|
أنا عيناك أيها الكهلُ
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 2785 - 2009 / 9 / 30 - 20:19
المحور:
سيرة ذاتية
للمرة الثانية، وليس الأخيرة، سأسرقُ فكرة جاك بريفير، الشاعر الفرنسي الذي يعلمنا في قصيدة جميلة كيف نرسم عصفورا. يقول: نرسم أولا قفصا ونترك بابه مفتوحا. ثم نرسم داخل القفص شيئا يحبه العصفور. شيئا حلوا وبسيطا ونافعا للعصفور. ونعلّق اللوحةَ على شجرة. ثم نختبئ صامتين دون حراك خلف الشجرة. ننتظر. يوما، شهرا، سنوات. يوما ما سيجيء العصفور. حتما سيجيء. وحالما يدخلُ القفصَ نخرج من مخبئنا ونرسمُ بهدوءٍ بابَ القفص قضيبا فقضيبا. محاذرين أن نمسَّ الطائرَ بريشتنا. نغلق الباب. نرسمُ شجرةً خلفَ القفص. ونتخيّر أجملَ أغصانِها للعصفور. نرسم أيضا أوراقا خضراءَ وأشعةَ شمسٍ كي يفرح العصفور. إن لم يصدح العصفور فتلك علامةٌ على إخفاق اللوحة. وإن غرّد فإن اللوحةَ ناجحةٌ. وقتها فقط نقدر أن ننزع ريشةً من جناح العصفور ونوقّع باسمنا في ركن اللوحة السفليّ. كلما هممتُ بسرقته أكتشفُ أنني لست جاك بريفير! أحاول رسم عصفور فأُخفق! العصفورُ صعبٌ جدا، لأن ريشه ملوّن. ولأنه حرٌّ. ولأنه يطير. لا أعرف أن أرسم شيئا يطير. ريشةُ الله وحدها تقدر. أو خيال بريفير. لا أقدر أن أرسم عصفورا ملونا يطير، لكن أقدر أن أرسم بالأبيض والأسود شيئا يمشي على الأرض. شيئا كان يحلم أن يكون عصفورا ولم يقدر. لذلك سأرسم صبيًّا واقفا في أقصى يسار اللوحة. ممشوقا ووسيما. في عينيه تمرّد مبكر ورفضٌ للعالم. يضع على رأسه طربوشا كعادة المصريين في أوائل القرن الماضي. هو في عامه الأول بكلية الحقوق جامعة "فؤاد الأول"، التي ستغدو بعد عقدين جامعة القاهرة. أما الفتاة الجميلة الواقفة جواره، فهي شقيقته التي تكبره بأعوام قليلة. اسمها فاطمة هانم. وهو اللقب الذي توسم به كل فتاة تنتمي للأشراف. سوف تتزوج بعد عامين لتنجب سهير عام 1936. يكبر الصبي ويتقن لغات عدة ويعمل بالمحاماة والترجمة والإعلام ويجوب العالم مثل بوهيميّ لا يروق له شيء ويعشق كلَّ شيء ويسخر من كلِّ شيء. ثم يؤلف كتابين بالإنجليزية لن يريا النور أبدا. أحدهما بعنوان: The Other Face of Cleopatra"، "الوجه الآخر لكليوباترا"، يحكي عن سلبياتها التي تغافل عنها التاريخ من أجل صناعة أيقونه لامعة تحمل اسم ملكة مصرية قديمة، والثاني "Lashing Boots"، "لاعقو الأحذية"، يسخر فيه من الطبقات الطفيلية الجديدة التي قوّضت رقيَّ المجتمع المصري وأوقعته في الحضيض منذ الانفتاح الساداتيّ. قارئا نهمًا كان منذ صباه المبكّر، ومن ثم سيضعف بصره تدريجيا حتى يفتح باب المصعد ذات شيخوخة فلا ينتبه إلى عدم وجود علبة المصعد ويسقط في البئر من حالق وتنفصل شبكيته. لن أرسم المصعد. لكن سأرسم دموعه التي رأيتها تقطر من عينيه الخاويتين لأنه حُرم من معشوقته القراءة. وأغدو أنا عينيه اللتين يقرأ بهما. نعم، كثيرا ما تتحول الحفيدةُ إلى عينين حين يفقد الجدُّ البصر. هل كنتُ وقتها في العاشرة من عمري أو حولها؟ أظن هذا. سأرسم نفسي وعيناي تحاولان أن تخترقا جمجمة هذا الكهل وهو يعلمني أن القراءة فنٌّ صعب. سأتعرف من خلاله على الأغاني والشوقيات ومواقف النفري وعوالم الحلاج والشعر العباسي والشكسبيريات وأوسكار وايلد وفيكتور إيجو ودايستوفسكي. أحاول الآن أن أرسمه وهو يصفق طربا حين تقول أم كلثوم على لسان جورج جرداق: "هلَّ في ليلتي خيال الندامى/والنواسيّ عانق الخيامَ." ويسألني: عارفة معنى البيت ده؟ أقول: لأ. فيهتف: يعني الليلة دي عجائبية اجتمع فيها اثنان لا يجتمعان: العباسيّ أبو نواس، والخيام الفارسيّ. شاعران يفصل بينهما الزمن والجغرافيا والتوجّه الشعري. صارا نديمين في قصيدة! فأدركُ وقتها كيف يمكن رسم المعجزة بالكلمات وبالشعر. وفي الأخير سأرسم نفسي عام 2001 وأنا أكتب مرثيته وأهديها: إلى محمد إبراهيم سليمان خال أمي وجدي الذي علمني الطيران بعدما أخفق فيه. ومات قبل أن يرى أنني أيضا لم أطر. لأن أحد يطير إلا العصفور. "إلى كهل ينظر في البعيد": "أنتَ الآن هناك/ في مكانٍ بعيد/ مظلمٍ/ ومنخفضٍ عن منسوبِ الماء/ مخُّكَ/ لابد في موضعِه/ مستعصٍ على الكائناتٍ الأوليَّة/ فلماذا تنظرُ للبعيدِ دومًا؟/ كأنك تخترقُ جَدارَ الكون/ بينما دخانُ التوسكانيللي/ يرسمُ لوحةً لإيطاليا الغائبة/ في القرنِ السابعِ عشر/ في الأصيلِ/ سأقرأ لكَ من "الأغاني"/ ومقاطعَ من شكسبير/سوف تعلَّق/على عقوقِ بناتِ " لير"/وتؤكدُ أن طموحَكَ /كان مخالفًا لـ ماكبث/ولذا/ فقد كانوا متآمرين/حين دبرّوا سقوطَ المِصعد/لتستعيرَ عيونَ حفيدتِك/أقول لكَ يا جدي/لا وجودَ للنيرفانا على هذا الكوكب/وشهدتُ جِنازةَ "بوذا" بالأمس/أما مصباحُ الرجلِ/الّذي يسيرُ في وَضَحِ الضوءِ/فكان زيتُه جافًا/كان كفيفًا لابد/أو كان ينظرُ صوبَ جمجمتِه مثلك/حسنًا/قد لا أقرأُ لك اليومَ/فقد نسيتُ الأبجدية."
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التردّد يا عزيزي أيْبَك!
-
قطارُ الوجعِ الجميل
-
بوابةُ العَدَم
-
الشَّحّاذ
-
الإناءُ المصدوع
-
الملاكُ يهبطُ في برلين
-
ناعوت: الإبداع العربي الراهن فرسٌ جموح والحركة النقديّة عربة
...
-
تحيةٌ للشيخ طنطاوي
-
بالأمس فقدتُ مَلاكيَ الحارسَ
-
مينا ساويرس، موحِّد القطرين!
-
شوارعُ تُغنِّي بالفرح
-
ذاك الذي غبارٌ عليه
-
القتل صعب يا هنادي!
-
يا صغيرتي، ليس كلُّ فأرٍ -جيري-
-
أنا في طبلة المسحراتي!
-
كيف يقرأ هؤلاء؟
-
ترويعُ الأطفال، والاسمُ: مُلْتَحٍ
-
الحضورُ موتًا،
-
المِصَحْيَاتي
-
السلطانُ والخُّفُّ الجِلديّ
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|