|
بوابةُ العَدَم
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 2783 - 2009 / 9 / 28 - 00:30
المحور:
سيرة ذاتية
هَبّةُ هواءٍ عاصف تفتحُ بابَ الفصل. فيسألنا معلّم الرياضيات: مَنْ دخل الآن؟ فتهتف "أنْبَهُ" بنتٍ في الفصل (أنا طبعا) قائلةً: "فاي"! يرمقها الأستاذ جمال مرسي بعتبٍ ويقول: غلط! ويجيب تلميذٌ آخر "نَبيْه كمان": صفر يا أستاذ؟ وتتوالى الإجابات الغلط من تلاميذ صف أول متوسط بالمدرسة التجريبية التي شرعت في إدخال "الرياضيات الحديثة" بمصر في السبعينيات، وسط تخوّف الآباء على أولادهم ظنًّا منهم أن هذا التحديث جعل الرياضيات ألغازا وطلاسم. أما "فاي"، ويُكتب رياضيا هكذا Ø، فهو "اللا شيء" أي "العدم". وهو قيمة افتراضية. لذا رفض المعلم إجابتي "العبقرية" لأن الذي دخل الفصل هو "كتلةٌ من الهواء"، يعني "شيء محدد". وأما زميلي العبقري الآخر افترض أن "لا أحد دخل الفصل" يعني صفرا، لأننا لم نر أحدا يدخل، فوقع في مغالطة اعتباره أن البشر وحدهم قابلون للعد والإحصاء، ولم ينتبه أن الهواء الداخل يحمل ملايين الذرات والإلكترونات الخ. بل هو في ذاته مكون من عدة غازات وأبخرة مختلطة ومن ثم مستحيل أن يكون صفرا. وتعلمنا يومها أن هذا الصفر، الذي نراه "تافها"، هو رقمٌ ضخم جدا جدا جدا. إذ يسبق عددا لا نهائيا من الأرقام السالبة. فالصفر يتربّع كملك متوّج في منتصف خط الأعداد الذي يمتد يمينا ويسارا بغير انتهاء إلى حيث يشاء الله. أكبر أرقامه (+ ما لانهاية)، وأصغر أرقامه (– ما لانهاية)، وكلاهما رقمٌ افتراضيّ لا وجود له لأنه متناهٍ في الكبر وفي الصغر. مثلما نأتي بحبل طوله متر، ثم نقسمه نصفين كل منهما نصف متر، ونقسم كل نصف إلى ربعي متر، وهكذا بشكل دائم. لن نحصل على الصفر أبدا، بل على قطع من الحبل متناهية القصر. لأن الصفر ليس له مضاعفات ولا أجزاء. لو ضربته في/ أو قسمته على رقم تحصل على صفر أيضا. لكن لو قسمت رقما عليه تحصل على قيمة غير متعينة، لا وجود لها في حقل الأعداد الطبيعية ولا المتخيلة. هذه "الإعجازية" لرقم الصفر هي التي دعت الفيثاغوريين، نسبة إلى فيثاغورس، إلى احترامه واعتباره أحد مفاتيح ألغاز الكون، حتى لُقِّبوا بـ"عبدة الصفر". وهي كذلك التي دعت الرياضيين الجدد إلى ابتكار الرمز فاي Ø للتدليل على العدم أو اللاشيء، لكي يردوا الاعتبار للصفر العظيم الذي هو بوابة العدم، وليس العدم. الصفرُ مفتاحُ العدم. قياسا على "الصبر مفتاح الفرج". أعني المفتاح الذي عبره ندلف إلى عالم الأرقام السالبة التي لا نهاية لها. هذه "اللانهائية" هي التي بنى عليها السفسطائي العظيم زينون الإيليّ، في القرن الخامس قبل الميلاد، معظم مفارقاته وحججه التي حيّرت المناطقة والرياضيين. إذ تنطوي على سلامة منطقية فلسفية وإن خالفت الظاهرة الفيزيقية المرئية. مثل استحالة أن يسبق أخيلُ السلحفاةَ! فيما أخيل هو أسرع عدّاء إغريقي وصفته الإلياذة بالسريع القدمين. فقط لو بدأ السباق متأخرا عن السلحفاة ولو بمسافة قدرها بوصة واحدة. لأن السلحفاة سوف تترك مكانها قبل وصول إخيل ببرهة من الزمن، وسيكون عليه دائما قطع عدد لا نهائي من المسافات