلك يدعو إلى تنمية الأنا في الأفراد،ولذلك فهي تعمل وتدعو إلى كبح جماح الأنا الفردية، والتاوي لا يعير المديح أو التقريع اهتماما ، ولا ينتظر مدحا أو استحسانا أو جزاءا على نتيجة عمله. يقوم الفكر الصيني منذ أقدم العصور على النظر إلى الحياة والإنسان والوجود بأكمله، على أنه نتاج حركة طاقتين ساريتين في كل مظاهر الوجود ، هما ال"اليانغ" وال "ين" أي المذكر والمؤنث ، الموجب والسالب. مفهوم الأقطاب في الفكر الصيني بمختلف تياراته،يختلف عن مفهوم الأضداد في الأديان الشرق أوسطية أو المسماة سماوية، أي اليهودية والمسيحية والاسلام . في مفهوم الأديان السماوية المذكورة، هناك صراع أبدي بين الأضداد، فالخير يصارع الشر، والحياة ضد الموت، والظلام ضد النور وهكذا صراع على السيادة بين كل نقيض ونقيضه. أما في مفهوم الفكر الصيني فإن الأقطاب لا تتصارع ولكنها في حركة تعاونية، وتوازن الكون هو نتيجة لتعاون هذه الأقطاب على كل صعيد . الأقطاب في الفكر الصيني لا تتصارع على السيادة وعلى إلغاء الآخر،لأن كل ضد يأخذ معناه ووجوده من ضده، فلا نور بدون ظلام ولا معنى للخير بدون وجود الشر ولا للحياة بدون الموت وهكذا.
د. نضال الصالح/ فلسطين
#نضال_الصالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الآخر في الديانة اليهودية
-
التوراة في الفكر الديني الإسلامي : كتاب مقدس أم محرف ؟
-
عندما يصبح غصن الزيتون رمزا للمقاومة
-
القصص القرآنية بين التاريخ والخرافة
-
المتاهة
-
الوداع الأخير للحب الأول والأخير
-
العار
-
أم الشهداء
-
يوم عادي من يوميات فلسطيني
-
أشجار الزيتون ستظل في فلسطين واقفة (قصة قصيرة)
-
الأخلاق و- الكتب السماوية-
-
كلنا مشاريع قص رقبة
-
علاقة الديانه اليهودية بالمشروع الصهيوني والتكوين السياسي لد
...
-
عودة إلى موضوع الدين والعلمانية
-
ما الهدف من نقد الفكر الديني
-
المرأة ناقصة عقل وعورة وجب إخفاءها عن عيون الغرباء
-
العلمانية والدين، صراع بقاء أم حياد إيجابي
-
الكتب المقدسة هي جزء من المنتج الأدبي والثقافي الإنساني
-
سلطة التاريخ على السياسة
-
بين نقد الفكر الديني الإسلامي وسياسة الغرب الإستعمارية. رد ع
...
المزيد.....
-
ثبت تردد قناة طيور الجنة الجديد على النايل سات وعرب سات
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 Toyor Aljanah نايل سات وعرب
...
-
اللواء باقري: القوة البحرية هي المحرك الأساس للوحدة بين ايرا
...
-
الإمارات تكشف هوية مرتكبي جريمة قتل الحاخام اليهودي
-
المقاومة الإسلامية تستهدف المقر الإداري لقيادة لواء غولاني
-
أبرزهم القرضاوي وغنيم ونجل مرسي.. تفاصيل قرار السيسي بشأن ال
...
-
كلمة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي بمناسبة
...
-
قائد الثورة الاسلامية: التعبئة لا تقتصر على البعد العسكري رغ
...
-
قائد الثورة الاسلامية: ركيزتان اساسيتان للتعبئة هما الايمان
...
-
قائد الثورة الاسلامية: كل خصوصيات التعبئة تعود الى هاتين الر
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|