الضئيلة التي قطعتها السلحفاةُ قبله، وبذلك لن يسبقها أبدا منطقيا ورياضيا! وهي إحدى مفارقات زينون الشهيرة التي بناها على نظرية "المتوالية الحسابية والهندسية". تلك المفارقات نبهت علماءَ محدثين مثل آينشتين إلى اندماج الزمن والمكان بحيث لا يمكن فصلهما فغدا الزمنُ بُعدا رابعا للكون وبه يوصف المكان. في حين فصل زينون الزمان عن المكان فذهبت إحدى مفارقاته إلى استحالة حركة جسم من نقطة إلى نقطة بما أن عليه أن يقطع "عددا لا متناهيا" من المسافات. وبما أن اللامتناهي لا وجود له، فلا يمكن قطعه في زمن متناه. كذلك بما أن كل جسم "الآن" موجودٌ في مكان محدد، فبالتالي هو ساكن، وبما أن الزمن مكون من عدد لا متناه من هذه "الآنات" فإذن كل الأجسام ساكنة لا تتحرك! وهنا الفكرة وراء الرسوم المتحركة التي تعتمد على عرض صور ساكنة بشكل متتال متتابع فنشعر بحركة الأجسام الساكنة أصلا. المهم، كنتُ أتجوّل في حي "حدائق القبة" بالقاهرة وقد أنهيتُ لتوي قراءة كتاب "عبدةُ الصفر" للفرنسي آلان نادو. لمحتُ محلا للزهور مكتوبًا عليه "عبدة للزهور الجميلة". أعجبني الاسم وقلت لابد صاحبه شاعرٌ إذ آمن أن الزهور لابد لها من محرابٍ للتعبّد. دخلت المحل وصافحت المدير بحرارة وأنا مستبشرة بارتقاء الوعي والذائقة لدى تجّار مصر. وهمستُ باستحياء: ليتكَ فقط تمحو الحرف الزائد (اللام) ليغدو الاسم "عبدةُ الزهورِ" بدلا من "عبدةٌ للزهور"، فخرج معي إلى بوابة المحل ورفع بصره قائلا: "عبده... للزهور الجميلة"، فأنا اسمي "عبده" وهذا المحل ملكي! ما لك يا ست سلامة عقلك!"
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشَّحّاذ
-
الإناءُ المصدوع
-
الملاكُ يهبطُ في برلين
-
ناعوت: الإبداع العربي الراهن فرسٌ جموح والحركة النقديّة عربة
...
-
تحيةٌ للشيخ طنطاوي
-
بالأمس فقدتُ مَلاكيَ الحارسَ
-
مينا ساويرس، موحِّد القطرين!
-
شوارعُ تُغنِّي بالفرح
-
ذاك الذي غبارٌ عليه
-
القتل صعب يا هنادي!
-
يا صغيرتي، ليس كلُّ فأرٍ -جيري-
-
أنا في طبلة المسحراتي!
-
كيف يقرأ هؤلاء؟
-
ترويعُ الأطفال، والاسمُ: مُلْتَحٍ
-
الحضورُ موتًا،
-
المِصَحْيَاتي
-
السلطانُ والخُّفُّ الجِلديّ
-
يا مباحثَ بلدنا، أحبيِّنا
-
أنا أستطيعُ، والناسُ تحبُّني
-
الفِتْنةُ ليست دائمًا أشدَّ من القتل!
المزيد.....
-
هوت من السماء وانفجرت.. كاميرا مراقبة ترصد لحظة تحطم طائرة ش
...
-
القوات الروسية تعتقل جنديا بريطانيا سابقا أثناء قتاله لصالح
...
-
للمحافظة على سلامة التلامذة والهيئات التعليمية.. لبنان يعلق
...
-
لبنان ـ تجدد الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت
...
-
مسؤول طبي: مستشفى -كمال عدوان- في غزة محاصر منذ 40 يوما وننا
...
-
رحالة روسي شهير يستعد لرحلة بحثية جديدة إلى الأنتاركتيكا
-
الإمارات تكشف هوية وصور قتلة الحاخام الإسرائيلي كوغان وتؤكد
...
-
بيسكوف تعليقا على القصف الإسرائيلي لجنوب لبنان: نطالب بوقف ق
...
-
فيديو مأسوي لطفل في مصر يثير ضجة واسعة
-
العثور على جثة حاخام إسرائيلي بالإمارات
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|